الإسلاميون والاستعداد لمواجهة الحراك المضاد للثورة

c51421b71c6f495596ce645731568fea_18.jpg
كلمة علي يوسف السند، أكاديمي من الكويت (الجزيرة)

أحدثت "الثورة المضادة" حالة من الارتباك لدى القوى الإسلامية، فلم يكن التعامل مع مثل هذه الوقائع مطروحًا بشكل كبير في أدبياتهم وتنظيراتهم، فقد اهتم الفكر الإسلامي المعاصر في شقِّه السياسي بمحاولات أسلمة الدولة الحديثة، فانصبَّ جُل اهتمامه على كيفية إضفاء الصبغة الشرعية على هذا الكيان الجديد نسبيًّا، ومعالجة إشكالياته التي قد تتصادم مع التصور الإسلامي العام، لذلك توجه اهتمام الإسلاميين إلى قضايا مثل: تطبيق الشريعة، وكيفية التعامل مع الأقليات، وحكم العمل الحزبي، وإقامة الأحزاب، وتعديل المواد الدستورية لتتوافق مع الشريعة، ومسألة المواطنة، فكان ذلك جل اهتمامهم. 

جاءت موجة الربيع العربي وطرحت تلك الإشكاليات، وتم التعامل معها بشكل ما، ولكن عندما جاء الحراك المضاد للثورة كان حدثًا مفاجئًا، ولم يجد الإسلاميون مكانًا لها في تنظيراتهم وخطاباتهم أو حتى تفكيرهم، فلم تكن هناك سيناريوهات معدَّة مسبقًا تطرح هذا الاحتمال، وتجعله في دائرة التفكير والتنظير؛ مما كشف عجز التيارات الإسلامية عن امتلاك أدوات إعلامية فاعلة تعرض مشروعهم السياسي، أو ترد على ما يثار حولهم، أو تواجه الدعاية السوداء الموجهة ضدهم، أو ترتقي بالوعي الجماهيري، أو تستثمر الزخم الثوري الذى واكب ثورات الربيع العربي! 

قد يكون المأزق الواقعي الذي وقعت فيه القوى الإسلامية نتيجة "الثورة المضادة" راجعًا إلى فقر تراثهم التنظيري في هذه القضية المسكوت عنها لديهم، بل إنهم قد يصطدمون بتراث فقهي يتم توظيفه لصالح "الثورة المضادة"، هذا التراث يتحدث عن مشروعية حُكم المتغلب، والخوف من الفتنة وفضيلة اعتزالها، وكراهة طلب الولاية والإمارة، وبصرف النظر عن المغالطات التي تكتنف توظيف تلك المفاهيم فإن الإسلاميين لم يُحسنوا معالجتها وإنزالها في محلها المناسب. 

نتيجة لعدم الاستعداد "للثورة المضادة" فقد تباينت ردود فعل الإسلاميين عليها، وربما يرجع هذا التباين إلى الاختلاف في مستويات وأدوات "الثورة المضادة"، ومدى عنفها، واستعداد البيئة وتوافر الحاضنة الاجتماعية واستعدادها، ومن هنا يمكن تقسيم الإسلاميين في التعامل مع "الثورة المضادة" إلى عدَّة أنواع: 

الأول: مارس نوعًا من الانكفاء على الذات واستحضار خطاب البدايات، وتمثَّل ذلك في العودة إلى أدبيات ومصطلحات "سيد قطب"، وما قد يُبنى عليها أحيانًا من ممارسة أو تعاطف مع العنف تجاه النظام القائم، وبروز نبرات التكفير. 

الثاني: الإصرار على السلمية رغم بطش النظام وممارسته الإقصاء بأعلى درجاته، كما هو الواقع المصري، حيث بذل النظام جهدًا في محاولات جرِّ الإخوان المسلمين إلى خيار العنف، فلجأ إلى التصفيات الجسدية للقيادات، والخطف القسري، والاغتصاب المسكوت عنه، والاعتداءات الجسدية، والانتهاكات الوحشية والمثبتة في تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية. ولا شك أن خيار السلمية كان استراتيجيًّا بالنسبة للجماعة؛ حيث حرصت على تأكيده كثيرًا في بياناتها، وكان سببًا في إحداث شروخ داخلية في الجماعة. 

الثالث: محاولة التعايش مع النظام السابق وبناء نوع من الشراكات معه، وهنا ينصرف الذهن مباشرة إلى التجربة التونسية، وبالأخص حركة النهضة، والتي لو لم تكن في ظل أجواء "الثورة المضادة" لربما اعتبرها الكثيرون مُغرِقة في التسامح أو التنازل، ولكن سياقات الأحداث تفرض تقييمًا مختلفًا. 

الرابع: اتجاه إسلامي مساند للقوى "المضادة للثورة"، يوفِّر لها الغطاء الشرعي، وهذا الاتجاه ينقسم إلى:

  • اتجاه سلفي (جامي)(1).
  • اتجاه صوفي أشعري. 

وقد فشلت القوى "المضادة للثورة" في تقديم التيار السلفي كبديل عن تيار الإخوان المسلمين في الكثير من دول الربيع العربي؛ لذا كان الاتجاه الأخير لمحاولة إبراز الحالة الصوفية، وتقديمها للعالم الإسلامي على أنها الممثِّل الوحيد لأهل السُّنَّة والجماعة، وظهر ذلك مؤخرًا بشكل واضح وعلني في مؤتمر الشيشان(2). 

الخامس: تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولا يمكن اعتباره أحد المواقف الإسلامية من "الثورة المضادة"، بل هو أحد أهم أدوات "الثورة المضادة"، فإذا كانت أنظمة "الثورة المضادة" تقف ضد تطلعات الشعوب العربية للحرية، فإن "داعش" هي خير من يعينهم في هذا السعي، ويضاف إليه الطابع الشرعي. لقد قضت "داعش" على سعي الشعوب للتحرر، فقد تم توظيف صورتها وجرائمها في تعزيز وجود أنظمة ما قبل الربيع، وذلك باعتبار أن بروز "داعش" هو ثمرة لسقوط الأنظمة، فكل شعب سيسعى للتحرر من نظامه المستبد فإنه سيُبتلى بظهور حركات شبيهة "بداعش"، وتم العمل على تسويق هذه الفكرة، وزرعها في أذهان الناس، بينما في حقيقة الأمر أن "داعش" نشأت في ظل "الاحتلال الأميركي" للعراق، وانتعشت في ظل بطش أنظمة "الثورة المضادة"، فهي الابن الشرعي للاحتلال والاستبداد! 

مفاهيم لم تنضج 

 لقد وجد الإسلاميون أنفسهم أمام واقع جديد يتحتم عليهم أن يعالجوه مفاهيميًّا، وأن تتجه إليه أبحاثهم وتنظيراتهم في الفترة القادمة، فإن كانت "للثورة المضادة" من نقطه بيضاء في واقعها المعتم فهو أنها قد تعطي فرصة لتسليط الضوء على مناطق في الفكر الإسلامي السياسي المعاصر لم تأخذ حظها من الأضواء، وبذلك تنقلها إلى دائرة الاهتمام عند الإسلاميين، ومن هذه المفاهيم والقضايا:

  1. مفهوم الشرعية: في الأدبيات الإسلامية الأولى كان التركيز كبيرًا على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر الشرعية الرئيسي، ويتوارى الحديث عن مدى شرعية قيام نظام انقلابي بتطبيق الشريعة، بحيث لو كُنَّا أمام نظامين أحدهما جاء عن طريق انقلاب عسكري، لكنه أقام جزءًا كبيرًا من الشريعة الإسلامية، وساند قضايا الأمة، ونظام آخر علماني جاء بإرادة الأمة واختيارها، فأيهما الأولى بامتلاك وصف الشرعية؟ ثم وجدنا واقعًا جديدًا يتحدث عن الشرعية الثورية، أو شرعية الميدان وبعد الانقلاب صار الحديث عن شرعية الصناديق، هذا التحول في استعمال مفهوم الشرعية بحاجة إلى رصد وتحليل.
  2. مفهوم القوة: من الواضح أن الإسلاميين قد ركزوا جهدهم ونشطوا في مجال واحد من مجالات القوة، وهو القوة الشعبية المجتمعية التي غالبًا ما تنعكس على صناديق الانتخابات(3)، والتي يكون للإسلاميين نصيب وافر منها، وذلك راجع إلى مجال اهتمامهم والذي يتركز في المساجد والتعليم والعمل الخيري والاجتماعي، لكن هناك مكامن قوة أخرى لها القدر الأكبر في تغيير المعادلات وترجيح موازين القوى، مثل: الأجهزة العسكرية المختلفة (جيش/شرطة/مباحث/أمن دولة/استخبارات) ورؤوس الأموال، وصناعة الإعلام، والعلاقات الخارجية القوية مع المنظمات الدولية، فهذه كلها مصادر قوة تثبت قدرتها على ترجيح كفة الصراع، ومن الملاحظ غياب واضح للإسلاميين عنها واقعًا وتنظيرًا، فهي خارج دائرة الاهتمام، لذلك على القوى الإسلامية أن تعيد تقييمها لمكامن القوة في الدولة والمجتمع، وما يتبع ذلك من إعادة تموضع حسب ذلك التقييم، بعدما ثبت أن العالم يحترم ويعترف بمن يمتلك تلك القوة.
  3. مفهوم السلمية واستعمال القوة في التغيير: هل السلمية تعتبر مبدأ للتغيير في كل الأحوال؟ وما حدودها؟ في سوريا وليبيا خرجت الثورة عن سلميتها بسبب إفراط النظام في استعمال القوة لمواجهة المطالبة بالتغيير، أما في مصر فما زالوا متمسكين بشعار "سلميتنا أقوى من الرصاص" وهذا يدل على أن التيارات الإسلامية لم تحسم خياراتها في مسألة السلمية.
  4. العدالة الانتقالية: وهو الموضوع الذي لم تتشكَّل له صورة واضحة في خطاب القوى الإسلامية، وهذا ما قد يكون أسهم بشكل أو آخر في عودة النظام القديم في مصر وربما تونس. 

الآفاق المحتملة 

بناء على المواقف المتباينة للإسلاميين من "الثورة المضادة"، فإن ذلك سينعكس على الآفاق المحتملة، لمختلف التيارات الإسلامية: 

أولًا: السلفيون

على صعيد التيارات السلفية فمن المتوقع أن ينحسر مدُّها وانتشارها، وذلك لعدة أسباب:

الأول: راجع إلى طبيعة الاتجاه السلفي القابل للانشطار نتيجة نزعة المفاصلة والحرص على صفاء المنهج، وقدرته على إرجاع غالب القضايا إلى أصول عقدية تكون معقدًا للولاء والبراء. 

الثاني: أن داعش والتنظيمات الجهادية ذات النزعة التكفيرية، يستندون على الأدبيات السلفية، ويستقون من تراثها، ويشيدون بنيانهم على مقولاتها، وبالتالي فإن جزءًا من الواقع الدموي الذي تعيشه المنطقة قد صُبغ بألوان سلفية. 

الثالث: وقوف فصيل من السلفيين مع "الثورة المضادة"، مستصحبين مقولات السمع والطاعة لولي الأمر، وشرعية حكم المتغلب، وتجنب الفتنة. 

الرابع: هناك مراجعات سلفية حادَّة ذات اتجاهين:

  1.  من داخل الصف السلفي: فمع الانفتاح الاعلامي والثورة المعلوماتية تعرَّض الكثير من المقولات السلفية إلى مراجعات قسرية فرضها الانفتاح.
  2. من الكيانات السياسية الرسمية الراعية للسلفية بصورتها التقليدية. 

ثانيًا: الإخوان المسلمون

سيتعزز الفصل بين العمل السياسي والعمل الدعوي لديهم؛ مما سيعطي فرصة أكبر للشق السياسي للانطلاق في الممارسة السياسية المتخففة من أعباء وقيود الجانب الدعوي، وربما يسهم ذلك في إبداء نوع من المرونة تجاه "القوى المضادة للثورة"، وقد تشهد الجماعة نوعًا من الهدوء والاستقرار النسبي -وخصوصًا في مصر- بعد الإعلان عن التئام قيادتها، وإجراء انتخابات على مستوى جميع هياكلها، وامتصاصها للضربات، مما يتيح لها فرصة إجراء مراجعات قد ترسم أدوارًا جديدة للجماعة في المستقبل. 

ثالثًا: تنظيم داعش

سيبقى تنظيم داعش متواجدًا في المشهد السياسي وقادرًا على الفعل كجهاز وظيفي وفزاعة للتخويف من الحالة الإسلامية برمتها، ومبرِّرًا دوليًّا للحرب على الإرهاب، حتى يتم التوافق على التشكُّل الجديد الذى تريده الدول الكبرى للشرق الأوسط، ثم يصبح مصيره كالقاعدة أو طالبان في أفغانستان وباكستان. 

رابعًا: التغيير الفكري

أما على صعيد الأفكار، فمن المتوقع أن يعود الجدل حول فكرة الدولة القُطرية، أو الدولة الحديثة، ومدى صلاحيتها لأن تكون وعاء للمشروع الإسلامي، باعتبار الدولة الحديثة مصادمة للتصور العام للإسلام كما يرى بعض الباحثين(4). وهذا الجدل قد يهز العديد من الأفكار التي تقوم عليها التيارات الإسلامية مثل فكرة الحاكمية، وتطبيق الشريعة، وأسلمة الدولة؛ حيث يدل سلوك وتنظير أغلب الإسلاميين على استبطان قناعة مفادها أن الدولة الحديثة أمر مكتمل ومفروغ منه ومسلَّم به وصالح لكل زمان ومكان، ويستبعد تاريخية الدولة، بمعنى أنها منتج شكَّلته سياقات تاريخية محددة، ويعزِّز هذا التوقع ما تشهده المنطقة من إعادة تشكل ورسم خريطة جديدة، مما يجعل موضوع الدولة القطرية محل مراجعة دائمة. 

خاتمة 

رغم وصول الإسلاميين إلى مشارف الحكم، إلا أن الكثير منهم ما زال بعيدًا عن استشراف المستقبل بحِرفية، وبناء استراتيجيات طويلة، بناء على دراسة الواقع وفهمه، ووضع الخطط بناء على تلك الدراسة، للخروج من موقع المنفعل، إلى موقع الفاعل وصانع الحدث. 

من أجل ذلك يتحتم على القوى الإسلامية بناء مراكز دراسات وبحوث حقيقية وجادة، تعمل على توجيه الساسة والعاملين في الحقل السياسي، وتكون وظيفتها رصد المجتمع وتحولاته، ورصد الواقع السياسي وتبدلاته، ووضع السيناريوهات، وبناء المواقف وتقديرها، وتحليل الأحداث، لا أن تتحول إلى غطاء تبريري لعمل الأحزاب السياسية.

_______________________

علي يوسف السند - أكاديمي من الكويت

 

الإحالات

1- نسبة إلى الجامية وهو اسم أُطلق على تيار ديني عُرف بموالاته للحكومات وتبرير أفعالها، وعدائه لتيارات الإسلام السياسي.

2- مؤتمر عُقد في أواخر أغسطس/آب 2016، في العاصمة الشيشانية غروزني، وبمشاركة مندوب روسيا الاتحادية الذي ألقى كلمة في افتتاح المؤتمر، وقد حمل المؤتمر عنوان "مَنْ هم أهل السنَّة والجماعة؟"، وقد استثنى بيان المؤتمر التيار السلفي، والجماعات الإسلامية الأخرى من مصطلح أهل السنة والجماعة؛ مما أثار ردود أفعال غاضبة، علاوة على مكان انعقاده، في دولة تابعة لروسيا، وقد تزامن انعقاد المؤتمر مع القصف الروسي الكثيف لمناطق آمنة في سوريا مثل حلب.

3- المجالس المنتخبة في العالم العربي ذات تأثير محدود، ولا يمكن اعتبارها مؤثِّرة بقوة في القرار.

4- انظر: الدولة المستحيلة، وائل حلاق؛ حيث يرى وجود تناقض داخلي بين مفهوم الدولة الإسلامية، مع مفهوم الدولة الحديثة الذي يتضمن خللًا أخلاقيًّا في بِنيته، يجعل من المستحيل الجمع بينهما في كيان سياسي واحد.