الإشكاليات المهنية والسياسية في الحالة الإعلامية المصرية: يوليو/تموز 2013 - ديسمبر/كانون الأول 2019

تقدم الورقة ملخصًا لدراسة موسعة نُشرت في العدد السادس من مجلة لباب، الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، وتتناول الإشكالات المهنية والسياسية في الإعلام المصري خلال نحو ست سنوات ونصف (يوليو/تموز 2013 - ديسمبر/كانون الأول 2019)، وتستقصي نموذج العلاقة بين السلطة ووسائل الإعلام المحلية.
تدهور المضمون الإعلامي في ظل حكم السيسي بارتكانه إلى "التأييد والتحريض والتلقين" ليصبح مشابهًا لنظيره في ستينات القرن الماضي (الجزيرة)

تبحث الدراسة حالة التحكُّم التي عاشها -ولايزال- الإعلام المصري خلال السنوات الست الماضية، وهي فترة حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي أو بالأحرى سيطرته على مقاليد الأمور (يوليو/تموز 2013- ديسمبر/كانون الأول 2019)، ومحاولات السلطة "أَمْنَنَة" هذا القطاع سواء عبر التشريعات القانونية أو من خلال سيطرة الأجهزة الأمنية على وسائله، واتساع دائرة الرقابة التي شملت أيضًا الفضاءات الرقمية بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي. وتستدعي هذه الحالة، بحسب الباحث محمد مرسي حسن، استكشاف طبيعة الإشكاليات المهنية والسياسية التي اكتنفتها، والبحث في أنماط الملكية وتأثيرها في طبيعة الخطاب، وتحديد المراحل التي مرت بها الحالة الإعلامية، مع محاولة وضع نموذج حاكم للعلاقة بين السلطة ووسائل الإعلام في مصر، ورصد أداء تلك الوسائل، والدور الوظيفي الذي تقوم به في بنية النظام الحاكم، وإلقاء الضوء على البدائل المتاحة سواء من خارج البلاد عبر وسائل الإعلام المرئية والإلكترونية، أو حتى من خلال مساهمات الأفراد عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

ولمقاربة هذه الإشكاليات، اعتمد الباحث في دراسته على المنهج الوصفي التفسيري بهدف عرض المسار الذي سلكه الإعلام المصري خلال فترة البحث، وتحليل وتفسير الحالة التي وصل إليها، واستنتاج الأسباب التي أدت إلى ذلك. ولا يكتفي المنهج الذي استخدمه الباحث بالوصف فقط، بل يتجاوزه إلى منهج التفسير الذي يشرح العلاقات بين الظواهر الاجتماعية ويربط بين العوامل والعناصر المكوِّنة لها، ويجيب عن السؤال: لماذا؟ فيبحث عن الأسباب والتفسيرات.

واستخدم الباحث أيضًا الملاحظة أداة منهجية لجمع البيانات والمعطيات الخاصة بمجتمع الدراسة الذي يشمل بيئة الإعلام المصري على مستوى القنوات التليفزيونية والإذاعات والصحف ومواقع الإنترنت. كما استخدم لجمع المعلومات أسلوبَ المقابلة المعمقة -عبر الهاتف- مع ستة صحفيين مصريين (أحدهم يعمل بالصحافة الورقية، والثاني بالصحافة الإلكترونية، وآخران في الصحافة التليفزيونية، بالإضافة إلى صحفيين مصريين تليفزيونيين يعملان خارج البلاد)، في الفترة ما بين 1 و31 ديسمبر/كانون الأول 2019. وتركزت أسئلة المقابلة على تصنيف المراحل التي مرَّ بها الإعلام المصري خلال فترة البحث، والتغيرات التي طرأت عليه، وأهم سمات كل مرحلة. كما ركزت الأسئلة على طبيعة التمويل، وشكل العلاقة بين الصحفيين والإدارة، وطبيعة التغيرات التي طرأت على الهياكل الإدارية، وأساليب ومستوى تدخلاتها في السياسات التحريرية، وذلك بهدف تأطير الإشكالات المهنية والسياسية التي اكتنفت الحالة الإعلامية في فترة الدراسة، ووضع نموذج حاكم للعلاقة بين السلطة ووسائل الإعلام في مصر.

وسائل الإعلام بعد يوليو/تموز 2013: مسارات السيطرة

في الثالث من يوليو/تموز 2013، أطاح الجيش بحكم الرئيس محمد مرسي بعد مظاهرات واسعة انطلقت في جميع محافظات البلاد قبلها بأيام. واستهل الجيش حكمه بإغلاق جميع وسائل الإعلام المؤيدة للرئيس المعزول واعتقال الصحفيين العاملين فيها، ثم انتهج طريقًا عنيفًا في التعامل مع الإعلام من خلال ما يشبه التأميم سواء كان ذلك في القنوات التليفزيونية أو الصحف أو مواقع الإنترنت، وذلك عبر ثلاث مراحل امتدت ما بين 3 يوليو/تموز 2013 وحتى ديسمبر/كانون الأول 2019. المرحلة الأولى: ويسميها الباحث مرحلة "توحيد الصفوف (الأصوات)" على مبدأ "إمَّا معنا أو ضدنا"، وفيها أصبحت الأصوات المعارضة تُوصَم بالخيانة، وخلال أسابيع كان الخطاب قد أصبح متطابقًا تقريبًا في معظم القنوات الحكومية والخاصة، لتنتهي فترة الحرية الإعلامية التي شهدتها البلاد بعد ثورة 25 يناير. وهناك المرحلة الثانية التي هيمنت فيها السلطة على وسائل الإعلام ويسميها الباحث بمرحلة "السيطرة بالتملك"، وبدأت بعد عامين من وصول السيسي لسدة الحكم، وبالتحديد منتصف 2016، وأصبحت أكثر وضوحًا في النصف الثاني من 2017، قبيل ترشحه لفترة رئاسية ثانية، وقد أدى تركيز الإعلام في يد شركات تابعة لأجهزة المخابرات بشكل مباشر إلى توحيد الرسالة الإعلامية تقريبًا، حتى وصل الأمر -بحسب بعض المبحوثين- إلى تكوين فريق مركزي للإعداد يشرف على برامج "التوك شو". أما المرحلة الثالثة، وهي "معاينة الأضرار وإنقاذ الموقف"، فقد وصلت فيها ديون الصحف القومية وحدها إلى 19 مليار جنيه (نحو 1.2 مليار دولار) في خريف العام 2017. وقرَّر النظام -وداعموه الخليجيون- أنه قد آن الأوان ليس فقط للتضحية بالشحم الزائد عن حاجة الجسم (الإعلامي)، بل يجب الاقتطاع من اللحم نفسه. وتعرَّض المشهد الإعلامي لهزات دراماتيكية؛ حيث بدأ الإماراتيون في الانسحاب من السوق، فأغلقوا قناة "تن" (ثم أعادوها للعمل في وقت لاحق)، ونصحوا بإبعاد شخصيات محددة من إدارة المشهد الإعلامي، خصوصًا رئيس المخابرات العامة، اللواء عباس كامل، ومدير مكتبه، المقدم أحمد شعبان، إلى جانب إبعاد نجل الرئيس، محمود السيسي، والتحقيق في إهدار أكثر من مليار جنيه (نحو 36.7 مليون دولار) حصلت عليها الأجهزة المصرية كمنحة إماراتية لإطلاق شبكة "دي إم سي" التي تضم ست قنوات لم يُطلَق منها سوى قناتين توقفت إحداهما بعد أشهر.

 محددات الخطاب الإعلامي في ظل نظام حكم السيسي

يمكن اختصار المحددات الرئيسية التي انتهجها النظام المصري لإنتاج خطابه خلال السنوات الستة ونصف السنة الماضية في ثلاث كلمات، هي: التأييد، والتحريض، والتلقين؛ حيث التشابه الكامل الذي يصل إلى خروج عناوين الصحف بشكل متطابق، وعبارات المذيعين التي تُعاد نصًّا في قنوات مختلفة، والتأييد الشامل وغير المشروط للنظام، والتحريض ضد كل من يعارضه أو حتى لا يرضى عنه النظام.

بعد أن فرض النظام سيطرته بشكل مباشر على وسائل الإعلام، لم يَعُد الهامش الذي يتحرَّك فيه الصحفيون والإعلاميون واسعًا كما كانت عليه الحال في أعقاب ثورة يناير/كانون الثاني، ولا حتى محدودًا كما كانت الحال في عهد مبارك، حيث لم يصبح أمامهم سوى التأييد، والتأييد المطلق، كما تقتضي "الأعراف العسكرية". وبحسب صحفي في إحدى القنوات التابعة للمجموعة المتحدة للخدمات الإعلامية، فإن الإعلاميين الذين تعوَّدوا على إظهار أنفسهم محايدين إلى حدٍّ ما ليكتسبوا قدرًا من المصداقية، تمت تنحيتهم بشكل كامل لمصلحة آخرين "يؤيدون بشكل فجٍّ" كل قرارات النظام؛ حيث تعاملت معهم الإدارة الجديدة بمنطق "كل شيء أو لا شيء".

وشنَّت المنصات الإعلامية المصرية حملة تحريض واسعة لم تقف عند رافضي الانقلاب العسكري كما حدث مع أغنية "إحنا شعب وانتو شعب" التي وصفتهم بأنهم شعب آخر، له "رب" مختلف "لينا رب وليكو رب"، بل امتدت لتطول شركاء 3 يوليو/تموز، وجانبًا ممن تم اختيارهم ضمن لجنة الخمسين لكتابة الدستور الجديد في 2014، بل وحتى عسكريين قرروا أن يخوضوا الانتخابات الرئاسية ضد السيسي كما حدث مع رئيس الوزراء الأسبق، الفريق أحمد شفيق، الذي حُدِّدت إقامته، ورئيس الأركان الأسبق، الفريق سامي عنان، والعقيد بالجيش، أحمد قنصوة، اللذين وُضعا في السجن.

 وقد أدت استراتيجيات التأييد والتحريض والتلقين تلك إلى إنتاج شكل مُشَوَّه من الإعلام، حيث فقدت شرائح واسعة من المصريين الثقة في وسائل الإعلام المحلية، خاصة الرسمية منها، وهو ما جعلها تفقد الكثير من فاعليتها وتأثيرها في توجيه الرأي العام.

النموذج الحاكم للعلاقة بين النظام والإعلام

في ظل نظام حكم عبد الفتاح السيسي، وبدلًا من أن تُدِير الأجهزة الأمنية و"السيادية" الإعلام عن طريق وسطاء لديهم الخبرة الكافية لتسيير الأمور، أصبحت الإدارة تتم بشكل مباشر عن طريق ضباط في الأجهزة الأمنية وحتى العسكرية، ووصل الأمر إلى أن جانبًا من المفاوضات مع الإعلاميين كانت تُجرى في مقر جهاز المخابرات. ولم تعد هناك فروق تُذْكَر في المضمون ما بين الإعلام الحكومي والخاص بل وحتى الحزبي؛ حيث تمت السيطرة على الجميع بشكل كامل ومباشر. ويقول هشام قاسم، الخبير الإعلامي المصري المعروف: إن الأجهزة الأمنية تعمل في مجال الإعلام الآن بغرض واحد هو التحكُّم الكامل في الرسائل الإعلامية عبر شرائها من المنبع وعدم الاكتفاء بتعاون ملَّاك وسائل الإعلام أو الضغط عليهم. ويضيف: "ليست هناك أي خطط للربح أو حتى تفكير في قابلية هذه الوسائل الإعلامية للربح، وإنما هو مجرد تدافع لشرائها استجابة لتكليف معلن من رئيس الجمهورية بالوصول إلى مستوى الاصطفاف الإعلامي الكامل وراء القائد كما كان الحال في عهد جمال عبد الناصر". 

لذلك، فإن "نموذج الاعتماد" الذي بناه الرئيس عبد الفتاح السيسي مع وسائل الإعلام، أقرب لأن يكون نموذجًا خطيًّا؛ حيث يعتمد الإعلام بشكل كلي على النظام في تمويله، وفي تحديد المسار الذي عليه أن يسلكه، بينما لا يستفيد النظام كثيرًا من أداء وسائل الإعلام التي يموِّلها ويشرف عليها.

وخلص الباحث إلى أن الإعلام المصري تضرر بشدة من تسلط النظام على مفاصله، عبر التحكُّم في مصادر التمويل ومصادرتها، وتقييد الحريات، وتشديد الرقابة باستخدام ضباط ليس لديهم دراية كافية بالمجال، ويتعاملون مع الصحفيين باعتبارهم "عساكر في كتيبة"، الأمر الذي أدى إلى أن يقرر العديد من الكفاءات الصحفية تغيير مجال العمل خلال السنوات الماضية. ومع الوقت تدهور المضمون الإعلامي الذي اعتمد على "التأييد والتحريض والتلقين"، ليصبح مشابهًا لنظيره في ستينات القرن الماضي (وهو أمر افتخر به السيسي عندما قال: إن "الزعيم الراحل، جمال عبد الناصر، كان محظوظًا، لأنه كان بيتكلم والإعلام كان معاه")، كما فَقَد الجمهور الكثير من ثقته فيما تقدِّمه القنوات والصحف المحلية، لتتضرر بذلك سوق الإعلام التي تُعتبر صناعة تدرُّ مليارات الجنيهات سنويًّا.

واعتبر الباحث أن حالة الإعلام المصري قدَّمت نموذجًا خطيرًا لاستخدام السلطة غير الرشيد للإعلام؛ الأمر الذي أضرَّ بعملية الاتصال وبالجمهور وحتى بالنظام الحاكم نفسه، في بلد يُعَدُّ واحدًا من أهم بلدان المنطقة في مجال الإنتاج الصحفي والتليفزيوني والسينمائي، وعلى المستوى السياسي أيضًا.   

ويبقى أن احتمال تحسن أداء الإعلام المصري في المستقبل المنظور أمر وارد، بشرط أن يمتلك النظام -باعتباره المتحكم شبه الوحيد في وسائل الإعلام- الإرادة الحقيقية لإحداث التغيير، وهو أمر ليس عليه دلائل قوية حتى الآن. لكن ضغوط سوق الإنتاج الإعلامي، بالإضافة إلى حاجة النظام إلى تحسين صورته أمام الرأي العام، قد تدفعه إلى السير في طريق الإصلاح الصعب والمكلف، سياسيًّا على الأقل.

للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا) وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)

نبذة عن الكاتب