الانتقال الديمقراطي: قراءة في تجربة مصرية جديدة

لم تكن ثورة الخامس والعشرين من يناير أول ثورة مصرية تثير قضية الديمقراطية، وقد لا تكون الأخيرة. فقد حاولت قوى سياسية واجتماعية مصرية في أكثر من مرة أن تنجز تجربة متكاملة للتحول الديمقراطــي، إلا أن محاولاتـها لم تكتمل لدواع مختلفة.
20131241146196734_2.jpg

مفاتيح وسدود

لم تكن ثورة الخامس والعشرين من يناير أول ثورة مصرية تثير قضية الديمقراطية، وقد لا تكون الأخيرة. فقد حاولت قوى سياسية واجتماعية مصرية في أكثر من مرة أن تنجز تجربة متكاملة للتحول الديمقراطــي، إلا أن محاولاتـها لم تكتمل لدواع مختلفة.

 كانت المقدمات كل مرة تبشر بأن مصر ربما امتلكت المفاتيح اللازمة لفك شفرة الاستعصاء الديمقراطي، لكن المسار سرعان ما كان يتعقد لتظهر عوائق أشبه بسدود وقفت حائلاً أمام انضمام مصر إلى مجموعة الديمقراطيات الحديثة.

فالثورة العرابية استهلها الجيش في فبراير/شباط 1881 ثم اكتملت في سبتمبر/أيلول من نفس العام بمشاركة كافة فئات المجتمع احتجاجا على سوء الأحوال المعيشية وتنديدا بالتدخل الأجنبي. وطرحت تلك الثورة على الخديوي مطالب محددة من بينها مطلب ديمقراطي صريح هو تشكيل مجلس شورى للنواب على غرار الديمقراطيات الأوروبية. لكن سرعان ما جثم الاحتلال البريطاني على مصر بعد أقل من عام ليفرض على المصريين الاهتمام لفترة طويلة بقضية الاستقلال وتقديمها على قضية الإصلاح السياسي.

 ثم جاءت ثورة 1919 لتتصدى للاحتلال، وأسفرت جهودها بعد ثلاث سنوات عن إلغاء الحماية البريطانية، الأمر الذي شجع المصريين على الضغط من أجل بناء دولة ديمقراطية حديثة، وهو ما تجسد في وضع دستور 1923 الذي دشن حتى 1952 أكثر مراحل مصر الحديثة اقترابا من الممارسة الديمقراطية.

غير أن هذه الفترة شابها عيوب أبرزها تفشي مظاهر الظلم الاجتماعي. تلك المظاهر التي حاولت حركة الضباط في 1952 التصدي لها. لكن العسكر لم ينسوا في بداية حركتهم مسألة الديمقراطية، فمن بين المبادئ الستة التي تعهدوا بتحقيقها كان مبدأ إقامة حياة ديمقراطية سليمة. لكن ثلاثة عوامل جعلت الانتقال الديمقراطي من 1952 وحتى 2011 متعثرا، أولها أن العسكر بطبعهم لا يرحبون بالديمقراطية، والثاني انحياز ثورة 1952 وحتى عام 1970 إلى العدالة الاجتماعية على حساب الحرية السياسية، والثالث الدخول في مغامرات خارجية بررت تعطيل الديمقراطية. ومع أن نظامي السادات ومبارك أعطيا الأمل مع بدايتهما في إمكانية الانتقال إلى الديمقراطية إلا أن الخميرة الفكرية للرجلين وشبكات المصالح الداخلية التي اعتمدا عليها والتحالفات الخارجية التي ارتبطا بها تفاعلت مع بعضها فأحبطت الأمل في إنجاز أي تحول ديمقراطي حقيقي في عهدهما.

ولما وقعت ثورة 2011 بدا أن مصر أمام مرحلة سياسية تختلف عن كل ما سبقها. لكن عامين من الثورة كشفا عن أن الانتقال إلى الديمقراطية قد لا يسير بشكل أفضل عما سارت عليه الأمور من قبل. فالثورة أنجزت أشياء وعجزت عن إنجاز أشياء أخرى. فقد نقلت الحكم من العسكريين إلى المدنيين. وأخرجت المضطهدين سياسيا إلى السطح بل ومكنتهم من تقلد المسؤولية. وخلقت حالة حراك سياسي كبيرة نقلت قطاعات كبيرة من المصريين من الاهتمام بحياتهم الخاصة إلى الاهتمام بالحيز العام.

لكن التجربة تقف عند مفترق طرق، وأمامها فرص كبيرة وتواجهها تحديات هائلة. هي تجربة، أو بالأحرى عملية، بدأت ولا يعرف أحد متى أو كيف ستنتهي، تجري في طريق تظلله آمال وتحفه عقبات. آمال ما زالت تلوح بقدرة مصر على كسر هذه المرة الحلقة المفرغة لتصبح دولة ديمقراطية، وعقبات قد تؤخر التحول الديمقراطي طويلا أو تجعله إن ولد يولد مشوها.

وتحاول هذه القراءة تقييم هذه العملية برصد الفرص التي تساندها والأغلال التي تعوقها. وكأي تجربة ديمقراطية فإن تقييم التقدم والتراجع في الحالة المصرية يعتمد على ثلاث مجموعات من المعايير: أ) استيفاء الجانب المؤسسي أو الأبنية الديمقراطية، ب) احترام الجانب الإجرائي بالتطبيق المحايد لآليات الديمقراطية، ج) تطوير الجانب الثقافي بنشر القيم الديمقراطية على مستوى النخبة والقوى السياسية وفي علاقة الدولة والمجتمع.

فالديمقراطية بإيجاز حاصل جمع: أ) أبنية (دستور، برلمان، أحزاب، سلطات عامة متمايزة الأدوار، مؤسسات إعلامية حرة، منظمات مجتمع مدني مستقلة، محاكم...إلخ). ب) آليات تنظم وتضمن عمل هذه الأبنية (انتخابات، استفتاءات، قواعد لفض المنازعات، ضوابط مقررة لتداول السلطة، وحدود زمنية لشغل الوظائف العامة...إلخ). ج) وهو الأهم، حالة ذهنية أو أسلوب حياة تلزم المرء بالتصرف وفق قيم لا يستطيع أن ينتهكها ليس فقط للعقوبات التي قد تقع عليه لو خالف النظام العام ولكن لقناعته والتزامه الأخلاقي بتلك القيم ومن بينها (القبول بالهزيمة، الفهم النسبي وليس المطلق للحقائق، التسامح، المساواة، القبول بالآخر، نبذ العنف...إلخ). 

وفي هذه المجالات الثلاثة تبدو التجربة المصرية برغم تقدم حققته محفوفة بظلال كثيفة من الشك في قدرتها على الوصول بالانتقال الديمقراطي إلى نقطة اللاعودة democratic irreversibility . ففي أية تجربة انتقالية توجد احتمالات لحدوث انتكاسة ديمقراطية لا تقل بحال من الأحوال عن احتمالات تحقيق انتعاشة ديمقراطية. وفي هذه القراءة وقفتان: الأولى مع أبرز ما تحقق بعد عامين من تقدم على طريق الانتقال الديمقراطي، والثانية مع أهم المعوقات التي تعترض التجربة. وعلى ضوء هاتين الوقفتين تنتهي المقاربة بإشارة إلى ظلال الريبة  التي ما تزال تلقي بنفسها على المآل الذي يمكن أن تنتهي إليه هذا التجربة.

الوعود والآمال

خمسة مكتسبات يمكن تسجيلها للمحاولة المصرية الجديدة على طريق الانتقال الديمقراطي هي على النحو التالي:

1- كسر ثقافة الخوف
فالديمقراطية لا تنهض بمنظومة قيم تتملق الحاكم أو تخشى الحكم أو تتوارى عن المواجهة. ومنذ 2004 عندما تأسست حركة كفاية ثم مع الدور المتزايد لوسائل الإعلام المستقلة بدأ وعي المصريين يزداد ليتفاعل مع مظالمهم غير المحدودة مفجرا بعد سبع سنوات ثورة يناير. ولم تفلح محاولات إعادة بناء حاجز الخوف من جديد لا خلال المرحلة الانتقالية الأولى التي تولاها العسكر ولا المرحلة الانتقالية الثانية التي ارتفع فيها صوت تيار الإسلام السياسي. وإذا كان كسر ثقافة الخوف بدأ على يد أفراد أو مجموعات صغيرة مثل بعض الصحفيين والقضاة وأساتذة الجامعات، إلا أن مظهره القاطع تمثل في نزول المصريين باستمرار إلى الشارع والبقاء في الحيز العام سواء الإعلامي أو المكاني حيث يعزز التحام الفرد بالمجموع من شعوره بالثقة ويدفعه إلى ممارسة النقد علانية. وخلال عامين بدأت منظومة جديدة من القيم السياسية الجريئة تتكون. ومع أنها لم تكتمل بعد ومع أنها تشط أحيانا عن اللياقة إلا أنها تعتبر -لا سيما لدى شرائح الشباب- مكتسبا رئيسيا يجعل محاولات تطويع المصريين سياسيا من جديد أمرا صعبا ومكلفا.

2- إعادة التوازن إلى علاقة الدولة بالمجتمع
فمع كسر حاجز الخوف بدأت علاقة الدولة بالمجتمع تتغير وتستعيد بعض توازنها المفقود. صحيح أن التوازن المطلوب لم يكتمل بسبب حالة السيولة التي ما زالت تعيشها مصر، إلا أن علاقة الجانبين شهدت نقلة نوعية كسرت نمطية تاريخية تعاظمت في ظلها قوة الدولة، وانكفأ بسببها المجتمع. فالدولة المصرية النهرية المركزية فقدت منذ عقود بريقها عند المصريين، لكنها ظلت تتصرف مع المجتمع على أنه طيع في يدها بفضل ما لديها من فائض في أدوات القهر جعلتها تحاول تكريس إحساس المواطن إزاءها بالدونية والضعف. لكن المجتمع المصري تغير، فلعدة عقود وهو يعتمد على نفسه بعد أن تركته الدولة الرسمية دون أن تلبي له احتياجاته مما أضطره إلى تكوين دولة بديلة صنعها بنفسه كبرت بالتدريج لتتحدى دولة القهر الرسمية التي لم تشبع للمجتمع مطالبه. وأحد شروط الانتقال الديمقراطي أن تتحول الدولة من مؤسسة حابسة للمجتمع إلى مؤسسة حارسة له. فالدولة الديمقراطية وإن حافظت على وجودها ملموساً في المجتمع إلا أنها ليست مخولة باختراق تكويناته الأولية أو التلاعب بتفاعلاته التلقائية. وخلال العامين الماضيين وجدت الدولة المصرية نفسها أمام مجتمع مختلف بلغت به الجرأة أحياناً حد الانفلات. كما قبلت في تطور لافت للنظر أن يشكل المجتمع مؤسساته مثل الأحزاب والجمعيات والصحف بتلقائية تخالف كثيراً التعسف الذي كان يجرى من قبل. وبرغم محاولات جهاز الدولة استعادة هيمنته من جديد تحت غطاء استرداد هيبة الدولة إلا أن فئات واسعة من المجتمع المصري أظهرت نضوجاً ملحوظاً بتفرقتها بين هيبة الدولة وهيمنتها، حيث تطالب الدولة باستعادة هيبتها بالوقوف حكماً محايداً بين الجميع وترفض هيمنتها من خلال استحواذ تيار واحد فارضا نفسه على الجميع.

3- بدء تفكيك البنية العسكرية للسلطة
فرئيس الدولة وغالبية أعضاء التشكيلات الوزارية التي تعاقبت خلال العامين الماضيين، بالإضافة إلى معظم المحافظين ورؤساء الأجهزة القومية جرى تكليفهم من خارج صفوف القوات المسلحة. ساهم في ذلك أن المؤسسة العسكرية عجزت عن إدارة المرحلة الانتقالية ما سهل على القيادة المدنية المنتخبة إعادة تشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة وإجراء تغييرات في منظومة مؤسسة الدفاع. وما جرى إلى الآن ليس تفكيكا كاملا لبنية الهيمنة العسكرية على السياسة المصرية، لكنه تراجع مهم أكد وصول شرعية 1952 إلى نهايتها، وهو تحول تاريخي قد يفتح الباب لتطوير شرعية سياسة جديدة قوامها التداول السلمي للسلطة بين المدنيين، لو توافقوا.

4- ظهور نخب جديدة متمايزة
فعلى عكس النخبة القديمة التي جاء معظمها من التنظيم الطليعي خلال العهد الناصري، فإن ما جرى مع ثورة يناير يمثل قطيعة مع هذا المصدر. فقد ظهرت نخب سياسية إسلامية سبق قمعها، ونشطت عناصر من نخب المعارضة القديمة، كما ظهرت وجوه عائدة من الخارج. هذا التمايز النخبوي لم يكن فقط أيديولوجيا وإنما كان تمايزا في الخلفيات المهنية والمناطقية والموقف السياسي إزاء ترتيبات المرحلة الانتقالية. وبرغم حالة الاستقطاب التي وقعت فيها النخب الجديدة إلا أن تمايزها في المواقف يعتبر عاملا مساعدا في دفع الانتقال الديمقراطي. فليس مطلوبا في التحول الديمقراطي بناء نخبة متماسكة، وإنما يفيده أكثر أن تكون متنوعة. أضف إلى ذلك أن النخب الجديدة تمحورت حول كتلتين: التيار الإسلامي وجبهة الإنقاذ، وبرغم أن الأخيرة تضم أطيافا متنوعة، إلا أن حاجتها إلى بناء معارضة قوية استعداداً للانتخابات البرلمانية القادمة قد يساعد على ضمان درجة أعلى من نزاهة العملية الانتخابية وقد يكفل لها نسبة تمثيل برلمانية جيدة تعزز من توازن القوى على الساحة السياسية.

5- زيادة منسوب الممارسة السياسية
فخلال أربعة وعشرين شهرا خرج المصريون لممارسة السياسة بأشكال مختلفة، شملت التصويت في استفتاءين، وانتخاب مجلس للشعب وآخر للشورى، وجولتين لانتخابات الرئاسة، والترتيب بعد أسابيع قليلة للنزول مرة أخرى لانتخاب مجلس جديد للنواب. والممارسة الانتخابية جزء من المران الديمقراطي، من خلالها يتعرف المواطن على قيمة صوته ويصبح أكثر عرضة للتثقيف السياسي. كذلك ومن خلال الانضمام للأحزاب والمشاركة في التظاهرات وتنظيم الوقفات الاحتجاجية، وباتساع حجم المجتمع السياسي المصري في العالم الافتراضي تولدت مظاهر للحيوية السياسية تعبر عن اتساع الحيز العام وعودة المجتمع لموازنة الدولة. 

غير أن هذه المكتسبات الخمسة لا تكفي لتحقيق الانتقال الديمقراطي. فهناك مقومات أخرى لم تتوفر بعد، يمثل غيابها أغلالا قد تحد فرصة التجربة في النجاح.

القيود والأغلال

وهي عديدة يتمثل أهمها في التحديات التالية:

  1. إدارة الانتقال الديمقراطي بقوى سكونية: فالانتقال الديمقراطي فعل لا يقبل السكون، ولا يكتمل لو وقعت إدارته في يد قوى سكونية، لأنها بطبيعتها تتلكأ في تلبية شروط الانتقال الديمقراطي من قبيل تشارك المسؤولية وتداول السلطة والتسامح الواسع. فالقوى والمؤسسات السكونية لا تحب الحركة، وإنما تفضل الثبات، ولا تميل إلى التغيير وإنما الاستمرار، ولو اضطرتها الظروف إلى الحركة فتفضل أن تكون بطيئة، ولو استطاعت ستجعلها في وضع محلك سر. ولطبيعتها المحافظة، تعتبر قوى السكون العدو الصامت للتحول الديمقراطي، تدعي في العلن أنها مع الديمقراطية بينما تحاول في العمل أن تلجمها، تزعم أنها تريد للانتقال الديمقراطي أن ينطلق بسرعة، لكن ليس بسرعة الحركة kinetic speed وإنما بسرعة الثبات idle speed. وفي الحالة المصرية فإن قوى السكون أبرزها اثنتان: المؤسسة العسكرية والقوى الدينية، الأولى ما زالت حريصة على حماية مصالحها القديمة، والثانية باتت تحصد ثمارا أكبر مما قدمته للثورة فضلا عن أنها تضع شروطاً على الممارسة والحريات الديمقراطية تكاد تفرغها من محتواها.
  2. التخبط الإجرائي: وقد مثل وما زال يمثل عائقاً ملحوظا أمام انطلاق ديمقراطي آمن في مصر.  فمنذ إسقاط حسني مبارك وحتى إقرار دستور جديد والخلاف لم ينقطع بين التيارين المدني والديني حول إجراءات بناء النظام السياسي الجديد، بدأ بالجدل حول الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً وانتهى بتباين حول التصويت بنعم أم لا على الدستور. خلافات لم يتم إدارتها بطريقة مؤسسية وإنما اتسعت ليجري حسمها أحياناً بالضغط الميداني في الشوارع والساحات. وهذا ما اتضح مع إصدار الرئيس مرسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 إعلاناً دستورياً أثار لغطاً وتخبطاً وصل إلى اتهام الرئاسة بإهانة مؤسسات الدولة والاعتداء على السلطة القضائية. ويعود هذا التخبط إلى ثلاثة أسباب: أ) وعي مشوش بمنهجية الانتقال الديمقراطي ظهرت في الإغراق في كلام فضفاض عن الديمقراطية دون أن يقابله تصرفات مماثلة. ب) عدم التزام القيادة بوضوح بالقواعد الديمقراطية حيث لم يخف أن الرئيس مرسي حتى في مفردات خطابه السياسي كان يخاطب عشيرته وليس مجتمعه ناهيك عن إجراءات بدا فيها انحيازه للجماعة أكثر من المجتمع. ج) جهود كثيرة بذلتها القوى السياسية لكنها لم تكن تراكمية، ما جعل تلك القوى تتصارع خارج قواعد اللعبة الديمقراطية بل وخارج المؤسسات أصلاً. وبدلاً من أن تضيف كما يجري في الديمقراطيات إلى بعضها أصبحت تعارض وتعوق بل وتنفي أحياناً بعضها.
  3. العامل الخارجي: وساعدت على تمدده حالة الاستقطاب التي سمحت للقوى الخارجية بالتسلل للتأثير على علاقات القوى السياسية المصرية ببعضها. وقد برز الخارج خلال العامين الماضيين كعامل في زعزعة الثقة بين التيارات السياسية المصرية التي تبادلت الاتهامات فيما بينها بالعمالة لقوى أجنبية. وبرغم تباين أهداف القوى الخارجية تجاه ما يجري في مصر إلا أن ثمة ملمحاً مشتركاً يجمعها حيال الانتقال السياسي فيها بشكل عام والانتقال الديمقراطي بشكل خاص. فهذه القوى، العربية منها والدولية، لا تريد لمصر أن تنهار سياسياً فتصبح عبئاً على منطقة مليئة بالأعباء، كما لا تريد لها أن تنطلق لتصبح نموذجاً في جوار إقليمي أكثر من فيه لديه حساسية تاريخية تجاه الدور المصري. بمعنى آخر، الخارج لا يتحمل سقوط مصر سياسياً أو انهيارها  اقتصادياً أو اضطرابها اجتماعياً. ولهذا يساعدها بقدر الكفاية. لكنه لا يساعدها للمدى الذي تحتاجه لبناء استقرار سياسي تقوم على أساسه حياة ديمقراطية سليمة.
  4. الانتفاخ أو التضخم الأنوي: وهو عائق أظهره سلوك القوى السياسية الجديدة، فمع الانتقال الديمقراطي أصبح من الصعب أن يقمع تيار فكري أو سياسي غيره بالكامل. لكن غياب القمع استبدل بزيادة الاستعلاء وبحالة ملحوظة من الانتفاخ الذاتي وتضخم الأنا، سواء الفردية أو التنظيمية. وإذا كان التحول إلى الديمقراطية يحتاج إلى تفاعلات سياسية تقوم على الندية والتكافؤ واتصال لا ينقطع بين مختلف أطراف المعادلة السياسية، تبدو على النقيض من ذلك تصريحات ومواقف القوى السياسية المصرية تجاه بعضها، إذ ما زالت تفكر بطريقة قديمة قوامها الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة وعدم جدارة الآخرين بالمشاركة في تحمل المسؤولية. بعبارة أخرى، ما يزال التواصل مع الآخر والتنازل للآخر في مصر دون المستوى. وقد تسبب الانتفاخ السياسي في الحيلولة دون دعوة قوى سياسية إلى الحوار أو رفض تلك القوى للحوار لو دعيت إليه، وهو ما عطل التوافق على الدستور وما زال يهدد فرص التوافق على تعديله كما هو مقرر بعد الانتخابات النيابية القادمة. ويزيد من تلك العقبة اعتبارات عديدة من بينها دور الإعلام الذي أصاب قطاعا ليس محدودا من الرموز السياسية بشعور مبالغ فيه من النرجسية. كما صاحب حالة الانتفاخ هذه ظهور كثير من الوجوه محدودة الكفاءة أو السياسيين "الكَسْر" الذين نزلوا بمستوى الممارسة السياسية إلى المعاندة والمكايدة بعيدا عن الحوار والحجة والبحث عن حلول وسط كما تقتضي التقاليد الديمقراطية.
  5. استمرار تداخل الخاص بالعام: فتولي الحكم لا يعني الهيمنة على كل النظام السياسي أو السيطرة على الدولة. وقد أثير طيلة العامين الماضيين مخاوف مدعمة بكثير من القرائن حول ما سمي "بأخونة الدولة"، وتعتبر من معوقات أي تحول ديمقراطي آمن. فإذا كان من حق الإخوان المسلمين أن يتنافسوا كغيرهم على السلطة وأن يتولوا إدارة الدولة إلا أن عقد الإدارة، وهو ما لم يُفهم بعد، ليس بعقد ملكية. فهو لا يجيز استبدال جهاز الخدمة المدنية الاحترافي غير التابع سياسيا لحزب أو تيار بعناصر إخوانية تكرر من جديد تجربة مصر في الستينيات وما بعدها عندما تحولت مؤسسات الدولة إلى تشكيلات تابعة للحزب الحاكم تعمل لخدمة الحاكم لا المحكوم.
  6. الوضع الاقتصادي: وهو من أبرز عوائق الانتقال الديمقراطي، حيث تحد البنية المالية الهشة للدولة من القدرة الإرضائية للنظام الجديد كما تفتح الباب للقيل والقال حول طريقة توزيع الموارد المحدودة لمحاباة فئة على أخرى أو مشروع على آخر. وبسبب تفاقم المشكلة الاقتصادية باتت الصراعات السياسية تجري على طريقة إدارة الاقتصاد نفسها وليس بالضرورة على أساس تقييم موضوعي لأساليب وأدوات العمل المقترحة، وإنما بهدف استغلال الأوضاع الاقتصادية المأزومة كورقة ضغط ووسيلة لتصفية الحسابات بين الخصوم. 
  7. تآكل قدرات الدولة: فقد مرت مصر وما تزال نتيجة التخبط الذي اكتنف المرحلة الانتقالية بتحد لا يعوق التحول الديمقراطي وحده وإنما يعوق نشاط إن لم يكن تواجد الدولة ذاته. فبعد أن كان الخوف في مصر من الدولة أصبح الخوف الآن عليها. وبسبب تآكل قدرات الدولة يخشى من أن الانتقال إلى الديمقراطية بدلاً من أن يكون حلاً لمشكلات تعانيها مصر قد يصبح سبباً في مشكلات أكبر تنتظرها. فخلال العامين الماضيين كشفت حالة السيولة المصاحبة للمطالبة بالديمقراطية عن تآكل في أهم قدرات الدولة المصرية. فقدرتها الاستخراجية عجزت عن تدبير الموارد اللازمة لإعادة إطلاق الحياة الاقتصادية، وقدرتها التوزيعية لم تنصف الطبقات المعدمة والفقيرة بل وشرائح من الطبقة الوسطى، وقدرتها التنظيمية عجزت عن ضبط فوضى السلاح والتراخيص والتعدي على المال العام. ولو استمر تآكل قدرات الدولة وزاد انفلات المجتمع فقد لا تتوفر قاعدة الاستقرار اللازمة لبدء عملية ديمقراطية تتجاوز الشكل إلى الجوهر.
  8. الأيديولوجية: ففي أي تجربة للانتقال الديمقراطي يجري نبذ الاعتماد على فكرة واحدة إلى طرح بدائل فكرية يجري الانتقاء فيما بينها بحرية. وقد كان واضحا في كل الدول التي لحقت بموجات التحول الديمقراطي في شرق ووسط أوروبا مثلا أنها كانت تبعد عن الأيديولوجيات وتبحث عن أنسب البرامج السياسية لظروفها، وأنها كانت تنتقل من سيطرة حزب واحد يتبنى عقيدة سياسية بعينها يرى أنها الحقيقة المطلقة إلى تعدد حزبي يقر بالنسبية ويقوم على تعديل السياسات العامة بحسب مقتضيات الحال. والواضح في مصر أن تجربتها الديمقراطية تواجه بعقبة الأيديولوجية، وبالتحديد الأيديولوجية الدينية التي يعبر بعض من يتبناها عن مفهوم مناقض تماماً للديمقراطية برغم أنه أكثر من استفاد من إجراءاتها. مفهوم يحاول أن يملي فكرة جاهزة وقاهرة يصر على تطويع الواقع من أجلها وليس تطويع الفكرة بناء على الواقع.

 ظلال على المآل

على ضوء هذه الفرص وتلك القيود يبقى السؤال: إلى أين يمكن أن تنتهي التجربة المصرية الجديدة؟. قد يكون التاريخ أحد مفاتيح الإجابة، وفي هذا الصدد يُذكر أن محمد علي حاكم مصر في مطلع القرن التاسع عشر اطلع على ترجمة لجانب من كتاب "الأمير" لمكيافيللي لعله يجد في فنون السياسة الأوروبية ما يعينه على التخلص من خصومه وإخلاء الساحة من معارضيه. لكن بعد أن قُرأ عليه فصلين أمر بوقف الترجمة لأنه يعرف من الحيل أكثر مما عرفه أمراء أوروبا.

ومع اختلاف عصر محمد علي عن عصر محمد مرسي إلا أن ثمة سمةً تكاد تكون ثابتة في السياسة المصرية هي ميل من يتولى أمرها إلى اعتبار الحكم عرشا أهدي إليه ولبطانته، وأن السياسة ميدان يتعين إخلاؤه باستثناء من ينتمي إلى البلاط ورجاله. وعبر التاريخ السياسي المصري الحديث والمعاصر لم يكن الحاكم يفاضل بين تفريغ الساحة السياسية من الجميع أو إتاحتها للجميع، وإنما كان يفاضل بين طرق التفريغ الممكنة. 

حتى التاريخ القديم شهد ذلك، وكان الفرعون يطمس إنجازات غيره على المسلات وحوائط المعابد في تطبيق مبكر للهندسة السياسية التي استمرت في مصر حتى اليوم. ولم يكتف محمد علي بتشويه سيرة المماليك بل سعى لإبادتهم. أما ثورة 1952 فأبعدت وشوهت كفاءات العصر السابق وفرغت البلد حتى يحكمها العسكر. وبعد عامين من ثورة يناير، اتضح أن الشخصية السياسية المصرية ما زالت تنزع إلى الانفراد وليس المشاركة، وإلى تهميش المخالفين وليس تقاسم الساحة بين الجميع. ووضح كذلك أن القيادة الجديدة ورثت من زمن حسني مبارك ثلاثة أنواع من الفراغ: فراغ الشخصيات، وفراغ المؤسسات، وفراغ السياسات. ووجود هذه الفراغات يضر بإمكانية التحول الديمقراطي، خاصةً وأن الطريقة التي تملأ بها لا تكشف عن احترام عميق لقواعد الممارسة الديمقراطية.

أما فراغ الشخصيات فتمثل في غياب صف ثان من الكوادر المؤهلة القادرة على تحمل أعباء الولاية العامة. فراغ  تعمق في فترة مبارك واتضح أكثر عندما حاول الرئيس مرسي شغله بكوادر إخوانية ثبت أنها لم تكن لا بالعدد ولا بالإعداد الكافيين. وقد جرى من جديد الاعتماد في سد فراغ الشخصيات على أهل الثقة من نفس التيار الحاكم وليس على أهل الكفاءة ولو جاءوا من تيارات منافسة. وهو ما يضرب فكرة المشاركة في إدارة جهاز الدولة في الصميم ويكشف عن حرص زائد على الانفراد بالسلطة وليس تدويرها أو تقاسم أعبائها.

وبالنسبة لفراغ المؤسسات فقد كشفته ثورة 25 يناير بالكامل وأظهرت أن البرلمان والأحزاب والقضاء والشرطة وأجهزة الإدارة كان وجودها مثل عدمه بعد أن استحوذ عليها تيار واحد ليفسدها جميعاً. وبدلاً من أن يجري تكوين المؤسسات بعد الثورة على أسس مهنية بعيداً عن التسييس، كثرت شكاوى المعارضة وملاحظات المراقبين المحايدين من أخونة الدولة واعتداء التيار الإسلامي على مؤسساتها لتعطيلها أو إجبارها على التصرف بما يرضي ثوابت هذا التيار. ومن الطبيعي لو استمر تفريغ مؤسسات الدولة لمصلحة تيار واحد أن تتكرر نفس أخطاء الماضي لتنشأ "ديمقراطية زينة" فيها مؤسسات لكنها شكلية بلا قدرات حقيقية، يلجمها الحاكم ولا تستطيع أن تلجمه.

وأخيرا فراغ السياسات، وهو مقياس لغياب فعالية نظام الحكم  في عيون المواطنين وعدم رضائهم عن ما يقوم به. فالنظام الديمقراطي يتميز بسرعة استجابته لمطالب المجتمع. أما في مصر وخلال العامين الماضيين فلم يشعر المصريون بفراغ أكبر من فراغ السياسات. فقطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والنقل والتوظيف والأمن والضرائب عانت من عدم امتلاك الحكومة لبرامج عمل واضحة، ومن عدم وصول فوائدها إلى القاعدة الجماهيرية العريضة. وأسوأ ما في فراغ السياسات أنه  يدفع من جديد إلى الشعور بالإحباط الذي إما أن يؤجج الغضب أو يدفع البعض إلى الانسحاب من الفضاء العام معيدا قطاعا من الجمهور إلى السلبية.

وفي ظل هذه الفراغات والتحديات فإن فرصة الانتقال الديمقراطي في مصر وإن لم تكن مستبعدة على ضوء ما تحقق من مكتسبات إلا أنها ليست سهلة على خلفية ما تراكم من صعوبات.
_________________________________
د. إبراهيم عرفات - أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة وبجامعة قطر

عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف

نبذة عن الكاتب