الأمن القومي المصري: الصراع في ليبيا وشرق البحر المتوسط

تناقش هذه الورقة مواقف القاهرة تجاه الوضع في ليبيا، والاتفاق التركي الليبي، وعلاقة كل ذلك بشروط وعناصر الأمن القومي المصري.
6 فبراير 2020
رهان القاهرة على حفتر.. هل يحفظ لها أمنها القومي ومصالحها في ليبيا؟ (رويترز)

في ٢ يناير/كانون الثاني ٢٠٢٠، اجتمع مجلس الأمن القومي المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي لمناقشة التطورات الراهنة في الملف الليبي وما أسماه التهديدات الناشئة عن التدخل العسكري الخارجي في ليبيا، وذلك بُعيد إعلان البرلمان التركي عن موافقته على مذكرة تسمح بالاستجابة لطلب حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًّا وتقديم الدعم اللازم لها وإرسال قوات عسكرية ومساعدات إنسانية إلى ليبيا. الرئاسة المصرية كانت قد أعلنت في ختام هذا الاجتماع عن "تحديد مجموعة من الإجراءات على مختلف الأصعدة للتصدي لأي تهديد للأمن القومي المصري"(1) ، إلا أن أحدًا لم يعرف طبيعة هذه الإجراءات وحجمها وكيف سيتم تطبيقها. 

تناقش الورقة مفهوم الأمن القومي وأولويات النظام المصري في ليبيا علاوةً على انعكاسات التدخل التركي هناك ولاسيما مذكرة التفاهم التي عقدتها أنقرة مع حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًّا بشأن ترسيم الحدود البحرية شرق البحر المتوسط، وانعكاساتها على مصالح مصر وأمنها القومي، وعمَّا إذا كان ذلك سيؤدي إلى حصول تصادم عسكري مصري-تركي في ليبيا. 

الأمن القومي المصري
يعد مصطلح "الأمن القومي" حديثًا نسبيًّا في الأدبيات المتعلقة بالسياسة والدولة. وإن كانت دلالات المفهوم موجودة بشكل أو بآخر منذ القدم، إلا أن المصطلح بحد ذاته يعود إلى الولايات المتحدة وتحديدًا إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ركز المصطلح في صيغته البدائية على القوة العسكرية وعلى مواجهة التهديدات ذات الطابع العسكري، لكن سرعان ما تطور ليشمل نواحي أخرى كثيرة غير مشمولة بالقوة العسكرية كالأمن الاقتصادي والاجتماعي والبيئي وأمن الطاقة والغذاء والصحة والمياه.....إلخ(2) .

وبالرغم من أنه لا يوجد إجماع على تعريف واحد لمصطلح "الأمن القومي" في ذاته أو فيما يتعلق بعلاقته بالدولة، يمكن القول: إنه يعني بعمومه متطلبات بقاء الدولة (بكافة مكوناتها) والدفاع عنها من خلال استخدام القوة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية. البعض يركز في تعريفه على تحول مصطلح "الأمن" لأداة سياسية قوية في المطالبة بالاهتمام بعناصر ذات أولوية بالنسبة إلى الحكومة، فيما يجادل البعض الآخر بأن مفهوم "الأمن" يعني الحفاظ على المعايير والقواعد والمؤسسات والقيم الخاصة بالمجتمع وحمايتها من المخاطر العسكرية وغير العسكرية التقليدية وغير التقليدية(3)

وفي الدول غير الديمقراطية، يجري الخلط بين "الأمن القومي" للبلاد وأمن النظام إلى حدِّ المساواة بين الأمن القومي للدولة (كيان، مؤسسات، اقتصاد، مجتمع...إلخ) وشخص الحاكم. ولذلك، فإن الإكثار من استخدام هذا المصطلح في مثل هذه الدول إنما يشير إلى الإجراءات التي من شأنها بقاء الحاكم في السلطة، وحماية سلطته في حكم البلاد حتى لو أدى ذلك إلى انهيار الدولة أو تهديد عوامل بقائها، كما حصل في الكثير من البلدان العربية حتى الآن. 

وبالرغم من شيوع استعمال مصطلح "الأمن القومي" في العالم العربي، لم يتم مناقشة مفهوم "الأمن القومي" بشكل جماعي إلا في عام (4)١٩٩٢ . وفيما يتعلق بمصر، يرد المصطلح في الدستور المصري(5)  سبع مرات، جلها فيما يتعلق بالمادة ٢٠٥ التي وُضِعَت في الأساس في العام ٢٠١٤ وتنص على إنشاء مجلس الأمن القومي برئاسة رئيس الجمهورية. وقد ورد المصطلح أيضًا مرتين فيما يتعلق بأمن المعلومات والإعلام وحرية المعلومات حيث يربط النص التزام الصحافة بـ"مقتضيات الأمن القومي"!

ويواجه الأمن القومي المصري في السنوات الأخيرة تحديات وضغوطًا متزايدة لاسيما مع تقويض قدرة مؤسسات الدولة على مواجهة هذه التحديات، وانغماس المؤسسة العسكرية في أمور خارج نطاق مهامها الرئيسية -المتمثلة في حماية حدود البلاد والدفاع عنها- كالسياسة والتجارة وأعمال البناء والمقاولات والصناعات الغذائية...إلخ، مما يجعل البلاد غير قادرة عمليًّا على الدفاع عن مصالحها الحيوية بالشكل المفترض، ويزيد من تراكم التهديدات لأمنها القومي بشكل قد يدفعها إلى تقديم تنازلات مقابل مكاسب سياسية لحماية السلطة فقط. من الأمثلة التي يمكن الإشارة إليها هنا تخلي السلطات المصرية عن جزيرتي تيران وصنافير، وتنازلها عن حقوق مصر في مساحات بحرية شرق البحر المتوسط لإسرائيل وقبرص واليونان، والعجز عن مواجهة مخاطر حرمان الدولة من حصتها من مياه النيل نتيجة السد الذي تقيمه إثيوبيا(6) ، وهشاشة الأمن الغذائي للبلاد وغيرها من النماذج(7) .

ليبيا والأمن القومي المصري
تاريخيًّا، اتسمت العلاقات المصرية-الليبية بالتعقيد والتقلب الشديد. في ١٩٧٣، دعمت ليبيا مصر عسكريًّا وماديًّا في حربها ضد إسرائيل، ثم سرعان ما توترت العلاقة بينها على خلفية تحول السياسة المصرية باتجاه الغرب، وصولًا إلى الحرب المحدودة بينهما، في عام ١٩٧٧، وانقطاع العلاقات لمدة تزيد عن العقد من الزمان. في التسعينات، بدأت العلاقة تعود بشكل تدريجي بين الطرفين، لكنها بقيت متوترة في كثير من الأحيان خلال فترات مختلفة وذلك حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. 
خلال تلك الفترة، ركزت مصر على مصالحها الحيوية في ليبيا، وتمحورت حول(8) :

  1. جذب الاستثمارات الليبية إلى الداخل المصري ولاسيما قطاع الطاقة حيث تم الاتفاق على رفع حجم الاستثمارات الليبية في هذا القطاع في العام ٢٠٠٨ من ملياري دولار إلى ١٠ مليارات.
  2. فسح المجال لمصر لزيادة عدد شركاتها العاملة في ليبيا في مجال الطاقة والعقارات والمقاولات والتجارة، وزيادة عدد عمالها في ليبيا أيضًا مع ما يشكِّلونه لبلدهم من مصدر دخل بالعملة الأجنبية. 
  3. زيادة تلبية حاجة ليبيا من النفط المكرر وكذلك العمل على مشاريع نقل الغاز المصري إلى المغرب ومنه إلى أوروبا.

ويمكن القول: إن هذه المصالح في عمومها لا تزال ضمن الحسابات المصرية في ليبيا لمرحلة ما بعد القذافي مع بعض المتغيرات المتعلقة بالمعطيات الأمنية. ويعتبر الوضع المتفاقم هناك أحد التحديات الصاعدة للأمن القومي المصري؛ إذ يشترك البلدان بحدود يبلغ طولها حوالي ١١٠٠ كلم، ويخشى النظام المصري أن تُستخدم لتهريب الأسلحة أو المتطرفين، كما أن تأمينها يتطلب موارد كبيرة، ومن الممكن أن يؤدي إلى تشتيت قدرات القوات المسلحة المصرية على نطاق واسع غرب البلاد في وقت قد تواجه فيه تحديات داخلية وخارجية على أكثر من جبهة. 

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الضغط السكاني وسوء إدارة السلطات المصرية لموارد البلاد علاوة على الوضع الاقتصادي السيء وتزايد المديونية العامة(9) ، يمكن القول: إن السلطات المصرية قد تنظر إلى ليبيا الغنية بالموارد الطبيعية والقليلة بعدد السكان باعتبارها الغنيمة المنشودة(10) . لكن تأمين مصالح السلطات المصرية في ليبيا يستلزم وجود نظام سياسي موالٍ لها(11) . من المُسلَّم به أن استمرار حالة عدم الاستقرار والحروب الداخلية في ليبيا من شأنها أن تشكل تهديدًا محتملًا فيما يتعلق بانتشار التطرف والإرهاب وتخطيه حدود ليبيا إلى البلدان المجاورة ومن بينها مصر. وبالرغم من أن النظام المصري يعمل على تسويق هذا العنصر لتبرير أجندته السياسية في ليبيا، إلا أن هناك ثلاثة عوامل على الأقل تُظهر تناقضًا في الموقف المصري، لعل أهمها:

  1. السلطات المصرية لعبت -ولا تزال تلعب- دورًا في تقويض المسار السياسي الذي رسمه اتفاق الصخيرات والذي يسعى إلى تحقيق الأمن والاستقرار في ليبيا. دعم القاهرة للجنرال المتقاعد، خليفة حفتر، الذي يرفض الاتفاق وخضوع المؤسسة العسكرية للمدنيين، أدى إلى تأجيج الانقسامات والصراعات الداخلية، وإلى تزايد أعداد الضحايا من المدنيين، وإلى زيادة التدخلات الخارجية أيضًا.  
  2. ادعاء القاهرة الخوف من انتشار التطرف والإرهاب لا يستقيم مع دعمها للتمرد العسكري الذي يقوده حفتر ضد حكومة الوفاق الوطني في طرابلس لاسيما مع استعانته بمجموعات مقاتلة من التيار السلفي وأنصار النظام السابق (القذافي) ومرتزقة من تشاد والسودان وروسيا(12) .
  3. تجاهل القاهرة لتدخل عدد كبير من اللاعبين الإقليميين والدوليين في ليبيا وإبداؤها ردَّة فعل فقط عندما انخرطت تركيا في ليبيا يُظهر ازدواجية ولا ينسجم مع دعوى الحرص على ليبيا من التدخلات الخارجية. 

وتثير هذه التناقضات تساؤلات حول مفهوم النظام المصري للأمن القومي وأولوياته الحقيقية وانعكاسات التطورات في المشهد الليبي عليه. ما يخشاه النظام المصري ليس بروز جماعات متطرفة؛ إذ لطالما تم استغلال مثل هذا الأمر لتبرير سياساته الداخلية وبقائه في السلطة والحصول على أدوار إقليمية ذات طبيعة خدمية وظيفية(13) . ولا يمكن فهم هذه التناقضات إلا في سياق التأكيد على أن أولوية النظام المصري هي محاربة ما يُسمى بـ"الإسلام السياسي"(14)

وفقًا لفهم النظام المصري لطبيعة الأمن القومي، فإن نجاح دولة مجاورة في إرساء قواعد نظام ديمقراطي وبناء مؤسسات الدولة وتكريس التداول السلمي للسلطة وتحقيق الازدهار الاقتصادي يعد تهديدًا للأمن القومي، وهذا ما يُفسر لماذا تحاول القاهرة استنساخ تجربة السيسي في ليبيا من خلال الدفع بالجنرال حفتر ليكون قيمًا على البلاد بذريعة مكافحة الإرهاب(15) . لا يُمانِعُ النظام المصري أي تدخل خارجي من شأنه أن يدعم مثل هذه الأجندة، لكن ما يعنيه هو عدم حصول تدخل خارجي يعرقلها أو يقوضها، وهذا بالضبط مكمن الخلاف مع تحركات تركيا. 

مصر والاتفاق البحري التركي-الليبي
في ٢٧ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٩، أعلنت حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًّا التوصل إلى مذكرتي تفاهم مع تركيا واحدة تتعلق بترسيم الحدود البحرية في المتوسط وأخرى تتعلق بالتعاون الأمني والدفاعي. ويستعيد الاتفاق البحري من اليونان لليبيا مساحة تُقدَّر بحوالي ٣٩ ألف كلم٢ شرق البحر المتوسط، كما أنه يعطي تركيا مساحة إضافية من المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بها تقدر بحوالي ٣٠٪ تدَّعي اليونان أنها يجب أن تكون تحت سيطرتها. اعترضت السلطات المصرية على الفور، واستنكرت هذه الاتفاقات -لاسيما البحرية منها-، معتبرةً أنها تتعارض مع اتفاق الصخيرات ولذلك فهي "باطلة وليس لها أي تبعات قانونية لأنها بمثابة العدم"(16) . المفارقة أنَّ تذرُّع مصر بعدم قانونية هذه الاتفاقيات يتعارض مع حقيقة:

  1. قيام دول أخرى بتوقيع اتفاقات مماثلة مع حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًّا من بينها مذكرة تفاهم حول مكافحة الهجرة غير الشرعية(17)  وقَّعتها إيطاليا في عام ٢٠١٧ وتم تجديدها في نفس الشهر الذي وقعت فيه حكومة الوفاق الوطني مذكرتي التفاهم الخاصتين بترسيم الحدود البحرية والتعاون الدفاعي مع تركيا. لم تقم مصر أو غيرها من الدول حينها بالاعتراض وهذا بحد ذاته مؤشر على وجود دوافع سياسية غير موضوعية.
  2. عدم احترام مصر لاتفاق الصخيرات وخرقها له بالإضافة إلى عدم اعتراف حليفها حفتر، الذي تدعم تمرده ضد الحكومة الشرعية في طرابلس، به. موقف حفتر من هذا الاتفاق ليس طارئًا وإنما يعود إلى سنوات إلى الوراء، وهو كان قد صرَّح، في ديسمبر/كانون الأول من العام ٢٠١٧، بأنه يعتبر هذا الاتفاق لاغيًا(18) .

لكن المفاجأة أن الجانب المصري سرعان ما قام باستدارة عندما اعترف وزير خارجيته خلال حديث له في النسخة الخامسة لمنتدى روما للحوار المتوسطي بأن: "الاتفاق بين تركيا وحكومة طرابلس لا يمس مصالحنا في مصر"(19) ؛ ذلك أن الاتفاق يمنح القاهرة فرصة الحصول على مساحة بحرية إضافية تُقدر بآلاف الكيلومترات المربعة في حال قررت ترسيم حدودها البحرية مع أنقرة وطرابلس بدلًا من أثينا التي طالبت القاهرة بالتنازل عن هذه المساحات لصالحها(20) . وحتى في حال عزمت القاهرة على مقاطعة تركيا أو ليبيا، فسيظل بإمكانها استخدام الاتفاق بين الدولتين كورقة للتفاوض مع الجانب اليوناني.

وبالرغم من إقرار الوزير المصري بأن الاتفاق لا يمس حقوق مصر، إلا أن القاهرة لم تكن في وارد القبول بالاتفاق البحري الليبي-التركي، لعدة أسباب من بينها: 

  1. اعتراف مصر بشرعية الاتفاق البحري بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني يقتضي بالضرورة اعترافها بشرعية الاتفاق الأمني والعسكري الذي يمنح أنقرة دورًا كبيرًا في ليبيا، وهو أمر غير مناسب للقاهرة التي تعتبر ليبيا ساحة نفوذ لها. 
  2. الاتفاق يتيح لمصر إمكانية زيادة مساحتها البحرية لكنه سيتسبب لها بمشاكل مع اليونان وقبرص بعد أن كانت القاهرة قد تنازلت لهما ولإسرائيل سابقًا عن مساحات بحرية مقابل الدفع باتجاه إقامة تحالف في حوض البحر المتوسط، ومن شأن ذلك أن يؤثر بشكل جدي على مصير "منتدى غاز شرق المتوسط" بوصفه تحالفًا سياسيًّا-اقتصاديًّا (يضم إسرائيل ومصر وقبرص واليونان والأردن وفلسطين وإيطاليا)، وعلى علاقة القاهرة مع الدول الداعمة لهذه الدول كأميركا وأوروبا.
  3. الاتفاق يقوض عمليًّا الجهود المبذولة من قبل المنتدى المذكور، ولاسيما بعض أعضائه (مصر وإسرائيل واليونان وقبرص) لعزل تركيا في مياهها الإقليمية، وحرمانها من تحسين وضعها الجيوسياسي، ومن الاستفادة من الثروات الموجودة في شرق المتوسط، ومحاولة تقزيم دورها السياسي والاقتصادي المرتبط بهذا الملف(21)
  4. اعتقاد مصر بأن الاتفاق يمكن أن يضر بدورها ومكانتها كقوة إقليمية في شمال إفريقيا وحوض البحر المتوسط، لاسيما أن الاتفاق سيمنح تركيا أدوارًا مهمة في المشاورات الدولية المتعلقة بمستقبل ليبيا وهو ما تجسد في مؤتمر برلين الأخير، كما أن الاتفاق كان جزءًا من سياق تقارب تركي مع إفريقيا، تمثَّل خصوصًا بجولة الرئيس، رجب طيب أردوغان، الإفريقية التي شملت الجزائر وغامبيا والسنغال، وقبلها زيارته لتونس.

هل يمكن وقوع تصادم مصري-تركي؟
بالرغم من التصريحات التي توحي بإمكانية حدوث تصادم عسكري مباشر بين مصر وتركيا في ليبيا، فإن احتمال حصول مثل هذا الأمر ضمن المعطيات الحالية المتعلقة بالوضع المصري الداخلي أو بالحسابات التركية في ليبيا يعد ضعيفًا للغاية إن لم يكن مستبعدًا تمامًا. 
فيما يتعلق بحسابات الجانب المصري:

  1. النظام المصري لا يستطيع دفع تكاليف انخراطه في مواجهة عسكرية في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الحالية، وليس له مصلحة في ذلك أصلًا.
  2. هناك من يشير إلى أن مهمة الجيش هي حماية النظام بالدرجة الأولى، وبالتالي إن لم يكن هناك تهديد جدي للنظام المصري، لن يغامر الأخير بخوض حرب قد تقوض من سلطته أو تساعد على إنهائها.
  3. خوض حرب خارجية تحتاج إما إلى دعم دولي صريح، وإما إلى قرار مستقل مع نسبة عالية من الاكتفاء الذاتي، وهي أمور مشكوك بها في أحسن الأحوال نظرًا لاعتماد القوات المسلحة المصرية على المعونات الكبيرة التي تقدمها الولايات المتحدة الأميركية(22) ، وعلى اعتمادها شبه الكلي على استيراد المعدات العسكرية والاحتياجات الدفاعية من الخارج لتلبية حاجاتها.

تصريحات الرئيس المصري التي عبَّر فيها عن عدم وجود رغبة للانجرار هنا وهناك(23)  تشير إلى أن النظام المصري يُدرك محدودية قدراته ويركز على الأولويات التي تهمه بمعزل عن التصريحات ذات السقف المرتفع التي تصدر في بعض الأحيان(24) . ولذلك، فإن ما تفعله السلطات المصرية اليوم في الملف الليبي يندرج تحت قائمة توظيف الحدث بالحد الأدنى من التكلفة، ودفع الآخرين لخوض حربها بالوكالة بشكل يؤدي إلى استثارة العامة ورصِّ الصفوف الداخلية تحت اسم مكافحة الإرهاب في ليبيا أو مقاومة التدخل التركي أو حماية الأمن القومي المصري. 

وليس أدل على ذلك من بيانات التأييد التي صدرت من المؤسسات الرسمية بما في ذلك المؤسسات الدينية (هيئة كبار العلماء بالأزهر ووزير الأوقاف) التي عبَّرت عن دعمها لموقف (القيادة السياسية للحفاظ على أمن مصر)، داعيةً جميع المصريين إلى أن "يكونوا صفًّا واحدًا، وعلى قلب رجل واحد خلف الرئيس عبد الفتاح السيسي، والقوات المسلحة والشرطة المصرية والدولة الوطنية"(25) .

أما فيما يتعلق بحسابات الجانب التركي:

  1. أنقرة غير مهتمة وغير معنية بتصادم عسكري مع مصر في ليبيا. أولويتها حماية مكتسباتها شرق البحر المتوسط ويتمحور تركيزها في ليبيا -حتى هذه اللحظة- حول ما توفره هذه المقاربة السياسية العسكرية من اختراق استراتيجي لمحاولات محاصرتها، وحرمانها من استخدام مجالها الحيوي في البحر المتوسط، وهو ما يرتبط بالدرجة الأولى بالنزاع مع قبرص واليونان وبوضع الحكومة الليبية وليس بالعلاقة مع مصر. 
  2. أنقرة لا تركز جهودها من أجل الإطاحة بلاعب معين في ليبيا أو تنصيب آخر. هناك عدة عوامل تملي على تركيا الدفاع عن حكومة الوفاق الوطني في طرابلس من بينها اعتراف المجتمع الدولي بها، والاتفاق الأمني الموقَّع معها، والمصالح الاقتصادية المشتركة سواء فيما يتعلق بالاتفاقية البحرية أو بالعلاقات الاقتصادية أو الاستثمارية. 
  3. لتركيا مهام محددة في ليبيا وفق ما تعكسه الاتفاقية الأمنية(26)  تتمثل في تحقيق الأمن والاستقرار وإعادة بناء مؤسسات الدولة وتأهيل القوات المسلحة لتكون قادرة على حماية البلاد ومحاربة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. وبالطبع، فإن ذلك يخدم سعي أنقرة إلى تعزيز علاقاتها التاريخية مع ليبيا، وتهيئة الأرضية لدور اقتصادي أكبر في المستقبل.

ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم حجم التكاليف العالية التي تخاطر تركيا بتحملها في سبيل الدفاع عن تحالفها مع حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، مقابل المكاسب التي قد تحصل عليها في الإطار الجيو-سياسي وفي الجيو-اقتصادي شرق حوض البحر المتوسط حال نجاحها في هذه المهمة.

وتركز الجهود التركية الدبلوماسية والدفاعية مؤخرًا على ضرورة وقف التعديات العسكرية التي يقوم بها حفتر، والتوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، والالتزام بوقف الدعم العسكري المقدم له. وتأمل أنقرة من خلال الجهد الدبلوماسي المبذول مع روسيا وألمانيا ومن خلال الدعم اللوجستي المقدم لحكومة الوفاق(27)  في أن يؤدي ذلك إلى تحقيق التوازن على الأرض بما يساعد على دفع الأطراف المعنية إلى استئناف المسار السياسي. 

وزير خارجية تركيا، مولود تشاووش أوغلو، كان قد أعلن من روما أن بلاده مستعدة لإبرام اتفاق بحري مع مصر مماثل لذلك الذي تم توقيعه مع ليبيا(28) ، في إشارة إضافية إلى أنه لا مشكلة مع القاهرة في هذا الخصوص، على الأقل من الجانب التركي. في تركيا، ثمة كذلك من يدفع باتجاه إبقاء الخطوط مفتوحة مع الجانب المصري ليس أقله لتفتيت المحور الذي يضم مصر إلى جانب كل من إسرائيل واليونان وقبرص أولًا، وثانيًا: لأنه لا يوجد خلاف حقيقي بين مصر وتركيا فيما يتعلق بالاتفاق البحري التركي-الليبي شرق البحر المتوسط. 

من المفترض ألا تتعارض هذه الأهداف التركية مع مصلحة مصر كدولة في ليبيا، فضلًا عن أن تشكِّل خطرًا على أمنها القومي، لكن إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المفهوم الخاص للنظام المصري عن ماهية "الأمن القومي"، من الممكن حينها فقط أن ندرك لماذا تعارض السلطات المصرية الدور التركي. إذا ما نجحت أنقرة في إفشال تقدم حفتر ضد طرابلس خلال المرحلة المقبلة وفي دفع العملية السياسية قُدُمًا إلى الأمام، قد تقوم القاهرة حينها بإعادة حساباتها طالما أن خط العودة لا يزال متاحًا لها. لكن حتى حينه، لن يتوقف النظام المصري عن دعم حفتر ما دامت هناك فرصة لذلك، وإذا ما نجح بالإطاحة عسكريًّا بحكومة الوفاق، فإن ذلك سيكون بمنزلة ضربة كبرى لتركيا شرق البحر المتوسط وفي العلاقة مع ليبيا. 

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. مجلس الأمن القومي المصري يبحث تهديدات التدخل العسكري التركي في ليبيا، سي إن إن العربية، 2 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 22 يناير/كانون الثاني 2020):https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2020/01/02/egypt-turkey-liby…;
  2.   Kim R. Holmes, What is National Security?, Heritage Foundation, 7-10-2014. (Access:22-1-2020)https://www.heritage.org/military-strength-topical-essays/2015-essays/w…
  3.   Segun Osisanya, National Security versus Global Security, UN Chronicle. (Access: 22-1-2020)https://www.un.org/en/chronicle/article/national-security-versus-global…
  4.   جامعة الدول العربية، قطاع الشؤون العربية والأمن القومي، الإدارة العسكرية ومجلس السلم والأمن العربي، (تاريخ الدخول: 27 يناير/كانون الثاني 2020):http://www.lasportal.org/ar/Sectors/Dep/Pages/default.aspx?RID=2&SID=2  
  5.    النص الكامل للدستور المصري بعد تعديلات ٢٠١٩، (تاريخ الدخول: 22 يناير/كانون الثاني 2020):https://manshurat.org/node/14675
  6.    بالرغم من أنه ليس هناك تقدير دقيق لحجم الضرر الذي قد يتسبب به السد الذي تقيمه إثيوبيا على نهر النيل، إلا أن بعض التقديرات تشير إلى أن حصة مصر من مياه النيل ستنخفض بنسبة الربع تقريبًا، ومثل هذا الأمر لن يترك تأثيره فقط على أمن المياه وإنما سيطول أمن الطاقة وأمن الغذاء حيث من المنتظر أن يتأثر إنتاج الطاقة من سد أسوان وأن ينخفض الإنتاج الزراعي المصري وأن تختفي حتى العديد من الأراضي الصالحة للاستصلاح أو الزراعة، انظر:A stable Egypt for a stable region: Socio-economic challenges and prospects, European Parliament, January 2018. (Access: 25-1-2020)https://www.europarl.europa.eu/RegData/etudes/STUD/2018/603858/EXPO_STU…
  7.    يمكن الاستدلال على صحة هذا الاستنتاج من خلال نظرة سريعة على وضع الأمن القومي المصري فيما يتعلق بالاقتصاد، والمجتمع، ومصادر المياه، والأمن الغذائي، والفقر، والجهل، والأمية، والصحة.....إلخ. على سبيل المثال، تعتمد مصر اليوم في حوالي ٤٠٪ من احتياجاتها الغذائية و٦٠٪ من حاجتها من القمح على السوق الدولية غير المستقرة في الخارج. أي إضطراب في الإمدادات أو تعطل بسيط لأي سبب كان خاصة فيما يتعلق بالقمح من شأنه أن يسبِّب أزمة قومية لمصر، انظر: Omar Nasef, Egyptian National Security as Told by the Nile, The Century Foundations, 4-8-2016. (Access: 25-1-2020)https://tcf.org/content/report/egyptian-national-security-told-nile/?se…
  8.   Libya’s Investments In North Africa, AEDI. (Access: 2-2-2020)http://www.africaecon.org/index.php/africa_business_reports/read/47
  9.    ديون مصر الخارجية تتجاوز 109 مليارات دولار والداخلية 270 مليارًا، صحيفة العربي الجديد، 28 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 2 فبراير/شباط 2020).https://www.alaraby.co.uk/economy/2020/1/28/%D8%AF%D9%8A%D9%88%D9%86-%D…
  10.    تمتلك ليبيا خامس أكبر احتياطي للنفط بين الدول العربية بواقع حوالي ٤٩ مليار برميل، ويشكِّل النفط نحو ٩٤٪ من موارد البلاد، ويبلغ تعداد سكانها حولي ٦.٥ ملايين نسمة. انظر: ما لا تعلمه عن ذهب ليبيا الأسود.. من يتحكم في النفط الليبي؟، الجزيرة، 30 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 23 يناير/كانون الثاني 2020):https://www.aljazeera.net/news/ebusiness/2019/12/30/من-يتحكم-في-النفط-ا…
  11.   ولعل هذا ما يفسر في جزء منه أيضًا اندفاع حفتر للسيطرة على آبار النفط ومواردها ومحاولة بيع النفط إلى مصر والإمارات بأسعار منخفضة قياسًا بالسعر الرسمي في مخالفة واضحة لاتفاق الصخيرات وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة. انظر: هل يشرك حفتر الإمارات ومصر في بيع نفط ليبيا؟، الجزيرة، 13 يونيو/حزيران 2019، (تاريخ الدخول: 23 يناير/كانون الثاني 2020):https://www.aljazeera.net/news/ebusiness/2019/6/13/هل-يشارك-حفتر-الإمار…
  12.   Guma el-Gamaty, Militias and mercenaries: Haftar's army in Libya, MEE, 7-11-2019. (Access: 23-1-2020)https://www.middleeasteye.net/opinion/militias-and-mercenaries-haftars-…
  13.   عن الأدوار الوظيفية، انظر مثلًا: علي حسين باكير، المكانة الإقليمية لمصر في الذكرى الثامنة لاندلاع الثورة المصرية: هل مصر "قوة إقليمية"؟، مركز الجزيرة للدراسات، 29 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2020):https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2019/01/190129120931503.html&n…;
  14.   السيسي: الإسلام السياسي هو سبب الفوضى في المنطقة وستبقى كذلك إذا ظل الإسلام السياسي يلعب دورًا فيها، قناة الجزيرة، 24 سبتمبر/أيلول2019، (تاريخ الدخول: 26 يناير/كانون الثاني 2020):https://www.youtube.com/watch?v=bpJiB1WgIhk
  15.   Khalid Mahmoud, Sisi’s Ambitions in Libya, Sada Journal, Carnegie, 30-11-2018. (Access: 26-1-2020)https://carnegieendowment.org/sada/77847
  16.   مصر غاضبة..تركيا توقع مذكرتي تفاهم مع حكومة السراج!، دي دبليو الألمانية، 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 24 يناير/كانون الثاني 2020):https://www.dw.com/ar/%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%BA%D8%A7%D8%B6%D8%A8%D8%A9…
  17.   Italy-Libya MoU to curb illegal immigration flow renewed, Libyan Express, 2-11-2019. (Access: 26-1-2020)https://www.libyanexpress.com/italy-libya-mou-to-curb-illegal-immigrati…
  18.   ليبيا: المشير خليفة حفتر يعتبر اتفاق الصخيرات "منتهي الصلاحية"، فرانس ٢٤، 17 ديسمبر/كانون الأول 2017،  (تاريخ الدخول: 26 يناير/كانون الثاني 2020):https://www.france24.com/ar/20171217-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D8…
  19.    سامح شكري: اتفاق أردوغان والسراج لا يمس مصالح مصر لكنه يعقد الوضع، روسيا اليوم، 6 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 26 يناير/كانون الثاني 2020):https://arabic.rt.com/middle_east/1066064-%D8%B3%D8%A7%D9%85%D8%AD-%D8%…
  20.   الجزيرة مباشر تكشف تجاهل السيسي تحذيرات الخارجية حول حقوق مصر بغاز المتوسط، الجزيرة مباشر، 4 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 26 يناير/كانون الثاني 2020):https://www.aljazeera.net/news/politics/2019/12/4/الجزيرة-مباشر-تنشر-وث…
  21.    علي حسين باكير، اللعبة الكبرى: جيوبوليتيك التنافس على الغاز شرق المتوسط، منتدى السياسات العربية، نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 27 يناير/كانون الثاني 2020):https://www.alsiasat.com/wp-content/uploads/2019/12/%D8%A7%D9%84%D9%84%…
  22.   Egypt: Background and U.S. Relations, CRS reports, 21-11-2019. (Access: 28-1-2020(https://fas.org/sgp/crs/mideast/RL33003.pdf
  23.    تركيا لن تحارب مصر... والسيسي لن ينجر إلى «هنا وهناك»، صحيفة الجريدة، 8 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 28 يناير/كانون الثاني 2020):https://www.aljarida.com/articles/1578415539178212700/
  24.    السيسي: لن نسمح بالسيطرة على ليبيا.. والخارجية الليبية تتحدث عن "مراهقة سياسية"، الجزيرة، 17 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2020):https://www.aljazeera.net/news/politics/2019/12/17/%D9%84%D9%8A%D8%A8%D…
  25.   هكذا تفاعلت المؤسسات الإسلامية بمصر مع التدخل التركي في ليبيا، مصر العربية، 5 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2020):https://masralarabia.net/اخبار-مصر/1528620-هكذا-تفاعلت-المؤسسات-الإسلام…
  26.   مذكرة التفاهم التركية-الليبية للتعاون الأمني والعسكري..النص الكامل!، ترك برس، 14 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2020):https://www.turkpress.co/node/67004
  27.    أرسلت أنقرة حتى الآن عددًا محدودًا من المستشارين العسكريين. انظر: تشاووش أوغلو: أرسلنا إلى ليبيا مستشارين عسكريين لا كتائب مقاتلة، وكالة الأناضول للأنباء، 23 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2020):https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8…
  28.   أنقرة: مستعدون للاتفاق مع جميع بلدان المتوسط بما في ذلك مصر، ترك برس، 6 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2020):https://www.turkpress.co/node/66793