اقتراب الحسم: النظام المالي يتأرجح بين الرئيس كيتا والحراك

يواجه الرئيس المالي، بوبكر كيتا، حراكًا مناهضًا لبقائه في السلطة، أضعف سيطرته على مقاليد الحكم، إلا أن افتقاد الحراك للتجانس وتوجس القوى الإقليمية والدولية منه، يرجحان احتمال تسوية متفق عليها للأزمة.
تيارت المعارضة تصب عند الإمام ديكو (وكالة فرانس برس)

يواجه الرئيس المالي، إبراهيما بوبكر كيتا، أصعب اختبار سياسي منذ تسلمه السلطة لعهدة ثانية في 2018؛ إذ تلتئم قوى سياسية متعددة، تشمل مختلف الطيف السياسي من التصوف والسلفية إلى التيار العلماني وما بينهما من مبادرات وأحزاب وطنية وقوى ثقافية واجتماعية لم تعد ترى في نظام كيتا أكثر من سلطة فساد ونظام سياسي واقتصادي منهار واضطراب أمني، وترى في إسقاطه بداية لتأسيس الجمهورية الرابعة وبناء الديمقراطية.

مسار الأزمة وقوى الحراك

رغم الجذور المتعددة للأزمة السياسية في مالي، والتي تفاقمت منذ إعادة انتخاب الرئيس كيتا لعهدة ثانية في 2018 إلا أن الأحداث تسارعت بشكل كبير خلال الأسابيع القليلة المنصرمة، متأثرة بالسخط الذي أعقب اختطاف زعيم المعارضة، سوميلا سيسي، وعجز السلطة عن تحريره من خاطفيه.

ففي 26 يناير/كانون الثاني 2020، بدأت اجتماعات الحركات السياسية والأحزاب المناوئة للرئيس كيتا قبل أن تعلن عن تشكيل جبهتها الموحدة لإسقاط النظام وإعادة التأسيس، في 28 مايو/أيار 2020، معلنة يوم الجمعة 5 يونيو/حزيران موعدًا للتظاهرة السياسية الكبرى، التي انتهت بمطالبة الرئيس بالتنحي عن الحكم أو مواجهة غضب الشارع. ثم توالت جمعات الغضب الشعبي في مالي، قبل أن تندلع شرارة العنف بسقوط سبعة قتلى برصاص الشرطة.

 

  1. حراك غير متجانس ومتضارب المشارب

لهذا الحراك عدة مكونات، وهي:

  • منسقية الجمعيات الداعمة للإمام محمود ديكو: وهي الذراع السياسية للإمام ديكو، وربما تتحول مع الزمن -رغم تعدد عناصرها وأقطابها- إلى حلف سياسي يدفع بالإمام إلى واجهة المشهد السياسي رغم إعلاناتها المتكررة بأنه لن يترشح للرئاسة.

ويملك الشيخ محمود ديكو رصيدًا سياسيًّا وجماهيريًّا كبيرًا، إثر أدواره المتعددة في إسقاط قانون الأسرة سنة 2009 وإسقاطه بعد ذلك قانون التربية الجنسية سنة 2019، زيادة على تأثيره الفعال وسمعته المقبولة لدى مختلف الأطراف النافذة في مالي بما فيها المؤسسة العسكرية.

  • حركة استعادة الأمل: بقيادة وزير الثقافة السابق الفنان السينمائي، الشيخ عمرو سيوسكو، وتضم هذه الحركة أكثر من 20 جمعية وتنسيقية من المجتمع المدني، وسبق أن طالبت في وثيقة نشرتها برحيل النظام، ودعت الشعب المالي إلى ثورة شعبية يستعيد بها السلم والديمقراطية والتنمية.
  • جبهة حماية الديمقراطية: برئاسة الوزير السابق، تشوجويل كوكالا ميجا، وقد جاء تأسيسها ردًّا على إعلان المحكمة الدستورية فوز الرئيس كيتا في انتخابات 2018 المزورة، وفق المعارضة، وتضم هذه الجبهة سياسيين متعددين، من بينهم مرشحون سابقون للرئاسة ووزراء سابقون ومسؤولون كبار.

وإلى جانب هذه القوى المنتظمة، يواجه الرئيس المالي أيضًا رفض قوى أخرى، أبرزها:

  • أنصار الزعيم المختطف، سوميلا سيسي: رئيس حزب التحالف من أجل الجمهورية الذي يتهم نظام كيتا بالتراخي والتقاعس عن إنقاذ منافسه السابق في الانتخابات الرئاسية.
  • أنصار الشريف، محمدو ولد الشيخ حماه الله، المعروف إعلاميًّا بشريف نيورو، ويمثل هذا الشيخ الموريتاني الأصل أحد أهم أقطاب التأثير الروحي والسياسي في مالي.
  1. رياح الغضب

تتهم المعارضة النظام بالمسؤولية عن:

  • اتساع دائرة العنف لينضاف الاقتتال العرقي إلى أزمة الشمال، وتصاعد هجمات الجماعات المسلحة.
  • انتشار الفساد بشكل كبير في جميع مفاصل السلطة وتحكم أسرة الرئيس ومقربيه في مفاصل الحكم والمال والسياسة.
  • تزوير الانتخابات الرئاسية في 2018 والبرلمانية في 2020.
  • انهيار الاقتصاد وانتشار البطالة وانعدام آفاق التنمية في البلاد.
  • انعدام الحكامة الرشيدة التي تضمن نفاذ المواطن المالي للخدمات الضرورية من تعليم وصحة، فضلًا عن ضعف العدالة وتفشي الفساد.
  1. نقاط القوة ونقاط الضعف

للحراك عدة نقاط قوة؛ فهو أولًا يتصف بالاتساع لأن تشكيلاته المتعددة نابعة من المجتمع السياسي والمدني، ومطالبه كلها اجتماعية وسياسية. كما أن حماس واندفاع أتباع الشيخ محمود ديكو، وهم القوة الأساسية للحراك، يشكِّل رافعة حيوية تضمن للحراك زخمًا وحضورًا في الشارع. هذا فضلًا عن رمزية الشيخ محمود ديكو والتي تتأسس على عدة أبعاد مستندة إلى شخصيته العلمية ومقبوليته لدى مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية والدينية في مالي. كما يبدو من استمرار الحراك وشدته أنه يعبِّر عن تذمر شعبي عام من إخفاق النظام في مختلف المهام السياسية والأمنية والاقتصادية، وتقصيره في توفير حكامة رشيدة مما أعطى الحراك مشروعيته وجعله متفاعلًا مع نبض الشارع في مالي.

غير أن الحراك مع ذلك يشكو من خلل لعل من مظاهره غياب الدعم الدولي سواء تعلق الأمر بدول الجوار أو بفرنسا، الحليف الأساسي لكيتا، أو من المنظمات الدولية المهتمة بمالي. كما أن الحراك رغم عنفوانه وانخراط الكثير من الفاعلين السياسيين والدينيين فيه بات يفتقد لأفق سياسي؛ حيث يتفق قادة الحراك وأنصارهم على ضرورة إسقاط كيتا، لكن سؤال ما بعد كيتا لا يزال معلقًا، وخصوصًا من الزعيم الديني، الإمام محمود كيتا، المحاط بتيار إسلامي ناشئ ضعيف البنية وقليل الخبرة السياسية، مما قد يجعل إمكانية التفكك وتضارب الأهداف بين مكونات الحراك واردًا في أي وقت، ويضاف إلى ذلك المخاوف الدولية من سيطرة الفصائل الإسلامية على الحراك، رغم التطمينات التي يقدمها إمام المعارضة، ديكو، فإن تلك المخاوف ماثلة، ويعبِّر عنها أكثر من طرف، خصوصًا أن الشيخ محمود ديكو كان مكلفًا من الحكومة بالتفاوض مع المعارضة المالية المسلحة في الشمال قبل أن يسحب الرئيس كيتا ذلك التفويض.

كيتا وتساقط ركائز القوة

فقد الرئيس كيتا كثيرًا من أوراق قوته خلال السنوات المنصرمة فلم يعد حلفاؤه السابقون متشبثين به، وخصوصًا الإمام محمود كيتا الذي تحول من حليف له إلى أبرز خصومه، يضاف إلى ذلك التوتر الدائم في العلاقة بين الرئيس بوبكر كيتا مع شريف انيور والشيخ محمدو بن حماه الله، وتأتي مشكلة الأمن في إقليم أزواد لتزيد في عزلة الرئيس كيتا الذي فقد جزءًا مهمًّا من شرعية البقاء في السلطة خصوصًا فيما يتعلق بتحقيق السلام في أزواد والنهوض بالتنمية وإحلال الأمن.

ثم إن الضغوط السياسية المتواصلة التي أفقدته السيطرة على المؤسسة القضائية، وذلك بعد حل المحكمة الدستورية، واستقالة ابنه من رئاسة لجنة الدفاع في البرلمان، إضافة إلى توقع حل البرلمان وإعادة الانتخابات التشريعية.

ومع ذلك، يبقى النظام مستندًا على عوامل قوة أخرى، من أبرزها:

  • الرفض الدولي للحلول غير الدستورية وهو ما قد يكون مخرجًا مشرِّفًا لحل توافقي يحمي كيتا ومقربيه.
  • المراهنة على الزمن وتفكك قوى الحراك الشعبي، نتيجة اختلاف مطالبها وتضارب مصالحها.

أدوار فرنسا والقوى الإقليمية

لم يتأخر الاهتمام الدولي بالأزمة السياسية في مالي، فمنذ الأيام الأولى لتأسيس الحراك المناوئ للرئيس كيتا نشطت وساطات متعددة من أبرزها وساطات الأمم المتحدة، والسفير المغربي، والرئيس المالي الأسبق، موسى تراوري، دون أن تحقق كلها نتيجة إيجابية.

ويمكن اعتبار فرنسا والمنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (أكواس) أهم الأطراف الدولية المؤثرة في ملف مالي، حيث تتمتع (الأكواس) باتفاقيات تمنحها حق التدخل العسكري والسياسي لمنع الانجرار إلى العنف، وتمثل هذه الاتفاقيات سندًا للنظام في مواجهة أية محاولة انقلابية متوقعة، وقد بدأت (الأكواس) بالفعل وساطة من أجل تقريب وجهات النظر بين الأطراف.

أما فرنسا فهي جزء أساسي من النسق المؤثر والفاعل في النسيج السياسي والأمني المالي؛ حيث تملك قوات على الأرض وحضورًا في مختلف مفاصل الحكم، ورغم مخاوفها من الحراك المناوئ لحليفها، كيتا، فإنها ستكون العامل الخارجي الأكثر تأثيرًا في فرض حل يحمي مصالحها ويمنع الانتقال التام للسلطة إلى صف المعارضة متعددة الرؤوس والأهداف.

المعارضة المسلحة: تجاهل وترقب

لم يصدر عن الجماعات المسلحة ولا الحركات الأزوادية السياسية أي تعليق ولا اهتمام بما يقع في باماكو وذلك لأسباب، منها:

  • مركزية قضايا الشمال بالنسبة للجماعات المذكورة بينما الصراع الجاري على السلطة يقع في جنوب مالي.
  • اختلاف وسائل التغيير التي تعتمدها جماعات العنف عن وسائل التغيير الجماهيري التي يركز عليها الحراك.

ومع ذلك، فلا شك أن هذه الجماعات هي:

  • الحاضر المسكوت عنه أو المصرَّح في مفاوضات الحل، خصوصًا أن ملف السلام مركزي في كل نقاش سياسي في مالي.
  • أن انزلاق الحراك السياسي إلى العنف سيمنحها فرصة ذهبية لتعزيز مواقعها وتحقيق مكاسب جديدة على أرض الواقع.
  • وصول نظام ثوري إلى السلطة في مالي بما قد يقتضيه ذلك من خروج للقوات الدولية من البلاد سيعتبر هو الآخر كسبًا للحركات المسلحة والحركات الشمالية بشكل عام.

مخرج التسوية

يجدر التذكير بجملة من المعطيات التي تؤطر المشهد السياسي في مالي، ومن أهمها:

  • كون الشارع المالي عرف في تاريخه ثورات ناجحة، أطاحت بأنظمة سابقة؛ مما يضعف قدرة النظام على المقاومة.
  • هشاشة الوضع الأمني في مالي وقابليته للانزلاق بشكل دائم نحو المواجهة المفتوحة، تجعل من فرنسا جزءًا أساسيًّا من الأزمة والحل على حدٍّ سواء.

ولذلك، فإن أبرز السيناريوهات المتوقعة، هي:

السيناريو الأول: انهيار سلطة الرئيس كيتا

ويرتكز هذا السيناريو على قوة الحراك الشعبي التي قد يؤدي عنفوانها إلى إجبار الرئيس على الاستقالة، وفي هذه الحالة قد يتولى رئيس البرلمان، وفق ترتيبات الدستور، تسيير الأمور ووضع خارطة طريق للخروج السلمي من الأزمة والانتقال إلى وضع ديمقراطي جديد. كما قد تتخلى المؤسسة العسكرية عن الرئيس كيتا خصوصًا إذا أصرَّ على الصدام المسلح مع الحراك. كما قد يمثل تدخل المؤسسة العسكرية أيضًا خيارًا بالنسبة لفرنسا المتوجسة من قادة الحراك المعارض، خصوصًا في ظل ما يشاع من توتر في العلاقة بين الرئيس ووزير دفاعه، الجنرال داهيرو.

ورغم ذلك تقف أمام هذا الخيار صعوبة الموقف الإفريقي المتشدد تجاه الانقلابات العسكرية وخصوصًا المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والاتحاد الإفريقي اللذين تنص لوائحهما على عدم شرعية أي نظام يأتي للسلطة عن طريق الانقلاب.

السيناريو الثاني: بقاء بطعم الرحيل

يقوم هذا السيناريو على خيار الوصول إلى تفاهمات سياسية بين الحكومة وبين قادة الحراك برعاية دولية وإقليمية، وهو السيناريو الأكثر واقعية بما يوفره من إيجاد مخرج سياسي للأزمة بدون انزلاق تام إلى العنف، ومن تحقيق الجزء الأهم من مطالب المعارضة، وهو سيناريو يحمي المصالح الشخصية للرئيس إذ يضمن له خروجًا آمنًا من السلطة دون متابعة قضائية.

ويمكن الوصول إلى هذا الحل إمَّا برحيل الرئيس كيتا أو بتقليص صلاحياته وإشراك المعارضة في الحكم عبر:

  • إلغاء الانتخابات التشريعية الأخيرة.
  • تقليص صلاحيات الرئيس بشكل كبير بحيث يتحول إلى رئيس شرفي.
  • تشكيل حكومة انتقالية ووحدة وطنية بقيادة المعارضة أو بقيادة شخصية توافقية، تشرف على مرحلة انتقالية تنتهي بانتخابات رئاسية وتشريعية لا يشارك فيها الرئيس السابق.

ويعزز هذا السيناريو أنه من المستبعد أن يعتمد النظام القمع وسيلة للبقاء في الحكم لعدد من العوامل: أولًا: الفراغ السياسي إثر استقالة الحكومة بعد الانتخابات، وإعادة تكليف الوزير الأول، بوبو سيسي، دون أن يتمكن بعدُ من تشكيل حكومة جديدة. ثانيًا: أطراف السلطة ليست متماسكة كما يظهر من تقاذفها للتهم حول المسؤولية عن القمع، وقد أصدر الوزير الأول المكلف أوامره إلى مدير الأمن بفتح تحقيق لمعرفة المسؤول عن إطلاق النار على المتظاهرين ومن أصدر إليه الأمر. ثالثًا: التنازلات المتعددة التي قدمها الرئيس بين الحين والآخر والتي تؤكد تآكل قوته وتحكمه في منافذ السلطة.

وما من شك في أن هذا المسار قد يؤدي إلى تحقيق بعض مطالب المعارضة، كما أنه سيحظى بدعم دولي واحتضان من مختلف الأطراف المهتمة بملف مالي الذي بات ملفًّا دائمًا في الأجندة الدولية، وركنًا ثابتًا في اضطراب أو استقرار منطقة الساحل والغرب الإفريقي بشكل عام.