إيران والقضية الفلسطينية: الواقع والمتغيرات

إن مستقبل العلاقة بين إيران والقضية الفلسطينية مرتبط بمستقبل العلاقة مع حماس, والتي لن تخرج عن احتمالين: إما أن يحافظ الطرفان على العلاقة الإستراتيجية بينهما رغم كل الخلافات, وإما أن تصبح علاقة عادية لحماس وما تمثل بدولة صديقة تدعم القضية الفلسطينية.
2012121373914704734_20.jpg
حاجة المقاومة الإسلامية للتسلح واهتمام إيران بفلسطين من الزاوية العسكرية بالدرجة الأولى تمنع تدهور العلاقة بين الطرفين (غيتي)

لم يكن التباين بين مكونات ما عُرِف بمحور "المقاومة والممانعة" واضحًا كما هو عليه اليوم في زمن "الربيع العربي", وربما لم تسهم أية معركة مع إسرائيل في إبراز ذلك كما فعلت الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة وانتهت بهدنة اعتبرتها المقاومة الفلسطينية -وتحديدًا حركة حماس- انتصارًا حقيقيًا على إسرائيل, في حين لم تكن حماسة بقية أطراف هذا المحور كإيران وسوريا وحزب الله في لبنان واضحة لوصف ما جرى بأنه "نصر تاريخي" على غرار ما فعلت عام 2006 إبّان الحرب الإسرائيلية على حزب الله في لبنان، مع أنها انتهت بهدنة مشابهة تقريبًا. يُعزى ذلك للخلاف الذي ظهرت بوادره بين طهران وحركة حماس قبل زمن الربيع العربي، وإن كان هذا الأخير شكّل المؤشر الأوضح على أن العلاقة بين الطرفين توشك على الدخول في مرحلة جديدة تتغير معها بعض ماهية ومفاصل العلاقة بين دولة مهمة إقليميًا كالجمهورية الإسلامية في إيران وحركة مقاومة إسلامية كحماس.

التغيير.. الاستيعاب ونظرية المصالح

تستند السياسية الإيرانية في التعاطي مع القضية الفلسطينية إلى مقولتين أساسيتين: واحدة تنادي بضرورة تقديم الدعم المالي والعسكري والسياسي لمن يمثل مشروع المقاومة المؤمن بالبندقية والكفاح المسلح كطريق لتحرير الأرض الفلسطينية, أما الثانية فتقوم على رفض التعامل مع أصحاب مشروع التسوية السياسية والمفاوضات مع إسرائيل. ولطالما حرصت طهران على الفصل بين المشروعين وتقديمهما وكأنهما رؤيتان مختلفتان بالكامل.

إلا أن بروز قضية المصالحة الوطنية كأولوية للشعب الفلسطيني, والذي قرأته إيران على أنه تنازل مجاني عن مشروع المقاومة لصالح مشروع التسوية, حتّم تقليص المسافة بين المقولتين. بينما فسرت نجاح الرعاية العربية بجمع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل بالرئيس الفلسطيني محمود عباس بأنه إغواء لحركة حماس كي تبتعد عن طهران ومشروعها في المنطقة. ومع وصول الربيع العربي إلى سوريا واندلاع الثورة -أو ما تسميه طهران رسميًا مؤامرة دولية ضد سوريا ونظامها المقاوم لإسرائيل- بدت حركة حماس وكأنها أول طرف في محور المقاومة والممانعة قرأ أن تغييرًا كبيرًا بدأ يتشكّل في المنطقة, وترافق ذلك مع شعور فلسطيني مبكر بأن تحرك الشعوب العربية -حتى ولو كان وفق بوصلة مطالب جاءت داخلية في أغلبها- سيكون له انعكاسات مهمة على القضية الفلسطينية. هكذا وجدت حركة حماس نفسها تتحرك على إيقاع معادلة جديدة صكّها الربيع العربي, في حين قوبل ذلك على الضفة الإيرانية بجملة من المخاوف صبغت مواقف الجمهورية الإسلامية، وأهمها:

  • تبشير البعض بقرب انتهاء مرحلة احتكار إيران لجوانب مهمة من القضية الفلسطينية وبالأخص في شقها السياسي, فضلاً عن التقارب بين الأنظمة العربية التي جاء بها الربيع العربي مع فصائل المقاومة الفلسطينية وفي طليعتها حركة حماس. وهذا بدا واضحًا في الدور الجديد الذي لعبته مصر خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة وانتهائها بهدنة خرجت من جيب اللاعب المصري وبمباركة كاملة من فصائل المقاومة, حتى إن إسرائيل اتهمت القاهرة بالانحياز للطرف الفلسطيني خلال عملية التفاوض. 
  • إعادة صياغة المعادلة الفلسطينية في المنطقة وفق معطيات جديدة عبر خلق توازن ما داخل القضية الفلسطينية بين إيران -التي تدعم تاريخيًا المقاومة المسلحة- ودول عربية أطاحت شعوبها بأنظمة وجاءت بأخرى تبدو متحمسة للقضية الفلسطينية, ما يعني سدّ الفراغ الذي خلّفه غياب الأنظمة العربية عن ساحة القضية الفلسطينية لزمن طويل والذي طالما أحسنت إيران استثماره عمليًا على الأرض.

وفضلاً عن هذه المخاوف يبدو أن إيران لم تتقبل فكرة أن الشعوب العربية قررت التحرك والخروج على الأنظمة المستبدة، وتمثل ذلك بعدم اعترافها بأن تغييرًا كبيرًا عصف بالمنطقة وغيّر الكثير من ثوابت وتحديات المرحلة السابقة, وأعاد خلق معادلات وأولويات جديدة لا تنفع معها لغة الخطاب التقليدي المتمثلة بمبدأين اثنتين: 

  1. التمسك بنظرية المؤامرة تجاه ما يحدث في المنطقة العربية وتحديدًا في سوريا, واللجوء إلى تخوين كل من يغرد خارج تعريف طهران للمقاومة ضد إسرائيل، حتى وإن كان فصيلاً فلسطينيًا مقاومًا, أو تيارًا له حضوره التاريخي كالإخوان المسلمين في مصر. 
  2. التعامل مع نهضة الشعوب العربية وثوراتها من زاوية المصالح بعيدًا عن مناداتها الدائمة بضرورة نصرة المظلومين في أي مكان وأي زمان.

 القضية الفلسطينية في المعادلة الإيرانية

قد يصح القول بأن لا علاقة واحدة تجمع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالقضية الفلسطينية, بل هناك علاقات عدّة تخضع لحيثيات القضية نفسها الموزعة بين فصائل وسلطة واحتلال ودول اعتدال ومحاور مقاومة وغيرها, فضلاً عن تحديات المصالح الوطنية والخطوط الحمر للأمن القومي. في الواقع يبدو أن ما يجمع إيران بالفلسطينيين وقضيتهم هو عبارة عن علاقات وخطوط اتصال كثيرة تتقاطع أحيانًا عند نقطة اشتراك واضحة تتمثل بالإجماع على العدو التاريخي والمشترك متمثلاً بإسرائيل. لكن هذه الخطوط قد تتفرع وتختلف عند نقاط أخرى تطغى عليها لغة المصالح, وأحيانًا تتصادم فيما بينها، كما جرى مع حركة حماس على خلفية الأزمة في سوريا. من هنا فإن العلاقة بين إيران وفسيفساء القضية الفلسطينية تتوزع على رؤيتين تشكّلان معًا صلب وجوهر السياسات الإيرانية تجاه القضية الفلسطينية، وهاتان الرؤيتان هما: 

1- ثوابت الثورة
من هذه الزاوية تبدو القضية الفلسطينية محكومة في علاقتها مع إيران برؤية طوباوية حالمة من خلال تقليل الثورة الإسلامية لأهمية المتناقضات التي تحكم القضية الفلسطينية, فضلاً عن الاستهانة بالخلافات والإغراق في التفاؤل بشأن القدرة على تدوير الزوايا الحادة مهما كانت الظروف, لكن وبالمجمل فإن الثورة الإسلامية وثوابتها تتعامل مع فلسطين وقضيتها وفق ثلاثة محددات أساسية: 

  • تنظر إيران الثورة للقضية الفلسطينية كإحدى أهم القضايا العادلة في العالم, وتتعامل معها باعتبارها أهم قضايا العرب والمسلمين بالمعنى الإستراتيجي, وعليه فإن ثوابت الثورة الإسلامية تبدو متشددة حين تحرّم إخضاع التعامل مع فلسطين للاعتبارات السياسية أو المصلحية. 
  • لا يوجد أدنى شك لدى إيران الثورة الإسلامية ونظامها القائم على نظرية ولاية الفقيه وحكم رجال الدين والمرجعية الدينية بأن القضية الفلسطينية شكّلت في الماضي وتشكل اليوم مصدرًا مهمًا جدًا من مصادر مشروعية الثورة الإسلامية وشرعية النظام الحاكم.
  • ثوابت الثورة الإسلامية صكّت معادلة فيما يخص القضية الفلسطينية تقول: إن القضية الفلسطينية ستبقى قضية الأمة ما دامت إسرائيل قائمة كدولة, وإن حلّ القضية الفلسطينية يكمن بحذف إسرائيل من خارطة الشرق الأوسط وإن ذلك لن يتحقق إلا عبر دعم الفلسطيني بالمال والسلاح باعتباره واجبًا إسلاميًا مقدسًا.  

2- مصالح الدولة
حين قررت إيران الدولة تطبيق ثوابت الثورة في تعاملها مع القضية الفلسطينية اضطرت للنزول بالسقف قليلاً على قاعدة أن التعامل في عالم السياسة التطبيقية يأتي ضمن دائرة الممكن, بينما التنظير معرفيًا وفكريًا يحتمل المغامرة من خلال رفع سقف المطالب والرؤى, وعليه قامت إيران الدولة بالتالي: 

  • وضعت القضية الفلسطينية مرتكزًا مهمًا من مرتكزات صناعة القرار السياسي خارجيًا وجعلته أحد أهم المرجعيات لصنّاع القرار في اتخاذ مواقفهم الرسمية حيال أغلب القضايا الإقليمية والعالمية, فضلاً عن أن فلسطين شكّلت بندًا مهمًا حين قررت الثورة الإسلامية التحول إلى دولة عبر إقامة علاقات دبلوماسية مع بقية دول العالم. 
  • أعلنت إيران الدولة مرارًا أن دعم القضية الفلسطينية في المحافل الدولية والإقليمية والوقوف بوجه إسرائيل بوصفها كيانًا غاصبًا هو سياسة إيرانية ثابتة لا تتأثر بأية اعتبارات سياسة, كما أن الدعم المالي والعسكري لفلسطين وفصائلها المقاومة هو ثابت من ثوابت السياسة الإيرانية.

لكن إيران وجدت نفسها -وفي أحيان كثيرة- أمام معضلة حقيقية تجسدت في صعوبة الجمع بين الثوابت الثورية والمصالح الوطنية خلال التعامل مع قضية كالقضية الفلسطينية, وبين الثوابت والمصالح وجد النظام الإيراني نفسه يحاول صك معادلة توازن تبقيه لاعبًا أساسيًا في القضية الفلسطينية من جهة, ومن جهة أخرى لا تضر بمصالحه الخاصة المرتبطة بملفات إيرانية خالصة ذات أبعاد داخلية. واليوم تبدو هذه المعادلة هشة بفعل عوامل جديدة فرضت نفسها على المنطقة وبدأت تؤثر وبشكل مباشر على قدرة طهران بشأن الجمع بين القضية الفلسطينية وثوابتها الثورية ومصالحها الداخلية، من أبرز هذه العوامل:

العامل الداخلي
لزمن طويل نجح النظام الإيراني -ولو جزئيًا- في إبقاء علاقته بالقضية الفلسطينية بعيدة عن ساحة الجدل السياسي الداخلي بين الأحزاب والتكتلات السياسية المختلفة, بحيث اعتُبرت القضية الفلسطينية خطًا أحمر أمام أية انتخابات داخلية تحدد من سيحكم البلاد تنفيذيًا وتشريعيًا. إلا أن هذه المعادلة بقيت بأمان حتى العام 2009 حين اتهمت أحزاب المعارضة وزارة الداخلية بتزوير الانتخابات لصالح الرئيس محمود أحمدي نجاد وأنزلت جمهورها إلى الشارع للتظاهر تحت شعار "أين صوتي؟", يومها دخلت القضية الفلسطينية في صلب الأزمة الداخلية الإيرانية حين هتف الناس في الشوارع "لا غزة ولا لبنان، روحي فداء إيران!". هذا الشعار أوضح أن هناك شرائح اجتماعية إيرانية ليست قليلة تبدو غير راضية عن إستراتيجية النظام في التعامل مع القضية الفلسطينية القائمة على تغليب ثوابت الثورة الإسلامية على المصالح الداخلية والوطنية للشعب الإيراني. أصحاب هذا الرأي يحاولون دائمًا الحديث عن الحصار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد والعقوبات التي أرهقت المواطن الإيراني في الداخل بينما هناك إصرار من المؤسسة الحاكمة على تقديم الدعم المالي وبشكل كبير لفصائل المقاومة الفلسطينية وحزب الله في لبنان والنظام في سوريا, خاصة وأن الشعوب العربية نزلت إلى الشوارع وتخوض معركة وجود حقيقي ضد أنظمة تسميها طهران أنظمة مقاومة وممانعة. وضع كهذا شكّل ويشكّل اليوم ضغوطًا كبيرة ومتزايدة على النظام الإيراني وسعيه لتحقيق التوازن بين المصالح والثوابت في التعامل مع القضية الفلسطينية.

العامل الإقليمي
سقوط بعض الأنظمة بفعل ثورات الربيع العربي, وانحسار احتكار إيران لفكرة المقاومة ضد إسرائيل, ومجيء أنظمة عربية منتخبة شعبيًا تقف علنًا إلى جانب فصائل المقاومة الفلسطينية, كلها أحداث من شأنها رفع حدة التنافس الإقليمي بين إيران وبقية الدول على لعب الدور الأساس في القضية الفلسطينية. وهذا قد يحتم على إيران في المرحلة المقبلة رفع وتيرة دعمها المادي والعسكري لبعض فصائل المقاومة الفلسطينية خاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي, في وقت تعاني فيه البلاد من حصار وعقوبات يقيدان اقتصادها ويضغطان أكثر على الجوانب المعيشية والحياتية للمواطن الإيراني.

المتغيرات والواقع الراهن

حتى قبل اندلاع ثورات الربيع العربي شهدت العلاقة بين إيران وحركة حماس شيئًا من التوتر بشأن ترتيب الأولويات في ساحة القضة الفلسطينية, ومع حلول الربيع العربي وظهور متغيرات جديدة على الساحة الإقليمية بات هذا الخلاف أحد أهم ثلاثة متغيرات حكمت العلاقة بين حماس وإيران:   

1- الأولويات
حين قررت حركة حماس السيطرة على القطاع بقوة السلاح وتفريغه من حكم السلطة الفلسطينية وتحجيم وجود حركة فتح هناك كانت إيران الدولة الأبرز التي وقفت بجانب الحركة ودعمتها كي تكون قادرة على حكم القطاع وإدارته, فإيران رأت في ذلك أنه إعلاء لكلمة مشروع المقاومة المسلحة على حساب تراجع مشروع التسوية السياسية الذي تمثله السلطة الفلسطينية في رام الله. مع بدء غليان الشوارع العربية وانطلاق أول الثورات في تونس كان هناك مطلب واحد للشارع الفلسطيني، تمثل في إنهاء حالة الانقسام الداخلي بين غزة ورام الله,  حتى إن كثيرين نادوا بربيع فلسطيني ينهي بقوة الشارع حالة الانقسام بين غزة ورام الله.

لم تكن إيران مقتنعة بأن هذا الوضع في المنطقة العربية هو ما فرض على القيادة في حماس وعلى السلطة الفلسطينية التحرك من جديد على وقع المصلحة الوطنية؛ ما أدى في النهاية إلى التقارب بين حماس ورئيس السلطة محمود عباس والاتفاق على إنهاء الانقسام وتشكيل حكومة وحدة وطنية. لم تكن هذه التوجهات الحمساوية الجديدة تشكّل أولوية لطهران التي بدت غير متحمسة لهذا التقارب بين مشروعي المقاومة والتسوية, خاصة وأن ذلك تزامن مع بدء الربيع العربي الذي تحتاج فيه إيران إلى فصائل المقاومة الفلسطينية وبالتحديد حركة حماس -السنية- لمواجهة اتهامها بتغليب مصالحها خلال تعاملها مع ثورات الشعوب العربية.

كما أن اقتراب حركة حماس وتقليصها للمسافة مع النظام المصري الجديد وهو لا يزال في مرحلة التأسيس لم يلق مباركة إيرانية واضحة؛ فالأولوية بالنسبة للإيرانيين كانت في اختبار مصر الجديدة والرئيس محمد مرسي عبر مطالبته جهرًا بإلغاء اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، وفتح معبر رفح بشكل دائم، ودعم المقاومة الفلسطينية بالسلاح ضد إسرائيل كبادرة حسن نية. هكذا تضاربت الأولويات مرة أخرى, فبينما كانت أولوية حماس هي التقارب مع حكم الإخوان المسلمين في مصر, والعمل على إدخالهم في المعادلة الفلسطينية كطرف أساس, برزت الأولوية الإيرانية بالحفاظ على مسافة حذرة من مصر الجديدة بل ومطالبتها بخطوات من الوزن الثقيل اعتُبرت بأنها محاصَرة لمصر الجديدة وضغط إضافي على تيار الإخوان المسلمين بالدرجة الأولى.

2- الربيع العربي
وفق ثوابت الثورة الإسلامية فإن ثورات الشعوب العربية هي نهضة شعبية ضد الديكتاتورية والفساد ويتوجب دعمها والوقوف إلى جانبها, لكن إيران الجمهورية فضلت المصالح الوطنية للدولة على الثوابت الحقيقية للثورة في تعاطيها مع الربيع العربي وبدا ذلك واضحًا عبر التركيز على نقطتين اثنتين:

  • اعتماد الحذر المفرط في التعامل مع ثورات الربيع العربي وتبنّي ازدواجية في الخطاب السياسي تجاهها من خلال إعطاء مواقف متأخرة وغير واضحة، كما جرى مع الثورتين الليبية واليمنية مقابل مواقف واضحة ومبكرة برزت في الموقف الإيراني تجاه التحرك البحريني, وأحيانًا جاء الموقف الإيراني غير قابل للتأويل كاعتباره أن كل ما يجري في سوريا هو مؤامرة دولية ضد دمشق ونظامها المقاوم. 
  • إصرار إيران على أن ثورتها الإسلامية هي الثورة الأم في المنطقة والملهم الأساس لكل الشعوب العربية في تحركها، وبرز ذلك حين رفضت طهران مصطلح الربيع العربي وأطلقت على ما قامت به الشعوب العربية "صحوة إسلامية"، جاءت امتدادًا طبيعيًا لما قام به الشعب الإيراني قبل 32 عامًا. 

وبموازاة مواقف إيرانية كهذه برز التمايز في موقف حركة حماس الذي غرد خارج السرب الإيراني؛ ما اضطر طهران إلى إخراج الخلاف بشأن وجهات النظر مع حماس إلى ساحة العلن:

  • لم تقتنع إيران بقول حركة حماس إنها جزء من الربيع العربي ويتوجب عليها دعم شعوب الربيع العربي بما فيه الشعب في سوريا التي تحتضن قيادة الحركة؛ فاعتبر الإيرانيون هذا الموقف الحمساوي موقفًا غير حكيم ومتسرعًا تجاه نظام احتضن الحركة وقدم لها الكثير. هكذا وجدت حماس نفسها تراهن على الشعوب ومنها الشعب السوري, بينما راهنت إيران على النظام في سوريا وقدرته على إحباط ما تسميه المؤامرة الدولية ضده.
  • إيران التي بَنَت جُلّ علاقتها مع حركة حماس على اعتبارها حركة مقاومة تتبنى الإسلام السياسي رأت في التقارب الكبير بين الحركة والتيارات الإسلامية الصاعدة في دول الربيع العربي تحديًا لحضورها في الساحة الفلسطينية؛ وهذا ربما ما دفعها لوضع جدول أعمال لهذه التيارات وهي تتسلم السلطة من خلال محاصرتها بمطالب تقول بوجوب دعم العمل المسلح ضد إسرائيل ونبذ التسوية وأفكار المفاوضات والسلام مع إسرائيل. وفي الحقيقة قد لا يُفهم ذلك إلا في سياق الضغط الإيراني لفرض رؤيته الخاصة بالتعامل مع القضية الفلسطينية على الأنظمة الجديدة التي جاء بها الربيع العربي.

3- المتغير السوري
مع وصول الربيع العربي إلى أبواب دمشق جاء الموقف الإيراني قائمًا على مصالح الدولة وبعيدًا عن الثوابت بشكل غير قابل للشك. وكما عرّى تحرك الشعب السوري الموقف الإيراني من أي لبس عدا المصالح الإستراتيجية للدولة والنظام, فإنه أيضًا دفع حركة حماس إلى اتخاذ موقف أكثر تمايزًا عن الموقف الإيراني عبر الوقوف مع الشعب السوري ومطالبته بالحرية والكرامة والديمقراطية. هنا بدا الخلاف واضحًا بين حماس وإيران، لكن من الخطأ القول: إن حماس وإيران اتخذتا طرفي نقيض في مواقفهما من الثورة السورية, فبينما حمل الموقف الإيراني صيغًا عملية لا جدال فيها من خلال تسمية ما يجري في سوريا بالمؤامرة وإخضاع الخطاب السياسي حرفيًا لهذا المعطى, فضّلت حماس بقاء موقفها أخلاقيًا, فهي لم تعادي النظام ولم تؤيد المعارضة. ويمكن إيضاح تمايز الموقفين الإيراني والحمساوي بشأن سوريا في نقاط ثلاث: 

  1. إعلان حركة حماس أنها مع التحرك الشعبي في سوريا لم يُترجم إلى هجوم على نظام الرئيس بشار الأسد, بينما أعلنت إيران رسميًا أنها تقف مع النظام وتبنّت رؤيته بالكامل وشنّت هجومًا شرسًا على المعارضة والجيش الحر متهمة إياهما بأنهما مجموعات مسلحة تمارس الإرهاب ضد الدولة ومؤسساتها المدنية.
  2. حركة حماس كانت حذرة جدًا في تأييد أي عمل عسكري ضد نظام الرئيس الأسد كي لا تُتّهم بالتحريض, فلا عناصر الحركة تواجدوا على الأرض السورية, ولا سلاح الحركة وُجِّه ضد النظام أو وقف بجانب المعارضة، بل بقي موقفها أخلاقيًا دون ترجمة عملية له على الأرض، في حين وقفت إيران بشكل عملي مع النظام السوري من خلال مساعدات ضخمة شملت الاقتصاد والاستشارات العسكرية حتى إن أطرافًا عدة اتهمت الإيرانيين بتسيير رحلات جوية يومية باتجاه سوريا تحمل معدات عسكرية لمساعدة للنظام السوري في حربه مع المعارضة المسلحة.
  3. حتى بعد أن أغلق النظام مكاتب حركة حماس في سوريا بالشمع الأحمر معلنًا حالة القطيعة معها بقي الإعلام المرئي والمكتوب والإلكتروني التابع لحركة حماس ينأى بنفسه عن شنّ هجوم مضاد على نظام الرئيس بشار الأسد خاصة في العام الأول بعد الثورة. أمّا الإعلام الإيراني الناطق بالفارسية والإنكليزية والعربية فقد سخّر كل أدواته ومنذ اللحظة الأولى ضد المعارضة السورية والجيش الحر من خلال اتهامهم بأنهم حلفاء لتنظيم القاعدة مدعومون من دول إقليمية كتركيا وقطر والسعودية.

 الواقع الراهن

لا يبدو تأكيد كل من طهران وقيادة حركة حماس على أن الخلاف الكبير بشأن الأزمة السورية لن يؤثر على العلاقة الإستراتيجية بين الطرفين مجرد كلام عابر, بل إنه ينطلق من طبيعة الحركة والعلاقة التي تربطها بإيران, فضلاً عن خبرة طويلة للطرفين بالتعامل مع أزمات المنطقة وتأثيرها على العلاقة بينهما.

لا أحد في حماس وقيادتها ولا أحد من مسؤولي النظام الإيراني بشقيه العسكري والسياسي يبدو مقتنعًا بأنه ينبغي للعلاقة أن تتأثر بخلافهما حيال ما يجري في سوريا, وهذا يفسر سعي الجانبين في هذه المرحلة لإبقاء مساحة الخلاف محصورة في الشأن السوري فقط دون تعميمها على بقية الملفات. فطهران تدرك أن لُبّ الإستراتيجية التي تنادي بها -القائمة على المقاومة والممانعة- تتمحور حول القضية الفلسطينية وفصائل المقاومة. كما أنها تعرف أن أي تراجع في العلاقة سيقدم مكاسب مجانية للأطراف الفلسطينية الأخرى الساعية إلى بلورة حل سياسي للقضية وفق مبدأ ثنائية المفاوضات والسلام بسقف مطالب أقصاه دولة فلسطينية على حدود 1967، وهي معادلة ترفضها إيران جملة وتفصيلاً. لكن ذلك لا يمنع مما تقوم به إيران اليوم عبر الاحتفاظ بعلاقة متميزة مع بعض الفصائل الأخرى من خلال تخصيص دعم إضافي لها كإجراء وقائي لسد أي فراغ قد ينشأ جرّاء تراجع العلاقة مع حماس في المرحلة المقبلة.

على الطرف الآخر تقف حماس وهي تعي جيدًا أن مد المقاومة الفلسطينية بالسلاح على غرار صواريخ فجر 5 وفجر 3 يحتاج إلى قرار سياسي جريء وأنظمة من نوع خاص تكون قادرة على اتخاذ قرار كهذا سيجرّ عليها تحديات كثيرة. وبالنظر إلى العالم العربي فإن أي نظام سواء من جاء به الربيع العربي أو تلك التي لم تصلها ثورات العرب تبدو غير مستعدة لاتخاذ قرارات بهذا الحجم, ما يعني أن إيران تبقى في هذه المرحلة على الأقل تتفرد بقدرتها على اتخاذ قرارات خطرة بتزويد الفلسطينيين بالسلاح علنًا.

بيد أن ذلك لا يعني أن كلا الطرفين اليوم لا يقومان بما هو أخطر؛ إذ هناك معلومات تفيد بأن إيران بدأت عمليًا للمرة الأولى بالتعامل مع حركة حماس على اعتبار التصنيف الذي طالما رفضته في السابق، والقائم على حماس الداخل وحماس الخارج من خلال تزايد الاهتمام الإيراني بحماس الداخل متمثلة برئيس الوزراء الفلسطيني المقال إسماعيل هنية والقيادي البارز في الحركة محمود الزهار. وحركة حماس وعلى لسان قياداتها -حتى لو كان ذلك داخل الغرف المغلقة- اشتكت وأبدت امتعاضًا من أن إيران تحاول جاهدة التواصل مع قيادات الصف الثاني والثالث في الحركة بعيدًا عن قيادة الخارج؛ وهذا ما لم تفعله إيران في السابق من خلال التأكيد على إستراتيجية واحدة في التعامل مع حماس متمثلة برئيس المكتب السياسي خالد مشعل.

لكن في المقابل يبدو أن الكلام الأكثر صوابًا هو ما يردده البعض من الطرفين بشأن قدرة كل من طهران وحماس على الاحتفاظ بعلاقة جيدة في ظل ما يجري في المنطقة, ويعتمد هؤلاء في تفاؤلهم على أن حركة كحركة حماس اختبرت معنى العلاقات الجدلية ولزمن طويل من خلال التنقل بين أنظمة عربية مختلفة التوجهات. أما بالنسبة لإيران فالتاريخ يؤكد امتلاكها ما يكفي من البراغماتية لتجاوز هذه المرحلة بأقل الخسائر.

مستقبل العلاقة الإيرانية–الفلسطينية

تقليديًا قد يصح القول بأن مستقبل العلاقة بين إيران والقضية الفلسطينية مرتبط إلى حد ما بمستقبل العلاقة مع حركة حماس, وهذا بطبيعة الحال لن يخرج عن احتمالين اثنين: إما أن يتجاوز الطرفان هذه المرحلة ويحافظا على العلاقة الإستراتيجية بينهما, وإما أن تتحول هذه العلاقة في نهاية المطاف من علاقة إستراتيجية إلى علاقة عادية بدولة صديقة تدعم القضية الفلسطينية. أما الحديث عن تراجع متسارع للعلاقة وصولاً إلى القطيعة فيبدو احتمالاً بعيدًا. بكافة الأحوال فإن نوعين من المتغيرات سيحكمان مستقبل هذه العلاقة:  

1- المتغيرات الإقليمية، وأهمها

  • مآلات الثورة السورية ومصير نظام الرئيس بشار الأسد؛ إذ سيُعتبر بقاؤه نصرًا إيرانيًا بامتياز, أما رحيله فيعني أن النظام في إيران مدعو للقيام بانعطافات حادة.
  • تقارب وجهات النظر بين طهران والقاهرة وعودة العلاقات بين البلدين إلى وضعها الطبيعي دون إغفال التنافس الإقليمي بينهما داخل ساحة القضية الفلسطينية.
  • مدى نجاح التقارب الحمساوي-العربي, وتحديدًا مع الدول الخليجية التي تربط أي تقارب مع الحركة بمدى ابتعادها عن السياسات الإيرانية.

2- المتغيرات الداخلية الإيرانية
استعار المواجهة بين الغرب وإيران بشأن برنامجها النووي, ووصول العقوبات إلى قلب الاقتصاد الإيراني عبر استهداف القطاع النفطي للبلاد وسحب جل الشركات الغربية استثماراتها, فضلاً عن التهديد بضرب المنشآت النووية الإيرانية، خلق فراغات كبيرة في الاقتصاد والسياسة لم يكن باستطاعة إيران مواجهتها إلا بدخول الحرس الثوري على الخط. وهذا ما عزّز وبشكل لم يسبق له مثيل الحضور السياسي والاقتصادي للحرس الثوري في البلاد؛ ما يقودنا إلى نتيجة مفادها أن مستقبل العلاقة مع حماس سيكون مرتبطًا إلى حد بعيد برؤية الحرس الثوري، الذي يمكن ترتيب أولوياته في التعامل مع الساحة الفلسطينية وفق الآتي:

  • الحرس الثوري الفاعل المؤثر في الجمهورية الإسلامية سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا؛ ينظر إلى القضية الفلسطينية وتحديدًا العلاقة مع حركة حماس من الزاوية العسكرية بالدرجة الأولى القائمة على المقاومة والتسلح لمواجهة إسرائيل، ما يشكّل ضمانًا حقيقيًا لأن تتجنب العلاقة مع حماس مزيدًا من التصعيد أو التدهور.
  • سيطرة فكرة ضرورة المواجهة على عقلية الحرس الثوري في التعامل مع التحديات بهدف تحقيق سلة من الانتصارات، أهمها القول بأن سياسات الغرب القائمة على العقوبات الاقتصادية ورفع سقف التهديد بالضربة العسكرية قد فشلت في التعاطي مع إيران. وهذا بطبيعة الحال غير بعيد عن القضية الفلسطينية كون الحرس الثوري لا يبدو مستعدًا للتضحية بما يصفه جهوده الكبيرة في تحويل فصائل فلسطينية معينة -من بينها حركة حماس- من منظمات مزعجة لإسرائيل إلى حركات مقاومة تمثل خطرًا إستراتيجيًا حقيقيًا على وجود إسرائيل وأمنها القومي. وقد بدا هذا الموقف واضحًا فيما يخص الأزمة في سوريا؛ فالحرس لا يزال متمسكًا بالنظام السوري, بينما كثير من السياسيين الإيرانيين والمحللين يقولون بخطأ السياسة الإيرانية الخارجية حيال ما يجري في سوريا.
  • إصرار الحرس الثوري خلال الأزمة الأخيرة مع حماس على متابعة تقديم الدعم العسكري للحركة كونه يرى أن ذلك -وفي نهاية المطاف- سيخدم المصالح الإيرانية الداخلية والإقليمية, فضلاً عن دفعه بالسياسة الإيرانية الخارجية إلى استثمار أي متغير سياسي إقليمي لصالح علاقتها مع القضية الفلسطينية. فإيران اليوم تقول إن علاقتها مع حركة حماس لا يجب أن تُبنى على مواقف سياسية بقدر ما تتمحور حول مواجهة إسرائيل وتهديد أمنها القومي من الداخل.

وفي الختام وبجملة واحدة: لا تبدو الجمهورية الإسلامية في إيران مستعدة للتضحية بعلاقتها مع حركة حماس في هذه المرحلة حتى ولو اختلفت معها سياسيًا, خاصة وأن لا شيء مضمون على الضفة السورية؛ فجميع حسابات طهران هناك لم تأتِ حتى الآن بالحد الأدنى من توقعاتها لسير الأحداث على الأرض، لاسيما قدرة نظام الرئيس بشار الأسد على الخروج سالمًا من مواجهته مع المعارضة المسلحة.
______________________________
عبد القادر طافش - باحث متخصص بالشأن الإيراني

نبذة عن الكاتب