تعكس سياسة مصر الخارجية هواجس النظام داخليًّا وإقليميًّا، ولا تتماشى مع مكانتها السياسية بالمنطقة (رويترز) |
ملخص درجت عملية صنع السياسية الخارجية المصرية على انفراد مؤسسة الرئاسة بتحديد توجهاتها العامة بما يتناسب مع مصلحة نظام الحكم؛ حيث تحتكر الرئاسة العديد من الملفات التي تراها حيوية، وعلى الرغم من تركيز أنصار النظام الحالي في مصر على السياسة الخارجية كأبرز نجاحات السيسي، فإن هذه السياسة تعاني في عهده من غياب الرؤيا الاستراتيجية التي تخدم مصالح قومية ثابتة. وارتبطت في مجملها بغاية حرص النظام على الحصول على الاعتراف والقبول الدولي، بما في ذلك بذل مليارات الدولارات في صفقات عسكرية وعقود اقتصادية مشكوك في جدواها؛ حيث كلفت تلك السياسة الخارجية مصر الكثير، من حيث تراجع دورها الإقليمي القيادي، ودورانها في فلك الدول المانحة أو المهيمنة؛ مما يتسبب في غياب الدور الإقليمي لمصر وتهميشها عربيًّا في عدد من القضايا المحورية. |
مقدمة
يَعْتَبر أنصارُ نظام عبد الفتاح السيسي في مصر أن السياسة الخارجية أبرز جوانب النجاح التي حققها حتى الآن؛ فَهُمْ يرون أنه تمكن من إحداث مراجعة شاملة لمحددات الأمن القومي المصري والأهداف الاستراتيجية للسياسة الخارجية ومنظومة التحالفات الإقليمية، وأعاد إلى مصر مكانتها بعد قيامه بعدد كبير من الزيارات إلى دول المنطقة والدول الإفريقية والأوروبية، حقق من وراءها قدرًا كبيرًا من الاعتراف وقدرًا من الفوائد الاقتصادية التي زادت من شرعية نظام 3 من يوليو/تموز 2013 وقبوله دوليًّا.
وهذا بالتحديد ما يحاول النظام ترويجه من أجل إضافة المزيد من الإنجازات الافتراضية؛ التي لا تعكس بالضرورة واقعًا ملموسًا، أو تحقق مصلحة قومية استراتيجية بالفعل؛ بل تخدم نظام الحكم وهواجسه في المقام الأول؛ فمنذ انقلاب 3 من يوليو/تموز عانت السياسية الخارجية المصرية من غياب منظومة استراتيجية تدعم أو حتى تحافظ على المصالح القومية للدولة؛ حيث عكست في المقام الأول هموم النظام ومصالحه في المرحلة الانتقالية، وحرصه على الحصول على الاعتراف به بأي ثمن، وتحصيل مساعدات اقتصادية تساعده على البقاء؛ مما أفقد مصر كدولة مركزية في المنطقة دورها كفاعل رئيس أو "شقيقة كبرى" في المنطقة، وجعل مصلحتها تدور في فلك النظم الديكتاتورية في المنطقة؛ بل تتماهى مصلحتها مع مصلحة إسرائيل والقوى المناهضة للتغيير والديمقراطية.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل محددات السياسة الخارجية المصرية وأهدافها لنظام عبد الفتاح السيسي، والتحديات التي تواجه النظام؛ التي تُؤَثِّر على أهداف السياسة الخارجية وتوجهاتها في المرحلة الانتقالية، كما تسعى إلى تقييم إنجازات السياسية الخارجية لنظام السيسي، وما حققته من أهداف استراتيجية ومصلحة وطنية لمصر تتناسب مع دورها التاريخي كفاعل رئيس في المنطقة.
1. صياغة السياسة الخارجية
درجت عملية صنع السياسية الخارجية المصرية على انفراد مؤسسة الرئاسة بتحديد توجهاتها العامة؛ بما يتناسب مع مصلحة نظام الحكم، وتحتكر الرئاسة العديد من الملفات التي تراها حيوية؛ وذلك في حين يقتصر دور وزارة الخارجية المصرية على "التخديم" على هذه الملفات، وترويج مواقف النظام خارجيًّا، ومن المعتاد وجود مركزية تاريخية لدور الرئيس وأحيانًا الفريق المحيط به؛ ولعل هذه الاستمرارية تبرز بشدة في نظام السيسي؛ حيث تظهر بوضوح سمات الحكم الفردي على شكل نظام الحكم الذي يُؤَسِّسه حاليًّا؛ ومن ذلك انفراده برسم توجهات السياسة الخارجية، حتى الترويج لها عن طريق دغدغة مشاعر المصريين بإطلاق شعارات وطنية فضفاضة وغير واقعية، وعن طريق زيارات خارجية من أجل اكتساب شرعية دولية للنظام، وتصوير قبول دولي متزايد له.
ولا يظهر حتى الآن مظاهر مؤسسة جادة لآلية صنع السياسة الخارجية المصرية، لتعكس مشاركة وطنية حقيقية في تحديد المصالح الاستراتيجية لمصر ومتطلبات أمنها القومي؛ فقد تكررت المطالب بأهمية وجود مجلس أعلى للسياسة الخارجية يحدد توجهاتها وملامحها وأهدافها الاستراتيجية على أسس قومية شاملة؛ خاصة في المراحل المعقدة إقليميًّا ودوليًّا؛ التي تتسم بالعديد من التحديات والمخاطر المحيطة بأمن مصر القومي (الانتقادات والحرج الدولي من سياسات نظام السيسي القمعية - الوضع في سيناء - مشكلة أثيوبيا ومياه النيل - عدم الاستقرار في دول الجوار والعديد من دول المنطقة). وأعلن السيسي أثناء خوضه انتخابات الرئاسة عن نيته في إنشاء مجلس أعلى للسياسة الخارجية(1)؛ مكون من سياسيين وعسكريين ودبلوماسيين وخبراء في الاستراتيجية لرسم الملامح العامة للسياسة الخارجية، وربطها بالمصالح العليا لأمن مصر القومي ومكانتها الإقليمية؛ إلا أنه حتى الآن لم يتم تشكيل هذا المجلس، كما أنه من الصعب حتى تحديد الفريق المؤثر في عملية صنع قرارات السياسة الخارجية، ولا تزال تطغى الفردية على صنع تلك السياسات وإدارتها كما هو الحال بالنسبة إلى معظم الملفات الاستراتيجية الأخرى للدولة؛ خاصة في ظلِّ غياب برلمان منتخب أو حتى مجالس قومية متخصصة؛ حيث تواصل وزارة الخارجية ممارسة دورها التقليدي في كونها معقلاً من معاقل النظام (أو كل النظم القديمة دون استثناء) لا يسري عليها التطهير أو التبديل أو المبادرة؛ فمنذ العهد الملكي وحتى الآن تعتبر وزارة الخارجية المصرية كما هي ملجأ لسدنة الدولة الذين يجتهدون في إثبات إخلاصهم للنظام الحاكم للدولة والدفاع عنه وعن سياسته، وإن لم تكن تتماشى مع مصالح مصر القومية إلا في حالات نادرة. ففور وقوع انقلاب 3 من يوليو/تموز على سبيل المثال نشط سفراء مصر في الخارج(2)؛ وذلك بعد طول انسحاب وسبات أثناء فترة رئاسة الدكتور محمد مرسي للترويج للانقلاب العسكري وخارطة الطريق، وتبرير الإجراءات الدموية التي اتخذها، وتزييف حالة الديمقراطية في مصر، ودافعوا بحماس عن قتل النظام للمتظاهرين السلميين، والأساليب القمعية التي يلجأ إليها، وقارنوا ذلك بما تفعله بعض الدول الغربية من أجل المحافظة على أمنها القومي.
2. التحديات
جاء هذا التوجه في ظل بيئة إقليمية ودولية غاية في التعقيد نظر فيها نظام السيسي إلى الملفات الخارجية بأحادية شديدة مبسطة وغير مركبة على الإطلاق؛ وذلك من خلال صراعه مع الإخوان المسلمين والإسلام السياسي، ومن خلال إحساسه بنقص الشرعية لنظامه وحاجته لاكتسابها بأي ثمن، إن المنطقة العربية ومعظم دولها تمر بحالة سيولة وتحولات غير عادية؛ لعلها تماثل التحولات التي مرت بها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وانهيار نظام قديم، وسقوط شعوب المنطقة في التقسيم والتبعية، واندلاع الثورات المحلية التي اتخذت ذريعة للقمع والهيمنة، وقد كان الطموح أن تعيد ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا والعراق تشكيل خريطة المنطقة من داخل هذه البلدان نفسها؛ وذلك على نحو يُجنِّب تقسيم المنطقة إلى محوري "دول اعتدال ودول ممانعة"؛ أو في واقع الأمر دول خاضعة للهيمنة الأميركية ودول تتمنع إلى حين توافر فرص أفضل لبناء دول محررة وديمقراطية؛ لكن قوى الثورة المضادة داخليًّا في مصر وإقليميًّا ودوليًّا نجحت في تحويل المعادلة ولغة الخطاب من معركة حريات وديمقراطية إلى الحرب ضد الإرهاب، ومن بناء دول محررة وحرة إلى تفتيت تلك الدول وتقسيمها، ومن قيام مجتمعات وطنية متماسكة إلى إغراق تلك المجتمعات في حروب طائفية وعرقية وسياسية. ونجحت الثورات المضادة عن طريق:
-
صناعة استقطاب داخلي حادٍّ في عمليات الانتقال؛ سواء في مصر أو تونس أو ليبيا أو اليمن أو سوريا، ونسخ مكررة من الاستقطاب بين العلمانيين والإسلاميين، والسُّنَّة والشيعة، والعرب والأعراق الأخرى، وبين مَنْ يحمل السلاح ويُطلق عليه إرهابيًّا، ومَنْ يحمل السلاح مقاومة لاسترداد حقٍّ مشروع، ومَنْ يسعى إلى مشروع تحرر وطني، ومَنْ يريد إلحاق المنطقة بالغرب.
-
إطالة المراحل الانتقالية، ورفع الكلفة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لهذه الثورات بشكل يدفع الناس إلى كرهها، وتمني عودة النظام القديم، وهذا ما وصل إليه المصريون بالضبط في يوم 30 من يونيو/حزيران 2013.
-
تعمُّد اختلاق الفوضى وعدم الاستقرار، وزعزعة الأمن في المناطق أو الدول التي قد تنجح فيها هذه الثورات.
-
عدم تمكين الثورات من الوصول إلى الحكم، وإن تمكَّنت منذ ذلك فيمكن إزاحتها عن طريق الانقلاب عليها عسكريًّا كما في مصر، أو سياسيًّا كما حدث في تونس وليبيا.
وأدَّى الطرف الإقليمي دورًا رئيسًا ومباشرًا في إجهاض هذه الثورات؛ وذلك بالتدخل المباشر ودعم الثورات المضادة ماديًّا ودوليًّا؛ أما دوليًّا فيتم إعادة تشكيل المنطقة على الولاءات والانتماءات الأولية؛ أي العرق والجنس والدين والمذهب والطائفة والجهوية، بغرض التفتيت، واستغلال الثورات العربية في كسر أي مقاومة محتملة؛ ومن هنا تأتي توجهات نظام السيسي الداخلية وسياساته الخارجية إقليميًّا ودوليًّا؛ حيث يمثل رأس حربة للثورات المضادة وأداتها في القضاء على إمكانية اشتعالها من جديد، واستمرار دوران مصر في فلك الخارج.
3. محددات السياسة الخارجية وأهدافها
فور توليه منصب وزير خارجية مصر في الحكومة التي جاءت بعد الانقلاب العسكري، عقد نبيل فهمي مؤتمرًا صحفيًّا دوليًّا(3) شرح فيه محددات سياسة مصر الخارجية الجديدة في ظل النظام الجديد، وأكد فهمي أن "السياسة الخارجية ستشمل مراجعة شاملة"، وأن التغيير سيركز على الهوية ودول الجوار ومن بينها فلسطين وسوريا، وأن العمل سيكون على ثلاثة محاور رئيسة؛ هي: حماية الثورة ودعمها، ونقل صورتها الحقيقية للعالم الخارجي، وتبني مبادئها. وتضمنت آليات تحقيق هذا الهدف إنشاء لجنة خاصة بوزارة الخارجية لمتابعة صورة مصر خارجيًّا. كما شجعت وزارة الخارجية عددًا من المبادرات جاءت من شخصيات ورموز سياسية ومجتمعية معارضة لنظام مرسي والإخوان شاركت في تسويق انقلاب 3 من يوليو/تموز(4) على أنه جاء "كانقلاب عسكري شعبي" يعكس طموحات الشعب المصري، والترويج لخريطة الطريق على أنها استعادة للمسار الديمقراطي في مصر، وتأكيد أن المسار السابق شابه ما مرت به دول غربية من استغلال جماعات فاشية ونازية للديمقراطية من أجل الاستيلاء على السلطة وتقويض الديمقراطية نفسها.
وحدد فهمي المحور الثاني في العمل على استعادة مصر لموقعها العربي الإفريقي والمتوسطي، وتنشيط دورها إقليميًّا ودوليًّا، والتعامل مع القضايا العاجلة المرتبطة بالأمن القومي المصري، وحدد بعض المبادئ التي تحكم تحرُّك مصر خلال المرحلة الانتقالية منها انتماء مصر إلى العروبة، وتمسكها بجذورها الإفريقية، والهوية الإسلامية لغالبية الشعب المصري. وأكد فهمي ضرورة استعادة مصر لمكانتها الطبيعية في محيطها العربي "كشقيقة كبرى" تحافظ على ريادتها الفكرية والثقافية والمجتمعية، والعمل على تعميق العلاقات مع شقيقاتها في كافة المجالات بشكل يسهم في مساعدة مصر في تجاوز التحديات المرتبطة بعملية التحول الديمقراطي، فضلاً عن استعادة العمل العربي المشترك ليكون لمصر دورها الطبيعي في قيادته وتفعيله.
وتمثل المحور الثالث في وضع الأسس الصحيحة للسياسة الخارجية المصرية المستقبلية، والتأكيد في ذلك المحور أن علاقات مصر الخارجية هي علاقات بين دول وليست علاقات بين قادة وأحزاب، في اتهام مبطن لنظام مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، وطريقة إدارتهم مفاصل السياسات الخارجية على أساس مصلحة الجماعة، وعلاقاتها المباشرة مع دول بعينها وتحديدًا تركيا وقطر. وأكد أن مصر ستعيد تقييم مصالحها الاستراتيجية مع هذه الدول؛ وذلك عن طريق إجراء مراجعة شاملة لعلاقات مصر الخارجية في إطار دوائر ثلاث للسياسة الخارجية المصرية؛ وهي: دائرة الجوار، ودائرة الدول الأكثر تأثيرًا في النظام العالمي، ودائرة باقي دول العالم. وفي مناسبات عديدة حرص السيسي كذلك على تأكيد المحددات نفسها للسياسة الخارجية المصرية، وأنها تستند إلى استقلال القرار المصري وعدم التبعية لقوة دولية على حساب قوة أخرى، وتفعيل الدور المصري على المستويين العربي والإفريقي.
4. تفاعلات وتطبيقات السياسة الخارجية
على الرغم من تأكيدات وزير خارجية مصر في أول حكومة بعد الانقلاب العسكري؛ فقد تناقضت تفاعلات وتطبيقات السياسة الخارجية مع الأهداف والتوجهات التي أعلنها هو أو السيسي؛ حيث إن منطلقات السياسية الخارجية لنظام السيسي ارتبطت في المقام الأول بمصلحة النظام ذاته في تأمين استمراريته، وكسب الاعتراف الدولي به صراحة؛ ومع أن كثيرًا من المحللين ذهبوا إلى أن المجتمع الدولي قد وضع نظام السيسي في عزلة بعد وقوع الانقلاب، فإن الواقع يشير إلى أن هذا ليس حقيقيًّا على الإطلاق؛ حيث إن الانقلاب العسكري على نظام الرئيس مرسي وجماعة الإخوان، وبشائر نجاح الثورة المضادة، وعودة مؤسسات الدولة القديمة وسياساتها الخارجية، أصاب الدوائر الغربية بالارتياح كما صرح عدد من المسؤولين الغربيين والإسرائيليين. كما أن التوتر الظاهري في العلاقات ليس بسبب موقف غربي مبدئي من الانقلابات العسكرية، ورفض الإطاحة بنظم منتخبة ديمقراطيًّا؛ وإنما نتيجة ما تسبب فيه نظام السيسي من حرج لتلك الدوائر بسبب المجازر غير المبررة، وانتهاكاته لحقوق الإنسان بشكل واسع وفجٍّ؛ مما يُصَعِّب من مهمتها في الدفاع عنه؛ وظهر ذلك بوضوح في تصريحات كاثرين أشتون(5) فور وقوع الانقلاب وأثناء لقائها مع عدلي منصور بأن ما حدث يعدُّ "امتثالاً لإرادة الشعب المصري... وأن 30 من يونيو/حزيران هو استكمال لثورة 25 من يناير/كانون الثاني 2011، وأن تشكيل الحكومة المؤقتة والإعلان عن لجنة تعديل الدستور بداية جيدة بشأن خارطة الطريق للمرحلة الانتقالية". كما أكدت استمرار المساعدات الأوروبية لمصر. وكالمعتاد فقد أعرب العديد من الدول الأوروبية عن قلقها البالغ، إلا أنه لم يتم إدانة نظام الانقلاب، الذي بدوره استهجن بشدة ما اعتبره تدخلاً أوروبيًّا في شؤون مصر الداخلية.
وقد شاب علاقات مصر بالولايات المتحدة الأميركية بعض البرود والتوتر عقب الانقلاب العسكري، إلا أن كلا الطرفين حرص على تأكيد الطبيعة الاستراتيجية للعلاقة، واستمرار التعاون الأمني بينهما، وحرص إعلام الانقلاب على استغلال هذا التوتر لتصوير أن السياسية الخارجية المصرية قد تخلصت من تبعيتها للولايات المتحدة والهيمنة الأميركية تحت حكم السيسي، وحرصها على دعم استقلال القرار الوطني، وأن مصر أصبحت تنوع علاقاتها مع دول العالم؛ خاصة مع القوى الكبرى كروسيا والصين وفرنسا وألمانيا، وفي واقع الأمر فقد حرص السيسي على تأكيد تلك التبعية للولايات المتحدة غير مرة؛ حيث ردَّد بصورة مشابهة لتصريحات وزير خارجيته نبيل فهمي أن العلاقة بين مصر وأميركا التي شبه فيها فهمي تلك العلاقة بأنها "زواج كاثوليكي وليس علاقة ليلة واحدة". فقد حرص السيسي على التأكيد أنه "لا يمكن أن نقلل درجة علاقاتنا مع الولايات المتحدة لمستوى أنظمة الأسلحة فقط، ونحن حريصون على العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة فوق كل شيء، ولن ندير لها ظهرنا؛ حتى إن أدارت ظهرها لنا"(6).
وكان موقف الولايات المتحدة من الانقلاب العسكري على درجة كبيرة من التناقض مع المبادئ الديمقراطية؛ حيث ترددت في البداية في إطلاق وصف محدَّد لما جرى في مصر من إزاحة رئيس مدني منتخب بواسطة وزير دفاعه، ثم امتنعت لاحقًا عن وصف ما جرى بالانقلاب العسكري -ليس بسبب أن ذلك سيؤدي إلى اضطرار أميركا إلى وقف المساعدات العسكرية السنوية لمصر- وإنما لارتياحها لسيطرة المؤسسة العسكرية على الحكم وإزاحتها للإخوان المسلمين من السلطة، ولإدراكها أن مصالحها في المنطقة يتمُّ تحقيقها بصورة أسهل مع سلطات عسكرية، وليس مع حكومات مدنية منتخبة تخضع للرقابة الشعبية والبرلمانية؛ ومن هنا يأتي استمرار التعاون الأمني الاستراتيجي بين البلدين، على الرغم من الانتهاكات الصارخة لنظام السيسي لحقوق الإنسان، وعدم رغبة الولايات المتحدة في ممارسة ضغوط فعالة على مصر؛ بل إن إدارة أوباما قد كافأت نظام السيسي برفع الحظر عن المعونة العسكرية لمصر في مارس/آذار الماضي، كما ظل وزير خارجيتها جون كيري يردد أن السيسي يقوم باستعادة الديمقراطية في مصر(7) بعد أن اختطف الإخوان المسلمون الثورة(8). ولا شك أن نظام السيسي كان قد استخدم بعض أوراق الضغط على إدارة أوباما بالتقارب مع روسيا، وقيام السيسي بزياراتها وكأن مصر تتبنى نهجًا جديدًا، كما قام الرئيس الروسي بوتين بزيارة مصر؛ حيث أسفرت تلك الزيارات عن صفقات أسلحة وعقود اقتصادية وتجارية بالأحرف الأولى تجاوزت 3,5 مليار دولار(9)؛ منها إنشاء محطة طاقة نووية، وصوامع لتخزين القمح، وأعمال صيانة لبعض المصانع التي بناها الاتحاد السوفيتي في مصر في العقود السابقة.
وقام السيسي بعدد كبير من الزيارات الخارجية لدول أوروبية وآسيوية وعربية للحصول على اعتراف بنظام 3 من يوليو/تموز، وإحداث تقارب بين تلك الدول والنظام الذي أطاح بالمسار الديمقراطي في مصر؛ ومن بين الدول التي زارها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا وقبرص واليونان والمجر، وكذلك الجزائر والسعودية والسودان. وأسفرت تلك الزيارات عن إبرام عدة اتفاقات وبرتوكولات تعاون أبرزها صفقة طائرات "رافال" مع فرنسا بـ 5,2 مليارات دولار، كما تم عقد صفقات مع ألمانيا بـ 8,9 مليارات دولار، وبريطانيا بـ 12 مليار دولار، وصفقة عسكرية مع إيطاليا بـ 100 مليون دولار، ودول الخليج بـ 12,5 مليار دولار. وأثارت تلك الصفقات والمبالغ الطائلة المدفوعة فيها العديد من التساؤلات حول دوافعها الحقيقية وجدواها الاقتصادية وحتى العسكرية؛ حيث فسرها بعضهم على أنها محاولة لشراء شرعية دولية (بلغ إجمالي قيمة تلك الصفقات 38,5 مليار دولار) عن طريق استقبال رؤساء الدول للسيسي والظهور والمشاركة في مؤتمرات وقمم رسمية مع قادة الدول وزعمائها. كما اتسم بعضها بالمناكفة السياسية؛ مثل زيارة السيسي لقبرص واليونان؛ التي شكك الكثيرون في جدواها سياسيًّا، وفسرت على أنها مجرَّد نكاية في تركيا، وليس وراءها أي هدف استراتيجي ملموس.
حرص السيسي بعد الوصول إلى الحكم على الحصول على الدعم لنظامه، وارتبطت السياسة الخارجية بتحقيق هذا الهدف؛ الذي جاء على حساب الأهداف الاستراتيجية والمصالح الوطنية لمصر وللمنطقة في مجملها، وبصورة تناقضت بوضوح مع الأهداف التي أعلنها هو ووزير خارجيته السابق؛ وذلك من حيث استعادة مكانة مصر ودورها المركزي، أو دعم القضايا العربية الكبرى كالقضية الفلسطينية مثلاً. ولا شك أن إحدى نتائج هذا التوجه هو فقدان مصر لدورها الريادي والقيادي في المنطقة والتأثير فيها؛ حيث أصبحت تدور في فلك بعض الدول الخليجية الممولة لنظام السيسي؛ الذي رفع شعار: "مسافة السكة"؛ كدليل على استعداد مصر خلال حكمه لتأدية دور في حماية أمن تلك الدول، والمساعدة في تحقيق مصالحها الاستراتيجية، واعتبار أن "أمن الخليج هو أمن قومي مصري". ومن هنا كان استعداد مصر للمشاركة في الحملات العسكرية التي قادتها دول خليجية سواء في اليمن (عاصفة الحزم) أو ليبيا، والوقوف في صف الثورات المضادة. إلا أن تعقيدات السياسات الإقليمية والاختلاف الواضح في الرؤى والتوجهات أظهرت التناقضات المتزايدة في المواقف بين نظام السيسي والنظام السعودي تحت حكم الملك سلمان على سبيل المثال؛ حيث إن السعودية تنظر إلى إيران كخطر استراتيجي على أمنها القومي أكبر من خطر الإخوان المسلمين، وأنه ربما يكون هناك حاجة لاستخدام الإسلام السياسي السني للتصدي للخطر الإيراني الشيعي. في حين يرى السيسي كل الإسلام السياسي بلون واحد، وينحاز فورًا للطرف الذي يحاربه؛ ومن هنا يأتي تأييده لبقاء نظام بشار الأسد المعادي لإخوان سوريا، ودعمه العسكري لخليفة حفتر، وتسهيله للغارات الجوية التي قامت بها الإمارات في ليبيا؛ وذلك على الرغم من وجود أكثر من ثلاثة أرباع مليون عامل مصري وضعهم هذا الموقف في خطر. ودعمه لنظام المالكي في العراق ضد الأطراف السنية، وعدم حماسه للتصدي للحوثيين في اليمن؛ الذين يحاربون حزب الإصلاح، وكان هذا أحد المنطلقات وراء رغبة نظام السيسي في إنشاء قوة عربية عسكرية مشتركة من أجل محاربة الإرهاب (الإسلام السياسي في نظر السيسي) وإيجاد دور له من خلالها.
كما أن عداء نظام السيسي للإسلام السياسي والإخوان وما يماثلهم كحماس وتنظيمات إسلامية في تونس أو ليبيا أو سوريا كان محددًا أساسيًّا لتبني مواقف إقليمية لا تحقق المصلحة الاستراتيجية لمصر بالضرورة؛ بل ترتبط بمصلحة النظام ذاته، وحرصه على تدعيم أركانه مهما كلف الأمر؛ فقد ساءت علاقات مصر مع تركيا وقطر -اللتان تعتبران دولتين مهمتين في المنطقة- عقب الإطاحة بالرئيس مرسي، وقامت مصر بتخفيض التمثيل الدبلوماسي والسحب المتبادل للسفراء، وأدَّى ذلك العداء إلى اتخاذ خطوات مثل: حرص مصر على التقارب مع اليونان وقبرص، اللتان تعدان من الدول الفاشلة اقتصاديًّا نكاية في تركيا. كما تم تصوير قطر بالدولة المعادية لمصر عمليًّا؛ حيث أقيمت قضايا ضد مرسي بتهمة التخابر مع قطر أثناء رئاسته للدولة، كما سعى النظام إلى الحصول على أحكام قضائية لتصنيف الدولتين كدول إرهابية؛ وذلك في حين رفضت المحاكم نفسها اعتبار إسرائيل كيانًا إرهابيًّا.
ويلاحظ في سياسة السيسي الخارجية التقارب اللافت مع إسرائيل؛ حيث حدث توثيق للعلاقات بين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وبين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، كما جرت محادثات هاتفية كثيرة ولأوقات طويلة مع السيسي، وأكدت القناة الإسرائيلية العاشرة أن "رئيس الوزراء الإسرائيلي ينظر بعين الرضا إلى ما سمتها "العلاقة الاستراتيجية" التي نشأت مع مصر"(10)، وكان إيهود باراك(11) رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق قد دعا بعد يومين فقط من مذبحة رابعة الدول الغربية إلى تقديم كل الدعم لنظام السيسي؛ حيث اعتبره العديد من السياسيين الإسرائيليين أفضل من مبارك الذي افتقدته إسرائيل ككنز استراتيجي ودعمته بكل الوسائل عن طريق اللوبي الإسرائيلي في واشنطن؛ الذي تصدى للدفاع عن نظام السيسي لتستمر الولايات المتحدة في تقديم المساعدات العسكرية والأمنية له، كما تصاعد التنسيق بين مصر وإسرائيل في الكثير من الملفات الأمنية؛ وذلك بالنسبة إلى المسائل المتعلقة بالحدود وغزة، ومشروع تهجير أهالي سيناء منها لإقامة منطقة عازلة تسهم في المحافظة على أمن إسرائيل، والتنسيق في الحرب على الإرهاب بالمنطقة. وتفاخر السيسي أنه على تواصل وحوار مستمر مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واستمرت السلطات المصرية في تضييق الخناق على قطاع غزة، وساءت علاقات مصر مع حماس؛ التي وصفها القضاء المصري بأنها منظمة إرهابية، وحكم على شهدائها بالإعدام في قضايا ملفقة.
خاتمة
تعاني السياسة الخارجية بمصر في عهد السيسي من غياب الرؤيا الاستراتيجية؛ التي تخدم مصالح قومية ثابتة، وارتبطت في مجملها بغاية تحقيق مصلحة النظام؛ خاصة حرصه على الحصول على الاعتراف والقبول الدولي، وإن تم شراء ذلك عن طريق بذل مليارات الدولارات في صفقات عسكرية وعقود اقتصادية، وكلفت تلك السياسة الخارجية مصر الكثير من حيث تراجع دورها الإقليمي القيادي، ودورانها في فلك دول خليجية مانحة، أو غيرها من الدول المهيمنة؛ مما تسبب في غياب الدور الإقليمي لمصر، والتهميش عربيًّا في بعض القضايا المحورية؛ فعلى سبيل المثال لم يتم استشارة مصر قبيل قيام السعودية بقيادة عملية (عاصفة الحزم) في اليمن ضد الحوثيين، وذلك على الرغم من استعداد مصر للمشاركة ولكن بصيغة أخرى، كما لم يُلْتَفَت لاقتراح مصر بتكوين قوة عسكرية عربية مشتركة تحارب الإرهاب في المنطقة، وغيرها من المواقف التي عارضتها دول خليجية كالموقف من نظام بشار الأسد، والموقف من اللجوء إلى حلول عسكرية في ليبيا.
وعلى الرغم من زيارات السيسي العديدة لدول أوروبية؛ فإنها لم تحقق نتائج ملموسة داخليًّا حتى الآن، كما أن سياسة مصر الخارجية لم تَعُدْ تتماشى مع مكانتها التاريخية والسياسية؛ بل أصبحت تعكس هواجس النظام داخليًّا وإقليميًّا، فبدلاً من الحراك داخل رؤية استراتيجية تحقق المصالح الوطنية، باتت تنطلق محددات السياسة الخارجية المصرية من العداء للإسلام السياسي والإخوان المسلمين والتنظيمات الإسلامية المماثلة، ومساندة الثورات المضادة، والتماهي مع المصالح الإسرائيلية. وإن كانت السياسة الخارجية للسيسي بدت كأنها حققت نجاحات في الحيلولة دون عزلة نظامه واعتراف العديد من الدول به، فإن تلك الدول ترى فيه بالفعل أداة لتحقيق مصالحها في المنطقة؛ مما يظهر تناقض ممارسات السياسة الخارجية مع الأهداف المعلنة -استعادة دور مصر، والحرص على تحقيق مصالحها الاستراتيجية، ودعم استقلال القرار الوطني، ورفض تأجيج الخلافات الطائفية والمذهبية بدول الإقليم، والحفاظ على وحدة الدولة العربية وتماسكها- التي يحاول أن يُرَوِّج لها إعلام النظام(12).
___________________________
الحواشي والمصادر
1- ألفت الكحلي، "مجلس أعلى لـ"السياسة الخارجية".. وعد لـ"السيسي" لم يتحقق"، 24 من أغسطس/آب 2014
http://www.dotmsr.com/m/index.php/details/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3-%D8%A3%D8%B9%D9%84%D9%8A-%D9%84%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC%D9%8A%D8%A9
2- أحمد سعيد، الخارجية توضح للعالم حقيقة الأوضاع في مصر عبر سفرائها، 3 من سبتمبر/أيلول 2013
http://www.mobtada.com/details.php?ID=98658
3- محمود النوبي، خلال مؤتمر صحفي عالمي: وزير الخارجية يشرح أولويات السياسة الخارجية خلال المرحلة الانتقالية، 20 من يوليو/تموز 2013
http://www.masress.com/ahram/1222098
4- وفد الدبلوماسية الشعبية يزور الصين لتوضيح حقيقة الأوضاع في مصر، 10 من نوفمبر/تشرين الثاني 2013
http://www.masress.com/elfagr/1458897
5- مصطفى صلاح، الاتحاد الأوروبي غيَّر موقفه.. آشتون: ما حدث في 30 من يونيو/حزيران امتثال لإرادة الشعب، 18 يوليو/تموز 2013
http://www.alborsanews.com/2013/07/18/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A-%D8%BA%D9%8A%D9%8E%D9%91%D8%B1-%D9%85%D9%88%D9%82%D9%81%D9%87-%D8%A2%D8%B4%D8%AA%D9%88%D9%86-%D9%85/
6- بسنت زين الدين، السيسي لـ«وول ستريت»: لن ندير ظهرنا لواشنطن.. حتى إن أدارت ظهرها لنا، 21 من مارس/آذار 2015
http://www.almasryalyoum.com/news/details/685417
7- كيري: الجيش المصري كان "يستعيد الديمقراطية" عندما عزل مرسي، 1 من أغسطس/آب 2013
http://ara.reuters.com/article/topNews/idARACAE9B2CTO20130801
8- كيري: "ثورة مصر أنجزها الشباب وسرقها الإخوان"، 21 من نوفمبر/تشرين الثاني 2013
http://archive.arabic.cnn.com/2013/middle_east/11/21/kerry.brotherhood/
9- بالصور والأرقام: تاريخ صفقات السلاح بين مصر وروسيا منذ 1952 حتى 2014، 18 من سبتمبر/أيلول 2014
http://almogaz.com/news/weird-news/2014/09/18/1653188
10- قناة إسرائيلية: علاقة وثيقة بين نتنياهو والسيسي، 24 من أغسطس/آب 2014
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2014/8/24/%D9%82%D9%86%D8%A7%D8%A9-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D9%86%D8%AA%D9%86%D9%8A%D8%A7%D9%87%D9%88-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B3%D9%8A
Barak: World should back new Egypt government, August 16, 2013.11-
http://globalpublicsquare.blogs.cnn.com/2013/08/16/barak-world-should-back-new-egypt-government/
12- محمود صالح، تقرير عن السياسة الخارجية في عهد "السيسي": مصر تخلصت من التبعية، 1 من يونيو/حزيران 2015. إضغط هنا.