المجتمع المدني الجزائري: بين أيديولوجيا السلطة والتغيير السياسي (1)

عرفت الجزائر مفهوم المجتمع المدني في النصف الثاني من القرن العشرين، وتبنت قوى سياسية واجتماعية أطره التنظيمية بعد إقرار التعددية السياسية. ويحتاج الحراك الجمعياتي إلى فك الرهان على الأحزاب السياسية حيث يشكل التداخل اختلالاً في علاقة الجمعيات بالأحزاب، في سياق علاقة قائمة على المصلحة.
20143108469846734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
عرفت الساحة السياسية الجزائرية مفهوم المجتمع المدني في النصف الثاني من القرن العشرين لتأخذ تطبيقاته خصائص اللحظة التاريخية التي ظهر فيها بتشعباتها السوسيولوجية والفكرية، وتلقفت بعض القوى الاجتماعية والسياسية هذا المفهوم وتبنت أطره التنظيمية الجديدة وخطابه الفكري بعد إقرار التعددية السياسية والحزبية، خصوصًا بعد دستور 1989.

غير أن نشاط الجمعيات في الجزائر تأثر بالوضع الأمني الذي عاشته البلاد خلال سنوات الجمر؛ مما جعل أداءها لصيقًا بالأداء الحزبي، بحيث ظهر نشاطها كرجع صدى للأداء الحزبي الجزائري الهزيل؛ إذ رغم العدد الضخم الذي يتناسل سنويًا لتعداد الجمعيات إلا أن أداءها ظل مشوبًا بعلاقة حذرة، أما علاقة هذه الجمعيات والأحزاب فهي علاقة تداخل وتجاذب للمصالح والأدوار.

إن حراك الجمعيات هو رجع صدى للحراك الحزبي، وبما أن الحراك الحزبي منمط ومندمج ويعبر عن صيغة إقصائية لوجود أية طبقة سياسية معارضة بالمعني الحقيقي، فإن الحراك الجمعياتي لن يحقق مساهمة حقيقية في بناء مشروع المجتمع إذا بقي رهان الجمعيات على الأحزاب. ومن ملامح الاختلال في أداء الأحزاب السياسية والجمعيات، التداخل وثنائية الجمعيات السياسية الحزبية والأحزاب الجمعوية حيث العلاقة الزبائنية قائمة على المصلحة بين من يدفع ماليًا ومن ينتفع سياسيًا ومن يحترف إعلاميًا.

تعددت المقاربات المتناولة لمسألة "المجتمعات المدنية" ودورها في تعزيز عناصر الدمقرطة وبناء المؤسسات والأنظمة في أدبيات التنمية السياسية ودراسات التحول الديمقراطي المعاصر. وتكاد التنظيرات السياسية تُجمع على أن حركات المجتمع المدني هي مجموعة من التنظيمات الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، وهي تشمل الجماعات المهنية والاتحادات العمالية والمنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية والمنظمات القاعدية الشعبية والصحافة الحرة وغيرها.

تقارب هذه الدراسة الموضوع من خلال تشخيص الحركات الجمعوية باعتبارها المجال الأكثر وضوحًا وتنظيمًا، من الناحية القانونية والدستورية في الدول المغاربية، ولا نقول: الأكثر نضجًا، وذلك لضآلة وضعف مخرجات أداء هذه الجمعيات في الحياة الاجتماعية والسياسية.

ويمكن الإشارة للملاحظات الأولية التالية: 

  1. إن الجمعيات في دول المغرب العربي وتحديدًا في الدول الأكثر استقرارًا والأغنى تجربة، ونقصد هنا: "المغرب-الجزائر-تونس"، التي أضحت تمتلك خزانًا حركيًا في فضاء الحياة الجمعوية لا يمكن إنكاره؛ ففي الجزائر يتجاوز عدد الجمعيات (120.000 جمعية بين وطنية ومحلية)، وفي المملكة المغربية أكثر من (70.000 جمعية)، وفي الحالة التونسية هناك مجتمع يتميز بقدرة تأطيرية كبيرة مقارنة بسابقيه رغم أن تعداده أقل (حوالي 9000 جمعية). (1)
  2. تستند الجمعيات في الدول الثلاث سالفة الذكر إلى منظومة قانونية توجب التعاطي معها ككيانات قانونية واجتماعية متنوعة. ويتجلّى ذلك في قوانين الجمعيات للدول الثلاث والتي ارتبط بعضها بما عرفته الجزائر (القوانين الإصلاحية)، والمغرب (دستور 2011)، وتونس (قانون الجمعيات 2011).
  3. سوف يتجه الباحث، ونظرًا لطبيعة مرامي الورقة، إلى استبعاد دولتي "ليبيا-موريتانيا" لما تتميز به هاتان الدولتان من خصوصيات "مَا دُون محلية" ترتبط بالأساس بالأبعاد الهويّاتية المشكِّلة لخصوصيات المجتمعات المحلية الموريتانية؛ إذ يُعرف المجتمع الموريتاني بأولوية وأسبقية القبيلة على الدولة وجاذبية وكاريزما المكون الاجتماعي على الروابط المدنية، في حين يبرز الجهد الراديكالي في صيغته المتطرفة في عهد العقيد الليبي معمر القذافي في تفكيك كل ما قد يؤدي إلى إقامة عرى مدنية تؤسس لمجتمع مدني تحكمه قيم العلمنة بأبعادها الإجرائية والبراغماتية، وليس بحُمَولاتها الدينية أو الأيديولوجية، على أن يُترك ذلك لدراسة لاحقة تبرر العلاقة بين "المجتمع والقبيلة" للحالتين الموريتانية والليبية.
  4. من المؤسف أن تعداد المؤسسات ذات البعد الاجتماعي والمشتغلة على الشأن المغاربي والتي تسمي نفسها بالمغاربية على غرار (اتحاد المغرب العربي للاقتصاديين، اتحاد المصارف المغاربية، اتحاد شباب وطلاب المغرب العربي، جمعية التعاون والوحدة المغاربية... وغيرها) ظلت في حالتها الراكدة غير واعية بحجم أعبائها الاستراتيجية فتحولت مع مرور الزمن إلى هياكل بيروقراطية، تتبع هوى الساسة أينما تحركت أهواؤهم، ولم تستطع أن تحرك ساكنًا في تقديم البدائل المغاربية في الفضاء التجمعي الإقليمي رغم أن تعدادها تجاوز السبعين هيكلاً ومؤسسة. ويمكن الاستئناس بمقولة الأستاذ عبد الله حمودي، أستاذ الأنثروبولوجيا المغربي في جامعة برنستون بأميركا: "إن جهد التغيير يجب أن ينصبّ أولاً على تفكيك التبعية في المستوى العملي والأيديولوجي؛ ذلك أن أي تفكير في إقامة مجتمع خلاق، لابد أن يمر مبدئيًا عبر هذا الجهد؛ إذ إن التبعية تغلغلت في القوالب الفكرية كما تغلغلت في مجمل النسيج الاجتماعي والسياسي والنقابي بحكم تراجع الفكر الإصلاحي الذي يرمي إلى استقراء التراث وأركانه. (2)

إن الممارسة الديمقراطية تتم عبر مؤسسات المجتمع المدني، وقيام هذه المؤسسات جزء من الديمقراطية نفسها؛ فبممارسة الحقوق الديمقراطية وحرية التعبير وحرية إنشاء الجمعيات والأحزاب والنقابات والشركات والتعاونيات، والحق في الملكية، والحق في العمل، والحق في المساواة وتكافؤ الفرص، تنشأ مؤسسات المجتمع المدني، وبتغلغلها في جسم المجتمع تتعمق الممارسة الديمقراطية بدورها. (3)

يقدم الباحثون في مجال التنمية السياسية مقارباتهم الحديثة بشكل يربط بين بناء المؤسسات ودرجة الاستقرار السياسي ومسألة الإسهام المجتمعي والشراكة الاجتماعية في بناء النخب وتكوين الإطارات وإرساء ثقافة سياسية وديمقراطية. (4) وثمة علاقة بين إقامة الحكامة كمنظومة قانونية تشريعية وتنظيمية، وأحد دعائم هذه الحكامة المتمثل في المجتمع المدني الحيوي الفاعل والحركي. (5)

يتعاظم دور المجتمع المدني حاليًا في ترسيخ قيم الحكامة الجيدة بالقطاع العام وتعزيز الشفافية في الحياة السياسية، وتخليق العمل الحزبي، وكذا النهوض بالنـزاهة في تدبير الشؤون المالية والصفقات العمومية. (6)

التأصيل النظري والإشكال الجدلي

تشير الدراسات الانتخابية والحزبية إلى الأدوار الجوهرية التي يمارسها المجتمع المدني كثقل مضاد يعكس إرهاص الشعب، ويتلمس خطاب السلطة نقدًا وتشريحًا. وللمجتمع المدني عناصر أساسية يمكن إيجازها فيما يلي:

  • إن المجتمع المدني رابطة طوعية يدخلها الأفراد باختيارهم.
  • يتكون المجتمع المدني من مجموعة من التنظيمات والروابط في عدة مجالات كالمؤسسات الإنتاجية والدينية والتعليمية والاتحادات المهنية والنقابات العمالية والأحزاب السياسية.
  • إنه مجتمع الاختلاف والتنوع والالتزام بإدارة الاختلاف داخل قطاعاته المختلفة بالوسائل السلمية المتحضرة، وهو مجتمع يركز على قيم الاحترام والتعاون والتسامح.

إن للمجتمع المدني امتدادات خارج حدوده، تتمثل في توسيع مؤسساته وانتقال فعالياتها إلى مجتمعات أخرى، وتتبلور هذه العناصر بصورة جلية بالتجربة المقياس، أو بالتجربة التي تصبح نموذجًا للاحتذاء والتقليد. ووقوف المجتمع المدني كحاجز إسفنجي بين الدولة والمجتمع، يجنّب الدولة تفاعلات "الوجه لوجه" والصراعات المكلفة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا؛ لذلك فإن إحياء مؤسسات المجتمع المدني كما تؤكد كتابات كثيرة بهذا الاختصاص: "يشكّل خطوة أساسية على طريق منع الصراعات من تدمير ما تبقى من عناصر التوحيد الوطني والقومي"، ومن ثَمّ فإن "خروج الدولة من مأزقها البنيوي في المدى المنظور ليس بالأمر السهل ما لم يرد الاعتبار إلى مؤسسات المجتمع المدني". (7)

أمام هذه الحقيقة الصعبة في المستوى الواقعي، فإن المجتمع المدني "الشرعي" الناشئ والآخذ بالتطور والتصاعد التدريجي في معظم الدول العربية، يقف عند قضايا مهمة، وأهمها معنى "التجاوزية" التي سوف يمارسها المجتمع المدني في مواجهة الحدود الراسخة والمتصلبة للدولة القُطرية، مع الأخذ بعين الاعتبار الضغوط الموجهة من قبل الدولة، والوهن الداخلي للمؤسسات والبنى المدنية.

الموقف الشرعي لظهور المجتمع المدني

في الوقت الذي تتنازع فيه المجتمع العربي قوتان أساسيتان، هما: الدولة ذات الطموحات والامتيازات الخاصة، والأسرة والعشيرة التي تكرّس الولاء الضيق؛ فإن الشبكة المدنية توفر طريقًا للاتصال والتواصل الدائم بين الشعوب العربية، وبشكل خاص الأعضاء في المؤسسات المدنية، وذلك بعد أن تكلّست الحدود القُطرية وأصبحت خطوط الاتصال والتواصل هزيلة ومتقطعة.

المجتمع المدني الجزائري: الجمعيات ومأزق الهوية

عرفت التعريفات التشريعية في الجزائر تطورات متعددة اختلفت باختلاف المرحلة السياسية التي شهدتها الجزائر؛ ففي الفترة الانتقالية التي أعقبت الاستقلال تم العمل بالقوانين الفرنسية، إلا ما يتعارض والسيادة والوطنية وذلك وفقًا للقانون 157/60 المؤرّخ في 31 ديسمبر/كانون الأول 1962. وبناءً عليه استمر العمل بقانون الجمعيات الفرنسي الصادر في 5 يوليو/تموز 1901؛ حيث عُرّفت الجمعية في المادة الأولى منه بأنها "اتفاقية يضع شخصان أو عدة أشخاص بصفة مشتركة ودورية كل معارفهم وأنشطتهم في غرض لا يدر ربحًا".

أمّا في الأمـر 79/71 الصادر بتاريخ 3 ديسمبر/كانون الأول 1971 فقد عرّفت المادة الأولى منه الجمعية بأنها "الاتفاق الذي يقدم بمقتضاه عدة أشخاص وبصفة دائمة وعلى وجه المشاركة معارفهم ونشاطاتهم ووسائلهم المادية للعمل من غاية محددة الأثر، ولا تدر ربحًا". وجاء هذا التعريف ليصب في سياق التوجه الأيديولوجي الذي صاحب صدور أول قانون جمعيات جزائري؛ حيث كانت موجة التشبع بالأفكار والتوجهات الاشتراكية.

أما في المرحلة التي أعقبت الانفتاح السياسي الذي شهدته البلاد بعد إقرار دستور عام 1989 فقد تم إصدار قانون الجمعيات 90/31 المؤرخ في 4 ديسمبر/كانون الأول 1990 والذي عرّف الجمعية في أحكام المادة الثانية بكونها "اتفاقية" تخضع للقوانين المعمول بها، ويجتمع في إطارها أشخاص طبيعيون ومعنويون على أساس تعاقدي ولغرض غير مربح. كما يشتركون في تسخير معارفهم ووسائلهم لمدة محددة، من أجل ترقية الأنشطة ذات الطابع المهني والاجتماعي والعملي والديني والتربوي والثقافي على الخصوص. واتساقًا مع ما عرفته الدول العربية من تحول سياسي؛ فقد عرفت الجزائر حزمة إصلاحية، أهمها: قانون الجمعيات، وهو القانون العضوي 12/6 المؤرّخ في 15 يناير/كانون الثاني 2012 المتعلق بالجمعيات، وعرّفت المادة الثانية منه الجمعية بكونها تجمع أشخاصًا طبيعيين أو معنويين على أساس تعاقدي لمدة زمنية محددة أو غير محددة، يشترك هؤلاء الأشخاص في تسخير معارفهم ووسائلهم تطوعًا ولغرض غير مربح من أجل ترقية الأنشطة لاسيما في المجال المهني والاجتماعي والعلمي والديني والتربوي والثقافي والرياضي والبيئي والخيري والإنساني.

ومن خلال جملة التعريفات التي أوردها المشرع في مختلف قوانين الجمعيات نلاحظ أن المشرع قد سعى دومًا إلى تقديم تعريف للجمعية بتمييزها عن باقي الفاعلين الاجتماعيين الآخرين. (8) والملاحظ أن القانون 12/6 الصادر سنة 2012، ومن خلال استقراء التعريف الذي قدمه للجمعية، أن المشرّع قد وسّع من مجال نشاط الجمعية ليشمل العمل الخيري والمحافظة على البيئة وحماية حقوق الإنسان والمجال العلمي والتربوي والثقافي. والمستخلص من خلال التعريفات المختلفة للجمعيات في الجزائر أنها تجمع أشخاصًا على أسس تعاقدية لمدة زمنية محددة أو غير محددة المدة بغية تسخير معارفهم وقدراتهم لأغراض لا تهدف لتحقيق الربح، من أجل ترقية الأنشطة الثقافية والمهنية والدينية والاجتماعية والعلمية والتربوية والبيئية بما يسهم في رفاهية المجتمع. هذا من الوجهة القانونية، لكن التتبع التاريخي لواقع علاقات النظام السياسي الجزائري بالحركات الجمعوية يفيد أن المجموعة المحورية الحاكمة الجديدة للنظام هدفت في تعاملها مع هذا الملف إلى تحقيق هدفين أساسيين:

  1. امتصاص تذمر المواطنين من ضنك الحياة، التي تعاظمت في الشق الاجتماعي.
  2. تقوية قبضتها حتى تتمكن من خلق تجانس في هرم السلطة كما كان سابقًا عبر وضع استراتيجية تمكّنها من التخلص من هيمنة الحزب الواحد والجماعات الضاغطة التي تستخدمه.

لقد عرفت الساحة السياسية الجزائرية مفهوم المجتمع المدني في النصف الثاني من القرن العشرين لتأخذ تطبيقاته منحنيات وخصائص اللحظة التاريخية التي ظهر فيها بشكل تشعباتها السوسيولوجية والفكرية، ولم يكن غريبًا أن تتلقف بعض القوى الاجتماعية والسياسية أكثر من غيرها هذا المفهوم وتتبنى أطره التنظيمية الجديدة وخطابه الفكري بعد إقرار التعددية السياسية والحزبية، خصوصًا بعد دستور 23 فبراير/شباط 1989 (أول دستور جزائري بعد التعددية السياسية). ويشير الفصل الرابع المتعلق بالحريات والحقوق في مادته 33 إلى الحق في الدفاع الفردي أو عن طريق الجمعية عن الحقوق الأساسية للإنسان، وعلى أن الحريات الفردية والجماعية مضمونة، وتتضح هذه الحقوق أكثر في نص المادة 41 التي تنص على أن حرية التعبير وإنشاء الجمعيات والاجتماع مضمونة للمواطن، كما يدرج الدستور مادة خاصة للتمييز بين الجمعية والحزب وتحديدًا المادة 42 المتصلة بالحق في إنشاء أحزاب؛ حيث تنص على أن حق إنشاء الأحزاب السياسية معترف به ومضمون. (9)

غير أن نشاط الجمعيات في الجزائر تأثر بالوضع الأمني الذي عاشته البلاد خلال سنوات الجمر؛ مما جعل أداءها لصيقًا بالأداء الحزبي، بحيث ظهر نشاطها كرجع صدى للأداء الحزبي الجزائري الهزيل؛ إذ رغم العدد الضخم الذي يتناسل سنويًا لتعداد الجمعيات إلا أن أداءها ظل مشوبًا بعلاقة حذرة. أما علاقة هذه الجمعيات والأحزاب فهي علاقة تداخل وتجاذب للمصالح والأدوار.

وعن طبيعة العلاقات المصلحية "من ينتج من؟" في توصيف العلاقة بين النخبة السياسية وحركات المجتمع المدني، فإن وزارة الداخلية في الجزائر تحضّر لحل ستة آلاف جمعية؛ إذ طالب مديرو المراكز والمعاهد الجامعية عبر كامل التراب الوطني من مجموع التنظيمات النقابية والطلابية، وكذا مختلف الجمعيات ذات الطابع الثقافي والرياضي، التي تنشط على مستوى المؤسسات الجامعية المذكورة، بتقديم ملفات كاملة عن حصيلة نشاطاتها في آجال زمنية محددة، وإلا تم حلها في حالة تخلفها عن ذلك.

لقد استندت مراسلات مديري الجامعات إلى تعليمات وزارة الداخلية التي باشرت عملية واسعة لتطهير النسيج الجمعوي الوطني من تلك الجمعيات التي اتهمها نور الدين زرهوني الوزير الأسبق للداخلية، أكثر من مرة بأنها "لا تفعل شيئًا، ولا تسعى سوى للانتفاع وتحقيق مكاسب شخصية على حساب التمويل العمومي لنشاطها". وتواجه الجمعيات التي تتخلف عن تقديم الوثائق المطلوبة منها عقوبات إدارية تصل إلى الحل النهائي، بعد إحالة ملفها إلى العدالة، ويصل عدد الجمعيات المعتمدة لدى وزارة الداخلية والجماعات المحلية إلى 120 ألف جمعية بين وطنية ومحلية.

وجاء في إحدى هذه التعليمات التي أرسلتها إدارة جامعة الجزائر تحت رقم 13/8، موجهة إلى ممثلي التنظيمات النقابية والطلابية والجمعيات الثقافية والرياضية النشطة في مختلف المعاهد والكليات والأقسام، أنهم مدعوون لتقديم ملف يضم أربع وثائق ذكرتها التعليمة، وهي: قرار الاعتماد، وقائمة المنخرطين، وأسماء الفروع والمجالس المصادق عليها من طرف الإدارة. وفي نفس الاتجاه تحرك مسؤولو المؤسسات الثقافية والشبابية والاجتماعية التي توجد بها مقرات لجمعيات معتمدة بدعوتها لتقديم ملفات مماثلة. وأكد ذلك أن الأمر يتعلق بما يشبه عملية تطهير كبرى غير مسبوقة. وأوكلت وزارة الداخلية إلى مديري التنظيم والشؤون العامة عبر مختلف الولايات مهمة متابعة هذا الملف، بحيث قام هؤلاء فعلاً، حتى الآن بإحالة ملفات نحو 6 آلاف جمعية من شتى المجالات إلى العدالة، ومعها طلبات رسمية بالحل لمخالفتها الشروط المنصوص عليها قانونًا، وعلى رأسها -كما ورد في أغلب العرائض القانونية المرفوعة إلى القضاء- عدم تجديد مكاتبها وتغيير مقراتها دون إشعار بذلك، إضافة إلى عدم تقديم حساباتها المالية مؤشَّرًا عليها من محافظ الحسابات، ولا الحصيلة السنوية لنشاطاتها.

الأحزاب والجمعيات في الجزائر: أية علاقة؟

تتسم العلاقات بين الأحزاب والجمعيات بعلاقة الدمج والاستيعاب والتبني، ويظهر ذلك في المؤشرات التالية: (10)

  • أُدمجت هذه الجمعيات التي جاوزت 120 ألف جمعية في أحيان كثيرة في السياق العام للخطاب السياسي غير المؤسس الذي يتبنى أطروحات السلطة ولا يقدم خطابًا مبنيًا على البرامج؛ وهو ما أدى إلى استيعاب كثير منها من طرف الأحزاب وجعلها أبواقًا للتسويق السياسي والتعبئة السياسية في مناسبات عديدة.
  • استراتيجية التبني، وهي تلك السياسة القائمة على تبني الجمعيات كلية من طرف الأحزاب الفاعلة سياسيًا.

إن هذه الجمعيات والمنظمات الجماهيرية التي كانت تشكّل المدارس الأولى لتكوين الإطارات وتخريج الكوادر لم تعد تلعب ذات الدور في المرحلة الأخيرة، كونها أصبحت مجرد أدوات تستخدم في الاستحقاقات السياسية. والتساؤل المحرج للسلطة السياسية في الجزائر: هل نحن أمام مجتمع مدني أم مجتمع سلطة مُهَيْمَن عليه؟

وبهذا الصدد، يرى رشيد مغلاوي أحد المسؤولين النقابيين في الجزائر أن السلطة خلقت مجتمعًا مدنيًا بمؤسسات وهيئات وأحزاب ونقابات موازية للمجتمع المدني الحقيقي، وهذا المجتمع أضحى غير قادر على تنفيذ ما تسعى إليه السلطة، وهو ما أبرز نقابات موازية، مثل: هيئة ما بين النقابات التي فتح رئيسها النار على رئيس النقابة الوطنية للعمال الجزائريين، واعتبر أن هذه الهيئة الجديدة تسعى لإصدار ميثاق أخلاقي تمضي عليه جميع النقابات المنضوية تحت لوائها حتى لا تخرج هذه النقابات مستقبلاً عما يتم تبنيه من سياسات أو احتجاجات مهددًا بالعمل على رحيل السلطة (لكونها حسب رأيه تقوم على القمع). (11)

وتشير إحدى الدراسات المغاربية المقارنة إلى نوعية الصعوبات ونقاط الضعف التي تتعرض لها الجمعيات المغاربية بما فيها الجزائرية وفق المحاور التالية: (12)

  • العلاقات بين الجهات الرسمية والجمعيات ليست شفافة بالقدر الكافي.
  • الجمعيات غير معترف بها فعليًا كمحاور وشريك من قبل المؤسسات والجهات الرسمية.
  • استفادة الجمعيات من المساعدات المالية الرسمية ليست شفافة بالقدر الكافي.
  • لا توجد قنوات وإجراءات معروفة بهدف الحصول على مقرات دائمة للجمعيات.
  • الجمعيات لا تملك حرية في استقبال الهبات والمساعدات من الخارج.
  • ما زالت الجمعيات تخضع لكثير من إجراءات الجمركة والعديد من الضرائب عند حصولها على مساعدات أو هبات من الخارج.

إن حراك الجمعيات هو رجع صدى للحراك الحزبي، وبما أن الحراك الحزبي منمّط ومندمج ويعبّر عن صيغة إقصائية لوجود أية طبقة سياسية معارضة بالمعنى الحقيقي، فإن الحراك الجمعياتي لن يحقق مساهمة حقيقية في بناء مشروع المجتمع إذا بقي رهان الجمعيات على الأحزاب والعكس بالعكس.

وثمة ملمح آخر من ملامح الاختلال والفساد في أداء الأحزاب السياسية والجمعيات، وهو التداخل الذي يمكن التعبير عنه بثنائية الجمعيات السياسية الحزبية والأحزاب الجمعوية؛ حيث العلاقة الزبائنية قائمة على المصلحة بين من يدفع ماليًا ومن ينتفع سياسيًا ومن يحترف إعلاميًا. وتُعد الزبائنية السياسية إحدى الظواهر السلبية التي تبرز كمعطى أنثروبولوجي وسياسي عالمي يتجلى في المواصفات التالية:

  • تبادل الخبرات.
  • العلاقات الأسرية.
  • تبادل رمزي بدافع أيديولوجي.
  • الحياة السياسية المحلية.

إن الزبائنية شكل من أشكال الفساد السياسي والاجتماعي الذي ينخر جسم الديمقراطيات الصاعدة، وهي تبرز كنمط علائقي يظهر في مؤسسات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية الجزائرية؛ حيث تم الاستحواذ على المجتمع المدني وترويضه، بمعنى دولنته، من طرف الدولة بجعله متغيرًا تابعًا للعمل الحكومي السلطوي؛ وهو الأخطر في مسار الشرعية". (13)

وما يُلاحَظ بهذا الصدد أن كثيرًا من أرباب النقابات وجماعات رؤوس الأموال ورؤساء الجمعيات تحولوا إلى جسور موسمية انتقالية لتحقيق الثراء والثروة والسلطة؛ وهو ما أدى إلى تنامي ظاهرة الفساد. إن تفشي هذه الظاهرة من خلال الزبونات المتعددة وغيرها من العوامل يجمع بينها عقد تقليدي يقوم على المصالح المتبادلة وضعف الوازع الأخلاقي. وفي الواجهة المقابلة يمكـــن الحديث عن وجود نقاط مضيئة في التجربة الجمعوية الجزائرية تظهر في ما يلي: (14)

  • الدور البارز الذي يحتله الشباب والمرأة داخل الجمعيات.
  • الدور الخاص الذي تحتله الفئات المؤهلة والنخب العلمية في قيادات جمعيات المجتمع المدني.
  • استمرارية قيم العمل التطوعي بين أعضاء الجمعيات والمنتسبين إليها، ولكن تبدو عملية تطوير العلاقة بين الجمعيات والبرلمان، المشكّلة على قاعدة التنافس الحزبي، مسألة أكثر من مهمة.

هل يستطيع المجتمع المدني الجزائري تأطير الاحتجاجات المتصاعدة؟

تشير الدراسات التتبعية إلى تزايد حجم التظاهرات والتجمعات الاجتماعية في الجزائر؛ حيث رشّح تقرير الشركة البريطانية للأبحاث والتحليلات "إيكونميست إنتلجس بونيت" حول مخاطر الاضطرابات الاجتماعية خلال العام القادم، إلى جانب المغرب وتونس وإسبانيا، أن سبب عجز الحكومة عن التجاوب مع مطالب المواطنين من ذوي الفئات الهشة يخص بالدرجة الأولى السكن والشغل والزيادة في الأجور. (15)

ومن بين 150 دولة التي شملها التقرير، الذي يبحث في احتمال اندلاع الاضطرابات الاجتماعية، كانت 65 دولة مرشحة بقوة، أي: ما يمثل 43 بالمائة، فيما كان هنالك دول مرشحة بدرجة قصوى لتشهد اضطرابًا اجتماعيًا، من بينها: مصر والعراق ولبنان وليبيا واليمن وسوريا والبحرين، وكذا الأرجنتين واليونان وبنغلاديش ودول أخرى. وأرجع التقرير تفاقم المخاطر بالنسبة إلى الدول المعرضة بقوة للاضطرابات الاجتماعية، إلى بطء إجراء الإصلاحات. وكان جُلّ دول الربيع العربي في خانة الدول المعرضة بدرجة قصوى للاضطرابات كمصر واليمن وسوريا التي أضحت أرضًا خصبة للحروب الأهلية، إلى جانب لبنان الذي تأثر أيضًا بالوضع السوري، إثر انقسام طوائف لبنانية حيال أطراف الصراع في سوريا؛ ما جعل علو صوت الحرب كفيلاً بتأجيج الوضع والدفع به نحو الاضطراب.

وبناء على ما سبق، فإن أمام المجتمع المدني الجزائري مهامًا جسيمة تتمثل في القدرة على احتواء ظاهرة الاحتجاجات الاجتماعية التي تحولت إلى "رياضة شبه يومية"، كما يتزايد دورها في المستقبل في الانتقال إلى خطاب اجتماعي يحقق بدائل تنموية واقتصادية تساهم في خلق فرص عمل وتخلص الشعب الجزائري من قيم الاعتماد على الدولة الريعية وممارسة نقد العمل الحزبي والسلطوي بروح إيجابية.
________________________________
بوحنية قوي - أستاذ التعليم العالي، باحث متخصص في تحولات الدولة ومدير مَخبَر الديمقراطية التشاركية، جامعة قاصدي مرباح، ورقلة-الجزائر.

الهوامش
1- للتفصيل أكثر حول المجتمع المدني في الدول المغاربية الثلاث (الجزائر، المغرب، تونس) يُتابَع:
Rabéa Naciri , les organisations de la société civile en Afrique du Nord , Algérie Maroc ,et Tunisie ,Revue de littérature , Rabat , 5 Décembre 2009.
2- عبد الله حمودي: وعي المجتمع بذاته، عن المجتمع المدني في المغرب العربي، دار توبقال للنشر-المغرب، 1998، ص78.
3- محمد عابد الجابري: إشكالية الديمقراطية والمجتمع المدني في الوطن العربي، المستقبل العربي، العدد 167، يناير/كانون الثاني 1993، ص14.
- من الدراسات المهمة في هذا المجال والمعنية بالفضاء المغاربي: عياض بن عاشور: المجتمع المدني، دولة القانون والديمقراطية في المغرب العربي: عبد الله حمودي (محرر)، وعي المجتمع بذاته: عن المجتمع المدني في المغرب العربي، دار توبقال، 1998.
-Belin ,E.,Ciril Society emergent , state and social in Tunisia , PHD Princeton , 1991.
- Jhon , P, Entelis and  Philip,c, Naylor , eds , state and society Algeria , westernew press, boulder , colordo , USA ? 1992.
4- العلاقة بين الحكامة والمجتمع المدني يُطالَع:
-Tom spencer , Governance and civil society journal of public affairs volume I,number 2,Ferbruay 2000.
W W W.tomspencer.info/articles/JPA1.2PDF.
BOP Deacon(editor) Julian disney ,paul Stubbs, Janine wedel,Angela wood Civil society NGOS and Global Governance Stakes, Helsinki, Finland 2000.
www.gasppe stakes.fi/ NR/RDONLYRES/…
DFGD…/GASPP72000.PDF.
5- يطالع بهذا الصدد التقرير السنوي للهيئة المركزية المغربية للوقاية من الرشوة-تقرير 2009 (النص الكامل على الموقع) http://www.icpc.ma
6- نصر محمد عارف: الاتجاهات المعاصرة في السياسة المقارنة: التحول من الدولة إلى المجتمع، ومن الثقافة إلى السوق، المركز العلمي للدراسات السياسية، الأردن- 2006، ص40.
7- محمد الحوراني: المرجع السابق، ص 21.
8- بوطيب بن ناصر: النظام القانوني للجمعيات في الجزائر، قراءة نقدية في ضوء القانون
www.bouhania.com 06/12
9- عبد الناصر جابي: العلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني في الجزائر، الواقع (الآفاق) نوفمبر/تشرين الثاني 2006 www.aljariabed.net
10- بوحنية قوي: المجتمع المدني الجزائري: كثرة في العدد وعقم في الحراك، مجلة اتحاد الإذاعات العربية، العدد 4، 2011 تونس، ص5200.
11- حوار مع رشيد مغلاوي، جريدة الخبر الأسبوعي، العدد 507 من (15 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2008) ص4.
12- عبد الناصر جابي: العلاقات بين البرلمان والمجتمع المدني في الجزائر، واقع آفاق، مجلة الفكر البرلماني، العدد 15 فبراير/شباط 2007، مجلس الأمة الجزائر، ص152.
13- فضيل دليو: الزبائنية السياسية والاجتماعية في عصر الديمقراطية، المجلة العربية للعلوم السياسية، عدد 17، 2007 ص171-174، بتصرف.
14- بوحنية قوي: المرجع السابق، ص55.
15- كريم كالي: تقرير حول الاحتجاجات في الجزائر يومية الخبر، عدد 28 ديسمبر/كانون الأول 2013، ص5.

نبذة عن الكاتب