تونس بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية: الفرص والتحديات

أبرز ما خلصت إليه ندوة حوارية مشتركة نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات ومركز الدراسات المتوسطية والدولية بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر، في العاصمة تونس، يوم الثلاثاء 22 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وشارك فيها نخبة من الباحثين والإعلاميين والخبراء.
bb2c4016ae124ab0a695b5605cdf0699_18.jpg

رغم صعوبة تشكيل الحكومة وكثرة التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه تونس في مرحلة ما بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، فإنَّ البلاد قادرة على تجاوزها وتثبيت دعائم ديمقراطيتها، بفضل الوعي المجتمعي الذي أفرزته الثورة، ولاحترام الجميع نتائج صندوق الاقتراع وما يسفر عنه من نتائج. 

هذا أبرز ما خلصت إليه ندوة حوارية مشتركة نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات ومركز الدراسات المتوسطية والدولية بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر، في العاصمة تونس، يوم الثلاثاء 22 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وشارك فيها نخبة من الباحثين والإعلاميين والخبراء.

الانتخابات التشريعية: قراءات متعددة

تعددت قراءات المشاركين في الندوة لنتائج الانتخابات التشريعية التي جاءت حركة النهضة فيها في المركز الأول يليها حزب قلب تونس، فمنهم من رأى أن ذلك يعكس المزاج العام للناخب التونسي الذي أراد معاقبة الأحزاب التي تصدرت المشهد بعد الثورة لضعف أدائها، ومنهم من رأى أنه ومع الإقرار بسمت التصويت العقابي سابق الذكر فإن المحصلة داخل البرلمان أن أغلب المقاعد حصل عليهم نواب تابعون لأحزاب، أي بعبارة أخرى: إن الناخب لم يستطع أن يخرج عن المنظومة الحزبية القائمة رغم ما فعل. لكن أيًّا كانت النتائج سابقة الذكر فإن المتحاورين خلصوا إلى أن تونس، الدولة والمجتمع، أصبحت تحتكم إلى صندوق الاقتراع وتحترم ما يسفر عنه من نتائج.

برلمان حزبي 

استهلَّ أحمد إدريس، مدير مركز الدراسات المتوسطية والدولية بتونس، مداخلته بالتأكيد على أنَّ إفرازات الانتخابات التشريعية التي جرت في تونس مؤخرًا أبانت في المقام الأخير أنَّ 86% من مقاعد البرلمان تؤول للأحزاب، وهذا يعني، من وجهة نظره، أنه رغم سمت التصويت العقابي للناخب التونسي في تلك الانتخابات فإنَّ المحصلة النهائية أن ذات الأحزاب قد استحوذت على نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان ولم يستطع الناخب الإتيان بنواب آخرين من خارج المنظومة الحزبية بالنسبة التي كان يرنو إليها. 

وأضاف إدريس أنَّ العنصر الثاني الملاحَظ والذي نجم عن تلك الانتخابات هو تشرذم المجلس النيابي، وذلك لأنه لا توجد كتلة نيابية واحدة قادرة بمفردها على أن تقود المجلس وتمثل قاطرة له. وأشار إلى أنَّ الدستور والقانون يمنح صاحب الأغلبية الحق في تشكيل الحكومة وترؤسها لكنَّ القراءة السياسية لا تسمح بعمل ذلك بطريقة منفردة وبالسهولة المتصورة؛ ما يعني أنَّ الخريطة السياسية داخل البرلمان، وبسبب من تشرذمها، سوف تكون غير قادرة على منح الناخب الطمأنينة التي تقنعه باستقرار الأداء الحكومي.

لا مناص من التآلف الحكومي

من جانبه أشار فتحي الجراي، رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب، وزير التربية في تونس سابقًا، إلى أنَّ من حق الشعب التونسي الشعور بالاعتزاز والفخر لما حققته ثورتهم التي كان من نتيجتها أن تكون الانتخابات نزيهة وشفافة بالصورة التي ظهرت عليها. 

وعن قراءته لنتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، قال: إنَّ الناخب التونسي عاقب من جهة الأحزاب القديمة التي لم تقدِّم ما كان ينتظرها منها، ومن جهة ثانية أتاح الفرصة أمام شخصيات جديدة ووجوه مستقلة للدخول إلى البرلمان لعلَّها تُفلح فيما أخفق فيه الآخرون. 

وألمح الجراي إلى أنَّ الحزب الوحيد الذي لديه خزَّان انتخابي لم يتأثر كثيرًا بالتصويت العقابي للناخب التونسي هو حزب النهضة رغم خسارته بعض المقاعد في الانتخابات الحالية. وأضاف أن هذه النتيجة كانت متوقعة، لكن غير المتوقع، من وجهة نظره، هو ألَّا تجد هذه الأحزاب أرضية مشتركة تنتج توافقًا. ولذلك فإنَّ بقية الأحزاب -عدا النهضة- تعيش حالة ازدواجية فهي -والكلام لجراي- لا تريد أن تكتوي بنار الحكم أو تهترئ بممارسة السلطة من ناحية ومن ناحية أخرى لا مناص أمامها من التوافق والاشتراك في الحكم. 

غير أنه أشار إلى أنَّ العمل فيما بينها (الأحزاب) جارٍ على تحسين شروط التفاوض والحصول على ضمانات من أجل تطبيق البرنامج الذي وعدوا به ناخبيهم، ومن ثمَّ البقاء للمرة القادمة في دائرة اختياراته. ويختم قراءته لنتائج الانتخابات التشريعية بالقول: إنَّ الطبقة السياسية التونسية عوَّدتنا على تقديم تنازلات والوصول إلى توافقات في آخر لحظة، وذلك لعدم رغبة الجميع في إعادة الانتخابات الحالية.

تمثيل منقوص للمرأة

أمَّا مبروكة خضير، الإعلامية التونسية، فأوضحت في قراءتها للانتخابات التشريعية أنها أظهرت العديد من الثغرات في القانون الانتخابي وأن الأوان قد آن لمراجعته. وعن حضور المرأة في تلك الانتخابات قالت: إنَّ تمثيل المرأة التونسية على قائمة الأحزاب بدا منقوصًا مقارنة بالسنوات الفارطة، غير أنها أشارت إلى أن المرأة يمكنها أن تكون كيفًا فاعلًا في البرلمان؛ بمعنى أن يكون حضورها قويًّا، وأن تكون ممثَّلة في الوزارات التي سيتم تشكيلها وبخاصة في المهم والسيادي منها. 

وأضافت خضير أنَّ الامتحان الحقيقي هو كيف يمكن أن يتم التأليف بين مؤسستي الرئاسة والبرلمان لإحداث التوافقات والتآلفات المطلوبة. مبررةً أهمية هذا التوافق بتشتت المشهد السياسي في صيغته البرلمانية ما يجعل من الصعوبة لأية حكومة قادمة أن تكون فاعلة وقادرة على إنجاز الإصلاحات المأمولة، سيَّما الإصلاحات الاقتصادية التي طال انتظارها.

خريطة جديدة تعكس مزاجًا مختلفًا

اختار لطفي حجي، مدير مكتب الجزيرة في تونس، أن يقدم في مداخلته قراءة في نتائج الانتخابات التشريعية عبر منهج مقارن، وفي هذا الصدد قال: إنَّ الانتخابات التونسية الراهنة هي انعكاس لتطور الوعي المجتمعي إذا ما قارنَّاها بالاستحقاقين السابقين في 2011 و2014. ففي الانتخابات الأولى التي نُظِّمت عقب الثورة منح الناخب التونسي صوته للأحزاب التي صُنِّفت آنذاك على أنها أحزاب ثورية صاحبة الدور الأبرز في مقاومة نظام الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي. وفي الفترة بين انتخابات 2011 و2014 -يضيف حجي- أُعيد تشكيل المشهد السياسي في البلاد وبرز ما سُميَّ بالمحسوبين على النظام القديم فضلًا عن الخائفين من المحاسبة ومن تغوُّل أيديولوجيا معينة وصباغتها التفاعلات السياسية بلون محدد، فتجمَّع هؤلاء الخائفون معًا، وجاءت انتخابات 2014 لتبدو وكأنها بين مَن يُمثلون الثورة وبين من يُريدون نوعًا من التغيير الهادئ والمتدرج، فرأينا حزب نداء تونس وفوزه بنسبة كبيرة بجانب حزب النهضة، وسارت الأمور في تلك الفترة في ظل هذين الحزبين. 

الآن في انتخابات 2019 -والكلام لا يزال لحجي- تغيَّرر الأمر تغيرًا شبه كليٍّ، وبرزت أطراف أخرى، فإذا استثنينا حركة النهضة التي حافظت على تقدمها رغم خسارتها بعض المقاعد، فإنَّ هناك تغييرًا وبروزًا لأطراف أخرى لم تكن في المشهد من قبل.

هذه الخريطة التي برزت رغم تشتتها هي -في رأي حجي- أكثر تعبيرًا عن فسيفساء المجتمع التونسي؛ إذ نجد النهضة ومَن هم على يمينها من أصحاب التدين الراديكالي المتمثل على سبيل المثال في ائتلاف الكرامة، كما نجد تيارًا قوميًّا، وآخر ليبراليًّا ديمقراطيًّا، وكأننا ابتعدنا عن الفرز والاستقطاب الأيديولوجي الذي كان موجودًا من قبل، فهو إذن وفي المحصلة النهائية تعبير عمَّا يختمر من وعي داخل المجتمع التونسي.

أهمية التعددية في تأسيس المرحلة الانتقالية 

ثمَّن سامي إبراهيم، الباحث بمركز الدراسات والبحوث والاقتصادية والاجتماعية في تونس، في بداية مداخلته، هذه الندوة التي، كما قال، من فوائدها العمل على تصحيح مفهوم السياسة من مجرد فعل نضالي إلى كونها صناعة تحتاج إلى مهارة وفن وتستوجب تكوينًا يستشرف المستقبل بحسٍّ استراتيجي. وعن قراءته لنتائج الانتخابات الحالية أشار إلى أن تونس لا تزال في مرحلة الانتقال الديمقراطي وما يعتمل فيها من تحولات اجتماعية. 

وأكد أن هذه المرحلة مهمة لأنه تتحدد فيها أسس المشروع السياسي والمجتمعي بشكل عام، ولا يمكن لهذا التأسيس أن يتم بأغلبيات مطلقة أو بتحالفات ثنائية أو حتى ثلاثية وإنما لابد -والكلام لإبراهيم- أن يصاحب الانتقال الديمقراطي الانفتاح على طيف واسع من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والنخب، ويبدو أن هذه هي فلسفة القانون الانتخابي التونسي الراهن الذي جرت في ظله الانتخابات والذي كان يهدف إلى منع تغوُّل طرف على طرف بعينه، ويحول دون استئثار طرف أو تحالف بصناعة أسس المرحلة الانتقالية. 

لذلك، نحن ما زلنا -والكلام دومًا لإبراهيم- في مرحلة الانتقال الديمقراطي، والمطروح اليوم ليس الانتقال فجأة إلى مرحلة تكون فيها المرجعية لحزبين أو ثلاثة، لكننا، في ذات الوقت، نحتاج إلى ابتداع طرق تقلِّل من هذا التشتت ربما مثلًا برفع العتبة الانتخابية اللازمة لدخول الأحزاب البرلمان. واختتم إبراهيم هذا الجزء من مداخلته بقوله: إنَّ هذا البلد قد وقعت فيه ثورة، وإنها قد نجحت في تأسيس الديمقراطية السياسية المشاهدة.

الانتخابات الرئاسية: تحديات وأولويات

انتقل المشاركون في الندوة إلى المحور الثاني بها والذي كان مخصصًا لتحليل ما أفرزته الانتخابات الرئاسية من فوز المرشح قيس سعيد بالرئاسة فوزًا كبيرًا على منافسه، نبيل القروي. ولم يكن الاختلاف كبيرًا بين المتحدثين في خلاصة ما ذهبوا إليه بالنسبة لجملة التحديات وجدول الأولويات التي ستواجه الرئيس الجديد والمفترض أن يتعامل معها عقب أدائه اليمين الدستورية، وهو ما تم أمس الأربعاء 23 أكتوبر/تشرين الأول 2019. وأهم هذه التحديات، فيما قالوه، هو التنسيق بين عمل الرئاسة والحكومة والبرلمان ومؤسسات الدولة، وتحقيق إنجاز ملموس في الملف الاقتصادي وبخاصة فيما يتعلق بتوفير فرص العمل والحد من البطالة وتوفير الخدمات والسلع بأسعار تكون في متناول القدرة الشرائية للمواطنين، فضلًا عن التحديات الخارجية التي أَوْلاها المتحدثون اهتمامًا ملحوظًا وبخاصة القادمة من تلك الدول الرافضة لمسار التغيير في العالم العربي الذي أفرزته ثورات العام 2010/2011.

يُطبِّقُ القانون ولا يغير مرتكزات السياسة الخارجية

وفي هذا الصدد، قال أحمد إدريس، مدير مركز الدراسات المتوسطية والدولية بتونس: إنه ليس هناك معطيات تحليلية تُمكِّن من الخوض فيما ينتظر تونس من سياسات سوف يقترحها الرئيس المنتخب، وسوَّغ ذلك بقوله: إنَّ الطَلَّات القليلة التي أطلَّ بها قيس سعيّد على التونسيين لا تمكِّننا من التعرف على مشروع واضح ومفصَّل للسياسة الخارجية، وفيما يتعلق بموضوع القضية الفلسطينية الذي ورد في بعض أحاديثه فإن هذا من الثوابت لكل الرؤساء التوانسة. غير أنَّ إدريس أكد على أن الرئيس المنتخب سيطبق القانون ونواميس الدولة، فيما ستبقى أولويات السياسة الخارجية، كما عبَّرت عنها وزارة الخارجية منذ عقود، تسير بنفس الأولويات.

صلاحيات دستورية محدودة

أمَّا فتحي الجراي، رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب في تونس، وزير التربية سابقًا، فلفت النظر إلى أهمية عدم المبالغة في رفع سقف التوقعات من الرئيس الجديد، مُرجعًا ذلك إلى صلاحياته المحدودة والمحددة وفق الدستور والقانون. ومع ذلك، فقد أشار الجراي إلى أن على الرئيس أن يدير الموارد البشرية في الدولة اختيارًا وانتقاءً وحوكمةً كمدخل مهم في مكافحة الفساد، كذلك عليه أن يولي عناية فائقة لملف البطالة وتوفير فرص العمل وأن يدير هذا الملف بكفاءة وإلا سيذهب ريحه. أمَّا السياسة الخارجية، فأشار الجراي إلى أهمية تطوير العلاقة مع الجزائر وليبيا وبقية المحيط المغاربي فضلًا عن بقية دول القارة الإفريقية الواعدة، وأن يدير علاقاته مع العالم العربي بحنكة لأنه -والكلام لجراي- صوت نشاز بالمعنى الإيجابي كونه رئيسًا قادمًا من رحم ثورة ويتبنى نهجًا ديمقراطيًّا.

رؤية اقتصادية

من جانبها أشارت الإعلامية التونسية، مبروكة خضير، إلى أن الرئيس قيس سعيد -كما يتضح من برنامجه الانتخابي- لديه رؤية اقتصادية واضحة تعتمد في المقام الأول على تفعيل الشراكة التونسية مع جوارها المغربي والإفريقي، بغية البحث عن توافقات ومشاريع استثمارية، وتبادل تجاري، وتدعيم الثقافة. كما ألمحت إلى ميزة الشباب الذي يحيط بالرئيس والذي منحه ثقته وصوته في الانتخابات، وقالت: إنَّه لم يحدث أن استطاع سياسي تونسي مخاطبة الشباب وإقناعهم بالخروج بهذه النسبة العالية كما حدث مع الرئيس قيس سعيد، فقد استطاع بمهارة أن يفك شفرة الشباب التونسي. واختتمت مداخلتها بالقول: إن الرئيس الحالي يمكن أن يكون ضامنًا لتطبيق القانون وإن وجوده يمنح الحياة السياسية التونسية نَفَسًا جديدًا.

محاذير العمل في بيئة عربية معادية للخط الثوري

أمَّا لطفي حجي، فوصف الرئيس قيس سعيد بأنه "الرئيس الظاهرة"، لأنه استطاع أن يفوز على لوبيات المال دون أن يكون له مال، واستطاع أن يفوز على الأحزاب مجتمعة دون أن يكون له حزب، وعلى جزء كبير من الإعلام المناهض له والذي أراد تشويهه دون أن تكون له مؤسسة إعلامية تسنده، كما استطاع الانتصار على "شركات الكوم" التي تصنع النجوم والرؤساء، وقد انتصر على هؤلاء جميعًا بمفرده وبمعية عدد قليل من أنصاره، ولذلك يسمى الرئيس الظاهرة. 

وأضاف حجي أنه لابد أن ننظر إلى الرئيس قيس سعيد في بُعدين؛ داخلي وخارجي، مؤكدًا أن كثيرًا من الذين صوَّتوا لقيس سعيد، وبخاصة الشباب منهم، لا يهمهم كثيرًا هذا التقسيم الدستوري الموجود في تونس بين السلط، بقدر ما رأوا فيه الشخص الذي سيقاوم الفساد ويأتي بالعدل وتطبيق القانون، والسؤال الآن -كما يقول حجي- هل هو قادر على ذلك أم لا؟ ويجيب على نفسه بالقول: إنَّ هذا مرهون بمدى تعاون السلط الأخرى معه، وبخاصة الحكومة والبرلمان، وهو أمر مرهون بالحزام الذي سيعمل معه والفريق الذي سيعاونه. 

وفي السياق العربي، أشار حجي إلى أن قيس سعيد سيكون رئيسًا مختلفًا داخل النظام الرسمي العربي وبخاصة مع الجانب الرافض للثورات العربية والتغيير. وحذَّر حجي من أن يحذو الرئيس الجديد حذو الرئيس الأسبق، المنصف المرزوقي، الذي أراد أن يكون الحقوقي الثوري فقطع العلاقات مع سوريا ومصر، وإلى الآن تعاني البلاد من تداعيات هذين القرارين. واختتم كلامه قائلًا: أن تكون حالمًا وثوريًّا أمر مهم لكن مهم أيضًا أن تكون في الفضاء العربي رئيسًا فاعلًا.

تخليق السياسة

من ناحيته، أشار سامي إبراهيم، إلى أن أبرز ما يميز الرئيس الجديد، قيس سعيد، هو محاولته تخليق السياسة، أي ربطها بالأخلاق والمبادئ، في زمن ساد الاعتقاد فيه بأن التفريق بينهما أمر حتمي. وأضاف أنَّ الرجل يراهن على إنفاذ المبادئ والقيم التي يؤمن بها هو ومن انتخبوه على أرض الواقع. وأوضح إلى أن ربط السياسة بالأخلاق أمر ضروري وإلا عمَّ اليأس السياسي الجميع. وعما قاله قيس سعيد بخصوص الدعوة لمساندة القضية الفلسطينية، أكد إبراهيم أن ذلك ليس مجرد قول انفعالي وإنما أراد الرئيس من ورائه التأكيد على أن القضية الفلسطينية هي في المقام الأول قضية مبدأ. وأخيرًا، عن الدول الخليجية المناهضة لثورات الربيع العربي وموقف الرئيس، قيس سعيد، منها وموقفها منه، قال إبراهيم: إن على تلك الدول أن تؤمن بأنَّ ثورةً وقعت في تونس، وعليها أن تتعامل معها على هذه القاعدة، فإن اقتنعت بها -والكلام لإبراهيم- يمكن أن يكون بينها وبين تونس نوع من العلاقة العقلانية.

سؤال الحكومة

واختتمت الندوة حواراتها بالمحور الثالث والأخير المتعلق بطبيعة الحكومة القادمة والمعوقات التي يمكن أن تُعوِّق تشكيلها وما قد ينجم عن ذلك. وفي هذا الصدد، اتفق المتحدثون على أن الطبقة السياسية التونسية لا تريد الذهاب إلى انتخابات تشريعية ثانية حال الفشل في تشكيل الحكومة، لذلك فإنهم يستبعدون عدم التوصل إلى تآلف وتوافق في اللحظات الأخيرة. 

وفي هذا الإطار، قال أحمد إدريس: إن البرلمان سوف يعطي الثقة لحكومة النهضة لأن الجميع ليس مستعدًّا للذهاب إلى انتخابات ثانية تستنزف وقتًا وجهدًا ومالًا. 

وقد وافقه في هذا الرأي فتحي الجراي، وأشار إلى أن قوة النهضة -الحزب الفائز بالمركز الأول في الانتخابات التشريعية- تكمن في قدرتها على التنازل وإنتاج الحلول التوافقية مع الشركاء والخصوم، وإن كان هذا لا يرضى خزَّانها الانتخابي. وأوضح أن النهضة بدأت بالفعل في مخاطبة بعض الأحزاب وسوف يوجدون الحل في ائتلاف بكثير من التنازلات، وإنه يستبشر خيرًا بهذه الحكومة التوافقية بشرط أن يتم اختيار وزرائها على قاعدة الكفاءة والنزاهة، وأن يكون الفريق الحكومي متجانسًا، ويعمل ضمن مشروع وطني يشتغلون عليه ويحاسبهم الناخب في النهاية وفقًا له. وأكد الجراي أن المطروح ليس حكومة تكنوقراط وإنما حكومة إنقاذ وطني، وأنَّ من الضروري أن تكون السلطة القضائية قوية لحسم قضايا الفساد المعروضة عليها. 

ولم تبتعد كثيرًا مبروكة خضير عن هذا الطرح، غير أنها أشارت إلى أنه من المبكر الحكم على الرئيس الحالي، وأن أولى المهام التي تنتظره هي تكليف الحزب الفائز -النهضة- بتشكيل الحكومة، وأنها لا تتوقع صعوبة في أن تحظى بثقة البرلمان، وأكدت على أهمية وجود برنامج حكومي واضح لتحقيق النجاح في الملفات الكثيرة العالقة. 

أمَّا لطفي حجي، فعاد إلى التأكيد على خطورة التدخلات الخارجية وأثرها في عمل الحكومة سواء من ناحية التشكل أو الأداء، وقال: يجب ألَّا يخفى على أحد لدى عامة الشعب أن هناك تدخلات خليجية، فثمة دول تدعم التجربة الديمقراطية التونسية قولًا وعملًا، ودول أخرى تعمل بكل الوسائل لإفسادها وتعطيلها، وكذلك الأمر بالنسبة لبعض الدول الإقليمية والغربية التي في العلن تساند التجربة الديمقراطية لكنها تتحرك في الخفاء لتعطيل هذه التجربة ولفرض أطراف دون غيرها أو فرض نمط مجتمعي دون غيره، لهذا أتمنى -والكلام لحجي- على السياسيين الجدد تسمية الأشياء بأسمائها أمام الرأي العام ليكون على بيِّنة.

عن أهمية البرنامج الحكومي المتفق عليه، قال حجي: إنه لابد أن يكون لدى هذه الحكومة برنامج وخارطة طريق يحاسبها الناخب عليها لأنه (الناخب) أصبح يقول بلسان الحال: كفاكم أيديولوجيات. واختتم مداخلته بالقول: نحن الآن أمام فرصة يمكن بها أن تكون هذه الفسيفساء الظاهرة في المشهد السياسي التونسي عنصر دعم لتكوين تلك الكتلة التاريخية التي تتفق على مجموعة من المبادئ وتطبقها. 

وأخيرًا، أشار سامي إبراهيم في مداخلته، التي كانت ختام الندوة، إلى أن ثمة صيغتين أو نهجين ملاحظين في الحديث عن تشكيل الحكومة؛ الأول يذهب نحو التعاقد على تقسيم الأعباء والمنافع، والثاني لسان حاله يقول: اذهب أنت وربك فقاتلا؛ إنَّا هاهنا قاعدون. وكأن وجوده مشروط بنفي وجود الآخر. ولذلك -والكلام لإبراهيم- فإنه من المهم إنجاز مطالب الشعب في المسألة الاقتصادية والاجتماعية، وإن على الحكومة، لتحقيق ذلك، ألَّا تكون فقط حكومة إنقاذ وإنما حكومة طوارئ.