أخلاقيات الصحافة الإلكترونية العربية: رؤية جديدة للممارسة المهنية

تطرح الدراسة رؤية جديدة لأخلاقيات الصحافة الإلكترونية العربية ترقى إلى إيجاد معايير محددة في البيئة العربية الإلكترونية، يمكن من خلالها تقييم مدى احترام المضامين الإعلامية المنشورة إلكترونيًّا لأخلاقيات المهنة، مما يساعد على الرقي بالقيمة الاحترافية للمؤسسات الإعلامية العربية العاملة في هذا المجال.
3a598ba6f11c48dbac0a95f703bcd044_18.jpg
اعتماد الصحافة الإلكترونية على شبكات التواصل الاجتماعي مصدرًا للمعلومة يستوجب تنظيمها ومأسستها (الأناضول)

مقدمة

أضحت الصحافة الإلكترونية، في كل أرجاء العالم ومنها العالم العربي، من أكبر المستفيدين من التطور التكنولوجي الحاصل في مجال الإعلام والاتصال حيث تمكنت -وفي ظرف وجيز- من خلق جيل جديد من الصحفيين ينقلون الأخبار ويصوِّرونها وينشرونها لحظة بلحظة، تمامًا كما فرضت المواقع الإعلامية نوعًا من الكتابة المختصرة والسريعة؛ الشيء الذي أثَّر في العمق التحليلي للمضامين الإعلامية وجعل منها نظرة سطحية للعالم. من جهة أخرى، ومع تطور المدونات العربية خلال السنوات الأخيرة، وتنامي عدد المنشورات الإلكترونية التي أصبحت جزءًا لا يتجزَّأ من الصحافة الإلكترونية التي تتصدَّر الإعلام تأثيرًا وفاعلية، "تحوَّلت المعلومة -من خلال الإنترنت- إلى مُنْتَج إعلامي تصبغه أحيانًا رؤية بعض المدوِّنين الذين يبحثون عن فضاء افتراضي يُعبِّرون فيه عن ذواتهم"(1).

إن الصحافة الإلكترونية وعلى الرغم من حداثة نشأتها في العالم العربي، بدأت تشهد العديد من المشاكل ولعل أهمها تعاظم هشاشة بنية أخلاقيات المهنة لمعظم الصحف الإلكترونية في سياق تراجع صرامة الهرمية الإدارية والتحريرية؛ حيث أصبح إنتاج المحتوى يخضع لشبكة متشعبة من المنتجين الجدد (المدونين، تعليقات الزوار، محتضني الموقع...إلخ) الذين لم يكن لهم حضور في بنية الصحافة التقليدية.

وأصبحت الحقيقة نتاج شراكة بين جمهور ومستخدمي الشبكة من جهة، وباقي وسائل الإعلام والاتصال من جهة أخرى، بعد أن أوجدت التفاعلية منتجين جددًا للمعرفة، وبناء معرفيًّا جديدًا يختلف عن البناء المعرفي التقليدي القائم على هيمنة النخب وقادة الرأي وسيطرة المؤسسة الإعلامية التقليدية. كما أن لهذه الهشاشة وجهًا آخر يرتبط أساسًا بتعدد مهام العاملين في هذا المجال؛ حيث يجمع المشتغلون في الإعلام الإلكتروني بين أكثر من وظيفة أو منصب داخل الموقع الواحد، وهو ما أفقد العمل الإعلامي جودته الشاملة، وخلق نوعًا ما من فوضى الممارسة الإعلامية التي تعددت أوجهها، وتنامت أشكال تبعاتها السلبية.

فقد حوَّلت فوضى الممارسة الإعلامية -خاصة في سياق ما يسمى بصحافة الهواة وصحافة "اللجوء"- العمل الإعلامي الإلكتروني إلى حقل للاستنساخ غير المشروع. كما أن الابتزاز والتشهير من أجل الكسب والتربح أفقد هذا الصنف من الإعلام مصداقيته واستقلاليته ونزاهته. يضاف إلى ذلك ما شهدته الممارسات المهنية للعلاقات العامة من تطور وازدهار أذكى "عالم تحضير المحتوى" بطرق مبتكرة لتغذية وسائل الإعلام في البيئة الرقمية الجديدة بالمادة الإعلامية التي لا تمت للمهنية بصلة، ولا تنطوي على أية مسؤولية تجاه المواطن والمجتمع.

إن هذا الواقع المليء بالتحولات يفرض على الصحافة الإلكترونية وضع قواعد أخلاقية لكل المساهمين فيها، وإقرار مدونات سلوك تشمل كل الأطراف المشاركين في إنتاج مضامينها. فإذا كان الإعلام الإلكتروني يستمد قواعده الأساسية من الأخلاقيات التي تم إنضاجها في حقل الإعلام بمحامله المختلفة؛ حيث كانت تلك القواعد تؤطر العمل الصحفي في مجالات الصحافة المكتوبة والسمعية، والبصرية، فإن حقل الصحافة الإلكترونية بمواصفاته التكنولوجية والتواصلية الجديدة بات يفرض التفكير في منظومة أخلاقيات خاصة به تتفاعل مع التحولات المشار إليها، فضلًا عن الحاجة الملحَّة لتطوير آليات التنظيم الذاتي والرصد، بشراكة مع جمهور مستخدمي الصحافة الإلكترونية، وذلك انسجامًا مع مقوم التفاعلية الذي يطبع هذه الصناعة.

وبالنظر إلى تجارب عديد البلدان المتقدمة، فإن إقرار المساءلة الإعلامية التي تحقق التوازن بين حقوق الفرد والمجتمع وحق الصحفي في حرية التعبير من خلال مجالس صحفية ولجان إعلامية مستقلة وذات مصداقية، قد يكون أحد دعائم أخلاقيات العمل الإعلامي في الصحف الإلكترونية العربية، دون أن يعني ذلك طبعًا استبعاد دور القانون في تحسين جودة هذه الصحافة. 

في سياق هذا الطرح، سنحاول من خلال هذه الدراسة التي عنونَّاها بـ"أخلاقيات المهنة في الصحافة الإلكترونية العربية: رؤية جديدة للممارسة المهنية"، البحث في الضوابـط المهنيـة للإعلام الجديـد، التي قد تكون هُمِّشت في ظل الهوس بالمعايير التقنيـة التـي أصبـحت تحتل الجانب الأكبر من اهتمامات المشتغلين بالصحافة الإلكترونية العربية، والبحث عن السبق الصحفي على حساب المعايير المهنية مما فسح المجال واسعًا أمام الشائعات.

إن هذه المعايير التقنية، وفي سياق التحولات الاتصالية والإعلامية الجديدة، أصبح لها في الصحافة الإلكترونية تجليات ترتبط أساسًا بصحة المعلومات، وصدقيتهـا والثقـة بهـا استنادًا إلى ما تنشره أو تبثه من مضامين تعتمد على روابـط فائقة السرعة، ووسـائط متعـددة، ومقاطع صوت وفيديو قد لا تعبِّر بالضرورة عن صدقية الخبر، وموضوعيته، وحياده، والتزامه بالمعايير المهنية مما يطرح مشاكل تتصل بأخلاقيات المهنة الصحفية، والاحترافية المهنية للمؤسسات الإعلامية التي تحتضن الصحف الإلكترونية.

وأمام هذه الإشكاليات ذات الطابع المهني التي قد تُفقد الإعلام مصداقيته واستقلاليته ونزاهته وتفسح المجال واسعًا أمام الثلب والتشهير، تصبح عملية البحث في ضوابط أخلاقيات العمل الصحفي الإلكتروني ضرورة يفرضها الواقع المهني لهذا النوع المستحدث من الإعلام الجديد في العالم العربي، انطلاقًا من الإطار الأخلاقي العام الذي يستند أساسًا إلى مواثيـق الشرف الأخلاقية وانتهاء إلى التشريعات القانونية التي تضع الإطار القانوني والتشريعي العام للصحافة الإلكترونية العربية. ويقودنا ذلك إلى طرح رؤية جديدة لأخلاقيات الصحافة الإلكترونية العربية ترقى -مهنيًّا، وقانونيًّا، ومدنيًّا- إلى إيجاد معايير محددة في البيئة العربية الإلكترونية، يمكن من خلالها تقييم مدى احترام المضامين الإعلامية المنشورة رقميًّا وإلكترونيًّا لأخلاقيات المهنة، مما يساعد على الرقي بالقيمة الاحترافية للمؤسسات الإعلامية العربية العاملة في هذا المجال.

1. إشكاليات الصحافة الإلكترونية العربية بين واقع الممارسة وتحديات أخلاقيات المهنة

أتاحـت التكنولوجيـات الجديـدة للإعلام والاتصال -عبر ذلك الكم الهائل من المنصات والتطبيقات- الظروفَ الملائمة في العديد من بلدان العالم ومنها البلدان العربية لبروز الصحافة الإلكترونية كمادة إعلامية جديدة ومكمِّلة للإعلام التقليدي، "لتتحول في فترة وجيزة، إلى وسيلة وظاهرة إعلامية ذات أبعاد متعددة، تمتد إرهاصاتها إلى تغير الإنتاج الإعلامي والسلوك الاستهلاكي للقرَّاء وكذا توجهاتهم ومواقفهم"(2) تجاه القضايا الوطنية، والإقليمية والدولية. ورافق ظهور الصحافة الإلكترونية تحرر المواد الإعلامية من قيودها الجغرافية، وإلغاء الخصوصية وانعتاقها من الرقيب الإعلامي الذي طالما شكَّل هاجس الصحف الورقية؛ فبرزت أصوات نخب ناشئة أحدثت تغيرات في أسلوب عمل الصحف الإلكترونية، وآليات عرض مضامينها الإعلامية وتداولها، لتتيح مجالات أكبر لتقاسم الأحداث، فكانت أحد أسباب تغير المشهد الإعلامي، وتطور مضامينه، وجعْله أكثرَ سرعةً في الوصول إلى أكبر عددٍ ممكن من القرَّاء.

كما "خلقت الصحف الإلكترونية جيلًا جديدًا من الصحفيين ينقلون الأخبار ويصورونها وينشرونها لحظة بلحظة، تمامًا كما فرضت المواقع الإعلامية نوعًا من الكتابة المختصرة والسريعة، الشيء الذي أثَّر في العمق التحليلي للمضامين الإعلامية وجعل منها نظرة سطحية للعالم. من جهة أخرى، ومع تطور المدونات العربية خلال السنوات الأخيرة، وتنامي عدد المنشورات الإلكترونية التي أصبحت جزءًا لا يتجزَّأ من الصحافة الإلكترونية التي تتصدر الإعلام تأثيرًا وفاعلية، تحوَّلت المعلومة -من خلال الإنترنت- إلى مُنْتَج إعلامي تصبغه أحيانًا رؤية بعض المدوِّنين الذين يبحثون عن فضاء افتراضي يُعبِّرون فيه عن ذواتهم"(3).

في سياق هذا التداخل بين صوت الصحفي الاحترافي المهني، وصوت المواطن الذي يقدِّمه المجال العام على أنه الصوت المعارض والمتحرر من كل قيود، والمنتج والمستهلك والناشر للمحتوى الإلكتروني، امتزجت المواد الإعلامية القيِّمة التي تحترم معايير المهنية، والموضوعية والمصداقية بالمضامين الرديئة التي تفتقد لأدنى القيم المهنية التي تحكم طبيعة العمل الصحفي؛ الأمر الذي يثير جدلًا واسعًا اليوم حول أخلاقيات الممارسة الإعلامية في الصحف الإلكترونية والمواقع الإخبارية، والتحديات التي تواجهها مهنة الصحافة على الإنترنت جرَّاء السلوكيات غير المسؤولة للأفراد والمؤسسات التي تنطوي على إسفاف واستنساخ وتربح غير مشروع أحيانًا، أو استهزاء، وتجريح، وتشهير مقصود أحيانًا أخرى.

إن هذه الوضعية تفرض على المهنة الصحفية على شبكة الإنترنت مراجعة مسؤولياتها الأخلاقية المنوطة بتعدد مهام الصحفي في الصحيفة الإلكترونية، واحترام تخصصه، وتحديد هامش التفاعلية عند تحرير المواد الإعلامية، ونقل المعلومات عن المستخدمين، وتوظيف مصادر المعلومات على الإنترنت...إلخ؛ وهي إشكاليات، وتحديات قد تقف عائقًا أمام ممارسة الصحفي لمهامه على أكمل وجه، وقد تعمِّق مسؤوليته الأخلاقية في ظل المعادلة الصعبة بين سعي المؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها على الزيادة في عائداتها بأقل عدد ممكن من الموارد البشرية، وتكبده لمهام إضافية على حساب جودة العمل الإعلامي الذي يؤمِّنه لتلك المؤسسة.

1.1. إشكاليات أخلاقيات المهنة بالصحف الإلكترونية في ظل تعدد مهام الصحفي

إن التكلفة غير المرتفعة في استخدام شبكة الإنترنت لنشر المواد الإعلامية قد شجع الكثير من المؤسسات الإعلامية على الاستثمار في الشبكة سواء أكان ذلك بالانتقال بالصحيفة من المحمل الورقي إلى الإلكتروني للضغط على تكاليف النشر المرتفعة، أو بإضافة صحيفة إلكترونية إلى جانب الورقية للوصول إلى شريحة أكبر من القرَّاء وخلق فضاءات إعلانية جديدة من شأنها زيادة الموارد المالية للمؤسسة الإعلامية. وتعتمد هذه الصحف الإلكترونية في عملها -في الكثير من بلدان العالم- على عدد محدود جدًّا من الإعلاميين من مشارب مختلفة قد لا يكون تخصصهم الصحافة بالضرورة، لتزيد أعباء الصحفي وتتشابك مهامه في أحيان كثيرة بين التحرير، والإعلان، والتسويق؛ فيمسك من كل شيء بطرف دون التخصص في جانب بعينه، وهو ما أفرز الكثير من المشاكل المتصلة أساسًا بالمحتوى الإعلامي في ظل غياب الحياد، والمصداقية، والضوابط المهنية التي تحكم آليات الممارسة الإعلامية، وأخلاقياتها.

وتنسحب هذه الوضعية اليوم على البلدان العربية بعد أن مرَّت بالعديد من بلدان العالم التي حققت سبقًا في ازدهار الصحافة الورقية، وقطعت أشواطًا كبيرة في سبيل رَقْمَنَتِها، على غرار البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية. فقد "أظهرت دراسة مسحية قام بها ديفيد أرانت (David Arant) وجانا أندرسون (Janna Anderson)، عام 2000، عن محرري الصحف الإلكترونية في الولايات المتحدة الأميركية، أن "المواقع الإلكترونية توظف عددًا قليلًا من الموظفين ليقوموا بالعمل تحت ضغط كبير من أجل إنجاز مهام ومسؤوليات متعددة. فمقارنة مع عمل الصحفي في الصحيفة الورقية، لا يقوم الصحفي في الصحيفة الإلكترونية بمهام محددة متخصصة، ولكنه يقوم بعدد من المهام المتداخلة؛ فهو يُعِدُّ التقرير الصحفي، ويُجهِّز التطبيقات المستخدمة في الموقع، ويتابع تعليقات الجمهور، ويجمع قاعدة من البيانات خاصة بالجمهور المستخدم. كما أنه معنيٌّ بإثراء المحتوى بالوصلات الخارجية، والتأكد من عدم احتواء هذه الوصلات مواد تسيء إلى الموقع والجمهور المستخدم، إضافة إلى جلب الإعلانات للصحيفة وأحيانًا تصميمها، وكتابتها. وتتراوح عدد ساعات عمله بين 8 و10 ساعات يوميًّا. كما يقل عدد المتفرغين مقارنة بعدد العاملين بدوام جزئي، نتيجة الضغوط المالية التي تعاني منها الصحف الإلكترونية بسبب قلة العائدات أحيانًا، مما يؤثر على أداء الصحفي. هذا الضغط الكبير في المهام وغياب التخصص يؤدي إلى الوقوع في الأخطاء التي تتعلق بالدقة والموضوعية، وإلى خلق العديد من المشاكل"(4) ذات الطابع المهني التي قد تقود إلى مخالفة معايير أخلاقيات المهنة.

إن عدم تحديد المهام وإهمال مبدأ التخصص في الصحف الإلكترونية وغياب العمل المؤسسي، يُشكِّل أزمة في تأمين سير العمل الإعلامي بتلك الصحف، مقارنة بالصحف الورقية التقليدية التي توجد فيها عدة أقسام مثل هيئات التحرير ومراكز الأخبار والخدمات الفنية والثقافية وخدمة الأنباء الخارجية والخدمات الاقتصادية وخدمة الأرشفة...إلخ. "كما توظف الصحيفة الورقية عددًا كبيرًا من العاملين، بينما تفتقر الصحف الإلكترونية لمثل ذلك العدد، تمامًا مثلما تفتقر إلى التخصصات والتصنيفات؛ إذ نادرًا ما تجد مراسلًا صحفيًّا ميدانيًّا يعمل لحساب الصحف الإلكترونية"(5)، في ظل وجود هاجس يشغل بال مالكي تلك الصحف الإلكترونية وهو كيف يمكن أن يضمنوا زيارة موقع الصحيفة من قِبَل أكبر عدد ممكن من الزوار في سبيل تحصيل أكثر ما يمكن من عائدات الإعلان، ما قد يؤثر سلبًا على عدد الأعمال الصحفية الميدانية، وقيمتها، وجودتها.

2.1. المعادلة الصعبة بين الالتزام بأخلاقيات المهنة وسرعة الانتشار والتفاعل 

إن الحصول على الخبر الصحفي والانفراد به يُعَدُّ في حد ذاته سبقًا صحفيًّا إلا أنه في الكثير من الأحيان، وفي سبيل ضمان سرعة الانتشار، قد تغيب الدقة والموضوعية عن الخبر المنشور عبر الإنترنت لعدم التدقيق في صحة المصدر، أو لثقة الصحفي المتناهية فيه. وهذا قد يؤدي إلى أزمة ثقة مع جمهور الصحيفة الإلكترونية الذي قد تتاح له فرصة التحقق من مصداقية المعلومات التي تصله عبر الإنترنت، وذلك من خلال التقاطعات التي يبنيها بين المواد الإعلامية في المواقع الإلكترونية حول الخبر نفسه المتصل بالسبق الصحفي. من جهة أخرى، غالبًا ما تستند المواد الإعلامية المحررة في الصحف الإلكترونية إلى مصادر مواقع وكالات الأنباء على الإنترنت أو الصحف الورقية أو الإلكترونية الأخرى، دون ذكر المصدر، مما يطرح إشكاليات حول معيار الأمانة الصحفية وأخلاقيات العمل الصحفي، ومصداقيته، ويكون سببًا في اهتزاز ثقة الجمهور في الوسيلة الإعلامية.

في سياق هذا الطرح، وفي دراسة له حول مؤهلات العمل في الصحافة الإلكترونية وظروفه، يعتبر الباحث في جامعة الأناضول التركية، هولوك بيرسون (Haluk Birsen)، "أن المصداقية والدقة والتوازن من أساسيات العمل الصحفي التي تتعارض بدورها مع السرعة كمبدأ أساسي في الصحافة الإلكترونية؛ حيث تُعَدُّ الأخبار العاجلة مفتاحًا للنجاح في الإعلام الإلكتروني، وإلى حدٍّ ما تُقبل بعض الأخطاء فيها بحيث تُعدَّل فور ملاحظتها، ولكن مصداقية المصدر المستخدم شرط أساسي لا يمكن التهاون فيه حتى مع السرعة، وهنا تكمن المشكلة"(6).

على صعيد آخر، وعلى عكس الصحف الورقية، تمنح الإنترنت الصحفي إمكانية التعمق في موضوع المقال الذي يكتب فيه عبر الربط بصفحات من داخل الموقع أو من مواقع أخرى، لتضع القارئ أمام خيارات عديدة تمكنه من فهم الموضوع المطروح والتعمق فيه "إلا أنه وفي حال عدم معرفة المستخدم بمآل هذه الوصلات قد تبرز عديد المشكلات التي ترتبط بالتزام الصحفي بالمعايير المهنية المنظمة لعمله؛ فالجمهور يتوقع من الصحيفة أن تقوده من خلال وصلاتها خارج موقعها إلى مواقع موثوقة لا تسيء إليه كقارئ من حيث المحتوى الذي تقدمه إليه، أو تضر بسياسة الموقع، لأن حدوث ذلك يفقد القارئ ثقته في الصحيفة، كما أنه يسيء إلى الموقع نفسه. وحري بالصحيفة هنا أنْ تزود القرَّاء بعناوين الروابط المستخدمة، وأن تعلمهم بأن الوصلات والروابط الخارجية لا تقع تحت مسؤوليتها وإشرافها"(7)، بعد أن باتت صحافة الإنترنت تُشكِّل نواة حقيقية لفضاء افتراضي مفتوح يجلب إليه أعدادًا كبيرة من المستخدمين ممن لهم القدرة الفكرية والمادية على النفاذ للشبكة العنكبوتية، والتفاعل مع ما يكتب.

لقد جعلت بيئة الإنترنت الجمهور شريكًا فعليًّا في تحرير محتوى الصحف الإلكترونية؛ فتعليقاته جديرة أحيانًا بإثراء التقارير الإخبارية بالنقاشات، والتي قد تكون مادة دسمة بيد الصحفي لتطوير ما يكتب من مادة إعلامية إلا أن مضامين تلك التعليقات قد تكون أحيانًا أخرى حاملة لإساءات، أو تجريح أو ألفاظ نابية، أو نعرات تذكي الطائفية، أو شائعات لا تستند إلى دليل مما يطرح إشكاليات قانونية، وخروقات تصل أحيانًا حدَّ انتهاك أخلاقيات الممارسة المهنية.

فتشجيع الصحيفة الإلكترونية لقرائها حتى يتفاعلوا مع ما تكتب لا يعني بأي حال من الأحوال السماح لمستخدم الإنترنت بخروج تعليقاته عن هدفها وإساءته إلى الصحيفة. فخاصية التفاعلية هنا تعني منح القارئ إمكانية المشاركة في صناعة المحتوى، وتنوعه، وتكامله، وحريـة إبداء الرأي، دون ثلب، أو تجريح، أو تشهير وفي إطار الضوابـط والمعايير المتعلقة بمهنية العمـل الصحفي وحرفيته، تمامًا مثلما لا يُسمح للصحيفة الإلكترونية بجمع المعلومات عن المستخدمين وبيعها لاحقًا، بغاية تحقيق أهداف ربحية.

3.1. مغالاة الصحفي في اعتماد مصادر مفتوحة وبروز تحديات أخلاقية جديدة

يعتمد الصحفي على شبكة الإنترنت كمصدر للمعلومة بدءًا باستخدام محركات البحث مثل غوغل، مرورًا بموسوعة ويكيبيديا، وانتهاء بشبكات التواصل الاجتماعي. فهل يمكن الوثوق بهذه المصادر في أداء الصحفي لعمله؟ على الرغم من عديد الفوائد التي تحققها الإنترنت للصحفي إلا أنها لا تخلو من بعض السلبيات التي قد تؤثر في جودة المواد الإعلامية نتيجة التضخم المعلوماتي الذي تزخر به؛ "فهي تحتوي على مليارات الصفحات وملايين المواقع تجمع بين الجيد والرديء" مما يُشكِّل عبئًا أمام الصحفي لانتقاء ما يناسبه من معلومات. "كما أن عدم استقرار مصادر المعلومات على الإنترنت -باعتبارها ذات طابع ديناميكي- يجعل هذه المصادر قابلة للتغير أو الحذف والإضافة في أي وقت"(8)، مما لا يوفر أية ضمانات للصحفي بأن ما نشره من مواد إعلامية اعتمد في جزء منها على مصادر الإنترنت قد تكون صحيحة مئة بالمئة، وهذا قد يؤثر طبعًا على مصداقية ما يكتب، ويزعزع ثقة الجمهور في الصحيفة. يضاف إلى ذلك أن "بعض مصادر المعلومات يكون المسؤول عنها، فكريًّا وماديًّا، مجهول الهوية"(9)، مما يجعل تقييم تلك المعلومات للحكم على جودتها وإمكانية الاستشهاد بها والاستفادة منها مهمة صعبة بالنسبة للصحفي.

يتضح إذن مما سبق "أن الإنترنت وما تحويه من مصادر معلومات تُعَدُّ بيئة خصبة للصحفيين تساعدهم في إنجاز أعمالهم و"إثراء المعرفة البشرية، في حين تحمل في طياتها شيئًا من التناقض الملموس. فكما يمكن للصحفي أن يجد معلومات قيمة وموضوعية وحديثة وفريدة لا يمكن أن يحصل عليها من مصادر أخرى بذات السرعة والجهد، يمكن أن يجد معلومات خاطئة وقديمة تكون نسبة جودتها أقل بكثير من سابقتها إن لم تكن منعدمة"(10)، مما يطرح إشكالية الوثوق بهذه المصادر، والسقوط في تحديات أخلاقية جديدة ترتبط بمدى مصداقية الصحفي، ومدى قدرة الصحيفة الإلكترونية على الحفاظ على ثقة قرائها فيها.

وعن استخدام الصحفي لموسوعة ويكيبيديا الإلكترونية كمصدر موثوق للأخبار في إنجاز أعماله الصحفية، نشرت الباحثة الأميركية في جامعة ميريلاند، دونا شو (Donna Shaw) مقالًا بعنوان "ويكيبيديا في غرفة الأخبار" بينت فيه أنه: "على الرغم من أن استخدام ويكيبيديا كمصدر أولي للمعلومات لا يُعَدُّ احترافيًّا في العمل الصحفي، فإن بعض الصحفيين يعتبر هذه الموسوعة الإلكترونية مفيدة جدًّا في رسم خارطة لتتبع قصة معينة والبدء بعملية جمع المعلومات"، مضيفة: "كون ويكيبيديا تحوي مقالات احترافية، فهي أيضًا تحوي مواد رديئة نظرًا لطريقة تحرير محتواها؛ إذ تعتمد على عدد كبير من المحررين المتطوعين المجهولين في مختلف أنحاء العالم، وباستطاعة أي كان أن يضيف ويعدِّل في محتواها. بيد أن ويكيبيديا لا توهم المستخدم بأنها بالغة الدقة؛ فهي تعلم القارئ ألا يستخدمها لاتخاذ قرارات مهمة، وتخبره أنها لا تتوقع منه أن يثق بمحتواها، لأن هناك خبراء في ويكيبيديا وهناك أيضًا مبتدئون يرتكبون الأخطاء. كما أنها في ذات الوقت، تحذر مستخدميها من النسخ دون إحالة إلى المصدر، وتستخدم سياسة استبعاد الأعضاء الذين تثبت مخالفتهم لسياساتها العامة؛ فهي تُعلم إذن القارئ بنقاط قوتها وضعفها، وهنا تكمن قوة ويكيبيديا؛ فهي لا تضلِّل القارئ ولا المستخدم"(11).

ولكن على الرغم من ذلك، نجد أن بعض الإعلاميين يعمدون إلى استخدام موسوعة ويكيبيديا دون ذكر المصدر في أحيان كثيرة، تمامًا مثلما يتم استخدام شبكات التواصل الاجتماعي -كنتاج للتحولات الإعلامية والاتصالية الجديدة- للتزود بالمعلومات الآنية والسريعة، في حين يجب أن تبقى مجرد أداة لجمع المعلومات فقط لا غير.

وفي الإطار نفسه، يشير الباحث هولوك بيرسون إلى أن "توظيف المواد الموجودة على منصات التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار يبرز تحديًا أخلاقيًّا جديدًا يتمثل في استخدام المواد لغير الأغراض التي أنشئت لأجلها"(12) على غرار استخدام بعض محتويات المجموعات لنقل أخبار حول موضوع بعينه.

2. الضوابط الأخلاقية المهنية للعمل الصحفي الإلكتروني ومتطلباته التقنية 

قد لا يمكننا البحث في الضوابـط المهنية للصحافة الإلكترونية، دون الوقوف عـند المعايير التقنيـة التي توجِّه عمل الإعلامي والتـي أصبـح إتقانهـا جزءًا لا يتجزأ من نجاح الصحفي في أدائه لعمله من عدمه. فللمعايير التقنية تجليـاتها التي قد تحيل إلى مدى التزام الإعلامي بالضوابط الأخلاقية المهنية للعمل الصحفي الإلكتروني؛ فهي من يقيم الدليل على صحـة المعلومات المنشورة، وصدقيتهـا ودرجة الوثوق بهـا مـن خلال التعرف على دقة الروابـط، وقيمة النـصوص فائـقة السرعة، والوسـائط المتعددة المستخدمة في تحرير المواد الإعلامية...إلخ.

ويكون لهذه المعايير التقنية دور في تقييم مدى التزام الإعلامي بالمعايير المهنية كالحياد، والصـدق، والدقـة والموضوعية في أدائه لعمله، خاصة في ظل انتشار عديد المحامل الاتصالية الأخرى المنافسة للصحافة الإلكترونية كالمدونات، ووسائل التواصل الاجتماعي، وصحافة المواطن التي تُعلي قيمـة الفرد و"الموهبة الصحفية" على القيمـة الاحترافية للمؤسسة الإعلامية التي تحتضن الصحيفة الإلكترونية، وتقدِّم "السـبق الصحفي" على معايير الموضوعية، والدقـة والمصداقية في العمل الصحفي.

1.2. علاقة الضوابط والمعايير التقنية في الصحافة الإلكترونية بأخلاقيات المهنة

يتميز الصحفي العامل في الصحافة الإلكترونية بمميـزات(13) عـدة مقارنة بنظيره العامل في الإعلام التقليـدي كالقـدرة على تحرير العمل ونشره الفوري من أي مكان طالما أنـه يمتلك كلمـة المرور للدخـول إلى الموقع وصلاحيـة التحريـر والنشر، والسرعة في أداء العمل، وتغذية الموضوع أو القصـة الخبرية بأكبر قـدر مـن المعلومات والخلفيـات باسـتخدام خاصيـة النـص الفائـق أو النـص المتشعب (Hyper Text)، فضلًا عـن اختيـاره للصـور وإمكانيـة قيامـه بنشر الموضوع بنفسـه باسـتخدام برنامـج (CMS)، ومتابعـة التعليقـات، والقيام بالتعديلات المطلوبة إذا تطلـب الأمر ذلك، والقدرة على تنقيح المعلومات وتحليلها واختبارها وتحديد غير الموثوق به منها...إلخ.

ولئن مكَّنت وسائل الإعلام الجديد الصحفي العامل في مجال الصحافة الإلكترونية من أكبر قدر من التفاعلية؛ حيث صنعت احتياجات جديدة للقرَّاء كالمشاركة في صناعة المحتوى، وحرية إبداء الرأي والتعبير، إلا أنها تطرح مجموعة من "المعوقات، والصعوبات التي تواجه كفاءة العمل في المواقع الإعلامية منها ما يرتبط بنقـص المتطلبات التكنولوجيـة اللازمة لتطويـر صناعـة النشر الإلكتروني بها، ومنها ما يتصل بهيـكل العمـل وقواعـده التنظيميـة؛ حيـث تتطلـب الاستفادة مـن إمكانـات النشر الإلكتروني الكثير مـن التدريـب، وتسـتهلك وقتـًا حتـى يمتلك الصحفيـون مهـارة عالية في اسـتخدام مصـادر المعلومات الإلكترونية، واسـتيعاب خصائص الاتصال التفاعلي والاستفادة منهـا. يضاف إلى ذلك معوقـات تتعلـق بالمفاهيم التقليديـة السـائدة في العمـل الصحفـي؛ فعلى سـبيل المثال، لم يعـرف العمـل الصحفـي التقليـدي أشكالًا أخـرى للمعلومـات غير النصـوص والعناصر الجرافيكيـة الثابتـة، ولم تتضمـن مفـردات المادة الصحفيـة المواد الصوتيـة ولا لقطات الفيديـو، وغير ذلـك مـن أشـكال المعلومات غير المألوفة، والتـي يتيحهـا النشر الإلكتروني على الإنترنت، وأصبحـت مـن العناصر المطلوبة في الموضوعات الصحفية"(14)، مـا يعني أن الأمر يتطلب أن يعتـاد الصحفيـون في المواقع الإعلامية التفكير في بنـاء موضوعاتهـم على نحـو مختلـف عـن ذي قبـل.

كل هذا يجعلنا نقر بأن المعايير التقنيـة والتكنولوجيـة في الصحافة الإلكترونية -والتي ترتبط بمجموعة من المهارات مثل حذق أساليب الكتابة الرقمية، وإجادة توظيف الروابط التشـعبية، ومهـارات كتابـة الأخبار على الإنترنت، والبحـث في شـبكة الإنترنت، وتوظيـف الوسـائط المتعددة، ومهـارات التعامـل مـع صحافـة المواطن-، في علاقتها، وارتباطها بالمعايير والضوابـط المهنية للعمـل الصحفي في وسائل الإعلام الجديد، يمثِّلان منظومتين تتكاملان لتقديم مواد إعلامية تتسـم بالحرفيـة والمهنية العاليـة، وتحترم أخلاقيات العمل الإعلامي.

أ‌- مهـارات التحرير الرقمي (15): يتطلب عمل الصحفي في مجال التحــرير الإلكتروني مهـارات تسـتخدم برنامـج نظـم معالجـة الكلمات لإنجـاز الكثير مـن العمليـات، مثـل: الكتابـة والتعديـل والتصحيـح، والتدقيـق النحـوي والإملائي، وتحديـد حجـم الحـروف وكثافتهـا، ورسـم الجـداول والأشكال البيانيـة، والتزود بالرسـوم، ومعالجة الصـور...إلخ. بل وأصبح الصحفي قـادرًا على إخـراج مادتـه الصحفيـة بنفسـه. وتتطلـب الكتابـة للإنترنت عـددًا مـن القواعد التي تعمـل على زيادة قـراءة المادة الصحفية، وجذب انتبـاه القـارئ كالاختصار، والقدرة على الربط داخـل الموقع أو على الشـبكة عمومًا. 

ب- مهارات توظيف الروابط التشعبية في الكتابة الرقمية: مـن أبـرز خصائـص شـبكة الإنترنت ما يعرف باسم النص الفائق. ويُعَـدُّ النـص التشـعبي/الفائـق مـن أهـم الأدوات في يـد المحرر الصحفي في الصحافة الإلكترونية؛ إذ إنـه لا يسـاعد على توفير معلومـات مفيـدة داخـل النـص فقـط، ولكنـه يطيل عمر القصـة الخبرية. وتضيـف المعلومات والنصـوص الملحقة في الروابط التشـعبية معاني جديـدة، تعتبر في حـد ذاتها نوعًا جديـدًا مـن ممارسة الصحفيين لدور حارس البوابـة؛ حيث يحيلون القارئ إلى معلومـات بعينهـا ذات صلـة باهتماماته وسط كم هائل من المعلومات على الإنترنت.

ج- مهارات كتابة الأخبار على الإنترنت: اسـتفادت صحافـة الإنترنت من التطور الحاصل في نمط التغطية الذي حـدث في الصحافة التقليديـة بعـد أن تألـقت الصحافـة التليفزيونيـة في التغطيـة الفوريـة والآنية للأحدث. فظهـرت في الكتابة الصحفية أقلام مبدعة في الصحافة التفسيرية، والاستقصائية التـي تحتـاج إلى مصـادر جاهـزة وكاملـة وفوريـة تعطـي لهـا الخلفيـات والتفاصيـل عـن الأحداث، مـا يجعلهـا تقـدم الأخبار برؤيـة أكثر عمقـًا بعـد أن فقدت عنصر السرعة والسـبق. وانسحب ذلك على عمل الإعلامي في الصحف الإلكترونية بحيث تحـوَّل جوهـر دور الصحفـي في الصحافـة التفسيرية مثلًا، من مجرد الحصول على المعلومة وتقديمهـا للجمهور إلى "تحليـل الموضوعات المعقدة وتفسيرها والتعليق عليها".

د- مهارات البحث في شبكة الإنترنت: استفاد صحفيو الإنترنت من الكمِّ الهائل من المعلومات التي توفرها الشبكة لتطويـر مهاراتهـم في البحـث، والتحليل، ومتابعة الأحداث. كما سـمحت لهم بالوصـول إلى مصـادر متعـددة وكمٍّ هائل من المعلومات بسرعة فائقة، بينما هيمنت على أدوات جمع الأخبار في فترة قصيرة مـن الزمن". ويتطلـب التعامـل مـع الإنترنت ضرورة تعلـم مهـارة البحـث الذاتي عـن المعلومات والبيانـات والإحصاءات، والتحقـق مـن مصداقيتهـا، وتقييمهـا مقارنـة بالمعلومات الأخرى المتوافرة، واسـتخدام ضوابط ومعايير عـدة للاختيار بين المصادر والمعلومات المتاحة بكثرة، وكذلـك ضرورة الاهتمام بتحليـل المعلومات والوثائـق، والاستفادة مـن الأدوات المتعددة المتوافرة على الإنترنت كمحركات البحث، والموسوعات.

هـ - مهارات استخدام الوسائط المتعددة: تحـت مفهـوم الاندماج الإعلامي الذي أزال الحواجز بين الأشكال والوسـائل الإعلامية المختلفة، قامت مؤسسـات إعلامية بدمـج غرف التحريـر في موقعهـا الإلكتروني مـع نظيرتها في الصحيفة الورقية أو المحطة التليفزيونية التابعة للمؤسسة نفسها. وقامـت شركات أخـرى بتحويـل أنشـطتها اسـتنادًا إلى خبرتهـا؛ إذ اسـتجابت بعـض الشركات الإعلامية الأوروبية إلى احتياجات الجمهـور، واختـارت أن تتحول إلى "محـركات للمعلومات" حتى لا تتخلى عن نصيبها مـن السـوق. وبفضـل شـبكة الإنترنت، تحـول الصحفيـون مـن حـراس إلى وسـطاء، وتحـول الجمهور من مسـتقبل إلى مُنْتِج. وأسـهمت تكنولوجيـات أخـرى كالهواتـف المحمولة والأقمار الصناعيـة في تبـدُّل أدوار الصحفـي وتغيُّر مهامـه، مما حتَّم عليه تعلُّـم المزيد؛ لأن الصحافـة الإلكترونية تحتاج اليوم إلى الصحفـي "الشـبكي" الذي يعمل مـع جمهور يحتاج من الإعلامي أن يضيف قيمة جديدة إلى ما يكتب من مواد إعلامية توظِّف الوسـائط المتعددة وتتميز بالجديـة والجاذبية.

2.2. المجتمعات الافتراضية والسياقات الجديدة لأخلاقيات المهنة في الصحافة الإلكترونية 

إن الحياة التي تمارس اليوم على شبكة الإنترنت، ما هي إلا تمثيل افتراضي للواقع الذي تعيشه المجتمعات المختلفة، "تمامًا مثلما هو الحال بالنسبة للصحافة الورقية التي انتقلت في بداياتها إلى الإنترنت بتوفير نسخ من المطبوع الورقي على هيئة "بي.دي.إف" (PDF) لتعبِّر عن واقع معيش، قبل أن تنتقل إلى ما هي عليه الآن كمؤسسات قائمة بذاتها"(16).

وتطور هذا التمثيل الافتراضي مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي "وما صاحب ذلك من ازدهار في بنية الهواتف الذكية التي دمجت كل أدوات الإنتاج الصحفي في جهاز بحجم كف اليد. انتقلت المجتمعات إلى هذه الأجهزة، وازداد المنتوج الإعلامي، وبذات القدر ازدادت رقعة انتشاره"(17)، ليخلق واقعًا افتراضيًّا جديدًا تسوده ثقافة التدوين والتَّراسل؛ حيث أصبحت هذه الثقافة -بإرهاصاتها المختلفة- مصدرًا لتزويد الصحفي بالمعلومة، وكرَّست سياقات جديدة تستدعي دراسة كمية المعلومات التي يضخُّها المجتمع الافتراضي الجديد وأبعادها، وإعادة التفكير في فلسفة الإعلام وممارساته المهنية، وأخلاقياته.

ويمكن الإشارة هنا إلى أن "المدونات أو شبكات التواصل الأخرى مثل تويتر وإنستغرام أو سناب شات وغيرها من المحامل التي يستغلها الناشطون في نشر الأخبار العاجلة بصورة مستمرة، قد زادت من دور الشبكة العنكبوتية في الترويج لسياسة التعبير أكثر من أي وقت مضى. كما أضحت تلك المدونات وشبكات التواصل الاجتماعي وسيلة للنشر والدعاية والترويج للمشروعات، وتبني الحملات المختلفة، بل وتعتبر من أهم الخدمات التي ظهرت على شبكة الإنترنت على الإطلاق، باعتبار أن المدونين ينقلون ما شاهدوه وسمعوه بأنفسهم"(18).

أ‌- المدونات ووسائل التواصل الاجتماعي: أمر واقع في العالم العربي بحاجة إلى المأسسة والمساءلة

ويختلف صحفيو المدونات والمواقع الإلكترونية عن صحفيي الصحف الإلكترونية، "سواء من حيث المهارات والقدرات، أو من حيث طريقة العمل والمهنية، وكيفية الصياغة والسياسة التحريرية؛ حيث يعتمد محررو المواقع أكثر على الاختصار وتركيز المعلومة لسرعة إصدارها، بينما يركز صحفيو الصحف على المحتوى التحريري والمضمون، والالتزام بالمهنية وضوابط العمل الصحفي. وقد فتحت المدونات الباب على مصراعيه لمساهمة الجميع في صنع الحدث، والتفاعل مع الجمهور وأصبحت من أهم أنواع الصحافة على مستوى العالم وأبرزها، وأكثرها تأثيرًا، واستطاعت أن تخلق جيلًا جديدًا من الهواة والصحفيين المتطوعين"(20).عربيًّا، "بدأ تأثير المدونات منذ العام 2005 وازداد مع بدء حراك سياسي في المنطقة، وبداية ارتفاع الأصوات المطالبة بالتغيير والإصلاح، قبل انطلاق ما يُعرف بالثورات العربية. ولعب المدوِّنون دورًا بارزًا وشاركوا بقوة في الدفع نحو التغيير وزيادة الوعي السياسي والاجتماعي، خاصة بين الشباب. وحمل المدونون لواء المبادرة، واستطاعوا رفع هامش حرية التعبير عبر تسليط الضوء على قضايا سياسية واجتماعية كانت تُعدُّ سابقًا من "التابوهات". كما استطاعوا دفع قطاع كبير من مستخدمي الإنترنت -معظمهم من الشباب- إلى التفاعل مع ما يطرحونه، وتشجيعهم على المشاركة الإيجابية. وتُمثِّل مصر أكبر تجمع للمدوَّنات ويُقَدَّر بثلث المدونات العربية، تليها السعودية، ثم الكويت، ثم المغرب"(19).

وبالإضافة إلى المدونات، فإن مواقع التواصل الاجتماعي أثَّرت هي الأخرى في صناعة الخبر باعتبارها قوة تأثير واسعة الانتشار رغم ما تثيره أحيانًا من تباين في الآراء حول "حقيقة ممارسة حرية التعبير" في فضاءاتها. فقد تحولت "مواقع التواصل الاجتماعي إلى أحد أهم مصادر المعلومات الأولية لوسائل الإعلام، باعتبار أن العديد من المؤسسات الإعلامية والصحفيين يتابعون هذه المواقع وما يُنشر فيها من معلومات وأفكار، ربما تقودهم إلى خبر أو قصة مهمة"(21).

ويُعدُّ "الإقبال على مواقع التواصل الاجتماعي ظاهرة عالمية تشكَّلت بسبب ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات التي مكَّنت شعوب العالم من التواصل مع بعضها، وأفرزت ما يُسمَّى بصحافة المواطن، التي مكَّنت الإنسان من تمثيل نفسه بنفسه والتعبير عن رأيه عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات. وتشير الإحصائيات إلى أن عدد المتصفحين للشبكات الاجتماعية ينمو بنسبة عالية جدًّا تصل إلى 250% سنويًّا، ويصل العدد حاليًّا إلى أكثر من 800 مليون مستخدم نشط، وأكثر من نصف هذا العدد يدخلون على الشبكات الاجتماعية يوميًّا"(22). وتلعب مواقع التواصل دور الرقيب على أداء وسائل الإعلام والصحفيين حتى إن "الكثير من مستخدمي تلك المواقع يبادرون إلى تصحيح معلومات ترد في وسائل إعلام، أو تفنيدها أو توضيحها أو تطويرها، تمامًا مثلما تُمَكِّن من التعرف على مدى تفاعل القُرَّاء والمستمعين والمشاهدين مع ما يُنشر من نصوص، أو يُبَثُّ من مقاطع مسموعة أو مرئية"(23) في مواقع الإنترنت المختلفة.

وعلى الرغم من أن مواقع التواصل الاجتماعي قد تكون أكثر رواجًا أحيانًا من منافذ إعلامية تقليدية في الشبكة العنكبوتية "فإن الطابع الشخصي الذي يُهيمن على ما تنشره محاملها المختلفة قد يعوق استخدامها بوصفها مواد صحفية، لذلك يبحث المدونون المعروفون عادة عن وسائل إعلام فاعلة تنشر إنتاجاتهم لمنحها صفة المادة الإعلامية، حتى وإن كانت مواقع التواصل تتيح قدرًا أكبر من حرية التعبير، نظرًا للقيود المختلفة والمتباينة المفروضة أحيانًا على الصحفيين في المؤسسات الإعلامية الرّسمية أو الخاصة"(24).

أما بالنسبة لمستخدمي الإنترنت، فإن مواقع الشبكات الاجتماعية، مثل فيسبوك وتويتر وماي سبيس وغيرها من المواقع، قد وفَّرَت لروادها فرص التفاعل مع ما يُكتب أو يُبث، ومكَّنتهم من صفة الشريك في التعبير الحر ليصبحوا أحيانًا مصدرًا للمعلومة، وأحيانًا أخرى مصدرًا لتردد الشائعات، مما يطرح إشكاليات على مستوى ممارسة المهنة الصحفية وأخلاقياتها.

إن توصيفًا لهذه المدخلات والمتغيرات يتقاطع مع فكرة الإقرار بأن المواطن في العالم العربي يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي وسيلة شخصية لا إعلامية، ما يجعل الحديث عن تبوُّؤ هذه المواقع مكانة مهمَّة -لتكون بديلاً عن الصحافة سواء المكتوبة أم المسموعة أم المرئية- أمرًا يصعب تحقُّقه، وذلك على الرغم من قدرة هذه المواقع على إنتاج أعمال إعلامية متكاملة ازداد عددها بعد أن "دخلت الهواتف الذكية ميدان العمل الإعلامي تدريجيًّا ابتداء من خدمات الرسائل العاجلة قبل عدة سنوات، وأخذت بالتطور حتى أصبح الهاتف الذكي مؤسسة كاملة لصناعة الأخبار، استفادت منه وسائل الإعلام المختلفة"(25).

ولكن على الرغم من ذلك، فإن الاعتراف بأن وسائل التواصل الاجتماعي لديها شعبية لا يمكن الاستهانة بها، وباتت مقصدًا للباحثين عن المعلومات الآنية السريعة -على الرغم من عجزها عن تقديم التحليلات والآراء المعمَّقة- أصبح أمرًا واقعًا، إلا أنها في الآن نفسه تحتاج إلى الكثير من الأطر التي يجب أن تحكم طبيعة علاقتها بالمواد الإعلامية -بعد أن أصبحت مصدرًا للمعلومة بالنسبة إلى العديد من الصحفيين- مما يستوجب تنظيمها، ومَأْسَسَتها حتى نتمكن من مساءلتها إن تطلب الأمر ذلك.

كما أن اعتماد المدوِّنين على ذات الأدوات التي يستخدمها الصحفي في ممارسة مهنته أو حرفته، واستغلال شبكة الإنترنت وسيلة للنشر والتداول، يثيران الرغبة في إعادة تعريف الممارسة الإعلامية والبعد بها عن الوصف الذي يضعها في خط موازٍ للصحافة التقليدية أو خانة صحافة الإنترنت. ثم إن تأكيد حضور المتلقي "المواطن" في القضايا العامة وإسهامه في نقل ما يشاهده من أحداث، قد يجعل التفكيرَ يتجه إلى تفكيك ما يشاركه من محتوى، خبرًا كان أم شكلًا آخر من أشكال التحرير الصحفي للوقوف عند مصداقية ما يتداوله، وتأثير ذلك على درجة مهنية الإعلامي الناقل للمادة الإعلامية مقارنة بدرجة مهنية الصحفي في الصحافة التقليدية، والتي تمكِّنه من الاستقصاء، والتحليل، ورؤية ما وراء الخبر؛ الأمر الذي استعصى على من حجز لنفسه مكانًا بالتحول إلى صحفي إلكتروني ليمارس ما يسمَّى بـ"صحافة المواطن". 

ب- صحافة المواطن: إعلام بديل أم إعلام هجين أساء للممارسة الإعلامية وأخلاقياتها؟ 

لقد أتاحت الصحف الإلكترونية للمجتمعات الافتراضية من الفرص ما يمكِّن المواطن من جمع المعلومات وإدراجها على محامل اتصالية بشبكة الإنترنت. وقد ساعد انتشار عديد التطبيقات والمنصات على الإنترنت -وخاصة مع شيوع أجهزة الهواتف المحمولة المجهزة بكاميرات لالتقاط الصور، والفيديوهات- الكثير من المواطنين غير المدربين على القيام بمهام الصحفي ونقل مشاهداتهم، مما أفرز واقعًا جديدًا للممارسة الإعلامية، وتغيرًا في المفاهيم المتصلة بالإعلام. ونتج عن هذا التغير في الممارسة الإعلامية، بروز مفاهيم جديدة كالتشاركية في إنتاج المحتوى، وظهر نوع جديد من مصادر المعلومات تتطلَّب توظيف وسائل التوثيق لتحقيق قدر من المصداقية في نقل المعلومات وتغطية الأحداث التي تجعل من "صحافة المواطن" المصدر الأول للخبر. وهذا النوع الجديد أدى إلى تغيير واضح في نموذج الاتصال الإعلامي الذي تبدلت ملامحه، فاندمج المصدر والمرسل والمتلقي، وذابت الرسالة في الوسيلة، وما عاد مفهوم "رجع الصدى" كما كان في النموذج التقليدي للاتصال(26).

وقد ظهرت بعض الاجتهادات لرسم ملمح مميز لصحافة المواطن، وفقًا لمحددات اشترطها باحثون، مثل مارك ديوز (Mark Deuze) (27) الذي يرى ضرورة أن يعي "الصحفي المواطن" شكل التغيرات التي طرأت على البنية الإعلامية، حتى يستوعب الطرق الجديدة في كيفية إنتاج المحتوى الإعلامي وتسويقه. كما على "الصحفي المواطن" أن يكون ملمًّا بما يستجد في الشكل والمفهوم لكل وسيلة صحفية، فلكل وسيلة طريقة تختلف عن الأخرى في تشفير وفك الشفرات، وفًقا لمحددات بنيوية تشكل في منتهاها خاتمة الرسالة الإعلامية"(28).

ويتوقف دور المواطن العادي عند سبر أغوار الحدث الذي ينقله كما رآه هو فقط، وهو الدور الذي يلعبه المصدر في تزويد المحرر الصحفي بالمعلومات مجردة، وهذا الدور لا يرتقي به إلى صفة الصحفي، وذلك لاعتبارات كثيرة لو نظرت إليها الباحثة في الظواهر الإعلامية، كليمينسيا رودريغز (Clemencia Rodriguez) (29)، "لما تعجَّلت بإطلاق مصطلح "الصحفي المواطن" على الشخص الذي يكتفي فقط بنقل ما يشاهده، لأن صفة الصحفي تنسحب على من يحرر الخبر، ويعالجه وفق القوالب التحريرية، وربما يضطر للاتصال بمصادر معلوماتية أخرى، أو "استدعاء التاريخ لإكمال الخبر، تليه عملية تصنيف المعلومات التي يوفرها المواطنون، والعمل على تحريرها وتلوينها بما لا يخرج عن سياسة الصحيفة التحريرية"(30).

ولو تريث الباحثون قليلًا وأمعنوا النظر في الممارسة لاكتشفوا أن الكثير من التوصيفات بشأن "صحافة المواطن" و"المواطن الصحفي" بعيدة كل البعد عن قواعد الممارسة الصحفية المهنية. "فلا يُعَدُّ المواطن صحفيًّا إذا تزوَّد بوسائل الاتصال، التي هي -في الأغلب- هواتف ذكية تمكِّنه من نشر المعلومات أو نقل الأحداث التي جعلته الظروف شاهدًا عليها". "كما لا يمكن أن تصبح مدونة المواطن الشخصية صحيفة إلكترونية إذا كان ما ينشره لا يتعدَّى معلومات يلعب فيها دور المصدر في العملية الاتصالية التقليدية فقط لا غير. وغالبًا ما تفتقر المعلومة التي ينشرها ذلك "الصحفي المواطن" إلى المحتوى الصحفي مكتمل الأركان؛ إذ تبقى معلوماته عاجزة عن توفير إجابات دقيقة عن تساؤلات الخبر الستة، أو الإلمام بأشكال الخبر المعروفة"(31)، بينما يُفترض أن تقوم الصحافة بدور عقلاني في تشكيل الرأي العام، وإدارة الحوار المتزن كسلطة لها وزنها في بنية المجتمع، وقوة رمزية في بناء التواصل ومشاركة الأفكار وتداولها.

إن الاتجاهات التي انتحاها الباحثون إذن، وأفضت بهم إلى نحت مصطلح "صحافة المواطن"، لا تقترب من الصحافة كمفهوم أو حرفة إلا في بعدها التنظيري؛ "فالأقرب أن ممارسة "صحافة المواطن" هي انتقال للمجتمع من الواقع إلى واقع افتراضي، توسعت معه سبل المشاركة وتبادل الأفكار، وحينها قد تتعدد المسميات مثلما هو حاصل في الإعلام التقليدي كإطلاق الصفة للتخصصية أو لون الناقل أو نوع التناول، بأن نقول: صحافة صفراء أو فكاهية أو اقتصادية..إلخ"(32).

في المحصِّلة، فإن تمظهرات "صحافة المواطن" تشير إلى خلق نفس من الحرية إلا أن تلك الحرية لم ترافقها المسؤولية في كثير من الأحيان، وغابت عنها قواعد الممارسة المهنية، والدقة، والموضوعية في أحيان أخرى، مما جعل البعض يعتبر "صحافة المواطن"، أقرب إلى "حالة تغيير هرموني أحدثه التطور التقني في بنية الإعلام التقليدي، نتج عنه ما يمكن توصيفه بـ"الإعلام الهجين وتغيير في الجينات المعرفة للإعلام"(33).

فَمَنِ المخوَّل إذن بتوضيح المسؤولية الملقاة على عاتق كل من ينشر على الشبكة العنكبوتية؟ وهل يكفي اعتماد التعديل الذاتي لضبط وتنظيم ما ينشر على صفحات الإنترنت، أم أن الأمر يتطلب رؤية جديدة للممارسة المهنية وأخلاقياتها في الصحافة الإلكترونية العربية؟

3. رؤية جديدة لأخلاقيات الصحافة الإلكترونية العربية، ومعاييرها المهنية 

استنادًا إلى ما سبق، وعلى الرغم من أن المشهد الإعلامي العربي لا يعكس نضجًا ملموسًا في قطاع الإعلام الجديد، إلا أن هناك عديد العلامات الدالة على تطور مطرد لصحافة الإنترنت، سواء من خلال البوابات الإخبارية، أو الصحف الإلكترونية أو المدونات الإعلامية باللغة العربية، وهو ما يجعلها بالفعل "نواة حقيقية منافسة للصحافة التقليدية، تمكنت في ظرف وجيز من استقطاب العديد من "المستخدمين ممن لهم القدرة الفكرية والمادية على النفاذ إلى الشبكة العنكبوتية"(34).

ويفرض الإعلام الجديـد على وسـائل الإعلام التقليديـة اليوم في العالم العربي عددًا من التحديات: فبعد أن تمكَّنت هذه الأخيرة من أن "تعمـل في بيئـة مسـتقرة مـن النواحـي المهنية والأخلاقية والقانونيـة، سـاعدها على ذلـك عمـق التجربـة ورسـوخها عبر عقـود عديدة"(35)، أصبحت اليوم في منافسة مباشرة مع الإعلام الجديـد الذي يتسـم بالحداثة، لكنه في المقابل يواجه الكثير من الصعوبات في الوصول إلى أطـر أو ضوابـط مهنيـة وأخلاقية وقانونيـة، ولاسيما في الـدول والمناطق التـي عرفـت هـذا النـوع مـن الإعلام في فترة حديثـة نسـبيًّا مقارنـة بـدول العالم المتقدم؛ حيث اسـتقرت فيهـا كل أشكال الإعلام الجديد لاكتمال مقومـات مجتمـع المعلومات بهـا، وبلوغها مـا يمكـن أن نطلـق عليـه "مجتمـع المعرفة"(36).

إن عدم توافر الأطر، والضوابط المهنية، والأخلاقية، والقانونية في ممارسة الصحافة الإلكترونية في الكثير من المجتمعات -ومنها على وجه الخصوص المجتمعات العربية- يثير اليوم عدة هواجس وقضايا، ويطرح عدة تساؤلات حول حرية الصحافة من حيث اعتبار النشر الإلكتروني داعمًا لمبدأ حرية الإعلام عمومًا بعيدًا عن المعايير التي يلتزم بها الصحفي في الصحافة التقليدية، وفي ظل تشديد الرقابة على المادة الصحفية المنشورة إلكترونيًّا، إضافة إلى قضايا التزام الصحف الإلكترونية بالمعايير الأخلاقية والمهنية، وإشكاليات علاقة النشر عبر الشبكة بحقوق المؤلف والرقابة على المصنفات...إلخ.

وفي ظل وجود مثل هذه الهواجس، فإن التفكير في الأطر، والضوابط المهنية، والأخلاقية، والقانونية للبيئة الجديدة للصحافة الإلكترونية يتطلب الاستئناس أولًا بمثيلاتها في الصحافة التقليدية، للنظر في الحقوق المستحقة والواجبات المفروضة على الصحفي أثناء أدائه لمهامه، والنظر ثانيًا في كل الإمكانيات المتاحة لتطبيق القواعد القانونية العامة على وسائل الإعلام الحديثة ومنها الصحافة الإلكترونية. "أما الجوانب التي لا تفي القواعد القانونيـة العامـة بالحاجة إلى تنظيمها، فإنه على الدولة التدخل مـن أجل وضع تنظيـم قانـوني يضمـن عـدم التعـدي على الحقـوق والحريـات الفرديـة جرَّاء الاستخدام المفرط لتلك الوسـائل مـن دون ضوابـط أو حـدود واضحـة"(37).

1.3. الضوابط القانونية والأخلاقية للصحافة التقليدية في خدمة الصحافة الإلكترونية

إن مجمـل الحقـوق التـي يتمتـع بهـا أو يطالـب بهـا الإعلاميون في البيئـة التقليديـة، تنطبـق بشـكل أو بآخـر على الإعلاميين العاملين في البيئـة الإلكترونية الجديـدة، سـواء أكانـت حقـوقًا مهنيـة أو سياسـية أو ثقافيـة أو ماديـة أو معنويـة أو غيرهـا؛ حيـث يحـق للإعلاميين في البيئـة الإلكترونية الجديـدة التمتـع بهـذه الحقـوق، إضافـة إلى مـا تضفيـه عليهـم البيئـة الجديدة من حقـوق لا يتمتع بهـا الإعلاميون في البيئة التقليديـة مثـل هامش حق حرية التعبير، وحرية الوصول إلى مصـادر المعلومات، والحق في التواصـل التفاعلي والفوري مـع جمهورهـم...إلخ، إلا أن هـذه الحقـوق تحتـاج إلى صياغتها في شـكل مواثيق وبروتوكولات لضمان تمتع هؤلاء الإعلاميين بها(38)، أسوة بعديد البلدان الأجنبية.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن القانـون في الولايات المتحدة الأميركية كان سبَّاقًا في منح الصحفـي الإلكتروني جميـع الحقـوق التـي يتمتـع بهـا الصحفـي الممارس للإعلام التقليـدي، وعلى رأسـها حقـه في الحفـاظ على سريـة مصـادره، على أن تكون مهمته الأساسية هي الصحافة، أي أن تكون مصدر رزقه الأساسي. كما يعتبر القانون المشار إليه أن مهمـة الصحفـي الإلكتروني هـي نشر الأخبار، إضافة إلى التغطية الاستقصائية والتفسيرية للأحداث. إضافـة إلى ذلك، فـإن البيئـة الجديـدة للإعلام أضفـت بعـض المتطلبات التـي تمَّ التنصيص عليهـا كحقوق أساسية للإعلاميين، ومـن بينهـا: الحـق في الحفـاظ على سرية المعلومات، وعـدم الكشـف عـن كلمـة المرور الخاصـة بالإعلاميين أو محاولـة كسرهـا، وعـدم تتبـع تنقلاتهم الإلكترونية أو محاولـة معرفـة روابـط مصادرهـم، والحـق في حمايـة أجهزتهـم ووسـائلهم الإلكترونية مـن التنصت والاختراق، والحق في الحصـول على مزايـا لحمايـة بياناتهـم ومعلوماتهـم ومصادرهـم والوصـول إليها مـن دون عوائـق تكنولوجية، والحق في اسـتنباط طرق جديدة للتواصـل مع جمهورهم واسـتخدامها، والحـق في إرسـال معلوماتهـم واسـتقبالها وتخزينهـا واسترجاعها بطريقة إلكترونية، والحق في الوصـول إلى مصـادر المعلومات التـي تفـرض قيـودًا على اسـتخدامها -مـا دام الغـرض هـو القيـام بخدمـة عامـة- والانتفاع بها، والحـق في التأهيل المهني والتكنولوجي بما يمكِّنهم من اسـتخدام الوسـائط الجديدة بفاعلية، والحـق في الحصـول على ما يسـمى بـ"بـدل تكنولوجيا" لتطوير مهاراتهم الرقميـة، والحق في العمل على أجهزة متطـورة وحديثـة، والحـق في إيجـاد كيانـات مهنية إلكترونية محليـة وعابرة للدول تسـن تشريعات ومواثيق لهـم، وتدافـع عـن حقوقهـم، والاعتراف بهـذه الكيانـات وتمثيلها لهـم في الجهـات المختلفة(39).

وفي مقابل الحقوق، يوجد العديد من الواجبات المفروضة على الإعلاميين في البيئـة التقليدية والتي تنسحب على البيئة الإلكترونية الجديدة أيضًا، "إلا أن ثمة صعوبـات في تطبيـق بعضهـا، كما يتخـذ بعضهـا الآخر أشكالًا مختلفة، فضلًا عن وجـود العديد مـن التساؤلات التي لا تـزال تحتـاج إلى توضيح وإجابـات والتي تتصل بكيفيـة الالتزام بهـذه الواجبات في البيئـة الإلكترونية خاصة عندما يتعلق الأمر بالإعلاميين الذين يعملون في مؤسسات إعلامية تجمع بين الإعلام التقليدي والجديد"(40).

فالإعلاميون العاملـون في المؤسسات الإعلامية التقليديـة التـي لهـا مواقـع إلكترونية ينتمـون مهنيـًّا إلى هـذه المؤسسات أكثر مـن انتمائهم إلى الكيانـات الإلكترونية، ومن ثم فإنهم لا يزالـون يسـتندون في التزاماتهم المهنية إلى البيئـة الإعلامية التقليديـة وليـس الإلكترونية بالرغـم مـن تغير طبيعـة هـذه الالتزامات، ومن بينهـا ضرورة الدفـاع عـن حريـة التعبير الإلكتروني، والحـق في ممارسة المهنة الإعلامية الإلكترونية، وعدم التعـدي على حقـوق المواقع الأخرى، أو تعطيلها عن أداء عملهـا، أو تحرير مواد أو فيروسات أو روابط قد تؤثـر في مصداقيتهـا وسير العمـل بهـا، والعمـل على صياغـة مواثيق مهنية تتناسـب مع الطبيعـة الإلكترونية للعمـل الإعلامي، والحـرص على تنقية المهنة ممن لا يحترمون ضوابطها الأخلاقية، وعـدم التعـدي على أسماء الحقـول الخاصـة بالآخرين، وعـدم استغلال المميزات التـي توفرهـا تكنولوجيـا البيئـة الإلكترونية في الانتقاص مـن حقـوق الآخرين أو مضايقتهـم، أو إزعاجهـم أو التعـدي على ممتلكاتهـم أو خصوصياتهـم، وعلى تجنب صراع المصالح بين الأعمال الخاصـة والعمل الإلكتروني الإعلامي، وعـدم استغلال الإمكانات الخاصة بالمؤسسات الإعلامية التقليديـة في تصميم مواقع إعلامية خاصة(41).

إن الضوابط القانونية والأخلاقية التي توفرها الصحافة التقليدية، وتستمد منها الصحافة الإلكترونية أسس تقنينها وتنظيمها، تبقى غير كافية في ظل وجود عديد الفراغات التشريعية مما يطرح حاجة ملحَّة إلى إصدار تشريعات جديدة خاصة بالإعلام الجديد.

2.3. حاجة الصحافة الإلكترونية إلى تشريعات جديدة 

يعتبر الكثير من المختصين أن الثورة الهائلة لتكنولوجيات الإعلام والاتصال جعلـت كل تشريعات الإعلام في الوطـن العـربي خـارج سـياق الزمـن، و"برهنت على أن هـذه القوانين المتخلفة قـد أصبحـت عقبـة أمام تطويـر صناعـة الإعلام العربي"(42)، مما يستدعي إقرار تشريعات جديدة تضمن الحريات الفردية والعامة، وتكفل حرية الرأي والتعبير بعد أن فرضت وسائل الاتصال "طرقـًا جديـدة في التقييـد والمنع لم تكن موجـودة في السابق، مثل الحـد من حريـة التعبير، بعد أن أصبحت وسـائل التقييـد تكنولوجية، وبلغ التقييد حد الوسـائل الإعلامية نفسـها"(43)

وقد تأثرت الدول العربية بالموجة الدولية الساعية لمراقبة وتقنين وسائل الاتصال الإلكتروني، ووضع اتفاقية دولية لتنظيم مجال الجرائم الإلكترونية، وهي اتفاقية بودابست بتاريخ 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2001(44)، أي مباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. وتُشكِّل هذه الاتفاقية، والتوجيهات الإرشادية الصادرة عن مجلس أوروبا 1955(45)، والتوجيهات الإرشادية لمنظمة التجارة العالمية(46)، والتوجيهات الإرشادية لمنظمة التعاون والتنمية(47)، النواة الأساسية لظهور قانون دولي للإنترنت(48).

كما واكبت البلدان العربية النقاشات الدولية المتعلقة بضرورة إيجاد قواعد قانونية تنظِّم تكنولوجيا الإعلام الحديثة، وتواجه الأضرار الناتجة عن الجرائم والمخالفات المرتكبة بواسطة وسائل الإعلام والاتصال الإلكترونية، والإنترنت على وجه الخصوص. وقد لجأت، في هذا السياق، إلى وضع قواعد قانونية إقليمية ذات طابع دولي لمحاصرة هذه الجرائم والمخالفات والخروقات، واختصرت ذلك في "القانون العربي النموذجي الموحَّد الذي صيغ عام 2004(49)، وأعيد سَنُّ مضامينه في القوانين العربية الخاصة بمكافحة الجرائم الإلكترونية. "كما تجدر الإشارة إلى اهتمام وثيقة البث الإذاعي والتلفزي العربية، الصادرة عام 2008 عن مؤتمر وزراء الإعلام العرب، بوضع أُسس قانون عربي للإعلام؛ حيث تضمنت الوثيقة إشارات عن تنظيم وسائل الإعلام الإلكتروني، وإرساء بعض قواعد القانون العربي للإعلام الإلكتروني. وتُوِّجت هذه الإرهاصات بإصدار اتفاقية جديدة مكمِّلة، تُشدِّد على بعض قواعد هذا القانون، وهي اتفاقية "الجريمة الإلكترونية العربية، التي تعتبر صدى لاتفاقية بودابست والتشريعات العربية الداخلية الخاصة بالجرائم الإلكترونية"(50).

وتكثَّفت الجهود من أجل وضع أسس جديدة للإعلام الإلكتروني بعد ثورات الربيع العربي؛ حيث ظهرت قوانين جديدة خاصة بالصحافة الإلكترونية، أو قوانين شاملة للصحافة والنشر عمومًا، مع إيراد تفصيلات وتدقيقات خاصة بالإعلام الإلكتروني. وظهر هذا التوجُّه في عدد من الدول العربية مثل تونس ومصر، والأردن والمغرب والجزائر والكويت؛ حيث تمَّت دَسْتَرَة الإعلام الإلكتروني بالنص عليه في صلب دساتير الموجة الدستورية الجديدة لما بعد الربيع العربي، والاكتفاء بالإشارة إلى حرية التعبير وحرية الإعلام، والحق في الإعلام والوصول إلى المعلومة في بعضها الآخر.

ففي تونس ومصر اللتين عاشتا تجربة الربيع العربي، تمَّ تسجيل الكثير من المحاولات والمبادرات من أجل تقنين الصحافة الإلكترونية. ففي مصر، لعب الاتحاد العربي للصحافة الإلكترونية، منذ مارس/آذار 2010، دورًا مهمًّا من أجل وضع ميثاق شرف مهني للعاملين في مجال الإعلام الإلكتروني على الصعيد العربي، ومن ضمنهم الصحفيون الإلكترونيون المصريون. ثم عملت نقابة الصحفيين الإلكترونيين، التي وُلدت من رحم الثورة، على "وضع مسوَّدة مشروع قانون، عُرض على المجلس العسكري في "مؤتمر الإعلام والتحدي والريادة"، الذي عُقِد في 8 يونيو/حزيران 2011، وصدرت عنه توصية تُشدِّد على واجب تنظيم نشاط النشر الإلكتروني. كما شدَّدت على ضرورة حماية المجتمع من الممارسات الخاطئة، وأكدت على حقوق وواجبات العاملين في مجال النشر الإلكتروني، وضمان حماية الملكية الفكرية الإلكترونية للأشخاص، وحفظ حق المجتمع. ونظرًا لحصول تطورات سياسية لاسيما بعد إجراء الانتخابات البرلمانية، تم سحب القانون من البرلمان من طرف النقابة مخافة إفراغه من محتواه التقدمي بفعل التعديلات التي قد تُدخلها عليه الأغلبية البرلمانية (الإخوان المسلمون والسلفيون)، عقب فوزها في الانتخابات التشريعية، مخافة التضييق على هامش حرية الإعلام الإلكتروني"(51).

وبعد يونيو/حزيران 2013، فُسح المجال أمام إعادة النظر في دستور 2012، حيث طال التغيير المادة 48 منه، ليوضع أساس دستوري يتم بموجبه التمييز بين مختلف وسائل الإعلام (صحافة مكتوبة وإعلام سمعي بصري وإعلام إلكتروني). وأصبحت المادة 70 من الدستور، الذي تم إقراره في يناير/كانون الثاني 2014 عبر استفتاء شعبي، تنص بصريح العبارة على: "أن حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة للمصريين، من أشخاص/شخصيات/طبيعية أو اعتبارية عامة أو خاصة، وحق ملكية وإصدار الصحف، وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائط الإعلام الرقمي، وتَصدُرُ الصحف بمجرد الإخطار على النحو الذي ينظِّمه القانون. وينظِّم القانون إجراءات إنشاء وتملُّك محطات البث الإذاعي والمرئي والصحف الإلكترونية"(52).

أما بالنسبة للتجربة التونسية، فقد تنامت حرية التعبير هي الأخرى بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011، وتطورت عبر مختلف وسائل الإعلام الورقية والسمعية البصرية، وازدادت معها حرية الإنترنت، والإعلام الإلكتروني. لكن في المقابل، لا يزال الإطار القانوني مقصورًا على المرسوم عدد 115 للصحافة والطباعة والنشر، الصادر في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، الذي يبقى غير كاف لتنظيم قطاع الصحافة الإلكترونية مما استوجب الالتجاء إلى أحكام المجلة الجزائية(53)، التي تُطبَّق على النشر الإلكتروني عبر الإنترنت، وعبر الإنتاج متعدد الوسائط.

إن أحكام المجلة الجزائية التونسية تطبَّق على مستعملي الإنترنت ومنتجي الوسائط المتعددة إذا استخدموا هذه الوسائل في الاعتداء على النظام العام، والحياة الخصوصية للآخرين، والحث على الكراهية، ودعارة الأطفال، والدعوة إلى الإرهاب والعنصرية والإشادة بالحروب، وكل ما هو منصوص عليه في اتفاقية بودابست، والبروتوكول الإضافي الملحق بها والمكمِّل لها، وفيه تمت الإشارة إلى تجريم أعمال التمييز العنصري، وكره الأجانب، والتمييز الديني والعِرقي، وجرائم الإبادة ضد الإنسانية، المرتكَبة بواسطة أنظمة الحاسوب(54).

وطالت موجة تقنين الإعلام الإلكتروني دول المشرق العربي أيضًا، على إثر أحداث الربيع العربي؛ حيث شهد الأردن إدخال تعديلات على قانون المطبوعات والنشر في سنة 2012، و"أُدمجت هذه التعديلات في القانون رقم 8 لسنة 1998، الذي يُشار إليه بالقانون الأصلي، فأعطانا قانونًا جديدًا ضمن مشمولاته قضايا تنظيم وسائل الإعلام الإلكتروني. لكن هذا التعديل وردت به قيود قانونية، وتشوُّهات بنيوية، لذلك سجَّل عليه وضدَّه الفاعلون في الإعلام الإلكتروني عدَّة مؤاخذات، على رأسها أنه وُضع دون استشارتهم أو استشارة من يمثِّلهم، كما وُضِع دون مراعاة تكييفه مع القوانين الأخرى الداخلية. وقد خالفت هذه التعديلات بنود الدستور والمعاهدات الدولية بفرضها مزيدًا من القيود على حرية الإعلام والتعبير عبر الإنترنت"(55).

أما مزايا القانون الأردني الجديد فتتعلق بالأساس بإحداث غرف قضائية متخصصة تتولى النظر في قضايا المطبوعات والنشر بشقيها الجزائي (جرائم النشر)، والمدني (دعوى التعويض المدني)، وهو نفس الإجراء الذي تبناه القانون المغربي والذي يقضي بإحداث غرف متخصصة مكلفة بالبت في قضايا الإعلام(56). "وتكمن أهمية القانون في إسناد البتِّ في القضايا المتعلقة بالإعلام إلى قضاة متخصصين في شؤون الإعلام يفهمون، ويستوعبون طبيعة العمل الإعلامي ومشكلاته، وصعوباته، مع تقدير كون احتمالات الخطأ كثيرة وجدَّ واردة فيه"(57).

وفي المقابل، يطرح القانون الأردني، وكل القوانين في البلدان العربية تقريبًا، إشكالًا جوهريًّا حيث يصنفون "المطبوعة الإلكترونية شخصية اعتبارية مثلها مثل سائر المطبوعات الدورية، مع العلم بأنها ليست كذلك، بل هي إحدى الخدمات التي تُقدِّمها الإنترنت. والإنترنت -كما هو معلوم- عبارة عن شبكة معلومات دولية (فضاء افتراضي) لا يمكن لا تقنيًّا ولا قانونيًّا إخضاعه لقواعد الترخيص في أية دولة من العالم"(58).

إن ما جاء في التشريعات العربية من قواعد ومبادئ لتنظيم الصحافة الإلكترونية يقف شاهدًا على مدى تأثر الأنظمة العربية بواقع التحولات التي عرفتها مجتمعاتها بعد ثورات ما يسمى بالربيع العربي، وتطورات التكنولوجيات الحديثة التي غزت كل المجالات، وعلى رأسها مجال الصحافة الإلكترونية. ولكن على الرغم من كل محاولات الإصلاح التي حاولت البلدان العربية القيام بها على مستوى تشريعاتها الإعلامية التي مسَّت كل المحامل الاتصالية المكتوبة، والمسموعة، والمرئية، والإلكترونية، إلا أن هذه الأخيرة ما زالت تحمـل الكثير مـن التحديـات التـي يمكـن أن تعصـف بالصحافـة كمهنـة. و"يتقدم هـذه التحديـات، إلى جانب قضيـة الأخلاقيات وعمليـات السطو على حقـوق التأليـف والنشر الخاصـة بالآخرين، واهتزاز المصداقية والثقـة بكثير مما يتـم تناولـه مـن أخبـار ومعلومـات عبر الصحافة الإلكترونية(59)، تلك العلاقة المشبوهة بين السياسة والإعلام الإلكتروني والتي تهدد عديد الديمقراطيات "فالعديد من السياسيين يستخدمون اليوم التكنولوجيا لتقويض الديمقراطية والتدخل في المسارات الانتخابية، وما الأخبار الزائفة المليئة بالكذب إلا جزء من هذه الاستراتيجية"(60).

وقد ندَّد العالم والأكاديمي البريطاني مخترع شبكة الإنترنت العالمية، تيم بيرنرز لي (Tim Berners Lee)، بهذا الانحراف وحذَّر من وقوع عالم الإنترنت تدريجيًّا تحت هيمنة الحكومات والشركات الرقمية، ومن اختناق الإنترنت جرَّاء استغلال المعطيات الشخصية.

كما أبرز الخطر الوخيم الذي يشكِّله تسويق المعلومات الكاذبة على السياسة؛ "ففي رسالة مفتوحة نشرها يوم 12 مارس/آذار 2017، بمناسبة الذكرى 28 لإنشاء شبكة الإنترنت، أشار بيرنرز لي إلى أن انتخابات عام 2016 في الولايات المتحدة الأميركية شهدت تقديم ما لا يقل عن 50.000 نوع من الإعلانات يوميًّا على شبكة الفيسبوك؛ حيث أصبح من المستحيل تقريبًا رصد ما يحدث. وهناك إيحاءات بأن بعض الإعلانات السياسية، في الولايات المتحدة وحول العالم، تمَّ استخدامها بطرق لا أخلاقية لتوجيه الناخبين إلى مواقع الأخبار الزائفة، أو للحث على هجر صناديق الاقتراع ...إلخ"(61).

"وتقف شركات التكنولوجيا العملاقة التي تهيمن على ساحة الإعلام الجماهيري، مثل: غوغل، وفيسبوك، وأمازون، وتويتر، وراء ذلك، تمامًا مثلما تقف وراء ترويج سلسلة من الفضائح، والمعلومات الزائفة منها الغضب من فرض الرقابة على الصور الشهيرة، والبث المستمر لمشاهد التعذيب والقتل، والشكاوى التي رفعتها الشّركات الكبرى إثر نشر إعلاناتها على مواقع الدعوة إلى الإرهاب، والكراهية والاعتداء الجنسي على الأطفال في جوٍّ خال تمامًا من القيم؛ فهي لا تعير أية أولوية للمعلومات باعتبارها مصلحة عامة كما هي الحال مع الصحافة المهنية، ولا تميز في سياستها التسويقية، بين الإنتاج الصحفي وغيره من المعلومات حتى لو كانت مسيئة للأفراد، والحياة العامة"(62).

وأمام هذه التجاوزات التي تحصل على شبكة الإنترنت وما يُبث من أخبار زائفة، قامت بعض الحكومات، بما في ذلك حكومات البلدان الديمقراطية، بإنذار شركات الخدمات التكنولوجية بتسليط عقوبات مالية عليها إن لم تقم بالإجراءات اللازمة لسحب المعلومات الضارة والخطيرة من مواقعها، مما سبَّب قلقًا في العديد من الأوساط حول احتمال الحد من حرية الرأي والتعبير، في ظل عدم وجود استعداد جدي من قبل هذه الشركات لدعم القواعد الأخلاقية للاتصال على الشبكة. وأمام هذه الوضعية، يذهب الكثير من المختصين في مجال الإعلام والاتصال إلى ضرورة دعم مواثيق الشرف الأخلاقية في البيئة الإعلامية الإلكترونية، تجاوزًا لشبه الفراغ القانوني في التشريعات العربية في هذا المجال عمومًا، وحفاظًا على الحد الأدنى من المعايير المهنية، والضوابط الأخلاقية الضامنة لاستمرارية قطاع الإعلام الإلكتروني.

3.3. مواثيق الشرف الأخلاقية في البيئة الإلكترونية وحل التعديل الذاتي

وضعت نقابـات الصحفيين في معظـم الـدول العربيـة مواثيـق شرف صحفيـة تصلـح أن تكـون هـي نفسـها مواثيـق الشرف التـي يُطلـب أن يلتـزم بهـا كل الصحفيين في الصحـف الإلكترونية. كما أن لوائـح نقابـات الصحفيين تتيـح محاسـبة الإعلاميين الذيـن يرتكبون جرائـم صحفية؛ فقد منـحت بعض القوانين في عدد من البلدان العربية على غرار مصر(63) "النقابـة الحـق في التحقيـق مع الصحفيين الذين ينتهكـون مواثيق الشرف الصحفية، ومنحهـا حـق إصـدار العقوبـات الملائمة مـن دون اللجـوء إلى المحاكم والقضـاء"(64).

وساعد ظهور العديد من المنظمات في العالم على غرار شبكة الصحافة الأخلاقية التي تم إنشاؤها منذ خمس سنوات، أو مبادرة الصحافة الأخلاقية للاتحاد الدولي للصحفيين على دفع أخلاقيات العمل الإعلامي، والمساعدة على تنظيم قطاع الصحافة الإلكترونية. وتُعدُّ شبكة الصحافة الأخلاقية من أهم الشبكات في العالم؛ وهي ائتلاف يضم أكثر من ستين مجموعة من الصحفيين، والمحررين وأصحاب الصحف ومجموعات الدعم الإعلامي. وتشجع الشبكة على أنشطة التدريب والقيام بالإجراءات العملية لتعزيز الأخلاقيات والحوكمة. وقد أصدرت الشبكة عديد التقارير بشأن "تطوير نماذج اختبارية للصحف للكشف عن خطاب الكراهية، أو وضع مبادئ توجيهية بشأن تغطية النزاعات، أو الممارسات الصحفية المخفية أو تلك المتعلقة بتحديات التعديل الذاتي"(65).

وتعتبر الشبكة أن الالتزام بمراقبة أسلوب التعبير واحترام الحقائق ليس حكرًا على الصحفيين، بل يتحتَّم على كل من لديه ما يقوله على الساحة الاعلامية أن يتشبث بالمعايير الأخلاقية، "وتشير شبكة الصحافة الأخلاقية إلى أن القيم المهنية للصحافة -كالتمسك بالحقائق، والروح الإنسانية واحترام الآخرين والشفافية والإقرار بالأخطاء- هي مبادئ أساسية ينبغي أن يقتدي بها الجميع، بمن في ذلك مستخدمو الوسائط الاجتماعية، والصحفيون المدنيين، ولابد لهذا السلوك أن يكون طوعيًّا وناتجًا عن قناعة وليس بإملاء القانون"(66).

وتذهب مبادرة الصحافة الأخلاقية التي أطلقها الاتحاد الدولي للصحفيين -والذي يضم ما يزيد عن 600 ألف صحفي في 131 دولة حول العالم- إلى أن قيمًا أساسية مثل الدقة والاستقلالية والمعالجة المسؤولة للخبر- التي تطورت على مدى الـ150 سنة الماضية- تبقى قيمًا ثابتة وعلى نفس الأهمية، حتى في هذا العصر الذي تطغى عليه الرقمنة، معتبرة أن الصحافة الأخلاقية على حق، ليس فقط لأنها تعمل من أجل الصالح العام، ولكن لأنها أيضًا هي الطريق لبناء مستقبل طويل الأمد لدور قطاع الإعلام في إرساء الديمقراطية.

وتعتبر هذه القيم جزءًا من المبادئ(67) "التي تتضمنها مواثيق الشرف الأخلاقية في البيئة الإعلامية عمومًا، والتي تستند بدورها إلى المبادئ الأخلاقية العامة المقرَّة في المواثيق والإعلانات والمعاهدات العالمية، كالدقة، والمصداقية في المعلومة، والموضوعية والنزاهة والتزام استقلالية التغطية الإعلامية، واحترام الحقيقة وحرية التعبير، ومراعاة التوازن والإنصاف والتعددية، وإعطاء مكونات المجتمع فرصة التعبير في الوسيلة الناشرة بالرد والتصويب، إن تناولتهم في خبر أو بحث أو صورة، أو كان من شأنها الإساءة إليهم.

وتُلزم مواثيق الشرف الإعلاميين ومؤسسات الإعلام عمومًا بعدم الخضوع للسلطة والتنظيمات السياسية، ومراعاة خصوصيات الجمهور، أفرادًا وجماعات، واحترام حقهم في الحصول على المعلومات، وعدم التمييز بين فئات الجمهور بسبب الدين أو الطائفة أو المذهب أو العِرق أو اللغة أو الجنس أو الثقافة أو اللون، واحترام حرية الفكر والمعتقد والتعبير، وتعزيز المشاركة والتواصل بين المؤسسة الإعلامية والجمهور.كما تُلزم الإعلامي بأن يحرص على القيام بعمله بطريقة أخلاقية ومهنية، مخلصة للصدقية والنزاهة، وأن يميز فيما ينشره -كمادة إعلامية- بين الخبر وأفكاره الشخصية، منعًا للالتباس، وإفساحًا في المجال للمتلقي، واحترامًا له، ليشكِّل لنفسه وبنفسه قناعاته الشخصية.

وفي ممارسته لعمله، يلتزم الإعلامي باحترام المبادئ العامة الأساسية المعلن عنها في المعاهدات والمواثيق والإعلانات الدولية والعربية، وخاصة منها ما يتعلق بحفظ كرامة الإنسان، وصون حقوق الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة وفاقدي الأهلية لأسباب قانونية أو صحية، والتعامل مع الأطفال والقاصرين بحذر أثناء التغطية، وعدم استغلالهم أثناء العمل الإعلامي، مع ضرورة التوسع في ذكر المحاذير المتعلقة بالأطفال خلال التغطية الإعلامية، وبالتحديد، تلك التي تنص عليها اتفاقية حقوق الطفل. ويمتنع الإعلامي عن نشر أية مادة إعلامية من شأنها أن تشجع على الجريمة أو العنف أو خطاب الكراهية، أو التحريض الطائفي أو الإثني أو الجهوي أو المناطقي، أو التفكُّك الأسري، أو العنف ضد المرأة، أو الاتجار بالبشر. ويسعى الإعلامي إلى تحقيق العدالة والسلم الأهلي والعالمي.

ويلتزم الإعلامي أثناء ممارسته لعمله، بما يلي:

- "تحرِّي الحقيقة والسعي وراء بلوغها، ونقل الوقائع بصدق وأمانة بدون تجاهل، أو اجتزاء.

- توخي النزاهة المهنية، والعمل على تكريس مبدأ المصلحة العامة، وتغليبها على مصلحة مؤسسته الإعلامية أو مصلحته الشخصية.

- احترام مبدأ الخصوصية، وعدم إلحاق الضرر بالأفراد أو المؤسسات جرَّاء النشر الصحفي، واحترام رغباتهم أو رغبة ذويهم في عدم الإفصاح عن أسمائهم، أو عناوينهم لأسباب معنوية أو أمنية.

- عدم إطلاق الأحكام المسبقة، وتوخي الدقة والوضوح في المصطلحات والتعابير المستخدمة في التغطية الصحفية.

- عدم استغلال الوضع الاجتماعي والإنساني والاقتصادي في مناطق التغطية.

- ذكر المصادر وتحديدها بدقة، والإشارة إلى أسباب التحفظ على ذكرها عند الحاجة إلى إخفائها، وحماية المصادر والشهود، وعدم الإفصاح عن شخصياتهم باستثناء الضرورات القانونية.

- الامتناع عن نشر الصور ومقاطع الفيديو التي تسيء إلى حرمة وكرامة الضحايا (موتى أو جرحى).

- احترام حقوق الطبع والنشر والتأليف، والإشارة إلى المصادر عند الاقتباس.

- إبلاغ الجمهور عن الحالات التي تخفي فيها السلطات جزءًا من المعلومات، والتي ينجم عن إخفائها ضرر بالمصلحة العامة.

- التمييز بين مواد الإعلان والدعاية والرعاية وبين المواد الصحفية، والامتناع عن الترويج لمنتج أو سياسة أو تنظيم عبر تقديمها على أنها مادة صحفية أو إخبارية.

- تجنب التحقير، والقدح، والذم بالأفراد أو الجماعات أو المؤسسات والهيئات".

ويجب أن يُعهد بمتابعة مواثيق الشرف إلى هيئات مستقلة، مثل تلك التي بدأت تسجل حضورها في بعض البلدان العربية على غرار المجلس الوطني المغربي للصحافة بالمغرب، أو تركيبة هيئة مجلس الصحافة المؤقتة بتونس التي تم إعلان تشكيلها في أبريل/نيسان 2017. ويعتبر نقيب الصحفيين التونسيين، ناجي البغوري، أن إعلان ميلاد مجلس الصحافة المؤقت هو تجربة رائدة ومشروع طموح يستند إلى مدونة سلوك غير مسقطة ونابعة من الممارسة المهنية، في غياب هيئات، وهياكل تعديلية للصحافة المكتوبة والإلكترونية.

وتشير بعض التجارب العربية الخاصة بتنظيم قطاع الصحافة الإلكترونية في فترة ما بعد الربيع العربي، إلى أن البعض من البلدان العربية يتجه نحو تبني التعديل الذاتي، أي تنظيم الصحافة ومساءلتها، استنادًا إلى بعض التجارب الأجنبية وعلى رأسها التجربة البريطانية في هذا المجال. ففيما يتعلق بعملية التنظيم الذاتي وإدارة أي نزاع قد ينشب بسبب المحتوى الخبري للصحيفة، فهناك -في بريطانيا- ما اصطُلح على تسميته بالتجربة الأطول والمتمثلة في المبادرة الطوعية للصحف البريطانية التي بدأت مع إنشاء "مفوضية الشكاوى الصحفية" منذ عام 1990، لتكون منبرًا لحلِّ الخلافات بين الجمهور العام والصحف وفقًا لأحكام "مدونة الممارسة الصحفية"، وهي مدونة تماثل ميثاق الشرف الصحفي الذي طال انتظاره في مصر.

ويرجع تاريخ مدونة السلوك هذه إلى عام 1936 بجهود بذلها "اتحاد الصحفيين البريطانيين"، الذي يماثل نقابة الصحفيين في مصر وبعض الدول العربية، والذي تأسس عام 1907 ويبلغ عدد أعضائه الآن نحو 40 ألف صحفي. وبلور الاتحاد مدونة للأخلاق الصحفية سرعان ما تطورت لتشكِّل العمود الفقري لأسلوب التنظيم الذاتي منذ عام 1953.

وبعد مرور نحو عامين من صدور تقرير القاضي ليفيسون في أواخر 2012، تأسس تنظيم ذاتي جديد هو "منظمة معايير الصحافة المستقلة" بدلًا من "مفوضية الشكاوى الصحافية"، ويعتمد التنظيم الأخير في عمله على بنود "مدونة الممارسة الصحفية"(68) نفسها(69).

إن الالتزام بمواثيق الشرف في البيئة الإلكترونية العربية تحت إشراف هيئات مستقلة قادرة على ضبط عملية التنظيم الذاتي وإدارة النزاعات من أهم الحلول لبناء مجتمعات أكثر استنارة وأكثر اندماجًا، بعد أن أصبحت قاعات التحرير تعاني الصعاب للحفاظ على قاعدتها الأخلاقية، في ظل تضخم "المشاكل التي كانت تشغلها دومًا مثل التحيز السياسي، وتسلط المؤسسات غير المشروع، والقوالب النمطية وتضارب المصالح"(70).

خاتمة

إن الصحافة الإلكترونية في العالم العربي وعلى الرغم من نجاحها في فرض نفسها كوسيلة إعلامية جديدة، واعدة ومؤثِّرة، ولها دَورٌ كبير في صُنْع الرأي العام وتشكيله، وقدرتها على فتح أبواب كانت مُوصدة أمام التعبير الحر، إلا أنها باتت تُشكِّل اليوم واقعًا إعلاميًّا جديدًا بسياقات مركَّبة تستوجب الرقابة والمساءلة، والتنظيم في ظل غياب لقوانين جامعة وناظمة لعمل المؤسسات الإعلامية الحاضنة للصحافة الإلكترونية، وقادرة على ضبط العملية الإعلامية المتطورة بشكل مستمر ومتسارع، بعد تسجيل حراك شعبي في عدد من البلدان العربية على إثر ثورات الربيع العربي.

وقد حاولنا في هذه الدراسة الموسومة بـ"أخلاقيات المهنة في الصحافة الإلكترونية العربية: رؤية جديدة للممارسة المهنية"، دراسة واقع الصحافة الإلكترونية العربية المليء بالتحولات والذي يفرض وضع قواعد أخلاقية لكل المساهمين فيها، وإقرار مدونات سلوك تشمل كل الأطراف المشاركين في إنتاج مضامينها. هذا الاستنتاج وصلنا إليه بعد أن تمكنَّا من تشخيص الإشكاليات التالية التي تشترك فيها أغلب الصحف الإلكترونية في العالم العربي، وهي بالأساس:

- غيـاب تشريع محـدد يتعامل مـع الصحافة الإلكترونية بأبعادها المختلفة، المهنية والفنية والمالية، وعلاقاتها بمؤسسات الدولة.

- عـدم وضـوح علاقة الأطراف المكونة لقطاع الصحافة الإلكترونية بالنقابـات المهنية؛ على اعتبار أن النقابة هي الجهـة الأساسية المسؤولة عـن قضايـا مهنـة الصحافـة، وأن عـدم انتهـاء النقابـة إلى مفهـوم أو تصـور محـدد لعلاقـة المؤسسات الصحفيـة الإلكترونية أو الافتراضية والصحفيين الإلكترونيين بها، يبقى من المشاكل المطروحة بصفة جدية على أصحاب المهنة.

وبناء على ما تقدَّم، فقد خلصنا إلى أن الإعلام الإلكتروني يجب أن يستمد قواعده الأساسية من الأخلاقيات التي تمَّ إنضاجها في حقل الإعلام التقليدي بمحامله المختلفة المكتوبة والمسموعة، والمرئية. كما أن حقل الصحافة الإلكترونية بمواصفاته التكنولوجية والتواصلية الجديدة بات يفرض التفكير في منظومة أخلاقيات خاصة به تتفاعل مع التحولات المشار إليها، فضلًا عن الحاجة الملحَّة لتطوير آليات التنظيم الذاتي والرصد، بشراكة مع جمهور مستخدمي الصحافة الإلكترونية، وكذلك شركات التكنولوجيا العملاقة، وذلك انسجامًا مع مقوِّم التفاعلية الذي يطبع هذه الصناعة.

فلو قبلت كبرى شركات التكنولوجيا تقمُّص دور الناشر في هذا العصر الرقمي، والاستفادة من العدد الهائل من الصحفيين الأكفاء والملمين بالأخلاقيات المهنية، الذين شردتهم ثورة المعلومات، فإن جزءًا من انحرافات المشاكل المطروحة على مستوى الأخلاقيات المهنية قد يُحلُّ، إذا علمنا أن تلك الشركات بإمكانها تحمل التكلفة، بعد أن بلغت أسعارها التجارية أرقامًا خيالية(71).

من جهة أخرى، وحتى لا نبقى أسرى بعض الأفكار السائدة التي تعتبر أن "صحافة الإنترنت" لا تتعدى أن تكون "شغبًا افتراضيًّا"، -بدليل عدم توفُّر ممارسيها على تكوين صحافي، مما يفسر عدم احترام كتاباتهم للقواعد المتبعة عادة في الكتابة الصحفية"(72)-، فإن جمعيات المجتمع المدني الممثلة لمديري وكتَّاب المواقع الإلكترونية، وأصحاب المدونات والمنظمات غير الحكومية، على الصعيدين العربي والدولي، بإمكانها المساعدة في هيكلة الحقل الإعلامي الإلكتروني المليء بالإشكالات المتعلقة بالالتزام الأخلاقي، واحترام التقنية التي باتت الهاجس الأكبر لأرباب المهنة في الصحافة الإلكترونية على حساب الضوابط المهنية.

ولئن هُمِّشت الضوابـط المهنيـة للإعلام الجديـد، لحساب هوس بالمعايير التقنيـة التـي أصبـحت تحتل الجانب الأكبر من اهتمامات المشتغلين بالصحافة الإلكترونية العربية، والبحث عن السبق الصحفي على حساب المعايير المهنية مما فسح المجال واسعًا أمام الشائعات، إلا أن هناك بعض المحاولات لوضع مبادئ لخدمة الصحافة الإلكترونية وصحافييها، بهدف دعم المقاييس والمعايير المهنية، ودفع مبادئ الحرية الصحفية في جمع وتوزيع المعلومات، ومقاومة أية مصلحة شخصية أو أية ضغوط من زملاء المهنة قصد التأثير على الواجب الصحفي أو الإخلال بخدمة الجمهور، والمصلحة العامة. 

وبالنظر إلى تجارب عديد البلدان المتقدمة، فإن إقرار المساءلة الإعلامية التي تحقق التوازن بين حقوق الفرد والمجتمع وحق الصحفي في حرية التعبير من خلال مجالس صحفية ولجان إعلامية مستقلة وذات مصداقية، قد يكون أحد دعائم أخلاقيات العمل الإعلامي في الصحف الإلكترونية العربية، دون أن يعني ذلك طبعًا استبعاد دور القانون في تحسين جودة هذه الصحافة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*د. المعز بن مسعود، أستاذ جامعي وباحث في علوم الإعلام والاتصال بجامعة قطر والجامعة التونسية.

مراجع

(1) ابن مسعود، المعز، "الصحافة الورقية العربية: صراع البقاء ورهانات الرَّقْمَنَة"، مركز الجزيرة للدراسات، 1 ديسمبر/كانون الأول 2016، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2018):

https://bit.ly/2ulLxWd

(2) برقان، محمد، "حق الممارسة الإعلامية في الجزائر بين الحرية والأخلاقيات المهنية: دراسة لواقع الصحافة الإلكترونية في ضوء قانون الإعلام 2012"، مركز جيل البحث العلمي، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2018):

https://bit.ly/2TLC7NV

(3) ابن مسعود، "الصحافة الورقية العربية: صراع البقاء ورهانات الرقمنة"، مرجع سابق.

(4) إسماعيل، سهى، "أخلاق الصحافة في عصر الإنترنت"، معهد الجزيرة للإعلام، 28 أبريل/نيسان 2016، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2018):

https://bit.ly/2PRasfY

(5) Demir, Muge, Importance of Ethic, Credibility and Reliability in Online Journalism, European Journal of Social Sciences, Vol. 24, No. 4, 2011.

(6) إسماعيل، "أخلاق الصحافة في عصر الإنترنت"، مرجع سابق.

(7) المرجع السابق.

(8) ابن عبد العزيز حافظ، عبد الرشيد، "مصادر المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت: معايير مقترحة للتقويم"، Cybrarians Journal، العدد 10، سبتمبر/أيلول 2006، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2018):

https://bit.ly/2OZPTsp

(9)  المرجع السابق.

(10) المرجع السابق.

(11) إسماعيل، "أخلاق الصحافة في عصر الإنترنت"، مرجع سابق.

(12) Birsen, Haluk, Internet Journalism and Journalistic Ethics: Working Conditions and Qualifications of Journalists in the New Media Journal of US-China Public Administration, (Anadolu University, Eski?ehir, Turkey, 2011).

(13) اللبان، شريف درويش، "الضوابط المهنية والأخلاقية والقانونية للإعلام الجديد"، رؤى استراتيجية، يوليو/تموز 2014، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2018):

https://bit.ly/2KxFnbf

(14) عبد المجيـد صلاح، مهـا، "المتغيـرات المؤثرة على التفاعلية في النشـر الصحفي على شـبكة الإنترنت، دراسـة تحليلية وشـبه تجريبية"، (جامعة القاهرة، رسـالة دكتوراه غير منشـورة، 2009)، ص 200.

(15) للتوسع في المعايير التقنية والتكنولوجية في الصحافة الإلكترونية، انظر: اللبان، "الضوابط المهنية والأخلاقية والقانونية للإعلام الجديد"، مرجع سابق.

(16) السر، علي سعد، "صحافة المواطن...إعلام هجين"، معهد الجزيرة للإعلام، 28 مارس/آذار 2016، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2018):

https://bit.ly/2FEEoHy

(17) المرجع السابق.

(18) المرجع السابق.

(19) "المدونات العربية ثورة على تابوهات الصحافة التقليدية"، العرب، 16 فبراير/شباط 2016، (تاريخ الدخول: 1 سبتمبر/أيلول 2018):

https://bit.ly/2DKPyI4

(20) المرجع السابق.

(21) القيسي، منتظر، "مواقع التواصل الاجتماعي: الصحافة تلاحق العالم الافتراضي"، بيت الإعلام العراقي، (د.ت)، (تاريخ الدخول 2 يوليو/تموز 2018):

https://bit.ly/2mvFZnc

(22)  المرجع السابق.

(23)  المرجع السابق.

(24)  المرجع السابق.

(25)  المرجع السابق.

(26) السر، "صحافة المواطن...إعلام هجين"، مرجع سابق.

(27)  أستاذ الدراسات الإعلامية في جامعة أمستردام، وصاحب كتاب: Media Life, (Polity Press, 2012)

(28)  السر، "صحافة المواطن...إعلام هجين"، مرجع سابق.

(29)  باحثة ومنظِّرة في الظواهر الإعلامية، وصاحبة مصطلح "صحافة المواطن".

(30)  السر، "صحافة المواطن...إعلام هجين"، مرجع سابق.

(31) المرجع السابق.

(32) المرجع السابق.

(33) المرجع السابق.

(34)  نبيح، آمنة، "ماهية الصحافة الإلكترونية وعوامل تطورها"، شبكة ضياء، 4 يناير/كانون الثاني 2012، (تاريخ الدخول 2 يوليو/تموز 2018):

https://bit.ly/2OtSgDx

(35)  اللبان، "الضوابط المهنية والأخلاقية والقانونية للإعلام الجديد"، مرجع سابق.

(36)  المرجع السابق.

(37)  الحسبان، أحمـد، "واقـع حرية الـرأي والتعبير فـي ضوء التطـورات التكنولوجية المعاصرة: دراسـة تأصيليـة مقارنة"، مجلـة الحقـوق، العدد 1، السـنة 35، (مجلس النشـر العلمي، الكويت، مـارس/آذار 2011)، ص 337.

(38)  بخيت، السيد، أخلاقيات العمل الإعلامي، (دار الكتاب الجامعي، الإمارات، 2011)، ص 346– 347.

(39)  المرجع السابق، ص 347.

(40) المرجع السابق، ص 348.

(41)  المرجع السابق، ص 355.

(42)  صالح، سـليمان، "حريـة الإعلام فـي الوطن العربـي وتحديات ثـورة الاتصال"، المجلـة العلمية لبحـوث الصحافة، المجلد 1، العـدد 1 و2، (جامعـة القاهـرة، كليـة الإعلام، مركز التوثيـق والتراث الصحفي، القاهرة، أكتوبر/تشرين الأول-ديسـمبر/كانون الأول2009 ، يناير/كانون الثاني- مـارس/آذار 2010)، ص 143.

(43)  محمـد نصـر، حسـني، "حريـة الصحافـة الإلكترونية في ضوء تجارب وسـائل الإعلام التقليدية مع دراسـة أنمـاط الرقابة علـى الإنترنت فـي العالـم العربي"، المجلة المصريـة لبحوث الإعلام، العدد 25، (جــامعة القاهـرة، كلية الإعلام، القاهرة، يوليو/تموز-ديسمبر/كانون الأول 2005)، ص 289.

(44) عبد الكريم عبد الله، عبد الله، جرائم المعلوماتية والإنترنيت "الجرائم الإلكترونية"، (منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2007)، ص 124-136. وتسمى هذه المعاهدة بمعاهدة المجلس الأوروبي، رقم 185، حول جرائم الفضاء السيبراني أو معاهدة بودابست بتاريخ 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2001.

(45)  التوجيه الإرشادي رقم: 95/46/EC  الصادر عن البرلمان والمجلس الأوروبي بتاريخ 24 أكتوبر/تشرين الأول 1995، كما أن هناك توجيهًا آخر رقم: 2002/58/EC  الصادر عن البرلمان الأوروبي بتاريخ 12 يوليو/تموز 2002.

(46)  أنطونيو أيوب، بولين، الحماية القانونية للحياة الشخصية في مجال المعلوماتية: دراسة مقارنة، (منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2009)، ص 304-308.

(47) Guerrier, C. Droit et sécurité des télécommunications, (Springer, 2000), p. 151.

(48) Chatillon, G. le droit international de l’internet, (Bruylant, Bruxelles, 2002), p. 158.

(49) طلال العامري، فاضل، حرية الإعلام في الوطن العربي في ظل غياب الديمقراطية، (هلا، مصر، 2011)، ص 119-131.

(50) كريمي، علي، "التنظيم القانوني للصحافة الإلكترونية العربية: سياقاته وأهدافه"، مركز الجزيرة للدراسات، 15 مايو/أيار 2016، (تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/أيلول 2018):

https://bit.ly/2IWl9qU

(51) كريمي، "التنظيم القانوني للصحافة الإلكترونية العربية: سياقاته وأهدافه"، مرجع سابق.

(52) المرجع السابق.

(53)  المرجع السابق.

(54)  المرجع السابق.

(55)  زيادة، سوسن، "ترخيص المواقع الإخبارية، قيود قانونية وتشوهات بنيوية"، موقع حبر، 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، (تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/أيلول 2018):

https://bit.ly/2qScDRt

(56)  المرجع السابق.

(57)  كريمي، "التنظيم القانوني للصحافة الإلكترونية العربية: سياقاته وأهدافه"، مرجع سابق.

(58)  المرجع السابق.

(59)  محمـد غيطـاس، جمـال، "مدخـل إلـى الصحافـة الإلكترونية"، مجلـة الدراسـات الإعلامية، العـدد 114، (المركز العربـي الإقليمي للدراسـات الإعلامية للسـكان والتنميـة والبيئـة، القاهرة، ينايـر/كانون الثاني-مـارس/آذار 2004)، ص 222.

(60)  وايت، آيدن، "أخلاقيات مهنة الصحافة تعود إلى الواجهة"، اليونسكو، يوليو/تموز-سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/أيلول 2018):

https://bit.ly/2r5H5Yy

(61)  المرجع السابق.

(62)  وايت، "أخلاقيات مهنة الصحافة تعود إلى الواجهة"، مرجع سابق.

(63)  انظر قانون تنظيم الصحافـة المصري رقـم (96) لسـنة 1999.

(64) اللبان، "الضوابط المهنية والأخلاقية والقانونية للإعلام الجديد"، مرجع سابق.

(65) وايت، "أخلاقيات مهنة الصحافة تعود إلى الواجهة"، مرجع سابق.

(66)  المرجع السابق.

(67) تمَّ الاستئناس بالكثير من الروابط وخاصة الرابط التاليhttps://www.enabbaladi.net/about-us  للخروج بميثاق شرف متناسق، وواضح المعالم.

(68)  تشمل هذه المدونة 16 بندًا، جرى صياغة كل منها بلغة منضبطة ومحددة. وأول هذه البنود وأهمها هو بند الدقة؛ ويقضي بأن تميز الصحف في التغطية الخبرية بين عناصر ثلاثة هي التعليق والتخمين والحقيقة. وتحذر المدونة من نشر أي أخبار "غير دقيقة أو مضللة أو مشوهة"، وهو ما ينطبق على نشر الصور أيضًا. وتلزم المدونة الصحف بضرورة الاعتذار والتصحيح في حالة اكتشاف أي عيب قد يصيب دقة الأخبار المنشورة. كما أوردت المدونة حق أي متضرر في الرد.

(69)  عثمان، أحمد زكي، "تنظيم الصحافة ومساءلتها: بعض ملامح الخبرة البريطانية"، الصوت الحر، 18 يناير/كانون الثاني 2015، (تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/أيلول 2018):

https://bit.ly/1I9gFd6

(70)  وايت، "أخلاقيات مهنة الصحافة تعود إلى الواجهة"، مرجع سابق.

(71)  في أوائل عام 2017، قُدِّر السعر التجاري لفيسبوك بحوالي 400 مليار دولار، أما سعر غوغل فقد فاق 600 مليار دولار. للتوسع، انظر وايت، "أخلاقيات مهنة الصحافة تعود إلى الواجهة"، مرجع سابق.

(72) كنعان، علي عبد الفتاح، الصحافة الإلكترونية، (دار اليازوري، عمان، 2014).