"أقحوان قرغيزستان" ثورة تحترق بنار العشائر والعصابات

ترى هذه الورقة أن ثورات قرغيزستان تم إحراقها في نار مشاحنات العشائر والعصابات بهدف إعادة توزيع المكاسب. وإذا ما أدت الاضطرابات الحالية إلى إعادة تشكيل مؤسسة السلطة مثلما حدث في الثورتين السابقتين، فإن هناك خطر أن تبقى قرغيزستان إلى الأبد في مصاف الدول الفاشلة.
201374101227298734_20.jpg
المصدر (الجزيرة)

يبدو أن عام ثورات عامي 2005 و2010 في قرغيزستان لم يكن كافيًا لتمهيد الطريق لعلاقات تمثيلية بين الشعب والحكومة. وفي بداية شهر يونيو/حزيران  من هذا العام، أدت احتجاجات جماهيرية واسعة في قرغيزستان إلى شل العمل في واحدة من أكبر الشركات في البلاد، وهي شركة سينتيرا غولد إنك (Centerra Gold Inc.)  . وهذه الشركة العملاقة في مجال التنقيب عن الذهب ومقرها كندا تعمل في كومتور بمقاطعة إيسيك كول (شمال قرغيزستان)، وتوفر للاقتصاد استثمارًا أجنبيًا. استولى المحتجون على مكاتب الإدارة الإقليمية في جلال أباد (جنوب البلاد) وسدوا الطرق في منطقة إيسيك كول وقطعوا الكهرباء عن المنطقة الصناعية عدة مرات. كانوا يطالبون بالانسحاب الفوري من اتفاقية "غير عادلة" مع المستثمرين الكنديين وتأميم القطاع، فضلاً عن التوزيع العادل للدخل وزيادة المنافع الاجتماعية للسكان. ردت الحكومة بفرض حالة الطوارئ، واستمرت الاضطرابات لمدة أسبوع تقريبًا ثم تلاشت تدريجيًا. إذن ما الذي يدفع قرغيزستان لمخالفة سجلها الثوري؟ وللإجابة على ذلك، سوف نقوم بدراسة العلاقة مع الثورات السابقة ومنطقها، خاصة وأن شعب قرغيزستان يفخر باستثنائيته في كفاحه من أجل إقامة دولة ديمقراطية.

"أصبحت ثورات قرغيزستان ظاهرة للعالم عامة... فبعد أقل من عام [بعد ثورة 2010]، بدأت أعمال الاحتجاج السلمية المدنية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وكانت لدينا ثورة إبريل/نيسان قد أُشيد بها وأصبحت نموذجًا بالنسبة لهم"(1).

هذه الرسالة التي كانت الرئيسة الانتقالية روزا أوتونباييفا تحاول تسويقها في الذكرى السنوية الأولى لثورة 2010 في قرغيزستان. لا نعلم إن كانت هذه الرسالة صاغتها الرئيسة شخصيًا أم أنها نتاج الإبداع غير المألوف وروح الدعابة لكتّاب الخطابات عندها، إلا أن الواقع يقول: إن شعب قرغيزستان يفضّل إسقاط حكوماته على انتخابها بالطريقة المعتادة. وبالفعل يبدو أن بعض حكام الشرق الأوسط السلطويين السابقين قد شهدوا مؤخرًا نفس مصير اثنين من رؤساء قرغيزستان؛ فقد أطيح بالرئيس عسكر أكاييف في عام 2005 وهرب إلى روسيا، وتبعه كرمان بك باكييف في عام 2010 وفرّ من البلاد ليجد ملاذه في روسيا البيضاء.

وتظل خطط التغيير القسري للحكومات على حالها وغير قابلة للتغيير؛ فإعادة تشكيل المشهد السياسي تتم أساسًا من خلال المواجهة العشائرية بين الشمال والجنوب في محاولة لإنهاء سيطرة عشيرة ما على مجالي السياسة والاقتصاد. وقد شكّلت الصراعات العشائرية حدًا فاصلاً بين المناطق الجنوبية والشمالية وهي قائمة هناك منذ الأزل؛ ففي عام 1985 استولى ممثل نخب الجنوب عبد الصمد مسالييف على الحكم من الشمالي تورداكون أوسوبالييف. وفي عام 1990 أخذ الشمال بثأره تحت شعار البريسترويكا ووضع الأكاديمي عسكر أكاييف في الرئاسة، وكان قد اكتسب صورة الليبرالي الإصلاحي. ومما يجدر ذكره أننا نستخدم في هذا المقال كلمات "النخب" و"القادة" و"السلطات" اسميًا فقط. استطاع أكاييف الصمود حتى عام 2005 ثم وقع ضحية لنزعة شعبية راجت في ذلك الوقت، وهو ما يطلق عليه الثورات الملونة. نجحت هذه المظاهرات السلمية التي قام بها أبناء الطبقات الوسطى والأغنياء في تحقيق انتقال السلطة في جورجيا وأوكرانيا. فبعد عقدين من الاستقلال وكسب القادة لمناصبهم عن طريق استغلال مد المشاعر المعادية للسوفييت، لم يعودوا يستحقون الثقة التي منحت لهم. كان الأسلوب المستخدم في بناء النفوذ والسلطة لا ينفع في تطوير المؤسسات السياسية والاجتماعية ولا بناء اقتصاد تنافسي متنوع. وفي الوقت ذاته بدأ الترويج للديمقراطية على يد المحافظين الجدد في الولايات المتحدة يكتسب زخمًا. وبناء عليه اعتُبرت فورة من الغضب العام بداية عام 2000 "مشروعة وطبيعية"، باعتبارها نقيضًا لأعمال الشغب والسعي لهدم مؤسسات السلطة القائمة فعليًا. ومع ذلك لاحظ محللون في أعقاب ذلك أن عباءة الثورات الملونة في قرغيزستان لم تكن سوى تقليد سطحي، وإن كانت تشترك معها في بعض السمات المتباعدة.

وكان هناك اعتراف بحدوث الفوضى والسطو والنهب بشكل واسع النطاق في بيشكيك في عام 2005 ولكن بدون أية دوافع سياسية بحتة، بل هي، كما قالوا، أعمال ارتكبها البلطجية من الطبقات الفقيرة. وقد عانت الشركات الصغيرة والأعمال التجارية المحلية بجميع أنواعها بصورة كبيرة، بل إن بعضها دُمّر تمامًا ووضع اللوم على ارتباك عناصر الأمن وسوء تنظيمهم. وفي وسط مدينة بيشكيك وفي جميع أنحاء الدولة، نُهبت المتاجر وسلبت الممتلكات(2). لقد غلفت الحرب التقليدية بين الشمال والجنوب بورق لامع من ثورة الأقحوان(3). لم يكن من الممكن التنبؤ بالثورة الشعبية عام 2005 بحد ذاتها، فلم يكن أكاييف يحاول البقاء في السلطة لدى انتهاء ولايته الوشيك. ومع ذلك، حُسمت نتيجة الانتخابات البرلمانية لعام 2005 بفوز مواليه بالأغلبية الساحقة من مقاعد البرلمان القرغيزي، مطعّمين قليلاً بأعضاء حياديين. ومن بين أولئك الذين دخلوا البرلمان ابن وابنة لأكاييف(4). ونتيجة لذلك، كان يحرك التمرد المناهض للرئيس العشائر الجنوبية، والتي شملت مناطق أوش وجلال آباد وجزءًا من مجتمعات الأوزبك. واستُخدمت الثورات الملونة كتكنيك سياسي لإضفاء الشرعية على حركة التمرد أمام الرأي العام الدولي. وبالنتيجة سيطرت المعارضة بالقوة على مؤسسات الحكم وتم ترشيح ممثلين جدد ليحلوا محل قادة المؤسسة القديمة. كان الرئيس الجديد كرمان بك باكييف يتمتع بدعم كبير وتشجيع، وقد انتُخب في عام 2005، وكان يعد في خطبه بإجراء تغييرات مؤسسية ويشجب الاستبداد والحكم الوراثي.

وقد ثبت بالأدلة الوافرة أن الدول التي خاضت الثورات الملونة لم تحقق أي تغيير في المشهد الاجتماعي والسياسي على أقل تقدير. وقد بدأت الآن فقط بالتعافي من آثار ذلك، ولكنها لا تزال بعيدة عن الاستقرار السياسي. وهذا يفسر جزئيًا لماذا أصبحت قرغيزستان آخر معقل لهذه الظاهرة. من ناحية أخرى عدل القادة الغربيون من سياساتهم بشأن أنظمة الحكم في آسيا الوسطى حتى لا يسمحوا للفوضى العالمية بالتنامي. وفي هذا السياق، استغل كرمان بك باكييف فرصة تزامنت مع الذكرى الخامسة للثورة، فتحدث في الكورولتاي، وهو الاسم التركي الشائع لكونجرس توافق الشعب القرغيزي، حيث قال:

"تصبح الانتخابات شيئًا فشيئًا مثل سباق ماراثون يتنافس فيه الأغنياء. وينتظر العديد العملية الانتخابية للحصول على مكاسب مجانية ومال أكثر، وهو الأمر الذي يقلل من قيمة النظام الانتخابي... وفي رأيي أن الديمقراطية التشاورية هي النظام الأكثر مناسبة لواقع قرغيزستان في الوقت الحاضر"(5).

واقترح التخلي عن بعض مؤسسات السلطة "الرمزية" وإنشاء مجلس استشاري بديلاً لها يكون خاضعًا للرئيس. ومن بين القادة المرشحين لتولى رئاسة المجلس، وقع الاختيار فورًا على ابن باكييف، مكسيم. لم تمر محاولة إلغاء المؤسسة المنتخبة مرور الكرام، حيث نجم عنها الإطاحة بنظام باكييف هذه المرة.

يبدو نمط كلتي الثورتين متشابهًا جدًا؛ فقد تكرر سيناريو النهب المخطط له مسبقًا بتفاصيله في عام 2010، وتم نهب ممتلكات بشكيك ومدن أخرى بشكل تام، وسُرقت أملاك الناس الخاصة، وكان أمرًا في غاية السوء. ولكن ما ميز ثورة عام 2010 هو المواجهات العرقية. في بداية القرن العشرين، تم توزيع أراضي الجمهوريات التي تأسست حديثًا من قبل البلاشفة بلا مبالاة؛ حيث تم إهمال العوائل التقليدية للسكان المحليين الموزعة عرقيًا. وكانت الحدود الإدارية الفاصلة بين قرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان في وادي فرغانة غير حقيقية وكان يمكن عبورها بدون عوائق نظرًا لأن هذه الجمهوريات كانت جزءًا من دولة واحدة. تم تقسيم المساحات ثقافيًا واقتصاديًا في منطقة فرغانة، بعد أن حصلت هذه الدول على استقلالها؛ مما خلق مشاكل حادة أمام التواصل الاجتماعي والاقتصادي عبر الحدود. وقرغيزستان التي هي جزء من الوادي يسكنها اليوم الأوزبك والشعب القرغيزي، ويعاني الأوزبك تاريخيًا من ضعف تمثيلهم في المؤسسات الحكومية. وفي خضم ثورة 2010، وقع صراع إثني بين السكان الأوزبك والقرغيز في الجنوب، وتحديدًا بين سكان مناطق أوش وجلال أباد. وأدت مجزرة الأوزبك إلى مقتل 500-2000 شخص، فيما أُجبر 100 ألف على الفرار(6).

تزامنت مذبحة يونيو/حزيران بشكل غريب مع انعقاد قمة رفيعة المستوى لمنظمة شنغهاي للتعاون، والتي كانت تجري في طشقند المجاورة. استغلت الرئيسة القيرغيزية الانتقالية هذه الفرصة لطلب العون من منظمة معاهدة الأمن الجماعي (أليست هي المكلفة برعاية الأمن الإقليمي في نهاية المطاف؟). رفض الرئيس الروسي في ذلك الوقت ديمتري ميدفيديف، الذي سيحفظ له التاريخ هذه البراغماتية الرائعة، مسألة اللجوء إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي، مدعيًا أن قوات هذه المنظمة تهدف فقط لصد الهجوم من قوى أجنبية:

"جميع مشاكل قرغيزستان متجذرة في الداخل، وتمتد جذورها إلى ضعف الحكومة السابقة وعدم استعدادها للتعامل مع ما يواجهه الناس من مصاعب. وأتوقع أن يتم حل المشاكل القائمة من قبل السلطات القرغيزية"(7).

اتفق الزعماء الإقليميون، بمن في ذلك رؤساء كازاخستان وأوزبكستان الذين لا ينازعهم أحد في حكمهم، على أن الثورة في قرغيزستان مشكلة داخلية لا تستدعي المشاركة الدولية. ومع هذا فإن ذلك لم يمنع الروس من إرسال لواء من الجيش إلى قاعدتهم العسكرية لتعزيز حماية منشآتها وإخلاء الموظفين جزئيًا(8). حاولت روسيا في عهد ميدفيديف أن تثبت للجميع في عدة مناسبات أنها لا ترغب في التدخل في شؤون الدول ذات السيادة. وربما تكون قد بالغت في هذه المحاولة إلى حد الإفراط. حاول الروس لاحقًا تبرير هذه السلبية المتمثلة في عدم المشاركة، وقال الأمين العام للمنظمة نيكولاي بورديوزا خلال زيارته إلى بيشكيك:

"لقد نجحت قرغيزستان في تسوية النزاع في الجنوب عام 2010... لقد تم اتخاذ قرار، وهو أن إشراك قوات حفظ السلام غير منطقي، واتضح لاحقًا أن القرار كان صائبًا. وقد قمنا بتقديم المساعدة الاستشارية لمؤسسات إنفاذ القانون في قرغيزستان؛ مما أتاح لهم حل النزاع بأنفسهم"(9).

واليوم تشكو موسكو من أن بيشكيك غير متسقة في سياستها الإقليمية وعضويتها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي. ولكن الأحداث التي وقعت عام 2010 أكدت رأي بيشكيك بأن هذه الهيئة الإقليمية ما هي إلا بائعة كلام تخدم مصالح موسكو في آسيا الوسطى. وسبب آخر جعل بيشكيك تشعر بالإهانة من منظمة معاهدة الأمن الجماعي هو عدم تعاونها في إجبار الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو على تسليم الرئيس السابق وشقيقه جانيش اللاجئين في بيلاروسيا، وهي دولة عضو في المنظمة. ومع ذلك فإن بيشكيك لا تريد التخلي عن عضوية المنظمة نظرًا لوجود نهر لا ينضب من المساعدات الخارجية من موسكو ودور بارز للجيش الروسي في إعادة تجهيز الجيش القرغيزي.

وقد أُدمج التطهير العرقي بدهاء في إطار الثورة، ولم يكن له علاقة مباشرة مع الانقلاب على الحكم، حيث فصلت مسافة شهر بين إسقاط الرئيس ومذبحة الأوزبك. وعلاوة على ذلك، فإن خط الفصل في أعقاب أحداث إبريل/نيسان لم يكن بين المجموعات العرقية، ولكن بين أنصار باكييف والمعارضة. وقد أصبح واضحًا لأنصار حكم عائلة باكييف أنه لن يكون لهم دور في الحكومة الجديدة. في مقابل ذلك انحاز زعيم الأوزبك قادريان باتيروف إلى جانب الثوار وكان لابد من تحييده قليلاً(10).وقد بُرّرت الحرب التي جاءت قبل الانتخابات بين العرابين المحليين بشقيها، الحرب بين العصابات والنزاع على الأرض باعتبارها صراعًا بطوليًا لحفظ سلامة الدولة، وجاءت قبل الانتخابات كانت أفعال البلطجية في الشوارع تُصور بأنها تهدف إلى "منع الانفصال وتمزيق الأمة". وقد ألقت اللجنة الوطنية اللوم في إثارة الصراع على "بعض القادة من المجتمع الأوزبكي"(11). وقد سمحت أسطورة المدافعين عن سلامة البلاد للمجرمين بالنجاة من الملاحقة القانونية، في حين استطاع أهل الجنوب، معقل باكييف، الاحتفاظ ببعض السلطة والحصول على قطعة من كعكة الحكومة في بيشكيك.

ومما اتسمت به ثورات قرغيزستان إعادة تقسيم اقتصاد الظل ومجالات المصالح بين مراكز القوى في عالم الجريمة؛ فبعد نصف عام من الأحداث في الجنوب، بدأت روزا أوتونباييفا بقرع الجرس، مشيرة إلى ارتفاع وتيرة مساعي "المجموعات الإجرامية التي تسعى إلى فرض سيطرتها على قطاعات مربحة في الاقتصاد والتمويل ومحاولة دفع أزلامهم لتولي مناصب في الحكومة". وادعت أن "الجريمة المنظمة في محافظات أوش وجلال آباد قد تحولت إلى نظام راسخ متشكل من جماعات إجرامية ناشئة أيضًا على أسس عرقية"(12). وفي موقف يعبّر عن الحال بدقة، سألت أحد الأصدقاء من أوش يعمل في روسيا: ما هي أكثر مهنة مرموقة في قرغيزستان؟ وكان الجواب: شرطي أو أية وظيفة في مؤسسات إنفاذ القانون، أو المؤسسة العسكرية؛ حيث إن هؤلاء الناس يتغذون على فتات الأعمال الإجرامية للدولة مقابل تقديم الغطاء والدعم، وكان التهريب وظيفتهم خارج ساعات الدوام. إنه بالمختصر بناء قائم على علاقات بين الحكومات ورجال الأعمال والتنظيمات الإجرامية يتعدل مع كل ثورة.

وكان من نتائج انقلاب عام 2010 تغيير نظام الحكم من جمهورية رئاسية إلى دولة برلمانية تعتمد ما أطلق عليه ت. كاروثرز: "التعددية العقيمة". وفي ظل هذا النظام يقوم تحالف ضعيف بين الفائزين والخاسرين مناهض للسلطة السابقة، وليس بهدف تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ويتم تأسيس الأحزاب على أساس الانتماء إلى الأسرة أو العِرق أو الإقليم. عمليًا أولئك الذين تولوا المناصب قبل ثورتي 2005 و2010 يجدون أنفسهم اليوم إما في التيار الرئيسي أو في المعارضة. وكنتيجة لانتخابات 2011 تشكل ائتلاف حكومي برئاسة جوغوركو كينيشه من أربع فصائل: الحزب الاشتراكي الديمقراطي القرغيزي، وأرناميس، وريسببليكا، وأتا ميكين. أما فصيل أتا جورت الذي شكّله مسؤولون سابقون في نظام باكييف البائد فلم يحصل على أي منصب في الحكومة، بالرغم من تحقيقه نتائج مرتفعة في الانتخابات (28 مقعدًا من أصل 120)(13).

بعد ذلك فإنه لن يكون من الصعب تخمين ما يكمن وراء تعطيل عمل شركات تعدين الذهب في مقاطعة إيسيك كول ومظاهرات منطقة جلال آباد. تبلغ الإيرادات السنوية التي تجنيها خزينة قرغيزستان من المشروع في كومتور ما يوازي في المتوسط 10 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للدولة. وثلث أسهم شركة سينتيرا، والتي تبلغ قيمتها 320 مليون دولار، تملكها شركة قيرغيززالتين المساهمة العامة. يتم استخراج الذهب والفضة من منطقة كومتور وتشتريه قيرغيززالتين وتقوم بمعالجته في المصنع الذي تملكه، ثم بيعه(14). وبالتالي فإن المظاهرات الحاشدة تؤدي إلى فقدان البلاد قدرتها على جذب الاستثمارات (كما لو كان هناك الكثير منها!) وأضرار مالية كبيرة. يحاول الشركاء الكنديون الصمود والمقاومة، ولكن رأيهم لم يؤخذ في الاعتبار.

ومن بين الأطراف التي تدعو إلى الانسحاب من الاتفاق وتأميم الشركة، وكما هو متوقع، زعيم حزب أتا جورت المنبوذ من الائتلاف الحكومي ميكتيبك عبداللييف(15). وفي نفس الوقت أعلن زعيم آخر لحزب أتا جورت وهو كمتشي بك تاشييف إضرابًا عن الطعام في سجنه تضامنًا مع الشعب. لكن وسائل الإعلام القرغيزية ادعت أن مسؤولي الحكومة قرروا التعامل مع المجرمين، وليس مع السكان، كي تهدأ الأزمة. ويقال: إن زعيم عصابة محليًا يدعى مقصد أباكيروف شارك في المفاوضات مع نائب رئيس مجلس الدولة نيابة عن الناس(16).

أما دور الرئيس الحالي ألمظ بك أتامباييف في الأزمة فكان سلبيًا إلى حد ما، واكتفى بالدعوة لعودة النظام، والتأكيد على أهمية سلطات إنفاذ القانون في الحفاظ على الأمن ورفضه لتفريق المظاهرات التي تسد الطريق السريع بين بيشكيك وأوش بالقوة. وكان وضع الرئيس ضعيفًا، فالسلام القائم على الائتلافات هش ويتغذى على مشاعر الشماليين المعادية للجنوب. أما البرلمان فقد نأى بنفسه عن الأزمة ولم يقم بأي جهد معقول لتهدئة الاضطرابات على الإطلاق. وسرعان ما نطق الرئيس المخلوع كرمان بك باكييف، والذي ظل صامتًا خلال العامين الماضيين، ليعلن أن السلطات التي تتولى زمام الأمور اليوم غير قادرة على السيطرة على البلاد، وقد أصاب في ذلك.

وفي الختام، لا الثورتان، ولا الانتقال إلى النظام البرلماني حقق أي تغيير لطبيعة الحكم في قرغيزستان. على الرغم من بعض قيادات تحاول تسويق الفكرة الوهمية بأن ثورة قرغيزستان هي التي ألهمت ثورات الربيع العربي، إلا أن التشابه بعيد جدًا. إن السعي القائم حاليًا لتحقيق "العدالة الاجتماعية" في قرغيزستان يوضح أساسًا الغياب التام للسلوك المدني بين السكان؛ حيث تنتشر ثقافة الغزو والسلب بصورة واضحة، إضافة للخصومات القبلية الغالبة والصراع على التمثيل في مناصب الدولة.

لقد أُحرقت ثورات قرغيزستان في نار مشاحنات العشائر والعصابات، ويبدع زعماء البلاد في صياغة الشعارات الشعبوية للتلاعب بالرأي العام وحشد دعم الجماهير، في حين أن الهدف في نهاية المطاف واحد وهو إعادة توزيع الممتلكات والأعمال التجارية، والهيمنة على القطاعات الاقتصادية والمالية. إنهم غير مهتمين برعاية مصالح المجتمع المدني أو بالنهضة الاجتماعية الاقتصادية، أو بتحقيق موطئ قدم راسخ في الشؤون العالمية. وعمومًا فإن المسألة لا تعدو كونها لعبة نفوذ لا تنتهي بين التيار الرئيسي والمعارضة. وإذا ما أدت الاضطرابات الحالية إلى إعادة تشكيل مؤسسة السلطة على شاكلة ما حدث في الثورتين السابقتين، فإن هناك خطر أن تبقى قرغيزستان إلى الأبد في مصاف الدول الفاشلة.
________________________________________
كارينا فايزولينا - كارينا فايزولينا، باحثة روسية متخصصة في العلاقات الدولية
*هذه الورقة أعدتها الباحثة باللغة الإنجليزية وتمت ترجمتها إلى العربية.

الهوامش والمصادر
1- موقع أخبار فيرغانا نيوز، 2011، "خبراء يعلقون على نتائج السنة الأولى للثورة الثانية"، 6 إبريل/نيسان، http://www.fergananews.com/articles/6935
2- موقع أخبار روسيا (نيوسرو)، 2005، "نتائج ليلة النهب والسلب في بشتك: خمسة قتلى و367 جريحا"، 25 مارس/آذار. http://www.newsru.com/world/25mar2005/bishkek.html
3- ماكارين، أ.ف، 2005، "شغب بلون البرتقال" 20 إبريل/نيسان. http://www.globalaffairs.ru/number/n_4820
4- وكالة أنباء نوفوستي الروسية، 2010، نتائج ثورة الأقحوان في قرغيزستان، 7 إبريل/نيسان. http://ria.ru/spravka/20100407/218898083.html
5- باكييف ك.، 2010، "خطاب الرئيس في كونغرس توافق الشعب القرغيزي"، 23 مارس/آذار. http://www.centrasia.ru/newsA.php?st=1269332580
6- هاردينغ ل.، 2010، مذابح قرغيزستان تنطوي على محاولة إبادة جماعية، يقول الأوزبك"، 15 يونيو/حزيران.
 http://www.guardian.co.uk/world/2010/jun/16/kyrgyzstan-killings-attempted-genocide-uzbeks
7- وكالة أنباء نوفوستي، 2010، ميدفيديف يقول: إن قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي لن تُستخدم في قيرغيزستان"، 11 يونيو/حزيران
http://ria.ru/world/20100611/245141251.html
8- وكالة أنباء إنترفاكس الروسية، 2010، "وزارة الدفاع: إخلاء عائلات أفراد الجيش الروسي من قاعدة كانت الجوية"، 16 يونيو/حزيران، http://www.interfax-russia.ru/print.asp?id=152800&type=view
9- منظمة معاهدة الأمن الجماعي، 2013، "النشرة الإخبارية الصادرة عن الأمانة العامة"، 27 مارس/آذار.
http://www.odkb-csto.org/obzor-pressy/detail.php?ELEMENT_ID=1747
10- شيرماتوفا س، 2011، "انقسام قيرغيزستان إلى قسمين" موقع فيرغانا نيوز، 8 فبراير/شباط، http://www.fergananews.com/article.php?id=6896
11- موقع فيرغانا نيوز، 2011، "اللجنة الوطنية تنشر نتائج تحقيق أحداث يونيو/حزيران"، 20 يناير/كانون الثاني، http://www.fergananews.com/article.php?id=6871
12- موقع فيرغانا نيوز الإخباري، 2011، "بيان السياسة الرئاسي حول إجراءات مكافحة الجريمة"، 20 يناير/كانون الثاني،
 http://www.fergananews.com/news.php?id=16316
13- جوغوركو كينيشه، "تشكيل البرلمان القرغيزي"، http://www.kenesh.kg/RU/Articles/15411-Stanovlenie_kyrgyzskogo_parlamenta.aspx
14- قيرغيزالتين، 2011، "مشروع كومتور"، http://www.kyrgyzaltyn.kg/invest-proekti/46-proekt-kumtor
15- موقع أخبار كابار، 2013، حزب أتا جورت يطالب بالانسحاب من اتفاقية كومتور"، 9 أكتوبر/تشرين الأول، http://www.kabar.kg/rus/politics/full/56675
16- أوتورباييفا أ.، 2013، "من خطط لفوضى"، موقع 24، 3 يونيو/حزيران، http://www.24kg.org/community/155833-kyrgyzstan-kto-rezhisser-buzy.html

نبذة عن الكاتب