السودان وجنوب السودان: صراعات على السلطة تعيد صياغة التوازنات

لا تزال العلاقات بين دولتي: السودان وجنوب السودان تتلمس طريقها لتأسيس مجالات تعاون تخدم المصالح المشتركة، وتتجاوز مرارات الماضي إلا أن الحراك السياسي الجاري سيكون محدودَ التأثير مستقبلا على الرغم من أن تصريحات بعض المسؤولين في الخرطوم تبدو متفائلة.
2013826114735813734_20.jpg
الرئيس السوداني عمر البشير (يسار) بجانب رئيس جمهورية جنوب السودان سلفا كير (الجزيرة)

شهدت دولتا السودان تحركات سياسية متزامنة في البلدين وسط توجه الرئيسين عمر البشير وسلفا كير لتبديل بعض اللاعبين، أو حتى تغيير قواعد اللعبة، فما هي دلالات هذه التحركات، وما هي التقديرات التي تقف وراءها على خلفية المشاكل التي تواجه كل منهما، وهل ثمة رابط بينهما، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على الأوضاع الداخلية، وما هي تبعاتها على مستقبل العلاقة بين البلدين؟

لم يكد ينقضي عامان على تقسيم السودان، حتى تراكمت أوضاع سياسية واقتصادية وأمنية متردية، وسط علاقات متوترة بينهما بسبب الخلافات العالقة حول تركة البلد المنقسم، وقد تحول التقسيم بدلاً من أن يكون سبيلاً لجلب السلام والاستقرار إلى سبب في بذر سلسلة من النزاعات الجديدة، حيث تمت إعادة إنتاج الأزمة الوطنية من خلال صراع النخب على السلطة والثروة في البلدين.

الصراع على السلطة

في وقت متزامن تصاعدت في الخرطوم وجوبا في الأسابيع الماضية أجواء تحركات سياسية مشحونة بالتوتر جراء صراع على السلطة، نتيجة تنافس داخلي وسط النخب في الحزبين الحاكمين، المؤتمر الوطني في الشمال، والحركة الشعبية في الجنوب، وهو صراع فجره سباق الطامحين لخلافة الرئيسين عمر البشير، وسلفا كير في الانتخابات الرئاسية المقررة في البلدبن في العام 2015. رغم أن أياً منهما لا يبدو عازماً على التنحي.

وفي حين سارع رئيس جنوب السودان إلى إصدار قرارات مباغتة وحاسمة لإقصاء منافسيه في 23 يوليو/ تموز 2013، بإعفاء نائبه رياك مشار وتعليق مهام الأمين العام للحركة الشعبية الحاكمة باقان أموم وإحالته إلى التحقيق وحل حكومته بالكامل وتنصيب أخرى مكانها، لا تزال التحركات في الخرطوم غامضة وسط جدل حول حقيقة وحجم تغيير ينوي الرئيس البشير إجراءه، رغم أنه لم يصرح بذلك علانية، إلا أن الصحف تحفل بتصريحات متضاربة من بعض قادة الحزب الحاكم حول تغيير وشيك قد يطيح بمسؤولين من الصف الأول، بينما يقلل آخرون من هذه التوقعات.

ويواجه رئيس جنوب السودان تحديَ تأكيدِ زعامتِه فضلاً عن الحاجة لترتيب أوضاع الدولة الوليدة والانتقال بها من مرحلة شرعية ثورية إلى مرحلة شرعية دستورية وبناء نظام فعال في بلد يفتقد لإرث مؤسسات الدولة الضرورية، في ظل صعوبة تفكيك مراكز القوى التي تشكلت إبان حرب التحرير وإحلالها لتتواءم مع متطلبات بناء الدولة، وتداخلها مع تعقيدات التوازنات القبلية التي تلعب دوراً محورياً في معادلات السلطة.

الرئيس البشير والتحديات المتراكمة
قد لا يكون رئيس السوداني يواجه تحدياً لزعامته، إلا أن حاجته للتغيير أكثر إلحاحاً، ذلك أن سلطته تعاني من  تركة مثقلة بالمشكلات المستعصية التي تراكمت على مدى ربع قرن من حكمه، وقد أورث هذا المكوث الطويل في السلطة، في غياب جهد إصلاحي، البلاد مصاعب غير مسبوقة سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً، ليس أقلُّها خُسرانَ الرهان على صفقة السلام مقابل الانفصال، بعدما تحقق السيناريو الأسوأ حيث فقدت البلاد وحدتها وتم إعادة إنتاج الحرب في الجنوب الجديد بالمبررات ذاتها التي أدت لانفصال دولة الجنوب.

وتفاقم الوضع بتأسيس تحالف مع الحركات المسلحة في دارفور ليتشكل هلال تمرد يمتد من دارفور غرباً مروراً بجنوب كردفان، وإلى ولاية النيل الأزرق شرقاً، كما بدت بوادر تحول استراتيجي بانتقال نشاط المعارضة المسلحة إلى ولاية شمال كردفان في وسط البلاد، وهو ما يتسبب في إنهاك القوات المسلحة السودانية. فضلاً عن أن الوضع الأمني في دارفور يشهد انفلاتاً متزايداً يكاد يخرجها من سيطرة الحكومة بالكامل مع تغير طبيعة الصراع إلى اقتتال قبلي في ظل عجز قوات حفظ السلام الدولية حتى عن حماية نفسها.

ويزيد من تعقيد حسابات الرئيس البشير الوضعُ الاقتصادي المتردي جراء استمرار آثار الصدمة التي أصابته بفقدان الموارد النفطية، مع عجز إدارة الاقتصاد وفشلها في امتصاص تلك الصدمة جراء عدم تحسب الحكومة للسنوات العجاف أيام فورة العائدات النفطية، وقد انعكس ذلك على حياة المواطنين المعيشية اليومية حيث سجل السودان أكبر معدل للتضخم على مستوى العالم بنهاية العام 2012 حسب تقرير صندوق النقد الدولي، كما فقدت العملة الوطنية أكثر من ضعفي قيمتها في السنتين الماضيتين، في وقت تبدو الحكومة مترددة في اتخاذ قرار بإجراء المزيد من خفض الدعم للمحروقات والقمح مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بصورة يخشى أن تؤدي إلى اضطرابات شعبية قد تهدد استقرار النظام. 

ويواجه البشير تحدياً آخر بمذكرة التوقيف بحقه من قبل المحكمة الجنائية الدولية على خلفية الأزمة في دارفور. وعلى الرغم من مرور أكثر من أربع سنوات على إصدارها دون أن تنفذ، بفضل دعم إفريقي وعربي مناهض لقرار المحكمة، ودون أن تغير من معادلة الحكم في الخرطوم، ولكنها مع ذلك بقيت سيفاً مسلطاً يتسبب في الكثير من الإرباك لأداء الرئاسة وفرض حالة جمودعلى فرص التغيير.

والمفارقة أن البشير الذي لا يواجه تحدياً جدياً لسلطته من قوى المعارضة، تأتيه  المتاعب من داخل حزبه الحاكم المفتقد للفاعلية ووحدة الموقف السياسي بسبب الصراع المكشوف بين مجموعات متنافسة، وكذلك تواتر التحركات المطالبة بالإصلاح في أوساط الإسلاميين، وقد تصاعدت أجواء الصراع داخل الحزب الحاكم قبل عامين بتأثير ثورات الربيع العربي، وكان البشير تجاوب مع مطالب شباب حزبه بالإصلاح حينها بتعهده بعدم الترشح مجدداً للرئاسة، وإجراء تغييرات جذرية في هيكل السلطة تستبعد من تعدوا الستين من العمر أو ممن بقوا في مناصبهم لأكثر من عشر سنوات، ومحاربة الفساد.

لم يتحقق شيء من تعهدات البشير تلك، ولكنها فتحت الباب واسعاً لصراع مبكر على خلافته وسط جدل محموم بين داعين لعدم ترشحه، وبين مؤيدين لاستمراره في السلطة. في وقت لم يتسن التأكد من جدية البشير اعتزامه التنحي فعلاً، وما إذا كان ذلك التعهد الذي أعلنه في تصريحات صحافية أكثر من  مرة مجرد مناورة لكسب الوقت أم قرار نهائي. خاصة أنه لم يتم طرحه للتداول في مؤسسات الحزب القيادية.

وما أضفى غموضاً على المسألة أنه في الوقت الذي كان يفترض فيه تحلل البشير تدريجياً من مسؤوليات السلطة باتجاه التنحي، حدث العكس حيث تعزز نفوذه في خواتيم العام الماضي وأصبح، إلى جانب مناصب رئاسة الجمهورية وقيادة القوات المسلحة ورئاسة الحكومة، زعيماً "للحركة الإسلامية" بعد مؤتمرها العام الأخير الذي كان مقدرا له عند دعاة الإصلاح أن يكون منصة انطلاق لإعادة ترتيب البيت من الداخل ومن ثم إصلاح النظام الذي يحكم باسم الحركة دون أن يكون لها تأثير فعلي في مجريات الأمور، في وقت الذي تتحمل فيه كل تبعات إخفاقاته.

أدى ذلك إلى تأكيد سيطرة العسكريين على النظام، وأصبح وجود المدنيين في قيادة المؤتمر الوطني، وفي "الحركة الإسلامية" مجرد غطاء مدني لنظام حكم عسكري. وهذه المعادلة هي التي تحكم توازنات النظام الداخلية، وهو ما جعل الدعوات الإصلاحية التي تكاثرت في السنتين الأخيرتين محدودة السقف ومحكومة بحقيقة الطبيعة العسكرية للنظام ولذلك لا تكاد تمس شخص الرئيس وموقعه.

ومن التطورات المهمة على هذا الصعيد إعلان السلطات عن محاولة انقلابية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، بعد أسبوع فقط من انفضاض مؤتمر الحركة الإسلامية المثير للجدل، وتم اعتقال المتهمين على ذمة ذلك الانقلاب ولم يكونوا في الحقيقة سوى ضباط يمثلون قاعدة "الإسلاميين" الصلبة داخل القوات المسلحة من دعاة الإصلاح. ولم تمض سوى بضعة أشهر حتى أطلق سراح الجميع بعفو من الرئيس في خطوة أثارت تساؤلات كثيرة حول مغزاها لا سيما وأن قادة المحاولة، نشطوا بعد إطلاق سراحهم في حراك سياسي يدعون للإصلاح في أوساط المدنيين وجماعات المقاتلين المتطوعين دون اعتراض من السلطات، وهو ما يضع الكثير من علامات الاستفهام حول وجود صفقة ما، خاصة وأن السلطة تفرض تشديداً على أنشطة أحزاب المعارضة.

"انقلاب أبيض" في الجنوب

جاءت إطاحة الرئيس سلفا كير بمنافسيه في خضم صراع مرير على السلطة برز علانية قبل بضعة أشهر جراء خلافات عميقة بينه ونائبه مشار الذي تحدى زعامته، وكان سلفا كير أطاح خلال الأسابيع الماضية أيضاً بعدد من رموز الحركة الشعبية الكبار وأحالهم إلى التحقيق بتهم تتعلق بالفساد، ودخل الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم حلبة الصراع بتوجيه انتقادات علنية للجنرال سلفا واصفاً نهجه بأنه نتاج "أمراض قديمة ستسبب كوارث للدولة الجديدة". معتبراً أن سبب إطاحتهم هي معارضتهم لترشحه للرئاسة مرة أخرى.

واللافت أن هذه التطورات المتسارعة جاءت بعد إصدار مجموعة " أصدقاء جنوب السودان" التي تضم عدداً من أشهر الشخصيات الناشطة في جماعات الضغط في واشنطن الذين ساندوا انفصاله، بياناً طالبت فيه الرئيس سلفا كير بإجراء"تغيير وإصلاحات ملموسة"، معربة عن قلقها الشديد من"المخاطر المتزايدة على مصير الدولة الوليدة"، وخشيتها من أن جنوب السودان "سينزلق نحو عدم الاستقرار بسبب الصراعات وتطاول الأزمة الحكومية".

وانتقدوا القوات الحكومية لشنها حملات عنف ضد المدنيين "ببساطة لأنهم ينتمون إلى مجموعات عرقية مختلفة، أو باعتبارهم معارضين لحكومة جوبا"، وانتقدت المجموعة الرئيس سلفا كير قائلة إنه لم يف بوعده بمعاقبة مرتكبي الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان التي أثبتها تقرير لبعثة الامم المتحدة في جنوب السودان في مارس/ آذار 2013.

وحذروا من استشراء الفساد بقولهم "بغض النظر عن الزعم أن هناك الكثيرَ من الأموال أنفقت للاستثمار في البنية التحتية، ولكن هناك القليل الذي يمكن رؤيته من الطرق، الخدمات الصحية، والتعليم لملايين الجنوبيين الذين تبددت آمالهم في رؤية ثمرات الاستقلال".

واتهمت المجموعة النخبة الحاكمة ب"التحول إلى عالم الثراء بسبب سوء استغلال الأموال الحكومية، وإرسال أسرهم للعيش خارج البلاد وتوفير التعليم والصحة  لأطفالهم، في ما يعاني عامة الناس للحصول على أدنى أساسيات الخدمات الصحية، أو تعليم معقول لأطفالهم".

وأشاروا إلى أن تحقيقاً للبنك الدولي تضمن أدلة دامغة على وجود فساد واسع، بيد أن شخصاً واحداً ممن طالتهم الاتهامات لم يتم اتخاذ أي إجراء بشأنه أو محاكمته.

ويشار إلى أن السيد داجني، وهو أحد موقعي مذكرة النشطاء، كان قد فر خارج البلاد العام الماضي طلباً للسلامة إثر تسرب خطاب أرسله الرئيس سلفا كير لخمسة وسبعين من كبار المسؤولين في حكومته يطالبهم باستعادة أربعة مليارات دولار منهوبة، كما يشار أيضا إلى أن داجني تم تكليفه من قبل الأمم المتحدة لمساعدة الرئيس سلفا كير في جهود مكافحة الفساد.

ربما لم يكن الجنرال سلفا كير منتظراً الحصول على ضوء أخضر للتحرك على خلفية  هذا البيان الصريح الصادر من جماعة أميركية نافذة يعرف تأثيرها على صناع القرار في واشنطن، كما يدرك حرصها على نجاح الدولة الوليدة، ولذلك بادر إلى توظيف انتقاداتها لتبرير خطوته واعتبارها في سياق مكافحة الفساد وضبط الفوضى وبناء المؤسسات.

صراع قديم يتجدد

لم يكن تصاعد الخلاف في أوساط قادة الدولة الجديدة إلا مسألة وقت، فتاريخ الحركة الشعبية مليء بالانقسامات منذ بروزها إلى الوجود في العام 1983، وشهدت الكثير من الانشقاقات والتصفيات الدموية بين القادة، ويُشار إلى أن الدكتور رياك مشار نائب الرئيس المطاح به سبق له أن قاد في العام 1991 أكبر انشقاق تشهده الحركة، كما أن الرئيس سلفا كير نفسه كاد يقود انشقاقاً في نهاية العام 2004 قبل أسابيع قليلة من توقيع اتفاقية السلام الشامل، إلا أنه مع كثرة تلك الصراعات فقد عًرفت الحركة الشعبية أيضاً بقدرتها على تجاوز الخلافات ونسيان المرارات في فترات مفصلية من تاريخها، أظهرت ذلك في العام 2002 بين يدي البدء في المفاوضات الماراثونية التي أفضت إلى اتفاقية السلام حيث عاد المنشقون جميعاً إلى الحركة تحت قيادة قرنق، وظهر تماسك الحركة أيضاً في أعقاب الرحيل المفاجئ لجون قرنق، ونجحت الحركة في لملمة جراحها والاصطفاف وراء قيادة سلفا كير.

نجحت الحركة الشعبية أيضاً بامتياز في الحفاظ على تماسكها طول السنوات الثمانية التالية على الرغم من بروز خلافات متعددة، إلا أنها لم تؤثر على وحدتها حتى انقضت سنوات الفترة الانتقالية الست، وحصل الجنوب على استقلاله ولم تحدث خلافات في بادئ الأمر بسبب أن مؤسسات والمناصب الرئيسية في الدولة الجديدة ظلت هي امتداداً لتلك التي تشكلت إبان الفترة الانتقالية في ظل السودان الموحد في أعقاب الانتخابات العامة التي أجريت في العام 2010. 

مآلات الحراك : خيارات وسيناريوهات

من السياق يتبين أن محفزات التغيير حاضرة في البلدين مع اختلاف الدوافع، وأن الحراك السياسي فيهما مرشح للتصاعد مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، مع الأخذ في الاعتبار تشابه بعض المعطيات في الحالتين، منها أن الصراع على السلطة يدور داخل أروقة الحزبين الحاكمين مع تأثير محدود الفعالية للمعارضة، والأمر الثاني أن معظم أوراق اللعبة في أيدي الرئيسين اللذين يستندان على القوات المسلحة كقاعدة نفوذ.

وعليه يمكن توقع السيناريوهات التالية بالنسبة للرئيس البشير: 

  • السيناريو الأول: أن يحافظ على الوضع الراهن بأن يجري تعديلاً طفيفاً في حكومته، دون أن يمس مراكز النفوذ الرئيسية الحالية مع استيعاب بعض الناشطين في الحراك الإصلاحي مع وعود فضفاضة باتخاذ بعض الإجراءات الإصلاحية الشكلية. وهو الاحتمال الأرجح على خلفية تجارب وعوده السابقة في هذا الخصوص، بيد أن تبعته قد تكون غالية الثمن.
  • السيناريو الثاني: أن يحدث هزة حقيقية في معادلة السلطة الحالية بإجراء تغيير يطال الرموز التاريخية من المدنيين الذي ظلوا في صدارة المشهد طوال ربع القرن الماضي،وهو ما يعني التضحية برموز من أمثال نائبه الأول علي عثمان، أو كبير مساعديه نافع علي نافع، لإقناع الرأي العام السوداني بجدية التغيير. وهو احتمال يتأرجح بين رغبة البشير وبين خشيته من فقدان قدرته على الإمساك بخيوط اللعبة.
  • السيناريو الثالث: أن يمضي البشير خطوة أبعد بالاستجابة للدعوات التي تتبناها شخصيات مستقلة وجهات معارضة والتي تعتبر أن تبديل الوجوه داخل إطار الحزب الحاكم لن يكون كافيا لمواجهات التحديات الكبيرة والمخاطر التي تواجهها البلاد، وأن المطلوب هو أن يمضي الرئيس البشير في تأسيس وضع قومي انتقالي يؤسس لمرحلة سياسية جديدة ويعد البلاد لانتخابات عامة، وهو سيناريو أقرب لاستحقاقات التغيير المطلوبة، لكنه يبقى الأضعف احتمالاً.

أما بالنسبة لخيارات الرئيس سلفا كير
يملك سلفا كير سلطات دستورية تكفل له السيطرة على الجهاز التنفيذي، إلا أنه لا يتمتع بالنفوذ ذاته في الحركة الشعبية الحاكمة، بيد أنه يحظى بموقف قوي داخل الجيش الشعبي، وهو الجناح العسكري للحركة الشعبية الذي تحول إلى الجيش الوطني، الذي ظل يقوده سلفا نفسه منذ أكثر من عقدين، وهو ما يمنحه أفضلية في ظل الدور المؤثر الذي تلعبه الجيوش في المنطقة.

  • السيناريو الأول: أن يمضي قدماً في مشروعه بتعزيز نفوذ السلطة التنفيذية على حساب الحركة الشعبية، وأن ينجح في عقد تحالفات جديدة لصالح الانتقال من الثورة إلى الدولة. ويبقى نجاح هذا السيناريو رهينا بتجاوزه تعقيدات البعد القبلي في السياسة الجنوبية .
  • السيناريو الثاني: أن يلجأ إلى استخدام قراراته الأخيرة كورقة ضغط على منافسيه من أجل الوصول إلى صيغة توافقية تضمن له ترسيخ زعامته، ومنعهم من منافسته في الانتخابات القادمة مقابل تأمين دور لخصومه في إدارة شؤون الدولة والحزب، وهو احتمال راجح على خلفية تاريخ الحركة الشعبية المليء بمثل هذه المساومات، إضافة إلى تأثير الضغوط الدولية.
  • السيناريو الثالث: حدوث انشقاق في الحركة الشعبية بخروج منافسيه منها لتأسيس حزب آخر وهو خيار مفضل للرئيس وقد نصح به خصومه علانية، غير أن مشار الذي جاء رد فعله على إقالته هادئاً حيث اعتبره حقاً دستورياً للرئيس، أكد تطلعه لمنافسة سلفا على قيادتها ودعاه لمنازلته داخل مؤسساته مما يشير إلى استبعاده فكرة الانشقاق. وهو ما يرشح انتقال الصراع إلى دوائر الحزب الحاكم لفترة قد تطول.

 آفاق العلاقات بين البلدين

لا تزال العلاقات بين البلدين  تتلمس طريقها لتأسيس مجالات تعاون موضوعية تخدم المصالح المشتركة، وتتجاوز مرارات الماضي وتبعات إرث الدولة المنقسمة، إلا أن الحراك السياسي الجاري حالياً في البلدين قد يكون محدودَ التأثير في المدى القريب، على الرغم من أن تصريحات بعض المسؤولين في الخرطوم تبدو متفائلة إذ سارعت إلى تجيير خطوات الرئيس سلفا كير لصالحها، وهو تقدير يستند إلى أن الحركة الشعبية /قطاع الشمال التي تقود التمرد الآن في جنوب السودان الجديد والتي تتهمها الخرطوم بالحصول على الدعم من جوبا ستتضرر بانحسار دور حلفائها الأيدولوجيين في الحركة الشعبية الأم الذين استهدفتهم قرارات سلفا كير.

ويقلل من اعتبار هذا التقدير أن الحرب الأهلية الدائرة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق ليست وليدة الدعم الجنوبي، ولكن لها أيضاً منطقها الداخلي بسبب استمرار الفشل في إدارة الأزمة الوطنية السودانية التي أنتجت من قبل قضية الجنوب، وقضية دارفور، ولذلك تم إعادة إنتاجها في الجنوب الجديد. وحتى في حالة تحسن العلاقات السياسية مع جوبا فإن ذلك لا يعني انتهاء الحرب في المنطقتين تلقائياً ما لم يتم التعامل مع جذورها بتسوية سياسية شاملة.

ولعل تجربة التاُثير المحدود لتطبيع العلاقات بين السودان وتشاد، التي كانت تتهمها الخرطوم بإيواء ودعم الحركات المتمردة، على الوضع دارفور، تصلح للمقارنة فالوضع في الإقليم شهد أسوأ فترات العنف عقب تحسن العلاقات مع تشاد وحتى في ظل وجود قوات مراقبة مشتركة على طول الحدود، ووجود قوات حفظ سلام دولية، واتفاق سلام الدوحة المدعوم دولياً. مما يؤكد أن العامل الحاسم هو مخاطبة جذور الأزمة داخلياً وليس بحساب العلاقات الخارجية.

بيد أن جوانب آخرى من العلاقة بين البلدين قد تستفيد إيجاباً من الحراك السياسي في البلدين إذا قاد إلى تحقيق الاستقرار لا سيما على صعيد العلاقات الاقتصادية خاصة النفط الذي يشكل الشريان المنقذ للحياة لاقتصادات البلدين المتردية، وعلى تشجيع التبادل التجاري وانتقال البشر والسلع والثروة الحيوانية وتوفير أسباب الحياة الآمنة على الحدود المشتركة الممتدة لألفي كيلومتر والتي تشكل منطقة الموارد والكثافة السكانية الأكبر لمواطني البلدين.
_________________________________
* خبير سياسي في الشأن السوداني

نبذة عن الكاتب