(الجزيرة) |
ملخص تجادل هذه الورقة لصالح ثلاث نقاط؛ أولًا: منطقة الشرق الأوسط هي منطقة ملتهبة يمكن تشبيهها بمنطقة البلقان –خلال عقد التسعينات من القرن الماضي- من حيث الصراعات والنزاعات التي تشهدها؛ من هذا المنطلق يُفترض أن يكون التركيز في علاقات دول المنطقة بالدول الكبرى -كعلاقة المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية- على شقين؛ الأول: هو إطار التعاون من الناحية الاستراتيجية، والثاني: هو المحتوى الآني للتعاون. يمتد الشق الأول لعقود طويلة، ويسير التحول فيه ببطء شديد؛ لكن الشق الثاني متحول ومتجدد حسب اختلاف الأزمات وظروفها؛ وبناء على ذلك فإن الورقة ستجادل بأن زيارة الملك سلمان تحمل بين أهدافها تأطير العلاقات السعودية-الأميركية، حسب التحولات الكبرى التي طرأت في السياق الدولي والإقليمي والداخلي؛ فلأول مرة منذ عام 1945 يكون الشقان مطروحان للنقاش في قمة سعودية-أميركية، ومن المرجح أن يستمر هذا النقاش لبضع سنين. ثانيًا: هنالك مستجدات في عددٍ من دول المنطقة، لاسيما في العراق ولبنان وسوريا واليمن، تستدعي تحديث موقف البلدين (السعودية وأميركا) من ملفات المنطقة. ثالثًا: بما أن الولايات المتحدة الأميركية دخلت مرحلة السباق الانتخابي لرئاسيات 2016؛ فإن أي تحول كبير في سياستها الخارجية هو أمر مستبعد. ومع ذلك تهدف السعودية إلى إقناع واشنطن بأن أزمات المنطقة في كل من العراق وسوريا وظهور التنظيمات الجهادية المتشددة -لاسيما ما يدعى بتنظيم الدولة الإسلامية- هي كل لا يتجزأ؛ وبالتالي فقد يقود ذلك إلى حمل واشنطن على إبداء بعض المرونة فيما يتعلق بتسليح المعارضة السورية المعتدلة (الثوار) بسلاح نوعي يستطيع تحييد طيران نظام الأسد، وكذلك التأثير في العملية السياسية في العراق؛ بحيث تستوعب جميع فئات الشعب العراقي. |
مقدمة
من الناحية المفاهيمية تعاني معظم التحليلات التي تتناول العلاقات السعودية-الأميركية من ضعف الاهتمام بعاملين؛ الأول: هو تأثير الوضع السياسي الداخلي للمملكة العربية السعودية على العلاقات السعودية-الأميركية؛ والثاني: هو التحول الاستراتيجي؛ الذي جرى في العلاقات بين البلدين.
فداخليًّا؛ جرت عملية انتقال للسلطة لجيل أحفاد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، في إطار بداية الدولة السعودية الرابعة؛ مما يعني تحولاً في طبيعة السلطة وبنيتها، وهذا سيقود بالمحصلة إلى سياسة خارجية قد تتخذ من المبادرة أداةً من أدواتها -مقابل نهج ردة الفعل السابق-؛ كما أن أحد انعكاسات انطلاقة الدولة السعودية الرابعة هو التحول الذي طرأ على سياستها الخارجية لتكون أكثر شراسة وضراوة(1).
بالإضافة إلى ذلك فإن تناقضًا عميقًا في المصالح بين الرياض وواشنطن أعقب بداية ما عُرف بثورات الربيع العربي، وتفاقم ذلك التناقض بعد تقارب واشنطن مع طهران. في الوقت نفسه، وبعيدًا عن هذا التناقض، فإن التحالف بين السعودية والولايات المتحدة يشهد عملية انتقال لمرحلة استراتيجية جديدة، تختلف في معطياتها ونتائجها عن تحالف "النفط مقابل الأمن"؛ الذي جرى في عام 1945؛ حيث تتميز هذه المرحلة الجديدة بأمرين؛ الأول: كون السعودية هي خط الدفاع الأول عن أمنها (وليس الولايات المتحدة)، والثاني: انتقال التعاون بين الرياض وبين واشنطن من تعاون طويل المدى إلى تعاون قصير المدى، ينحصر في عمليات آنية لتبادل المنافع.
فتحالف "النفط مقابل الأمن" (Oil for Security) تحوَّل إلى مستوى استراتيجي جديد؛ هو: "صفقة واحدة لفترة واحدة" (One deal at a time)؛ فمن ناحية ستحمل أي صفقة بين البلدين تاريخ صلاحية قصير المدة (Short term expiration date)؛ ومن ناحية أُخرى فإنه بعد انتهاء صلاحية الصفقة، ستتجدد عملية التفاوض على صفقة أُخرى بتاريخ صلاحية جديد ولمدة قصيرة (Renewal of negotiations).
وقد تُعبِّرُ عمليةُ الانتقال هذه عن نفسها من خلال الملفات موضع الخلاف في هذه الفترة؛ لكن عملية الانتقال ذاتها تقع خارج إطار تلك الملفات ومستقلة عنها؛ لابُدَّ من الإشارة هنا إلى وجود خلط عند بعض المحللين بين انعكاسات الخلاف بين البلدين من جهة، وبين انعكاسات التحول الاستراتيجي للتحالف بينهما من جهة أخرى؛ فعلى سبيل المثال: تشكل عملية: "عاصفة الحزم" أبرز الأدلة على التحول الاستراتيجي للتحالف بين البلدين؛ حيث تصرَّفت الرياض بشكل مستقل عن واشنطن، وبصفتها هي الخط الأول للدفاع عن أمنها، وليست الولايات المتحدة الأميركية كما كان الوضع سابقًا.
يعزو بعضهم عملية "عاصفة الحزم" إلى التناقض في المصالح بين البلدين؛ مما قاد الرياض إلى حالة إحباط من واشنطن، فوجدت نفسها مضطرة إلى التصرف بمفردها؛ وهذا غير دقيق تمامًا؛ لأن "عاصفة الحزم" يمكن أن تحدث بأشكال متعددة وتحت مسميات مختلفة؛ حتى لو لم يكن هنالك عدم توافق بين البلدين الحليفين؛ هذا لأن الرياض من الناحية الاستراتيجية أصبحت ترى أنها هي صاحبة الدور الأول في حماية نفسها؛ ولذلك انعكاسات كُبرى على سياسة السعودية الخارجية، وقد يكون لاهتزاز الثقة بين البلدين دور في تسريع انتقال الرياض إلى خط الدفاع الأول؛ لكنها ليست المسبب الرئيس له.
هذا التحول الاستراتيجي لا يعني أن أهمية واشنطن الاستراتيجية ستتراجع، أو أن دورها بالنسبة إلى أمن الرياض واقتصادها سيقل؛ بل ستبقى الأهمية ويبقى الدور؛ ولكن بأشكال وأُطرٍ مختلفة عن السابق؛ وذلك لكون الولايات المتحدة الأميركية قوة عظمى لها مصالحها في المنطقة، وبحكم اعتماد السعودية على تصدير النفط أيضًا. هذا يعني اعتمادها على واشنطن لتأمين خطوط إمدادها، كما يعني اعتمادها على التقنية الغربية لاستخراج النفط، وعلى الأسواق الغربية -إلى حد كبير- لشرائه؛ بالإضافة إلى ذلك فإن الطلب أصبح هو العنصر الأساس في تحديد سعر النفط، وليس العرض كما كان سابقًا، وهو ما يزيد من أهمية دور واشنطن المعنية بتعافي الاقتصاد العالمي؛ مما قد يقود إلى ارتفاع الطلب مستقبلًا وتعافي الأسعار، لقد باتت الرياض تعول على الاستثمارات الأميركية، للمساهمة في تنمية اقتصاد سعودي حيوي، وربطه بالقطاع الخاص الأميركي.
وقد يكون من دلائل استمرار أهمية واشنطن للرياض تعيين السفير السعودي السابق في واشنطن السيد عادل الجبير، وزيرًا للخارجية، بكل ما يحمله هذا التعيين من رمزية لأهمية العلاقة بين البلدين؛ لكن يبدو أن السياسة الخارجية السعودية تتخذ منحًى جديدًا، في إطار التحولات العالمية والإقليمية والداخلية؛ وليس من قبيل الصدفة أن يكون عادل الجبير هو الشخص ذاته الذي يُعلن من واشنطن -حينما كان سفيرًا فيها- عن انطلاق عملية "عاصفة الحزم" عنوانًا للنمط الجديد للسياسة الخارجية السعودية؛ ليكون الجبير -أيضًا- رمزًا لعملية الانتقال بالعلاقة إلى المستوى الجديد.
تأطير العلاقات السعودية-الأميركية
تاريخيًّا؛ تزداد أهمية الإطار الذي تتم فيه التفاهمات حول قضايا المنطقة بين الرياض وبين واشنطن؛ وذلك بسبب "الطبيعة البلقانية" للمنطقة، كما يسميها زبيقينيو بريجنسكي(2)، أو "طبيعة المنطقة الوسطى" كما يسميها ديمتري كيتسيكيس(3)؛ بمعنى آخر: لم تكن المنطقة هادئة قط على مر التاريخ المعاصر، وهذا يضعف أمن الدول ومواقفها التفاوضية، كما يعرقل بناء قدراتها؛ وفي المحصلة: يزداد غموض المستقبل؛ مما يرفع من أهمية الاستعانة بقوة خارجية كُبرى؛ من هنا تأتي أهمية تأطير علاقات الرياض بواشنطن؛ وهذا ما حصل بالفعل في عام 1945.
مع انتقال التحالف بين البلدين من مستوى "النفط مقابل الأمن" إلى مستوى "صفقة واحدة لفترة واحدة"، تبرز الحاجة إلى إعادة رسم إطار العلاقة بين البلدين مرة ثانية؛ سابقًا كان الارتباط الأمني العضوي بواشنطن يحتم اتباع البوصلة الأميركية في القضايا الاستراتيجية؛ لكن التحول إلى المستوى الجديد قاد إلى حالة انفكاك استراتيجي جزئي بين البلدين؛ ولكن تبقى حدود هذا الانفكاك ومداه أحد المواضيع المطروحة للنقاش، تمامًا كما نُوقش الارتباط الاستراتيجي بينهما في عام 1945(4)؛ حيث يحدث هذا في سياق دولي عام.
هذا السياق يتمثل في الصراع بين أحادية القطبية الأميركية من جهة، وبين اللاقطبية من جهة أخرى، وما التقارب الأميركي-الإيراني إلا أحد إفرازات هذا الصراع؛ فالولايات المتحدة الأميركية تدرك حتمية التحول من عالم أحادي القطبية تكون هي القوة المهيمنة فيه، إلى عالم اللاقطبية؛ وهي تعمل جاهدة على تخفيف حدة المرحلة الانتقالية، وما تبنِّي إدارة الرئيس أوباما -كما يجادل بذلك تشارلز كبتشن- لسياسة التحول إلى آسيا إلا مؤشرًا على هذا الإدراك(5).
لابُدَّ من إدراك شيء من التفصيل حتى لا يتم الخلط بين مفهوم اللاقطبية وبين مفهوم التعددية القطبية في العالم متعدد الأقطاب، كما يلاحظ ريتشارد هاس، ولا توجد قوة واحدة مهيمنة، وإلا لكنا في عالم أحادي القطبية، ولا تتمحور مراكز السلطة حول موقفين رئيسين، وإلا لكنا في عالم ثنائي القطبية؛ العالم متعدد الأقطاب يتكون من مراكز سلطة، قليل منها تتواطأ على مجموعة قواعد فيما بينها، ومجموعة عقوبات لمن لا يحترم هذه القواعد؛ وبالتالي تتعاون الأقطاب فيما بينها عندما يكون هناك توازن قوى، وتنزلق إلى الصراع حين يختل هذا التوازن(6).
لكن يبقى عالم اللاقطبية مختلفًا عن ذلك التصور؛ أولًا: هناك حالة انفصال بين النفوذ والقوة؛ القوة -خلال الحرب الباردة مثلًا- سواء العسكرية أم الاقتصادية أم الإعلامية كانت مرتبطة بشكل مباشر بالنفوذ، وامتلاك القوة كان يعني القدرة على التأثير، كما كان العامل الرئيس في الربط بين القوة وبين النفوذ هو الدور المحوري للدولة الوطنية (The nation-state)، وكانت هي اللاعب الرئيس؛ مما يعني أن امتلاك هذا اللاعب للقوة يعطي القدرة على التأثير في سيرورة الأحداث.
لكن هذا اللاعب لم يعد اللاعب الوحيد على الساحة الداخلية والإقليمية والدولية؛ بل أصبح يواجه تحديات اللاعب -غير الدولة (The non-state actor)- من الأعلى كالمنظمات الإقليمية والدولية، وعلى مستواه نفسه من المنظمات غير الحكومية، ومن الأسفل من قِبَل الميليشيات والحركات المسلحة. وعليه فقدت الدولة الوطنية احتكارها للقوة والنفوذ، وفي المحصلة فإن هناك مراكز سلطة عالمية، جزء مهمٌّ منها هو لاعب -غير- دولة.
ثانيًا: قادت العولمة بشكل حتمي إلى اللاقطبية؛ فمن جهة؛ لأن جزءًا من التبادلات والحركة العابرة للحدود تقع خارج سلطة الحكومات ومعرفتها في عدد من الفضاءات الجغرافية المفتوحة؛ مما يحجم من قدرات مراكز القوة، ومن جهة أخرى تعزز هذه التبادلات والحركة من قدرات اللاعب -غير- الدولة(7).
هذا النظام الدولي الجديد مهيأ بشكل قوي -كما يقول زبيقنيو بريجينسكي- للفوضى؛ حيث لا تحكمه قوة مهيمنة، ولا تراتبية سلطوية (Hierarchy)؛ بالإضافة إلى ذلك سيكون من الصعب جدًّا تحديد العلاقات بين اللاعبين وتوصيفها؛ إما بحلفاء أو بمنافسين؛ بل ستكون العلاقات انتقائية وموضعية/ظرفية (Situational).
ينعكس ذلك على علاقات الرياض وواشنطن؛ إذ لم تَعُدْ تستقيمُ التوصيفات التقليدية (كالفتور أو التنافس) مع الطبيعة الانتقائية والموضعية/الظرفية للعلاقات؛ ومع تراجع قدرة واشنطن على التأثير في المسرح الدولي تتراجع قدرتها على مساعدة الرياض على التأثير؛ وذلك لأن السعودية -التي كانت تعتمد على واشنطن لحمايتها- كانت تعتمد كثيرًا على النفوذ الأميركي بغرض تحقيق مصالحها أيضًا؛ لقد أسهم هذا النظام الدولي الجديد -بحق- في الانتقال بالعلاقات بين البلدين إلى مستوى "صفقة واحدة لفترة واحدة".
بكلمات أخرى: يتحول التعاون بين البلدين من تعاون بعيد المدى؛ مبني على إملاءات المصالح المشتركة، إلى تعاون قصير المدى مبني على عمليات آنية وسريعة لتبادل المنافع أو "تعاملات ساخرة ومتشائمة، حالة بحالة"، كما يصفها تشاس فريمان(8)، ويمثل الدور السعودي في الربيع العربي، ومؤخرًا في اليمن، مؤشرًا قويًّا على هذا المستوى الجديد؛ إن الانتقائية والموضعية/الظرفية بين البلدين؛ التي يعزوها كثير من المحللين إلى "الفتور" في العلاقات السعودية-الأميركية، هي في واقع الحال نتيجة الانتقال في العلاقات إلى مستوى "صفقة واحدة لفترة واحدة"، حتى إن عبَّر هذا الانتقال عن نفسه من خلال الملفات موضع الخلاف.
كل ذلك أسهم في زيادة الحاجة إلى تأطير العلاقة بين البلدين، وإيجاد آلية لإدارة الخلاف من جهة، والمواضيع الاستراتيجية الكبرى التي يُفترض أن تكون بعيدة عن الاختلاف قدر المستطاع كالتسلح، وأمن إمدادات الطاقة من جهة أخرى؛ هذا يدفع للقول: إن قمة سلمان-أوباما 2015 هي شبيهة إلى حد كبير بقمة عبد العزيز-روزفلت 1945. سبعون سنة مضت؛ شكلت دورة كاملة في العلاقات بين البلدين، فعادت العلاقات في عام 2015 إلى النقطة التي انطلقت منها في عام 1945، لتبدأ دورة جديدة؛ ولكن بمعطيات ونتائج مختلفة، إن أهمية التوازن بين الطرفين لم تتغير كثيرًا بين القمتين، كما دل على ذلك كون الطرف الأميركي لا يزال هو المُضيف والطرف السعودي هو الضيف؛ حيث تمثل ذلك في رمزية الطَّراد الأميركي كوينسي كمكان للقاء في عام 1945، والبيت الأبيض في عام 2015، وكما أن عملية التأطير التي بدأت في عام 1945 أخذت زمنًا قبل أن تستقر كل تفاصيلها، ستأخذ عملية التأطير التي بدأت الجمعة الماضية زمنها أيضًا.
المستجدات الإقليمية
تكمن القراءة السعودية للمستجدات الإقليمية في أن النفوذ الإيراني -الذي تعول عليه واشنطن- غير مستدام؛ ولذلك يجب إعادة النظر في هذا التعويل؛ وبالتالي فإن أحد محاور النقاش في القمة السعودية-الأميركية هو الطبيعة غير المستدامة لنفوذ طهران.
لقد توالت آراء الباحثين والمحللين في واشنطن حول صعود طهران كلاعب إقليمي ذي نفوذ يمكن توظيفه لخدمة المصالح الأميركية في المنطقة؛ على الرغم من تصريحات الإدارة الأميركية حول عدم رضاها عن رعاية طهران للإرهاب؛ مما أدى إلى الدفع بواشنطن -الساعية للتحول إلى آسيا- إلى التقارب مع النظام الإيراني؛ لكنَّ بِنْيَة النفوذ الإيراني -كما يراها صانع القرار السعودي- تقوم على الطائفية كأداة لبناء ميليشيات "طائفية" خارجة عن إطار الدولة في العالم العربي؛ وبهذا تتميز مناطق نفوذ إيران بعاملين: ضعف الحكومات المركزية، وسيادة جو الصراع الطائفي(9)؛ حيث ترى الرياض ارتباطًا ما بين بيئة النفوذ الإيراني هذه، وبيئة تمدد تنظيم ما يُعرف بالدولة الإسلامية؛ الذي يعتمد على ضعف الحكومات المركزية، وسيادة جو الصراع الطائفي.
من هنا، من المتوقع أن تسعى الرياض للمجادلة بعدم إمكانية استدامة بيئة النفوذ هذه؛ لتناقضها مع الدور المركزي للدولة واستقرار المجتمع من جهة، وعدم جدوى محاربة التنظيمات الجهادية المتشددة، وعلى رأسها (داعش) إذا لم نتنبه لهذه المسألة من جهة أُخرى؛ وإن احتجاجات الشارع في العراق ولبنان المنددة بإيران؛ التي تربط بين نفوذ طهران وبين الفساد وغياب الأمن والطائفية في هذين البلدين، هي مؤشر قوي على عدم قدرة إيران على الدفاع عن ميليشياتها الطائفية، والترتيبات السياسة التي فرضتها هذه الميليشيات في هذين البلدين.
بالإضافة إلى ذلك فإن الانتصارات المتوالية التي حققتها المعارضة السورية المسلحة تعزز من موقف الرياض حيال عدم استقرار النفوذ الإيراني؛ فهي برهنت -من وجهة نظر الرياض- على عدة نقاط؛ أولًا: إن إيران لا تستطيع الانتصار على التاريخ والجغرافيا. وثانيًا: إن السعودية قادرة على الأخذ بزمام المبادرة والتأثير في سيرورة الأحداث، كالتنسيق مع تركيا؛ مما انعكس على الثورة السورية إيجابًا، وأدَّى إلى تقدُّم فصائل المعارضة المسلحة. ثالثًا: يشكل هذا التقدم رصيدًا يمكن استثماره في الحرب على "داعش".
كما حمل الوفد السعودي إلى واشنطن ورقة التقدم الكبير الذي تحقق في اليمن، فيما يتعلق بالهدف الرئيس من عملية "عاصفة الحزم"، ألا وهو منع تحوُّل اليمن إلى عراقٍ آخر، يأتمر بأمر الولي الفقيه في طهران؛ علاوةً على ذلك فإن معظم المؤشرات تشجع على القول: إن اليمن في طريقه إلى العودة إلى حاضنته العربية.
لقد برهن هذا التدخل على أن السعودية لاعب رئيس في المنقطة، ويمكنه اتخاذ زمام المبادرة، كما برهن على أن الموقف الأميركي -الذي كان يرفض التدخل العسكري جملةً وتفصيلًا- يمكن التأثير عليه، كما دلَّ على ذلك تقديم واشنطن للدعم اللوجستي لقوات التحالف العربي في اليمن(10)؛ إن هذا التدخل وجَّه رسالة إلى الميليشيات العربية الموالية لطهران، بأن دعم إيران وحمايتها لها هو أمر يمكن وضع حد له، كما هو الحال مع ميليشيات الحوثي.
ويمكن رصد القراءة السعودية لمستجدات المنطقة –برأينا- وكأنها تستند إلى تصور محدد لنزعة الهيمنة لدى الدول؛ فالسؤال الرئيس الذي تطرحه الرياض هو: هل الهيمنة هي نتيجة للتنمية، أم وسيلة لها؟ وتكمن الإجابة عنه في عامل الاستقرار المؤسساتي؛ فإذا كانت المؤسسات مستقرة، ستتركز الجهود على التنمية أولًا؛ التي ستقود بدورها إلى تطور الدور الخارجي للدولة تدريجيًّا، بما يتوافق مع مستوى التنمية الداخلية (تركيا كمثال)؛ بينما إذا كانت المؤسسات الداخلية غير مستقرة، فإن أحد أساليب إدارة عدم الاستقرار هذا هو تصدير الأزمات الداخلية؛ فيقود ذلك إلى نزعة الهيمنة، فتصبح الهيمنة وسيلة لتحقيق الاستقرار الداخلي، وهذا هو الحال في إيران (11).
وبالتالي، إذا كانت نزعة الهيمنة الإيرانية وتوسيع نفوذها، ذي البيئة غير المستدامة، ناتجة عن حالة عدم استقرار مؤسساتي داخلي، فإن هذا أدعى إلى إعادة النظر في تعويل واشنطن على نفوذ إيران؛ لأنه غير مستدام، ويستند إلى وضع داخلي غير مستقر.
النتائج التي تنشدها الرياض
إن لفترة الانتخابات الرئاسية 2016 تأثيرًا بارزًا؛ فبدخول الولايات المتحدة الأميركية مرحلة السباق الانتخابي، يصبح أي تحول كبير في السياسة الخارجية أمرًا مستبعدًا؛ بالإضافة إلى ذلك فإنَّ دعم السعودية للاتفاق النووي قد لا يعني الكثير على المستوى القانوني والتشريعي في واشنطن؛ خصوصًا بعد أن أمَّن أوباما الدعم الكافي في مجلسي الشيوخ والنواب لدعم الاتفاق النووي؛ الذي تم توقيعه مع إيران؛ لكنه سيكون ذا انعكاسات مهمة على الحملات الانتخابية؛ وتبقى الرياض عاصمة براغماتية؛ تدرك أن مسايرة الاتفاق النووي ومحاولة التأثير في عملية تأطيره هي أجدى بكثير من معارضته والاصطدام مع إدارة أوباما، وهي فوق ذلك تأمل في أن تقبض ثمن دعمها له على شكل صفقات أسلحة.
بناءً على ذلك يمكن القول: إن هنالك هدفين تسعى الرياض لتحقيقهما؛ أولًا: إعادة انخراط واشنطن في المنطقة بشكل يتناسب مع حاجة السعودية لمساعدتها وفق معطيات المستوى الجديد "صفقة واحدة ليوم واحد"؛ وثانيًا: تهدف السعودية إلى إقناع واشنطن بأن أزمات المنطقة المتمثلة في تنظيم ما يُعرف "بالدولة الإسلامية" وملفات العراق وسوريا واليمن هي كل لا يتجزأ، وهذا قد يقود إلى حمل واشنطن على إبداء بعض المرونة فيما يتعلق بتسليح الثوار السوريين بما يسمح بتحييد طيران نظام بشار الأسد؛ هذا بالإضافة إلى التأثير في العملية السياسية العراقية؛ بحيث تستوعب جميع فئات الشعب العراقي؛ حيث ستؤدي كل هذه التوجهات إلى تراجع نفوذ إيران في المنطقة.
الخاتمة
تمر المنطقة، من الناحية الاستراتيجية، بفترة شبيهة بالفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية؛ ولهذا انعكاس كبير على العلاقات السعودية-الأميركية؛ في هذا الإطار تأتي زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى واشنطن، حاملًا معه تطلعات سياسية واقتصادية كبيرة؛ لكن نتائج هذه القمة لن تُفصح عنها المؤتمرات الصحفية المشتركة للبلدين؛ بل مسيرة العملية السياسية في العراق وتطورات الأزمة في سوريا.
_______________________________________
منصور المرزوقي: باحث سعودي مختص بالشأن الخليجي.
الهوامش
(1) للمزيد حول تأثير التحولات الداخلية على السياسة الخارجية السعودية، انظر: منصور المرزوقي, "العلاقات السعودية-التركية: تحول بنية التحالفات الإقليمية", (الدوحة, مركز الجزيرة للدراسات, مارس/آذار 2015).
(2) Zbigniew Brzezinski, Strategic Vision: America and the Crisis of Global Power, (New York, Basic Books, 2013).
(3) Dimitri Kitsikis, "Le Nationalisme", Études internationales, vol. 2, 1971, 347-370.
(4) جادلت لصالح هذه الأُطروحة، (انتقال العلاقات السعودية-الأميركية إلى المستوى الاستراتيجي الجديد، الذي يتميز بكون الرياض هي خط الدفاع الأول، وبكون التعاون محصورًا في عمليات آنية لتبادل المنافع)، في المؤتمر الذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بعنوان: "العرب والولايات المتحدة الأميركية: المصالح والمخاوف والاهتمامات في بيئة متغيرة (رؤية أكاديمية)"، المنعقد بين 14 و16 من يونيو/حزيران 2014 في الدوحة، وكان عنوان الورقة التي قدمتها: "تأثير التحول في العلاقات السعودية-الأميركية على الدور السعودي الإقليمي"، وسوف تصدر في كتاب ينشره المركز العربي مع مجموعة الأوراق التي اجتازت التحكيم العلمي نهاية عام 2015.
(5) Charles A. Kupchan, No One's World: The West, the Rising Rest, and the Coming Global Turn, (Oxford, Oxford University Press, 2013).
(6) أبرز من جادل لصالح هذه الفكرة هو الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه؛ وذلك في معرض نقده لنظرية السلام العالمي؛ التي طرحها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت؛ وتقوم فكرة نيتشه على أن المواثيق والعهود الدولية، بالإضافة إلى ما يسمى بـ "الأخلاق العالمية" ما هي إلا انعكاس لتوازن قوى معين، وستنهار كل هذه المواثيق والأخلاق بمجرد اختلال توازن القوى هذا؛ فالالتزام بالعهود والمواثيق ما هو إلا التزام حاجة، لا التزام إيمان، والأزمة في أوكرانيا تصلح أن تكون مثالاً على فكرة نيتشه؛ إذ لم يكن لميثاق بودابست لعام 1994، الذي سلَّمت بموجبه أوكرانيا سلاحها النووي مقابل تعهد القوى الكبرى بحمايتها، أي اعتبار؛ فلقد فقد هذا التعهد قيمته عندما اختلفت موازين القوى التي أنتجته؛ للمزيد حول نقد نيتشه لنظرية السلام العالمي وكلامه حول دور توازن القوى وقيمة المواثيق، انظر:
Friedrich Nietzsche, Oeuvres philosophiques complètes xi: fragments posthumes automne 1884- automne 1885, Paris, GALLIMARD, 1981, p. 220.
(7) Richard Haass, "The Age of Nonpolarity", Foreign Affairs, May/June 2008: http://fam.ag/17hSeJ3
(8) تشاس فريمان: هو دبلوماسي أميركي تدرج في مناصب مهمة وعديدة، كان من بينها أن عمل سفيرًا للولايات المتحدة الأميركية في المملكة العربية السعودية بين عامي 1989 و1992، وقد أدلى بهذه التعليقات في كلمة له أمام مجلس سياسات الشرق الأوسط في واشنطن، في يناير/كانون الثاني 2013:
http://www.youtube.com/watch?v=3Xhlwxkjy8o&feature=youtu.be
(9) للمزيد حول بيئة النفوذ الإيراني وعلاقتها ببيئة تمدد داعش، انظر منصور المرزوقي:
Mansour Almarzoqi, Carnegie Middle East Center, "Iran’s Sectarian Policies in the Region Benefit the Islamic State", accessed on 21, July 2015: http://ceip.org/1IjcUQM
(10) يجادل الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، الحواس بن تقية، بأن تدخل قوات التحالف العربي في اليمن نجح في التأثير على موقف واشنطن من الرفض المطلق إلى القبول المحدود؛ مكالمة هاتفية مع الحواس بن تقية، ليون-الدوحة، 15 من يوليو/تموز 2015.
(11) للمزيد حول دور عدم الإستقرار الداخلي في المشروعي الإقليمي لإيران، انظر: ابتسام الكتبي وآخرون، « المنطلقات المذهبية للمشروع الجيوسياسي الا?يراني »، مركز الإمارات للسياسات (أبوظبي، فبراير/ شباط 2015).