وضع المعارضة الجزائرية ومساراتها المحتملة

تعاني المعارضة الجزائرية ضعفًا تنظيميًّا وحالة انشقاق شبه متواصلة، في وقت يتطلب منها تقديم إجابات سياسية لمرحلة انتقالية تُخرج البلاد من حال انسداد سياسي؛ وهو ما يضعها في مفترق طرق حول خياراتها القادمة، بين أن تتوحد لفرض مرحلة انتقالية، أو البقاء على وضع الانقسام وغياب المبادرات السياسية.
20161311737659734_20.jpg
المعارضة الجزائرية في مفترق طرق، بين أن تتوحد لفرض مرحلة انتقالية، أو البقاء على وضع الانقسام وغياب المبادرات السياسية ( AP)
ملخص

الجزائر مرشَّحة لتغييرات سياسية بسبب مرض الرئيس بوتفليقة. ويطرح ذلك تساؤلات حول مستقبل المعارضة وخياراتها القادمة، وتوحدها لفرض مرحلة انتقال سياسي أم البقاء منقسمة في لعبة تغيير الأشخاص التي لا تؤتي نتائج ملموسة. وفي حين ترفض القوى السياسية الرسمية فكرة المرحلة الانتقالية وترى فيها تشكيكًا في المؤسسات القائمة وآليات إنتاجها؛ تركِّز المعارضة الممثَّلة في تنسيقية الانتقال الديمقراطي على مفتاح لجنة مستقلة لتنظيم الانتخابات، كمدخل لمرحلة انتقالية لا تزال غير واضحة المعالم. وتعاني المعارضة الجزائرية ضعفًا تنظيميًّا وحالة انشقاق شبه دائمة وسيطرة الصراعات الشخصية داخليًّا، وترددًا في الذهاب نحو الفئات الشعبية للحصول على دعمها؛ مما يجعلها تعيش مفترق طرق حقيقي بعد مؤشرات كثيرة حول وصول النظام الجزائري بمؤسساته وموازين قواه الداخلية إلى مرحلة الأزمة.

شهدت سنة 2015 حدثين مهمَّين مسَّا استقرار النظام السياسي الجزائري في العمق وهزَّا توازناته الداخلية المعروفة بين مؤسساته المركزية وعلاقته بالمجتمع. حدثين لم يكن للمعارضة السياسية أي دور في وقوعهما، رغم أنها قد تستفيد منهما، لما سيكون لهما من تداعيات على أكثر من صعيد.

الحدث الأول ذو صبغة اقتصادية بتداعيات سياسية، ويتعلق بالانخفاض الكبير في أسعار النفط خلال سنة 2015، وهو الذي تعتمد عليه الجزائر بشكل رئيسي في تمويل استثماراتها المختلفة، بما فيها تلك الموجهة للجوانب الاجتماعية كالسكن والتشغيل، التي تشتري بها الحكومة السلم الاجتماعي المطلوب، بعد موجات التغيير التي عرفتها المنطقة العربية. تداعيات ظهرت بسرعة على مستوى قانون الميزانية لسنة 2016 الذي قرَّر زيادات في أسعار مواد استهلاكية أساسية كالبنزين والكهرباء وفتح رأسمال الشركات العمومية للقطاع الخاص. وأثارت المصادقة على هذا القانون صراعات سياسية وصَلَ صداها إلى المؤسسة التشريعية لأول مرة في التاريخ السياسي للجزائر، كما شهد الشارع مظاهرات ووقفات سلمية.

ويتعلق الحدث الثاني ذو الطابع السياسي بالتغييرات التي مسَّت الأدوار التقليدية المنوطة بالمؤسسة الأمنية-العسكرية داخل النظام السياسي الجزائري، وعلاقها بالمؤسسات السياسية الأخرى كرئاسة الجمهورية والمؤسسة العسكرية ومؤسسات اتخاذ القرار المدني الأخرى؛ فقد عرفت سنة 2015 سلسلة من الإقالات والتحويرات داخل أجهزة المؤسسة ذاتها وفي رجالها من القياديين، أدَّت إلى إبعاد الرجل الأول (محمد مدين المدعو توفيق) الموجود على رأس الاستخبارات منذ ربع قرن تقريبًا. وقد سبقت هذه التغييرات محاكمات لقيادات عسكرية وأمنية قريبة من الرجل الأول، جعلته يخرج إلى العلن لأول مرة في تاريخ المؤسسة الأمنية بتوجيهه لرسالة يحتج فيها على محاكمة أحد أعوانه المشرفين مباشرة على ملف مكافحة الإرهاب (الجنرال حسان)؛ وهو احتجاج قام به لنفس السبب وزير الدفاع الأسبق، خالد نزار.

أحداث سياسية تمت في ضل استمرار غياب الرئيس جرَّاء مرضه الطويل وصلت حدَّ التشكيك في مدى علمه بالقرارات المتخَذة وتقديمه كرهينة لمحيطه السياسي والعائلي، ليس من قِبل المعارضة هذه المرة ولكن من قِبل شخصيات سياسية ووجوه تاريخية كانت محسوبة على الرئيس تقليديًّا، وطالبت بلقائه(1) للتأكد من مدى علمه بالقرارات المتخذة باسمه، سواء في ما يتعلق بمحاكمة العسكريين والأمنيين أو محتويات قانون المالية الجديد، أو تلك التغييرات التي عرفتها المؤسسة الأمنية العسكرية وعلاقاتها بقيادة الأركان والمؤسسة العسكرية بكاملها.

تمت هذه الأحداث في سياق حراك اجتماعي وسياسي وصل لمؤسسات رمزية مهمة كالمنطقة الصناعية برويبة-رغاية التي قام عُمَّالها بالاحتجاج وغلق الطريق العمومي، وعمال نقل الجزائر العاصمة الذين كانوا دائمًا في التاريخ السياسي والاجتماعي للجزائر على رأس المؤشرات التي تعلن عن بروز حركات احتجاجية عمالية وشعبية واسعة، كما حدث أكثر من مرة (في أحداث 5 أكتوبر/تشرين الأول عام 1988).

وفي سياق الوضع السياسي الذي عاشته الجزائر خلال السنتين الماضيتين عقب آخر انتخابات رئاسية (إبريل/نيسان 2014) برز الحديث عن الإسراع في مسار تعديل الدستور الذي قاطعه جزء مهم من المعارضة؛ حيث يتوقع الانتهاء منه آخر هذه السنة أو بداية السنة المقبلة على أكثر تقدير. إن المصادقة على الدستور عن طريق البرلمان وليس الاستفتاء الشعبي، كما كان يطالب بذلك جزء من المعارضة حتى تلك التي قاطعت المشاورات حوله، قد يضيف نقطة خلاف أخرى بين المعارضة والسلطة بمناسبة هذا التعديل الدستوري الذي طال انتظاره من المعارضة التي تعوَّدت تاريخيًّا على عدم الثقة في النص الدستوري، مهما كان مكتملًا، في غياب تطبيقات عملية له على أرض الواقع.

يحصل كل هذا في ظلِّ تحولات على مستوى المشهد السياسي والإعلامي الوطني، وحضور قوي لعدد من رجال الأعمال المقربين من محيط الرئيس (علي حداد مثلًا)، كمؤشر قوي على تحولات عميقة بدأت تمس النخبة السياسية الحاكمة؛ حيث يمكن تبني فرضية استمرارها وتدعيمها في المستقبل لتغيِّر جديًّا من طبيعة الدولة الجزائرية نفسها، كما عُرفت بها تاريخيًّا، خاصة على مستوى الخيارات الاجتماعية.
 
المعارضة السياسية وخياراتها المحدودة
عَرَفت سنة 2014، كما كان متوقعًا، باعتبارها سنة انتخابات رئاسية، حراكًا سياسيًّا نوعيًّا أنجزت جزءًا منه المعارضةُ السياسيةُ التي اجتمعت لأول مرة في التاريخ السياسي للجزائر في تنسيقية وطنية للانتقال الديمقراطي في لقاء زرالدا (10 يونيو/حزيران 2014). ووضعت التنسيقية المكونة من مجموعة من الأحزاب (حوالي 11 حزبًا) والجمعيات والشخصيات الوطنية مجموعة من المطالب التي كان على رأسها إيجاد لجنة وطنية لتنظيم الانتخابات السياسية في الجزائر كمدخل لحلِّ معضلة التغيير السياسي الذي فشل حتى الآن عن طريق آلية الانتخابات الرسمية التي تسيطر عليها الإدارة. كما فشل عن طريق الضغط الاجتماعي الشعبي الذي مثَّلته الحركات الاجتماعية الحاضرة بقوة في المشهد السياسي الجزائري تقليديًّا.

وقد وصل الحراك الاجتماعي والمطلبي في أكتوبر/تشرين الأول، عام 2014، إلى مؤسسة الشرطة نفسها التي خرج رجالها في مسيرات احتجاجية للمطالبة بتحسين ظروف عملهم وتغيير قيادتهم الوطنية، ليحاصروا في آخر محطة من ذلك الاحتجاج مقر رئاسة الجمهورية في سابقة تاريخية.

في سياق هذا الحراك السياسي الذي ميَّز فترة الانتخابات الرئاسية يمكن التركيز على ظهور حركة "بركات"(2) كحركة احتجاجية قامت ضد العُهدة الرابعة للرئيس بوتفليقة؛ وهو ما أربك السلطة وجزءًا من المعارضة، لما ميَّز هذه الحركة من جديد لا يتعلق ببعض خصائصها السوسيولوجية كسيطرة الفئات الوسطى المتعلمة داخلها فقط، ومن كل الأطياف السياسية والفكرية (صحفيين، أطباء، موظفين)، بل باستقلاليتها السياسية وخروجها إلى الشارع للتعبير عن مواقفها المعارضة لعُهدة رابعة للرئيس بوتفليقة. وخرجت هذه الحركة الشابة للشارع واصطدمت مع قوات الأمن أكثر من مرة سنة 2014؛ حيث اعترى الجزائر تخوف كبير من إمكانية الخروج للشارع، نتيجة ما ترسَّب من ذكريات عن العشرية السوداء.

وفي مواجهة هذا الحراك الجديد والنوعي على مستوى الأحزاب (التنسيقية) والحركات الاحتجاجية الجديدة (حركة بركات)، نشَّطت السلطة أحزاب الموالاة وترسانتها الحزبية والإعلامية لتغيير موازين القوى التي فرضتها المعارضة خلال سنة 2014 لتقليص فرص المعارضة في التموقع القوي داخل الخارطة السياسية الوطنية المتحركة؛ فهل نجحت السلطة وأحزابها في ذلك؟

لم تنجح السلطة وأحزابها في الالتفاف على الحراك الذي أنجزته المعارضة خلال سنة 2014 والذي أخرج أحزاب التنسيقية للشارع في فبراير/شباط 2015 بسبب قوة أحزاب السلطة التي عرفت بدورها حالة اضطراب قصوى، بقدر ما حدث نتيجة عوامل ضعف موضوعية تعيشها المعارضة كأحزاب سياسية وشخصيات وجمعيات مجتمع مدني. وهي عوامل ضعف لا يمكن التعرف عليها إلا بالعودة إلى السياق العام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يميِّز الحالة الجزائرية، والحالة التي تميِّز كل حزب أو تيار سياسي داخل المعارضة؛ فالنخب السياسية المعارضة تشكو مثل باقي النخبة السياسية والثقافية من حالة انقسامية ثقافية حادة، جعلتها في السابق قبل لقاء زرالدا ترفض العمل المشترك فيما بينها حتى عندما يتعلق الأمر بنفس العائلات السياسية والفكرية، ولا يزال ذلك سائدًا بين التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وجبهة القوى الاشتراكية ضمن العائلة "الديمقراطية". وبين حركة مجتمع السلم وتلك الأحزاب التي كوَّنها وقادها عبد الله جاب الله عندما يتعلق الأمر بالأحزاب الإسلامية ذات التوجه الإسلامي الإخواني (النهضة، الإصلاح، العدالة والتنمية).

تعيش النخبة انقسامًا ثقافيًّا نتيجة ما ميَّز التاريخ الثقافي والسياسي الجزائري خلال المرحلة الاستعمارية، وأُعيد إنتاج ذلك بعد الاستقلال؛ حيث عرفت الجزائر استعمارًا استيطانيًّا طويلًا لم يسمح لها بإنتاج مؤسسات تنشئة اجتماعية وثقافية موحدة تؤهلها لإنتاج نخبة سياسية وفكرية بمواصفات متجانسة ثقافيًّا وفكريًّا. إن مرحلة العمل الحزبي السري وتجربة الحرب الأهلية لاحقًا عمَّقتا الشروخ الثقافية والسياسة داخل النخبة السياسية الوطنية، بما فيها المعارضة التي زادت عندها الشكوك في ما بينها وتضخَّمت الحزازات الشخصية التي ولَّدت حالة انشقاقات شبه دائمة، مسَّت مختلف الأحزاب السياسية بما فيها تلك التي عُرف عنها لوقت قريب الكثير من التماسك، مثل حركة مجتمع السلم التي ولَّدت انشقاقاتُها أكثر من حزب وحركة سياسية(3)، بالإضافة إلى عدم القدرة على العمل السياسي المشترك بين مكونات المعارضة الذي تم تجاوزه جزئيًّا لأول مرة بمناسبة تكوين تنسيقية الانتقال الديمقراطي التي ضمَّت أحزابًا مثل التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية المنادي بالعلمانية وحركة مجتمع السلم الإخوانية، للمطالبة بمطالب واحدة تتعلق بمرحلة انتقالية ومراقبة الانتخابات السياسية، ومنحها حقَّ تنظيم الانتخابات بدل وزارة الداخلية.

وهنالك عامل آخر يمكن أن يفسِّر ضعف أداء المعارضة ويتعلق بالشرخ الذي استطاعت السلطة أن تُحدثَه بين النخبة السياسية المعارضة والفئات الشعبية التي طوَّرت حيالها سياسة اجتماعية واسعة اعتمدت على حلِّ أزمة السكن والبطالة التي يعاني منها الشباب. وهي سياسة اجتماعية لم تكن ممكنة دون المداخيل المالية الضخمة التي نتجت عن الارتفاع الكبير في أسعار المحروقات، والتي انخفضت بشكل حادٍّ خلال سنة 2015، وهو ما يجعل إمكانية إعادة النظر في هذه السياسة واردًا بكل تداعياته السياسية المحتملة.

تزامنت عملية شراء السلم الاجتماعي مع محاولات أخرى في اتجاه النخبة السياسية المعارضة نفسها التي دخلت في لعبة الاحتواء في أكثر من محطة سياسية، ومن مختلف التيارات السياسية التي تمثِّل المعارضة حاليًا. فأغلبية الأحزاب السياسية الممثَّلة في تنسيقية الانتقال الديمقراطي، انضمت إلى الحكومات المتعاقبة التي كوَّنها الرئيس بوتفليقة منذ 1999، كما هي حال حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وحركة النهضة، بل كان منها مَن انضم إلى التحالف الرئاسي الداعم لانتخاب الرئيس بوتفليقة كما هي حال حركة مجتمع السلم لغاية انتخاب رئيسها الجديد، عبد الرزاق مقري، في مايو/أيار 2013؛ حيث توجَّه بها نحو مواقف معارضة واضحة.

المشاركة في السلطة بكل ما تحمله من تبعات واستهلاك سياسي لم تكن مقتصرة فقط على الأحزاب السياسية، بل امتدت إلى الشخصيات السياسية نفسها المنضوية تحت لواء التنسيقية والمكونة في الأصل من رؤساء حكومات ووزراء سابقين (علي بن فليس، مولود حمروش، مقداد سيفي...إلخ)، ظهروا بمظهر المنشق وليس المعارِض، على الأقل بالنسبة للأوساط الشعبية صاحبة الثقافة السياسية الجذرية تقليديًّا في الجزائر. وتبدو شخصيات وأحزاب في عيون المواطن الجزائري كأنها لم تقطع كل خيوطها مع النظام السياسي الذي اشتغلت داخله طويلًا، ودافعت عن خياراته في الكثير من المواقع، لوقت قريب بالنسبة للبعض منها. وهو ما قد يُفسَّر من وجهة النظر النقدية هذه بعدم محاولة المعارضة بمختلف أطيافها وتنظيماتها تحريك الشارع الشعبي الذي لا تملك فيه الكثير من القواعد.

الطابع النخبوي المحدود والبرجوازي الصغير سوسيولوجيًّا، هو المسيطِر داخل هذه التنظيمات السياسية المعارضة، وإن تعلَّق الأمر بالأحزاب الكبيرة نسبيًّا داخل التنسيقية كحركة مجتمع السلم والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية التي تعرف زيادة على ذلك الكثير من الانشقاقات والضعف التنظيمي الذي يمكن تلمُّسه من خلال مؤشرات كقلَّة النشاط الجماهيري والسبات السياسي خارج فترة الانتخابات والأحداث السياسية الكبرى.

موت حسين آيت أحمد في ديسمبر/كانون الأول 2015 سيؤثِّر بالتأكيد على الوضع السياسي للمعارضة في الجزائر، فاختفاء هذه القامة السياسية سيزيد حتمًا من متاعب حزب القوى الاشتراكية الذي تميَّزت مواقفه في المدة الأخيرة بالتذبذب الذي بدا واضحًا في مبادرته التي أطلقها موازاة مع مبادرة تنسيقية الانتقال الديمقراطي التي سُمِّيت بمبادرة الإجماع الوطني. ولم يقبل بها عمليًّا أي حزب سياسي موال أو معارض؛ فقد اعترضت عليها أحزاب السلطة (جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي) لاعتقادها بإمكانية أن تؤدي إلى إعادة النظر في شرعية المؤسسات القائمة، كالبرلمان الحالي والرئاسة. واعترضت عليها المعارضة لأنها كانت مبهمة في آلياتها (فكرة الورقة البيضاء والندوة الوطنية المفتوحة أمام الجميع، سُلطة ومعارضة). وظهرت كاقتراح موازٍ يمكنه التشويش على مبادرة التنسيقية نفسها التي شاركت جبهة القوى الاشتراكية في جلساتها الأولى بزرالدا لتبتعد عنها بعد ذلك.

مسارات ممكنة أمام المعارضة
الضعف التنظيمي وحالة الانشقاق شبه الدائمة وسيطرة الصراعات الشخصية داخليًّا، وعدم التجديد العقائدي والفكري والخوف من الذهاب نحو الفئات الشعبية للحصول على دعمها للمطالبة وفرض مرحلة انتقالية تشمل آليات عمل النظام السياسي، لا تزال هي السمة الغالبة على المعارضة الجزائرية؛ مما يجعلها تعيش مفترق طرق حقيقي هذه السنوات، بعد مؤشرات كثيرة حول وصول النظام الجزائري بتنظيمه المعروف وشكل مؤسساته وشرعيته وموازين قواه الداخلية إلى مرحلة تآكل فعلية. فهل ستنجح المعارضة في استغلال تداعيات الوضع الاقتصادي الجديد جرَّاء تدهور أسعار البترول، بكل تبعاته الاجتماعية والسياسية في السنوات القليلة المقبلة، أم ستفشل مرة أخرى لانقسامها وافتقارها للسند الشعبي الفعلي؟

الجزائر مرشحة لتغييرات سياسية يمكن حدوثها في أي وقت جرَّاء مرض الرئيس الطويل؛ فهل ستدخل المعارضة موحَّدة لفرض مرحلة انتقالية لتغيير النظام السياسي وآليات عمله ومؤسساته أم أنها ستدخل منقسمة في لعبة تغيير الأشخاص التي جرَّبتها أكثر من مرة دون نتائج ملموسة. علمًا بأن فكرة المرحلة الانتقالية مرفوضة أصلًا من قِبل القوى السياسية الرسمية التي ترى فيها تشكيكًا في المؤسسات القائمة وآليات إنتاجها (الانتخابات). في حين تركِّز المعارضة الممثَّلة في تنسيقية الانتقال الديمقراطي على مفتاح لجنة مستقلة لتنظيم الانتخابات، كمدخل لمرحلة انتقالية لا تزال غامضة كمفهوم وغير محددة المعالم في الحالة الجزائرية، ولم يُبْنَ حولها نقاش سياسي واسع ضمن فضاء سياسي يشكو الفراغ؛ حيث لم تحدِّد مكونات المعارضة بشكل جدي نقاط التقائها ونقاط خلافها التي ما زالت كثيرة ومتنوعة.

هنالك معالم تشكُّل سيناريوهين للتغيير السياسي على المدى المتوسط في الجزائر، سيحددان أدوار ومكانة المعارضة مستقبلًا على المدى القصير والمتوسط. ويتمثَّل السيناريو الأول في تزايد قوة المعارضة داخل المشهد السياسي تدريجيًّا من خلال تنسيقية الانتقال الديمقراطي، بعد أن تكسب ودَّ أحزاب أخرى مثل جبهة القوى الاشتراكية وغيرها من الأحزاب الفاعلة والشخصيات الممثلة. ويَفترض هذا السيناريو أن تكسر هذه النخب السياسية حاجز الخوف وتذهب نحو قواعد شعبية أوسع، ليس داخل العاصمة والمدن الكبرى فقط، بل في المناطق الداخلية التي يعتمد عليها النظام السياسي الرسمي لتغيير موازين القوى السياسية كل مرة بمناسبة الانتخابات التي تعوَّد على إجرائها دوريًّا دون إحداث أي تغيير. وهو سيناريو متفائل، يعني من جهة أخرى أن منطق الصراع/التوافق هو الذي سيسود مع السلطة السياسية لفرض دخول مرحلة انتقالية، يمكن أن تجد تأييدًا دوليًّا كذلك في هذه المرحلة التي تعيش فيها المنطقة حالة اضطراب (ليبيا/مالي).كما أن هذا السيناريو يعني أن هناك أدوارًا ستقوم بها هذه النخب السياسية المعارضة المنتمية للفئات الوسطى من خلال تنظيماتها السياسية والجمعوية المختلفة. وهو السيناريو الذي لن يصعب تحققه دون إدخال متغيِّر المجتمع من خلال فئات شعبية أوسع في اللعبة السياسية وعلى رأسهم الشباب، لتغيير موازين القوى والخروج من منطق الاستفراد الذي كان يحكم علاقة المعارضة بالسلطة؛ فهو سيناريو يزاوج بين الضغط الشعبي المنظَّم والدور السياسي للأحزاب والنخب السياسية الفاعلة للوصول إلى تغيير عميق للنظام السياسي وآليات عمله ومؤسساته، لا أشخاصه وواجهته كما يحدث مرارًا.

ويُعتبر السيناريو الثاني أكثر قُربًا من التجربة السياسية للجزائر والجزائريين الذين عُرف عنهم سيطرة ثقافة سياسية جذرية وفراغ سياسي للشارع لأسباب تاريخية (النظام السياسي الأحادي/تجربة العشرية السوداء). وهو وارد الحصول في حال فشل السيناريو الأول وعدم التمكن من الوصول إلى توافق بين النخب السياسية الرسمية والمعارضة التي تكون قد فشلت في فرض اقتراحها بضرورة مرحلة انتقالية. ويعني ذلك دخول الشارع غير المسيس وغير المنظَّم عاملًا مؤثِّرًا في الصراع؛ مما قد يؤدي إلى انهيارات كبيرة في بِنية النظام والدولة الوطنية بنسب عنف كبيرة، كما عرفها بعض التجارب العربية في هذا الظرف السياسي والاقتصادي المأزوم الذي تمر به المنطقة.
___________________________________________________
*عبد الناصر جابي: محلل سياسي جزائري.

إحالات:
(1) لامن بين الوجوه المبادِرة كانت لويزة حنون والمجاهدة زهرة ظريف، نائبة رئيس مجلس الأمة لوقت قريب، ووزيرة الثقافة خليدة تومي والمجاهد لخضر بورقعة.

(2) بركات تعني كفى بالدارجة الجزائرية.

(3) -انشق عن الحركة الأم عبد المجيد مناصرة، نائب رئيس الحركة سابقًا مكوِّنًا جبهة التغيير، كما انشق الوزير السابق، عمار غلول، الذي كوَّن هو الآخر حزب تجمع أمل الجزائر، وأخيرًا انشقت مجموعة أحمد الدان لتكوِّن بدورها حركة البِنَاء.

نبذة عن الكاتب