ابتكار ديمقراطية: دروس التجربة التونسية

يقدم الرئيس التونسي المنصف المرزوقي في كتابه الجديد الذي يحمل عنوان: "ابتكار ديمقراطية: دروس التجربة التونسية" رؤيته للثورة والانتقال الديمقراطي في بلاده، ويضع برنامجا سياسيا متكامل الأبعاد لإنجاح الثورة وتحقيق الديمقراطية والتنمية الاقتصادية، كما يعرض وجهة نظره حول المشهد السياسي التونسي بكل أطيافه
201374115115767734_20.jpg
المصدر (الجزيرة)

يعرض الرئيس التونسي المنصف المرزوقي في كتابه الجديد الذي يحمل عنوان: "ابتكار ديمقراطية: دروس التجربة التونسية" رؤيته للثورة والانتقال الديمقراطي في بلاده، ويقدم برنامجا سياسيا متكامل الأبعاد لإنجاح الثورة وتحقيق الديمقراطية والتنمية الاقتصادية.

ثورة متميزة

يبدأ الرئيس المرزوقي كتابه بالحديث عن تميز الثورة التونسية عن غيرها من ثورات الربيع العربي بكونها سابقة لها، مستقلة وسلمية. فهي منفردة على صعيدين: فقد كانت ثورة سريعة وغير عنيفة وتمت بدون تدخل أجنبي، كما أن العملية الديمقراطية تستند إلى خيار بناء ديمقراطية ليس على أساس المواجهة بين القوى السياسية وإنما على أساس إرادة مشتركة لإيجاد إجماع بين المكونين الأساسيين للمجتمع التونسي التحديثي والتقليدي.

ويقول إن هذا المستلزم (الإجماع) "يأتينا من تاريخنا لأن الحوار والتفاوض هما جزآن من تقاليدنا" كخلف للفينيقيين؛ فنحن نتفاوض منذ 3000 سنة". وإذا نجحت تونس في الحفاظ على هذا الإجماع وفي إعادة إطلاق آلتها الاقتصادية، فيمكنها أن تصبح مَخبَرا حقيقيا، وربما نموذجا لليبيا واليمن وسوريا وغيرها. ويعبر عن ثقته في المستقبل معللا ذلك بعدة عوامل. فهنالك حجمٌ سكاني محدود (10 ملايين نسمة)، وتجانس اجتماعي (غياب الأقليات والصراعات المذهبية)؛ ووجود طبقة وسطى معتبرة؛ كما أن الفوارق بين الأثرياء والفقراء أقل حجما منها في الدول العربية الأخرى، ثم اهتمام الجميع في تونس بضرورة التوصل إلى وفاق حقيقي رغم الانقسامات السياسية والاجتماعية.

يقول المؤلف إن الثورات العربية كانت قادمة لا محالة، وأنه راهن منذ سنوات على أن الصدمة في تونس ستأتي من الحوض المنجمي، الذي شهد تحركا عام 2006، كما راهن على انهيار اقتصادي يصيب النظام. مضيفا "لكن ليس هذا ما حدث. و قد فوجئت مثل الجميع بالطريقة التي سقط بها النظام، لكن ليس بسقوطه". وعن بناء ديمقراطية على أنقاض الديكتاتورية، يقول إنه "في بداية الثمانينات، كان بإمكان تونس أن تصبح ديمقراطية، وفي فترة محمد مزالي. كنا جاهزين، لكن بورقيبة تبنى أوتوقراطية حضَّرت لديكتاتورية بن علي". لكن رغم ذلك لم يكن بورقيبة ديكتاتوريا، وإنما أوتوقراطيا.

ويعتبر المرزوقي ما تعيشه تونس حاليا بمثابة "استقلال ثانٍ" للبلاد، فبعد أن تحررنا من "أوليغارشية أجنبية، فها نحن تحررنا وانعتقنا من أوليغارشية وطنية". ويرى أن دمقرطتها الحالية يجب ألاَّ تفهم على أنها عملية صاغتها النخبة، لأن التطلعات والشروط الضرورية كانت موجودة. وفي هذا السياق يعرض تصوره للنظام السياسي القادم: فلمنع عودة التسلط لا يكفي تبني نظام برلماني فقط فقد أظهرت التجربة مع الرئيس الراحل بورقيبة أن هذا النظام الذي كان يسيطر عليه حزب واحد سمح له بتجميع كل السلطات. وتجب الحيلولة دون حصول حزب واحد على كل السلطات. ورغم أن النموذج البرلماني ناجح في بريطانيا مثلا، إلا أن لكل بلد تاريخه. كما أن نظاما رئاسيا وفق النموذج الأمريكي لا يصلح لتونس التي عانت من السلطة المفرطة للرؤساء.

النموذج السياسي المقترح

يقترح المؤلف نظاما يمزج بين النموذجين البرلماني والرئاسي، ويضمن توازنا للسلطات بين صلاحيات الرئيس ورئيس الحكومة. و يكون فيه للرئيس صلاحية حل البرلمان، ولهذا الأخير صلاحية إحالة رئيس الجمهورية على المحكمة الدستورية إذا تورط في عمليات فساد. وألاَّ يتمتع الرئيس بأية حصانة وأن تحدد الرئاسة بعهدتين فقط. ويتولى رئيس الجمهورية السياسة الخارجية والدفاع، فيما يتولى رئيس الحكومة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية. و حتى في حال انتمائهما إلى نفس الحزب فقد لا يكونان على نفس الخط، بل ربما يقوم الواحد منهما بتحييد الآخر والعكس.

أما بشأن القانون الانتخابي، فيدعو المرزوقي إلى اعتماد الاقتراع النسبي لانتخاب البرلمان حتى تتاح الفرصة للجميع لأن يكون ممثلا في البرلمان الذي يجب أن يكون ركيزة للديمقراطية. أما الركيزة الثانية فهي المحكمة الدستورية ولها صلاحية محاكمة رئيس الجمهورية. وتتمثل الركيزة الثالثة للنظام في إخضاع تعيين كبار الموظفين إلى لجنة برلمانية، والاستماع للمرشحين كما هو الحال في أمريكا. وهذا لتفادي تعيين أشخاص على أساس العلاقات، كما حاولت النهضة -حسب المؤلف- فعل ذلك بتعيين رجالاتها في مناصب عليا.

وليكتمل هذا البناء المؤسساتي للنظام التونسي، يرغب المرزوقي في إنشاء مجلس أعلى لمحاربة الفساد ذي صلاحيات واسعة، ويعمل مع المجتمع المدني أيضا للبت في قضايا الفساد في القطاعين العام والخاص وإحالة المتهمين للقضاء.

أما حركة النهضة فتدافع، حسب المرزوقي، عن النظام البرلماني بناء على حساباتها السياسية القاضية بفوزها في الانتخابات التشريعية، وبحكم حضورها وإمكاناتها. فيما تفتقر الأحزاب العلمانية إلى نفس الحضور والإمكانات. لكن إذا تمسكت النهضة بخيار النظام البرلماني، فيتعين تنظيم استفتاء شعبي لاختيار شكل النظام السياسي لتونس الجديدة. ويعتقد أنه بإمكان النهضة نظريا أن تفوز بالانتخابات التشريعية والرئاسية، لكنه يستبعد ذلك، لأن العلمانيين والنساء الذين لا يريدون سيطرة مطلقة لحزب ذي مرجعية إسلامية ستكون لهم الكلمة في الانتخابات.

ويضيف قائلا "لكن رغم خلافاتي السياسية أو الاقتصادية مع هذا الحزب، فإنني أتمنى أن تتمكن تجربة الترويكا هذه من الاستمرار، وتتوسع من أجل بناء الدولة المدنية التي هي هدفها". وهذا أيضا لإثبات إمكانية استفادة الآخرين من تجربتنا وضرورة الخروج من المواجهة بين العلمانيين والدينيين، بين الحداثيين والتقليديين. "لذا أرغب في الحفاظ على هذا الائتلاف حتى بعد الانتخابات بغض النظر عن الدور الذي سألعبه".

وبإمكان تونس حسب المرزوقي تحقيق شكل من التعايش الدائم. فرغم الأزمات واغتيال شكري بلعيد، فإن هناك تعايشا بين العلمانيين والإسلاميين. ويتوافق هذا الشكل من التعايش المؤسساتي والبنية السياسية والاجتماعية لتونس الغد، والتي تتشكل من مكونين، تحديثي وتقليدي. وهنا يؤكد على ثقافة الإجماع في بناء نظام تونس السياسي الجديد، وعلى المرجعية المدنية للدستور القادم الذي لن تكون الشريعة مرجعيته.

ويرى أن أطراف الترويكا منخرطة في عملية أخذ ورد وتشدد أحيانا إلى درجة القطيعة، ثم التفاوض والتوصل في نهاية المطاف إلى حلول توفيقية تحظى بالإجماع. لأن "الطبقة السياسية ناضجة والشعب معتدل". و يعتبر أن الحوار والتشاور قاعدة للعملية الانتقالية الجارية، مؤكدا أنه لا توجد قوة مهيمنة. وإذا كانت النهضة الحزب الأول، فإنها لا تملك الأغلبية (37% من الناخبين صوتوا لصالحها).

ويحذر المرزوقي من القوى المناهضة للثورة التي قد تَفشل بسبب قوة بنى النظام البائد والفساد الذي تغلغل في النظام والإدارة. إذ يريد تطهير بعض المؤسسات مثل وزارة الداخلية، خلافا للنهضة الحذرة بشكل كبير.

ويعتبر المرزوقي أنه من المفارقة أن يحمي الضحايا جلاديهم (نسبة لمسئولي النهضة الذين سجنوا وعذبوا من طرف رجال وزارة الداخلية في عهد بن علي). ويدافع المرزوقي عن ضرورة الحذر في التعامل مع أجهزة الأمن وطمأنتها، لأنها كانت هي الأخرى ضحية النظام السابق، لكن لا يمكن الإبقاء على من تورط في عمليات تقتيل وتعذيب في صفوفها. ورغم وجود أقلية من المجرمين يجب محاكمتها، إلا أنه لا يمكن التعميم. ويرى أن التطهير الجزئي يجب أن يشمل أيضا سلك القضاء لضمان قضاء مهني، فعال ومستقل، وذلك لإقامة البنى التحتية الضرورية للعدالة الانتقالية (الاستفادة من التجربة السابقة لإصلاح المؤسسات، التعويضات المالية والرمزية، واعتراف المسئولين عن خرق حقوق الإنسان بجرائمهم ومعاقبتهم).

أما عن الجيش، فيقول إنه جمهوري ومحترف وغير فاسد، رفض إطلاق النار على المواطنين أثناء الثورة. وهو قوام العملية الديمقراطية اليوم.

ابتكار ديمقراطية

بالنسبة للديمقراطية المنشودة في تونس يرى أنه يجب ابتكار ديمقراطية لا يسيطر فيها المال على السياسية، تكون مؤسسة على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ولذلك على تونس والعرب ابتكار ديمقراطية القرن الواحد والعشرين، ديمقراطية منقحة تهتم بالحقوق الاقتصادية كما تهتم بالحقوق السياسية. و يبدي المؤلف اهتماما بالسياسة الاجتماعية للرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا، ويربط بين الديمقراطية ومحارب الفقر. ويرى أن للديمقراطية أربعة أعمدة: استقلال القضاء، والحريات الفردية، والحريات العامة، وحق الانتخاب. ولضمان عدم استيلاء عالم المال على السياسة يدعو إلى التمويل العمومي للأحزاب السياسية و للحملات الانتخابية، وضرورة فرض الشفافية على تمويل وسائل الإعلام. كما يعتبر المجتمع المدني عمادا للديمقراطية (تشجيع إنشاء الجمعيات الأهلية وتمويلها من المال العام).

يتحدث المرزوقي عن الإسلام السياسي والترويكا والسلفية ويعود إلى سنوات الجمر ومعاناة المناضلين العلمانيين والإسلاميين من القمع على حد سواء، وإلى الانشقاق الذي حدث بين العلمانيين، بشأن تعذيب الإسلاميين من قبل النظام السابق. حيث ساندهم قسم فيما دعم قسم آخر سياسة بن علي. ويقول إنه دافع عن الإسلاميين لأن النضال من أجل حقوق الإنسان لا يستثني أحدا ولأن بن علي سيقمع العلمانيين أيضا وهذا ما حدث. ثم يوثق التقارب التدريجي الذي حدث بين العلمانيين والإسلاميين خاصة مع بداية العقد الأخير من القرن الماضي وتوصل الطرفان إلى التوقيع على وثيقة مشتركة "إعلان تونس" في فرنسا عام 2003.

ويعتبر أن هذه الوثيقة تفسر ما يحدث اليوم، فوجود الترويكا يعود إلى تلك الفترة. وقد اعترف الإسلاميون بموجب هذه الوثيقة بالدولة المدنية، وبالمساواة بين الرجل والمرأة، وبالحريات العامة، والديمقراطية... ولا مفاجأة في أن يقبلوا بذات المبادئ اليوم. و يبقى الخلاف قائما حول المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، و عقوبة الإعدام وإمكانية تغيير الدين والتبني. لكننا مضينا قدما لاتفاقنا على 26 مادة واختلافنا على 4 مواد فقط. وأصبحت هذه الوثيقة نصا مرجعيا. وهكذا عمل العلمانيون المعتدلون والإسلاميون المعتدلون سويا من أجل تونس "غير إسلاموية"، لكنها تعترف بالإسلام دينا رسميا وتتبنى الديمقراطية كنظام حكم. أما المتطرفون من المعسكرين فقد أقصوا أنفسهم بأنفسهم. ولهذا يعتبر التوافق الحالي داخل الترويكا الحاكمة نتيجة تطور تاريخي وليس "أجندة خفية" في سبيل الاستحواذ على السلطة. و يضيف إنه بفضل الحوار الطويل بين المعتدلين من الجانبين العلماني والإسلامي تم الاتفاق على فكرة "الدولة المدنية". و لهذا السبب لم يشر إلى الشريعة في الدستور. ثم إن معظم إسلاميي تونس لا يتشبثون بتفسير الأوائل للدين. ويقبلون أن يكون البرلمان الممثل للشعب هو من يسن القوانين. ويعتبر هذا ثورة فكرية و سياسية. كما أن التيار الإسلامي متعدد مثله مثل التيار العلماني، ولكل فريق متطرفوه، و قد تطورت مواقف النهضة مع مرور الزمن نحو التوفيق بين الإسلام والديمقراطية.

الخلاف مع حزب النهضة

لكن الخلاف لا زال قائما مع الإسلاميين حول أربع مسائل ضرورية هي الأخرى للتوصل لعقد اجتماعي لتونس الديمقراطية، وهي المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، و إلغاء عقوبة الإعدام، والتبني وحرية المعتقد، والتي قد تذهب إلى حد تغيير الدين. فهم لا زالوا مترددين بشأن المساواة في الميراث وزواج المسلمة من غير المسلم. لكن هذه المسائل ترسخت في التقاليد الاجتماعية ولم تنتظر مواقف الأحزاب السياسية.

ولا يبدو أن قادة النهضة سيتراجعون عن هذه المبادئ علنا حسب المرزوقي، لكنهم عمليا على استعداد لغض الطرف عنها. فهم لا يتخلون عن مبدأ الميراث (للذكر حظ الأنثيين) لكنهم لا يتدخلون حتى يُحترم هذا المبدأ. و ينطبق الأمر نفسه على عقوبة الإعدام. و يضيف أنه بمجرد توليه الرئاسة قرر تحويل كل عقوبات الإعدام إلى عقوبات سجن على مدى الحياة، ولا أحد احتج على ذلك. لكن بما أننا نبحث جمعيا عن الإجماع فليس بإمكاننا إدراج إلغاء عقوبة الإعدام في الدستور، كما ليس بالإمكان إدراج الشريعة في الدستور. فهنالك حلول اجتماعية لقضايا لا يمكن وضع نصوص سياسية بشأنها تحظى بالإجماع. ويعتقد أن قادة النهضة أقدموا على تنازلات حقيقية.

يعتبر الرئيس المرزوقي أن معارضة النهضة بشدة حول بعض القضايا تجعلها تتراجع كما حدث عند مطالبتها بضرورة إدراج مصطلح "التكامل" بين الرجل والمرأة بدل "المساواة" في الدستور. وبما أن تمرير مادة في مسودة الدستور يفرض الحصول على ثلثي الأصوات، فإن تعذر الإجماع يتحتم اللجوء إلى الاستفتاء. لكن النهضة تعي أن أي استفتاء اليوم سيكون حول أدائها السياسي أكثر مما سيكون حول الدستور.

يصف المؤلف المشهد السياسي في تونس من خلال مفارقة، حيث أتت ثورة بالمحافظين إلى الحكم، لكن الأهم ليس أن يحكم تونس حزب ذو مرجعية إسلامية وإنما أن يكون هذا الحزب ديمقراطيا، مؤكدا أن الثورة لم تصادر إطلاقا، وأن النهضة لا تسيطر على الحكم لأنه ليس لها الأغلبية والترويكا هي من يحكم. إن النهضة التي تعتمد على البورجوازية المتوسطة (فيما تستند السلفية إلى الأحياء المهمشة والفقيرة) ليست حزب الفقراء وهذا واضح من برنامجها ومن قناعاتها. ووجود محافظين على رأس بلد ثوري يفسر بكون جزء من أحزاب اليسار العلماني كانت قريبة جدا من النظام السابق وبضعف اليسار المتطرف. وبما أن الحزب الوحيد المنظم نسبيا كان هو النهضة، فقد نجح، لكن من غير المؤكد أن يكون هذا هو المعطى نفسه في الانتخابات القادمة.

ويوضح هنا جوهر خلافاته مع النهضة قائلا "لا تأتي خلافاتي مع النهضة من كوني أدافع عن نوع من المدنية بينما النهضة دينية، وإنما تأتي أساسا من أنني اجتماعي- ديمقراطي حسب المعنى الأوروبي بينما معظم قادة النهضة محافظون اجتماعيا وليبراليون اقتصاديا. فمثلا أنا أقول -يضيف المرزوقي- بتوزيع أراضي الدولة على الفلاحين، بينما يقولون هم ببيعها لكبريات تجمعات الصناعات الغذائية".

هناك توجهان اقتصاديان في الحكومة، فالرئيس المرزوقي يدعو إلى اقتصاد اجتماعي يرفع المستوى المعيشي للمواطن ويحارب الفقر، بينما تتبنى النهضة سياسية ليبرالية بحتة. ويؤكد المرزوقي على ضرورة الإصلاح الزراعي بتوزيع أراضي الدولة على الفلاحين وبتشجيع الشباب على العمل في القطاع الزراعي لامتصاص البطالة ورفع الإنتاج. ويصر على مسألة تمكين المرأة والفئات المهمشة في المجتمع من تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية. كما يدافع عن قانون استثمارات جديد تحفيزا للاستثمار ومحاربة للفساد.

الظاهرة السلفية

يعتبر المرزوقي أن إنشاء أحزاب إسلامية، بما فيها السلفية، لا تطرح له مشكلة ما دامت تحترم قواعد الديمقراطية. أما السلفية الجهادية فهي مرفوضة ويجب مواجهتها في إطار دولة القانون. ويقر بأن ولوج السلفية الساحة السياسية لبلاده كانت من أكبر المفاجآت بعد الثورة بالنسبة إليه، لأنه كان يعتقد أن هذه الظاهرة المتطرفة والهامشية مآلها الاختفاء بمجرد رحيل بن علي. و يرى أن السلفيين الذين يمثلون جزء الإسلام السياسي غير القابل للانصهار في الديمقراطية، لا يشكلون تهديدا وإنما يلحقون ضررا بالبلاد خاصة بالسياحة بسبب صورتهم الإعلامية وتحركهم إعلاميا. وباستثناء الإضرار بصورة تونس وبقطاعها السياحي فلا تأثير للسلفية لأنها غير متجذرة اجتماعيا- باستثناء بعض الأحياء المحدودة- لأنها لا تملك مشروعا سياسيا. ولا يستبعد تلاعب أنصار النظام البائد ببعض السلفيين. ويعتبر أن هؤلاء أكثر خطرا من السلفيين. و أن مواجهة التطرف تكون بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية لا من خلال المعالجة الأمنية البحتة.

يتحدث المرزوقي عن نوعين من التطرف، تطرف علماني وتطرف ديني، إلا أن الأول لا يستخدم العنف. والمتطرفون العلمانيون يريدون العيش في تونس و كأنها "ضاحية أوروبا"، أما المتطرفون الدينيون فيريدون العودة إلى القرون الأولى من الإسلام". و يشكل هذان الاتجاهان خطرا لأنهما يدفعان نحو رفض الآخر، -اللاتسامح- وفي نهاية المطاف، إلى شرخ في المجتمع وهو ما يجب تفاديه بكل الوسائل". لأن تونس تعرف تعددا، وعليها أن تقبل انتمائها العربي- الإسلامي وحداثتها، وترفض التضحية بالواحدة في سبيل الأخرى.

إن مشروع النهضة حسب المرزوقي يقوم على تشجيع إسلام محافظ، لا علاقة له بالمتطرفين الذين يريدون فرض إسلام متشدد على التونسيين، بما في ذلك بالقوة. بيد أن كل المحافظين في تونس لا يصوتون لصالح النهضة لتعدد الاتجاهات المحافظة داخل المجتمع. ويعتبر أن ما يبدو صراعا ثقافيا بين التقليد والحداثة، هو في الواقع مشكلة سياسية تجد تعبيرها بشكل خاص في المواجهة بين الأيديولوجية المحافظة والبورجوازية لحركة النهضة من جهة، والسلفية من جهة ثانية.

إن الثورة التونسية قد تفشل أمام العقبتين الاقتصادية والسياسية. ويكمن الخطر الاقتصادي في عدم نجاح الآلة الاقتصادية في تحقيق أحلام الذين قاموا بالثورة لاسيما الفقراء منهم. كما يخشى من إفشال الفساد للثورة. أما العقبة السياسية فتكمن في رفض المعسكرين التحديثي والتقليدي التوافق التاريخي الضروري. ويضيف أنه يعمل على تجسير الهوة بينهما لتفادي انقسام المجتمع، و أن الهوية التونسية لا تحدد على أساس التعارض بين الحداثة والتقليد بل هي متعددة المكونات، ويعود تأسيسها إلى الماضي القرطاجي والبربري، ليأتي بعد ذلك الرافد العربي- الإسلامي، الأكثر كثافة وسمكا، ثم تأتي طبقة رقيقة عثمانية فغربية.

في الختام يبدي المرزوقي تفاءلا بمستقبل تونس لأنها "تملك طبقة وسطى، ومجتمعا مدنيا قويا، وجيشا جمهوريا منضبطا، وتقاليد للحوار ونوعا من الحساسية حيال العنف"، ليعود بذلك إلى العناصر التي أسس عليها منذ البداية "النموذج التونسي".

الحاجة إلى نقد التجربة

يمثل هذا الكتاب برنامجا سياسيا واضح المعالم، ولكن أهميته تكمن في تقديمه صورة واضحة عن العلاقة بين الرئيس التونسي والنهضة وإشكاليات الحكم بينهما، كما يضع بين يدي القارئ بدايات تجربة سياسية فريدة من نوعها في العالم العربي، يحكم فيها العلمانيون والإسلاميون سويا، وذلك رغم الاختلافات الإيديولوجية بينهما، وكيف يتبنى الإسلاميون ليبرالية اقتصادية بينما يتبنى العلمانيون ليبرالية سياسية.

لكن هناك بعض النقائص تدل على قصور في التحليل. أولها قلة النقد الذاتي وغياب الحديث عن الطرف الثالث في الترويكا حيث ارتكز التحليل على مواقف الرئيس والنهضة. ثانيها المبالغة في التأكيد على أن الثورة التونسية لم تأت من فراغ بل هي نتيجة نضال طويل، وأن الشباب لم يكن وحده مفجرها. ثالثها تأكيد المؤلف على نفس الصورة التي كان يؤكدها النظام السابق ويروجها وهي تميز تونس عن غيرها، ترويج لـ"نموذج تونسي" يقوم على التربية والتاريخ ونبذ العنف والحوار والاعتدال، والجيش الجمهوري وغير ذلك. وهذا كلام فيه قليل من الواقعية. فإذا كانت تونس تتميز عن غيرها تربويا واجتماعيا فلماذا تمنح الحظ الأوفر من الأصوات إلى حزب إسلامي في أول انتخابات بعد الثورة؟ وهذه مفارقة انتبه إليها المؤلف لكنه قلل من شأنها. ثم ألم يقم "النموذج التونسي" بثورة عادت بتونس إلى إشكالية (عربية-إسلامية) قديمة –بحلة جديدة – وهي العلاقة بين المقدس والمدنس.

إن اعتبار المؤلف أنه لا يوجد "إسلاميون تونسيون"، وإنما "تونسيون إسلاميون" هو بحث غير مجد عن خصوصية وطنية، لحجب الرؤى عن واقع لا يتوافق ومقومات "النموذج التونسي". وليس هذا اختصاص تونسي، فكل الأنظمة العربية تحاول "تأميم" مقومات عربية- إسلامية عابرة للأوطان لبناء نموذج محلي.

إن رضوخ الجيش التونسي لعقود لأوامر نظام متسلط لا يعني إطلاقا أنه جيش جمهوري، بل هذا يحسب عليه وليس له. فهو لم ينقلب على التسلط من أجل الديمقراطية. والحجة التي تحسب له هي عدم إطلاقه النار على الثائرين على النظام السابق. رابعها التقليل من حجم السلفية وتطرفها بتوظيف مقومات "النموذج التونسي"، بينما الظاهرة ليست بحاجة لا إلى التقزيم ولا إلى التضخيم.

والتقليل من شأنها هدفه عدم الإقرار بأسطورية بعض المقومات التي يرتكز عليها "النموذج التونسي" كما يعتبر الرئيس المرزوقي. ثم إن السلفية، عكس ما يقول المؤلف، لا تجند بالضرورة في الشرائح الفقيرة من المجتمع، لأن التطرف ليس بالضرورة ملازما للفقر. كما أن هذه المقاربة توحي بأن كل ما هو غير جيد فهو حتما مستورد. وهي المقاربة ذاتها التي تسوقها الأنظمة التسلطية العربية. خامسا، لا يحلل المؤلف إشكالية العلاقة بين النهضة والسلفية وكيف تؤثر على توجهات النهضة وبالتالي الترويكا.

و سادسا وقع المؤلف في نوع من التناقض، فهو يقول إنه ليس للنهضة خطاب مزدوجا، وأحيانا أخرى يقول إنها لا تقر ببعض الأمور علنا، لكنها تغض الطرف عنها عمليا. وهنا مكمن الازدواجية. وسابعها، يعتبر كتابه دفاعا عن الترويكا والائتلاف الإسلامي- العلماني، ونقدا بشكل أو بآخر لكل من لا يساندها، ولا يناقش فيه المؤلف مواقف المعارضة والانتقادات التي توجهها إلى الترويكا الحاكمة.

معلومات الكتاب
عنوان الكتاب: ابتكار ديمقراطية: دروس التجربة التونسية - L’invention d’une démocratie : les leçons de l’expérience tunisienne
عرض: عبد النور بن عنتر - متخصص في الشأن المغاربي- أستاذ محاضر، جامعة باريس 8 – فرنسا
المؤلف: المنصف المرزوقي
الناشر: Paris, La Découverte, 2013 
السنة: 2013
عدد الصفحات: 177
____________________________________
عبد النور بن عنتر - متخصص في الشأن المغاربي، أستاذ محاضر، جامعة باريس 8 – فرنسا

نبذة عن الكاتب