الإعلام الجديد حدَّ من قدرة الأنظمة السلطوية على توجيه الرأي العام

المشاركون في الندوة من اليمين: نوَّاف التميمي، لقاء مكي، محمد قيراط، ميادة عبده.

خلصت ندوة حوارية نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات، أمس السبت، 11 يناير/كانون الثاني 2020، بالعاصمة القطرية، الدوحة، تحت عنوان "دور الإعلام في تشكيل التمثُّلات واصطناع الواقع"، إلى أنَّ قبضة السلطات في الدول الشمولية على الإعلام لم تعد قوية ولا سهلة كما كانت الحال في الماضي، وذلك بفضل وسائل الإعلام الجديد، وبخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، التي جعلت من المستخدم مرسِلًا ومستقبِلًا في الوقت ذاته.

وأكدت الندوة على دور المناخ الديمقراطي في نزاهة ما يقدمه الإعلام، وقدرة آليات النظم الديمقراطية على تبديد الإشاعات وكشف الحقائق سريعًا.

وأشارت إلى أنَّ الأنظمة السلطوية باتت تلجأ إلى حيل وأساليب جديدة لتمييع القضايا المهمة المفترض أن تشغل الرأي العام، وخلق واقع جديد يخدم مصالحها، منه: شراء ذمم بعض الكُتَّاب، وتنظيم ندوات ومؤتمرات موجَّهة، وصرف أموال طائلة على وكالات دعاية وتكليفها بشيطنة الخصوم السياسيين، وتلميع صورة تلك الأنظمة التي تدفع لها.

وكانت الندوة سابقة الذكر قد انعقدت ضمن فعاليات معرض الدوحة الدولي للكتاب، الذي بدأت فعالياته في العاصمة القطرية، الخميس الماضي، 9 يناير/كانون الثاني الجاري، وشارك فيها: الدكتور نوَّاف التميمي، أستاذ الإعلام في معهد الدوحة للدراسات العليا، والدكتور محمد قيراط، أستاذ العلاقات العامة والاتصال الجماهيري بجامعة قطر، والدكتور لقاء مكي، الباحث الأول في مركز الجزيرة للدراسات وأستاذ الإعلام سابقًا في جامعة بغداد، وأدارتها الإعلامية، ميادة عبده، المذيعة في قناة الجزيرة.

الإعلام جزء من النظام السياسي والاقتصادي

وفي بداية الندوة، تحدَّث الدكتور محمد قيراط فأشار إلى أنَّ ظاهرة اصطناع الوقائع وتلوين الحقائق ظاهرة قديمة، وأنَّ مؤسسات الاعلام إنما هي مؤسسات فرعية لنظم سياسية واقتصادية، لكلٍّ منها أيديولوجيتها ومناخها الثقافي والاجتماعي والسياسي والديني الذي تعمل فيه، وحينما تكون هناك أزمة أو صراع -يضيف قيراط- تُقدِّمَه وسائل الإعلام هذه من زاويتها ووفق رؤيتها وأجندتها الخاصة، وهذا هو سبب ما نراه من فارق حينما نتابع -مثلًا- تغطية وقائع الحرب السورية على وسائل إعلام حكومية وبين تغطيتها في وسائل إعلام أخرى.

وعن الطرق الجديدة للأنظمة السلطوية في تلوين الحقائق واصطناعها من أجل التأثير على الرأي العام المحلي والعالمي وتضليله، أشار قيراط إلى جملة من هذه الأساليب، منها: تأجير الأقلام، وشراء الذمم، وإنفاق مئات الملايين من الدولارات على وكالات علاقات عامة لشيطنة دول وخصوم سياسيين، وفبركة ندوات ومؤتمرات للوصول إلى ذات الهدف، وأحيانًا -والكلام لا يزال لقيراط- يتم تضليل الرأي العام عن طريق تنظيم مظاهرات مفبركة ومدفوعة الأجر وموجَّهة.

وذكَّرَ قيراط الحضور بأكذوبة الإدارة الأميركية في عهد جورج بوش الابن المتعلقة بوجود أسلحة دمار شامل لدى العراق واتخاذها ذلك ذريعةً لاحتلاله، وقد رددت وسائل إعلام أميركية كبرى هذه الأكذوبة ثم تبيَّن لاحقًا فبركتها.

الإعلام الجديد والوعي الفردي والمجتمعي

من جانبه، اختار الدكتور نوَّاف التميمي أن يتناول في مداخلته دور الإعلام الجديد وعلاقته بزيادة الوعي الفردي والمجتمعي، فأشار في هذا الصدد إلى أنَّ الحكومات السلطوية، حتى عهد قريب، كانت تسيطر سيطرة تامة أو شبه تامة على وسائل الإعلام، وكانت توجِّه الرأي العام وفق ما تريد، فلا يستطيع المجتمع معرفة وجهات النظر الأخرى في ظل احتكار وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، أما الآن -يضيف التميمي- وفي ظل الإعلام الجديد، وبخاصة مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب وغيرها، فإنَّ السلطة لم يعد بمقدورها السيطرة الكاملة على الرأي العام ولا هندسته كما كانت تفعل في الماضي، وإزاء هذا التحدي بتنا نشهد طرقًا مستحدثةً تتبعها تلك الأنظمة لإعادة تَحكُّمها في الرأي العام، من ذلك: فرض قوانين مشددة تحت عنوان الجرائم الإليكترونية، وأيضًا عبر "تمييع المجال العام" من خلال الإكثار من القنوات الفضائية التي زادت في المنطقة العربية عن ثلاثمئة قناة، وكذلك عن طريق إغراق الفضاء العام بالأخبار والقضايا والموضوعات الثانوية والسطحية وشغل الناس بها، ولجوء السلطات كذلك إلى الاستعانة "بالمؤثِّرين" من المشاهير الذي يسوِّقون الرأي إلى مناطق غير ذات أهمية، ويصطنعون واقعًا مخالفًا للواقع الحقيقي، ثم بعد ذلك كله يأتي دور العصا والجزرة؛ الترغيب والترهيب، لمن يأبى ويتمنَّع.

واختتم التميمي مداخلته بالإشارة إلى ما أسماه "دوَّامة الصمت"، ويقصد بها تلك الحالة التي تنتاب مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي حينما يكون لديهم وجهات نظر مخالفة للتيار السائد، فيميلون إلى الصمت إيثارًا للسلامة، والحقيقة -يقول التميمي- أنَّ عبارة "التيار السائد" هذه إنما هي مفتعلة، ولا تعبِّر عن الرأي العام الحقيقي، لأنَّ الذي صنعها هو الجيوش الإلكترونية وما يسمى بالذباب الإلكتروني التابع للسلطة، والذي يهدف إلى إيجاد حالة يسود فيها رأي عام مصطنع، ومفبرك، قد تمَّت تهيئته وهندسته.

تغيُّر عملية الاتصال

وعن خطورة ظاهرة اصطناع الوقائع على الرأي العام، قال الدكتور لقاء: إنَّ ذلك كان سهلًا نوعًا ما في الماضي، حينما كانت وسائل الإعلام محتَكَرة، وكان الجمهور متلقيًا فقط، بينما الآن، وفي ظل الإعلام الجديد، فإنَّ عملية الاتصال لم تعد خطية أحادية (مرسِل يوجه رسالة إلى مستقبِل) وإنما باتت "دائرة اتصالية"، فالمرسل متلقٍّ والمتلقي مرسلٌ في ذات الوقت، وفي عملية "تفاعلية".

وأشار مكي في مداخلته كذلك إلى أثر التكنولوجيا الحديثة في كثرة وسائل الإعلام وما نجم عن ذلك من صعوبة بات المتلقي يواجهها في معرفة اتجاه هذه الوسيلة أو تلك، وتحديد من يقف وراءها، ومن يمولها، وما أجندتها.. ومن هنا - كما يقول- كثرت الشائعات والأخبار الكاذبة مجهولة المصدر التي لم تعد قاصرةً فقط على الأنظمة والجماعات والأحزاب، كما كانت الحال في الماضي، وإنما أصبح بإمكان الفرد ذاته، مدفوعًا بأيديولوجيته الدينية والسياسية، القيام بتصدير الشائعات، مستغلًّا حالة الغموض، وندرة المعلومات، وأهمية الموضوع المطروح بالنسبة للمتلقي. غير أن هذه القدرة تقل إلى أدنى مستوياتها في ظل أنظمة الحكم الديمقراطية التي تعتمد مبدأ الشفافية، وتنظِّم الحصول على المعلومات وكيفية تداولها بقانون، والتي تعتبر الرأي العام سلطة رابعة، وهنا -يختم مكي- حتى وإنْ راجت إشاعة فإنها سرعان ما تتبدَّد في ظل مبادرة وسائل الإعلام الحرة لكشف الحقيقة.