أزمة الصحافة الورقية في لبنان: أطروحة النهاية وإشكالية الاستمرارية

تقدم الورقة ملخصًا لدراسة موسعة نُشرت في العدد الخامس من مجلة لباب، الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، تبحث أسباب الأزمة المركَّبة التي يعيشها قطاع الصحافة الورقية اللبنانية، وتتبَّع سلسلة العوامل التي أدت إلى الحالة الراهنة في سياق التحولات التي مرَّت بها هذه الصناعة.
6 أبريل 2020
(رويترز)
فاعلون مهنيون وكتَّاب صحفيون يتوقعون نهاية ما تبقى من الصحف الورقية اللبنانية خلال السنوات العشر المقبلة (رويترز)

تسعى الدراسة إلى استكشاف أسباب الأزمة المركَّبة التي يعيشها قطاع الصحافة الورقية اللبنانية، وتتبُّع سلسلة العوامل التي أدت إلى الحالة الراهنة في سياق التحولات التي مرَّت بها صناعة الصحافة الورقية اقتصاديًّا وإداريًّا ومهنيًّا خلال الأعوام العشرة الماضية، وهو ما يعني البحث في آليات التسبيب (العلاقة السببية) التي تروم معرفة العملية التي أفضت إلى تلك الحالة وسياقاتها عبر استقصاء العوامل المُفَسِّرة لأطروحة نهاية/موت الصحافة الورقية وإشكالية استمراريتها. ولفهم هذه الآليات ودراستها يستعين الباحث بأسلوب دراسة الحالة، الذي يُعَدُّ أحد أساليب البحوث الكيفية التي تعتمد على مصادر وأدلة متعددة لرصد الظاهرة داخل سياقها الطبيعي دون عزلها عن الشروط المحيطة بها. كما تُمثِّل دراسة الحالة شكلًا من أشكال التحليل الوصفي الذي يستخدم الدراسات المسحية ويكثر استخدامها في وصف وضع معين، أو فرد أو مجتمع أو عادة أو تقليد اجتماعي، ويترتب على ذلك جمع الكثير من الحقائق والبيانات المتعلقة بموضوع البحث من حيث تاريخ حياته أو مراحل تطوره خلال فترة زمنية. وقد شكَّل ذلك إطارًا إجرائيًّا/منهجيًّا لخطوات مقاربة إشكالية البحث من خلال تتبُّع الرؤى والتصورات والمقترحات ورصد المعلومات والحقائق الكاشفة لحالة الصحافة الورقية في لبنان عبر استطلاع رأي عينة مُمَثِّلَة من المجتمع البحثي الذي يضم ناشرين وفاعلين مهنيين ونقابيين وكتَّاب صحفيين وأكاديميين (..)، ومن ثم إعادة بناء هذه الرؤى والأدلة المتعددة في تحليل الظاهرة. وبذلك تجمع دراسة الحالة بين بلورة فرضية سببية مناسبة (كما هو مُبَيَّن في إشكالية الدراسة وفرضياتها)، والاستدلال السببي لتفسير الظاهرة، والذي يُمثِّل عملية تكميلية للوصف ولا يتنافسان معًا.

واعتمدت الدراسة نظرية التكيف الاجتماعي، التي تعود أصولها إلى علم النفس الاجتماعي، في فهم العلاقة بين الصحافة الورقية والإعلام الجديد بوسائله المختلفة والبيئة الاتصالية/الرقمية عمومًا. فإذا كان التَّكيُّف يعني تعديل السلوك الفردي والجماعي ليتواءم مع المعايير والقيم السائدة في مجتمع معين أو طبقة أو مجموعة اجتماعية، ويتم ذلك خلال عملية التنشئة الاجتماعية وبمساعدة آليات الرقابة الاجتماعية، فهو يصبح ذا أهمية متزايدة عندما يؤثِّر على جوانب مهمة من الحياة خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًّا؛ حيث يسعى الفرد من خلال مدركاته إلى تسهيل تكيفه مع البيئة وتحقيق التوازن المقبول مع متطلبات محيطه للاستجابة إلى احتياجاته المتغيرة ورغباته لحفظ حياته ونوعه والسيطرة على بيئته عبر استيعاب المعلومات والبنيات الذهنية الجديدة في سياق عملية تواصلية دينامية.

هذه الأبعاد التي تُحرِّك الفرد في التَّكيُّف مع بيئته ومواجهة تحدياتها يمكن استيعابها أيضًا في عملية تلاؤم الوسيلة الإعلامية (الصحيفة الورقية) مع بيئتها الإعلامية المركبة لمواجهة الأزمة التي تهدد وجود قطاع الصحافة من خلال الوعي بحجمها وتداعياتها، والنظر في مستجدات البيئة الإعلامية، والبحث في الآليات التي تسمح لها بالتكيف مع البيئة الاتصالية/الرقمية والإعلامية الجديدة لضمان استمراريتها.

وخلصت الدراسة إلى أن الصحافة الورقية اللبنانية تبدو في "حالة مَرَضية" مركَّبة لعوامل مختلفة اقتصادية وسياسية واتصالية وثقافية، أدت إلى نهاية أو إغلاق بعض الصحف الحديثة الصدور بل والخروج المتواصل لعدد من الصحف التقليدية من المشهد الإعلامي والتهديد بتلاشي القطاع وانهياره كاملًا، كما أن وصفة العلاج التي تكشف مكامن الحالة المرضية تبدو أيضًا مركَّبة؛ تتنازعها إرادات متعددة (الدولة، والقطاع الخاص، وأصحاب الامتيازات)، وتحتاج أيضًا إلى مداخل تأخذ بعين الاعتبار الجانب البحثي، ومواكبة المستحدثات التكنولوجية الجديدة في صناعة المعلومات والإعلام، وإيجاد نموذج اقتصادي جديد يستجيب لاحتياجات المؤسسة الصحيفة بحيث يُؤَمِّن استمرارية المشروع وقوته عبر توفير بيئة استثمارية وموارد مالية تسهم في تطوير المؤسسة وقدراتها التشغيلية والفنية والإبداعية وبيئتها التقنية، وقبل ذلك تطوير منتوجها الصحفي الذي يتطلب أيضًا نموذجًا تحريريًّا جديدًا يعيد النظر في هوية الصحيفة المطبوعة ووظيفتها وطبيعة الممارسة المهنية، وعلاقتها بمصادرها الإعلامية وبالمواطن الصحفي ومحيطها السياسي والاجتماعي والجمهور...إلخ. 

ولا تُنْبِئُ المؤشرات الراهنة لحالة قطاع الصحافة الورقية التي تزداد تعقيدًا -حيث لم تتخذ الجهات الرسمية المعنية أية مبادرة أو إجراءات فاعلة- بأن عملية العلاج ستكون ناجعة تُعِيد للقطاع عافيته ومناعته وقوته التي اكتسبها خلال فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. فقد بدأت جميع المؤسسات الصحفية تدرك التحديات التي تفرضها تحولات البيئة الاتصالية الرقمية والإعلامية الجديدة التي يعرفها المشهد الإعلامي اللبناني، وتستوعب متطلبات العصر الرقمي ومَدَّه الجارف الذي حوَّل العالم إلى مجتمع شبكي يُنْشِئُ فيه الأفراد والجماعات وسائلهم الإعلامية الخاصة عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي باتت تفرض سلطتها على نشاط المؤسسات الصحفية الكبرى والسلوك الاتصالي للمستخدمين، ويزداد فيه تأثير الصحافة الإلكترونية والمواقع الإخبارية ويتسع فيه المجال العام الرقمي الذي أصبح فضاء مفتوحًا لا يقلُّ تأثيره عن المجال العام التقليدي، بل يُمَثِّل المحاضن الأولى لتشكيل الرأي العام، خاصة في أوقات الأزمات والصراعات. 

ولعل هذا ما يفسر لجوء معظم المؤسسات الصحفية الورقية إلى إنشاء مواقع إلكترونية تكون دعامة أساسية للصحيفة من أجل جذب شريحة واسعة من الجمهور الذي تحوَّل نحو ما يُسمِّيه جورج بكاسيني، مدير تحرير صحيفة المستقبل، "الأونلاين" الذي أصبح يفرض سلطته على السلوك الاتصالي للمستخدم، خاصة في ظل سهولة الوصول إلى المحتوى الإعلامي وإمكانية إشباع جميع احتياجاته المعرفية والسياسية والاجتماعية والثقافية والترفيهية عبر شاشات الهواتف الذكية. ويساعد انتشار الثقافة الرقمية في المجتمع اللبناني أيضًا على تعاظم نفوذ الصحافة الإلكترونية اليوم وسط المستخدمين، حيث تزداد أهميتها مصدرًا للأخبار والمعلومات ومتابعة الشأن العام اللبناني ومحيطه الإقليمي والدولي، ويؤشر ذلك على بداية انتقال المجتمع من سلطة الإعلام الورقي إلى سلطة الإعلام الإلكتروني. غير أن ذلك لا يعني أن أطروحة نهاية الصحافة الورقية ستصبح مآلًا حتميًّا أو حقيقة ناجزة في غضون الأعوام العشرة المقبلة، كما يتوقع الفاعلون المهنيون اللبنانيون، بل ستظل الصحيفة دعامة إعلامية ورقية في مشهد إعلامي متحول تتجه فيه المؤسسات الصحفية لتنويع الحوامل والمنصات من أجل إيصال المحتوى إلى الجمهور والمستخدمين بفئاتهم المختلفة.

لكن واقع هذه الحوامل الإلكترونية لا يختلف كثيرًا عما آلت إليه حالة الصحافة الورقية نفسها رغم أن معظم التجارب الإعلامية الإلكترونية لا تزال في بدايتها؛ إذ إن الرهان على نموذج اقتصادي غير تقليدي لم ينجح حتى الآن في توفير مقومات وعوامل التمويل الذاتي لهذه المشاريع سواء عبر الاشتراك في خدمة الـ"بريميوم" التي توفر للمستخدم الدخول إلى محتوى الموقع مقابل اشتراك مالي شهري، أو تقديم خدمات خاصة للمستخدمين، أو الإعلانات التجارية. لذلك، فإن استمرار هذه الصحف والمواقع الإلكترونية سيحتاج هو الآخر إلى تمويل خارجي أو الارتباط بجهات ومؤسسات أجنبية تقدم إليها الدعم لتغطية نفقاتها، وهو ما سيجعلها في خدمة مشاريع هذه الجهات ويُفقِد سياستَها التحريرية استقلالها عن المؤسسات الممولة لها.

للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا) وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)

نبذة عن الكاتب