إفريقيا الوسطى: حكومة انتقالية في مهبِّ صراعات متجددة

يحاول هذا التقرير قراءة المشهد السياسي والأمني بإفريقيا الوسطى في ظل الصراع الطائفي المتجدد وتداعياته على أداء الحكومة الانتقالية التي ظل أداؤها في التسيير متعثرا. كما يلقي التقرير الضوء على أبرز لاعب في البلاد وهو المليشيات المسلحة التي ظل شأنها يعلو منذ عدة سنوات.
4 أكتوبر 2015
20151047745123734_20.jpg
عناصر مليشيات أنتي بالاكا المسيحية يستعرضون قوتهم في الجبال المحيطة بالعاصمة بانغي (الفرنسية-أرشيف)
ملخص
تعيش إفريقيا الوسطى صراعا مزمنا ظلت تطوراته الدامية تتجدد من حين لآخر. أطاح ميشيل ديوتوديا بسلفه فرانسوا بوزيزي سنة 2013، لكن لم تمرَّ أشهرٌ قليلة حتى لاقى الرئيس ديوتوديا نفس المصير. لم تترك الاضطرابات المتتالية مجالا للحكومة الانتقالية برئاسة السيدة كاترين صمبا بانزا أن تنفذ برنامجها الانتقالي. وكان آخرُ ذلك الاضطراباتِ الطائفيةَ التي عرفتها البلاد نهاية شهر سبتمبر /أيلول 2015. لعل تطورات هذه الأحداث الدامية قد وضعت حدا لإجراء الاستفتاء الدستوري والانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية التي كانت مقررة في شهر أكتوبر/ تشرين أول الجاري. فالوضع الأمني لم يعد يعطي أي فرصة للمسار الانتقالي المتعثر في أدائه والمتردد في قراراته. كان أداء الحكومة الانتقالية ضعيفا في مواجهة ملفات عديدة من بينها الملف السياسي (تنظيم انتخابات عامة رئاسية وتشريعية)، والملف القضائي (محاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي المجازر)، والملف الاقتصادي (السيطرة على موارد البلاد ومحاربة الفساد)، وكلها عوامل زادت في عزلة الحكومة الانتقالية، خصوصا وأنها ظلت عاجزة عن تطبيق مخرجات "منتدى بانغي" التي توصلت إليها مختلف الحساسيات السياسية والمدنية. وفي نفس الوقت ظلت المليشيا المسلحة وعلى رأسها ميليشا "أنتي بالاكا" وغريمتها ميليشيا "سيليكا" تهدد أمن البلاد، وتسبب مزيدا من الشحن الطائفي. وكان من تداعيات هذا الوضع الأمني المتدهور أن زاد اعتماد الحكومة الانتقالية على جنود بعثة الأمم المتحدة "المينوسكا" وعلى جنود عملية فرنسا العسكرية في إفريقيا الوسطى المعروفة باسم "سانغاري"، وهو ما غيب الجيش الوطني وجهاز الأمن عن المشهد المحلي وجعل أمن البلاد رهين قوى دولية وخارجية.

غالبًا ما يأخذ الصراع السياسي في جمهورية إفريقيا الوسطى غطاء دينيًّا؛ إذ من الملاحَظ سهولة انزلاق خصومات السياسيين وتنافسهم إلى المجال الطائفي؛ فتتحول تلك الخصومات وذلك التنافس بين السياسيين إلى مواجهة دامية بين مسلمي البلاد من جهة ومسيحييه وغيرهم من الوثنيين من جهة ثانية. وقد رسخ الجدل السياسي المحتدم منذ 2012 حول وضع الإسلام والقوة السياسية المتزايدة للمسلمين في الحياة العامة في جمهورية أفريقيا الوسطى الصراع بين السياسيين. ويجسِّد تجدد العنف الطائفي في البلاد نهاية شهر سبتمبر/أيلول 2015 هذا المعطى عندما تفاجَأ سكان الكيلومتر 5 بعاصمة البلاد بانغي؛ حيث توجد بقية من السكان المسلمين لم يتم طردها من العاصمة خلال صدامات طائفية سالفة، بجثة سائق شاب مسلم مذبوح مرمية قرب مسجد علي بابولو بهذا الحي مساء عيد الأضحى (ليلة الجمعة 25 سبتمبر/أيلول 2015)، وقد رأوا في الحادث استفزازًا للطائفة المسلمة بإفريقيا الوسطى، وربما انتقى مدبِّرو الجريمة الزمان والمكان، فبدأ ردُّ الفعل في صفوف المسلمين وعادت ميليشيا "سيليكا" (وتعني التحالف باللهجة المحلية) المسلمة تعد نفسها للانتقام من ميليشيا "أنتي بالاكا"، ومعناها: "مناهضو السواطير" المسيحية المتهمة بقتل السائق(1).

وضع أمني هشٌّ في ظل حكومة ضعيفة

لم يتوانَ رئيس وزراء حكومة إفريقيا الوسطى، محمد كمون، بعد تجدد الصراع في مدينة بانغي، في إعلان حظر التجول حين زادت حصيلة القتلى على الثلاثين وبلغ عدد الجرحى أكثر من ذلك، وعَمَّ السلب والنهب وامتدت أيدي الميليشيات المتصارعة وخصوصًا "أنتي بالاكا" إلى مقرات المنظمات الإنسانية، وبعثة الأمم المتحدة بالبلاد المعروفة اختصارا باسم: المينوسكا (Minusca).

ويبدو أن مصرع السائق المسلم ليس سوى حلقة متجددة من دورة العنف التي عرفتها البلاد في شهر أكتوبر/تشرين الأول من السنة الماضية 2014؛ رغم كون الأطراف المتصارغة كانت وقعت اتفاق وقف القتال والعنف في 23 يوليو/ تموز 2014 في برازافيل الكونغو، غير أن الأزمة تطورت في العاصمة بانغي بشكل مطَّرد. لم يمنع حظر التجول المعلن عنه من طرف الحكومة الانتقالية من أن تهدد ميليشيا "أنتي بالاكا" وزارة الدفاع ومبنى الإذاعة الوطنية بالاقتحام، واقتحام هذه المليشيات سجن نجاراجبا في بانغي مما أدى إلى هروب أكثر من 500 سجين قضايا إجرامية، وهو أمر يهدد بشكل خطير أمن المدنيين. كما نظَّمت تلك الميليشيا حملة على مبنى رئاسة الجمهورية مهددة باقتحامه ومطالبة باستقالة رئيسة البلاد كاترين صمبا بانزا مما أدى بقوات المينوسكا إلى الدخول في مواجهة مع الميليشيا المذكورة وسقوط ثلاثة قتلى من بينهم غي ميزمبل (Guy Mazimbele) زعيم ميليشيا "أنتي بالاكا"(2). ومن المعلوم أن عدد قوات المينوسكا بإفريقيا الوسطى يبلغ اثني عشر ألفًا، وهي تعمل في البلاد بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وهو ما يخوِّلها استعمال السلاح(3).

يُجمع المراقبون على أن اختيار هذا الوقت بالذات لإشعال أزمة طائفية في البلاد كان منتقى بعناية؛ حيث كان من المقرر نظريًّا أن يُجرى استفتاء دستوري يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول 2015 ليُنظَّم الشوط الأول من الانتخابات الرئاسية في الثامن عشر من الشهر نفسه. فجاءت هذه الأعمال الدامية لتنسف هذه التواريخ، ولتضع برنامج الحكومة الانتقالية السياسي كله في مهب الريح. وعلى هذا الأساس لم تستطع الرئيسة صمبا بانزا إكمال زيارتها لنيويورك، التي تأتي في سياق مشاركتها في الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، فقطعت برنامجها على استعجال لتحط الرحال في بانغي.

من يقف وراء ما يحدث؟

لم تتضح بعدُ الملابسات التي قد تسمح بمعرفة من هي الجهة أو الجهات المحرضة على العنف والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وما هي الأهداف التي يسعى المحرضون لتحقيقها من عودة البلاد إلى حالة التأزم، لكن من الواضح أن نتيجة ما وقع هي مزيد من الشحن الطائفي والصراع الدامي، وأن أول المتضررين مما حدث هو المسار الانتقالي الساعي إلى خلق ظروف سياسية وأمنية مواتية لإجراء استحقاقات انتخابية تعود بالبلاد إلى حكم مدني تعددي ومستقر. ومن الملاحظ أن رئيس الوزراء، كمون، لمَّح في أكثر من حديث صحفي إلى أن هنالك أيادي سياسية خفية تحرك المشهد الأمني مرة تلو الأخرى، وتغذِّي الشحن الطائفي داخل المجتمع وتدفع بالبلاد نحو المزيد من الصراع، ولا تترك مجالًا للحكومة الانتقالية لكي تنفذ برنامجها السياسي وعلى رأسه تنظيم انتخابات عامة رئاسية وتشريعية في شهر أكتوبر/ تشرين أول الجاري من شأنها أن تخفف من حدة التوتر وتعيد البلاد إلى برِّ الأمان.

ويذهب بعض متابعي الشأن العام بإفريقيا الوسطى إلى أن أنصار الرئيس السابق فرانسوا بوزيزي، الذي أطاحت به ميليشيا "سيليكا" سنة 2013 وأجبرته على التخلي عن الحكم والعيش منفيًّا في الكاميرون، هم من يقف وراء ما يحدث من تجدد الصراع، وأن هذه الجهات المحسوبة على بوزيزي قد حرَّكت ميليشيا "أنتي بالاكا" التابعة لها، فحددت هدفها بعناية واختارت له الظرفين المواتيين: الزماني، وهو مساء الأضحى، والمكاني قرب مسجد بحي يقطنه مسلمون؛ مما ولَّد فكرة الثأر لدى المسلمين وأعطى للشحن الطائفي وقودًا جديدًا. ويرى بعض آخرُ أن من بين الأوساط السياسية المقربة من الحكومة الحالية من لا يرغبون في وصول البرنامج الانتقالي إلى نهايته، ويرون في تجدد الصراع سببًا في بقاء الحكومة الانتقالية فترة أطول، وبالتالي تضمن تلك الجهات المتنفذة داخل الدولة الإبقاء على مصالحها ما دامت الحكومة الانتقالية قائمة، وأن هذه الجهات ربما كانت المسؤولة عن تأجيج الصراع من جديد. إلا أن قرائن الأحوال ترشح الاحتمال الأول وهو ضلوع أنصار الرئيس الأسبق بوزيزي في جرِّ البلاد نحن مزيد من الصدام، خصوصا وأن حي الكيلومتر 5 ذا الغالبية المسلم والواقع في وسط العاصمة بانغي شكل ويشكل مركزا للمجازر الإثنية المتجددة منذ نهاية 2013.

وهذا يعني في المحصلة النهائية أن الحديث عن تطور سياسي سلمي وسلس قد تلاشى ليترك المجال للحديث عن المواجهات بين "سيليكا" و"أنتي بالاكا"، فعدد الضحايا يزداد باطِّراد مع أنه ما زال محصورًا في العاصمة بانغي غير أن انتشاره إلى بقية مناطق البلاد قد يكون مسألة وقت فقط.

بين المعلن والمخفي في صراع إفريقيا الوسطى؟

تقع منطقة واكا بوسط البلاد تحت سيطرة ميليشيا "سيليكا" التي انقسمت على نفسها بعد تجريد رئيسها ميشيل ديوتوديا من السلطة سنة 2014 إلى أربع مجموعات مسلحة، أمَّا ميليشيا "أنتي بالاكا" فتسيطر على منطقة بوكا في غرب البلاد(4)، فضلا عن تحركهم على محاور ومسالك أخرى كلما دعت الضرورة لذلك. ويعكس هذا التوزيع المناطقي بين الميليشيات المتحاربة في إفريقيا الوسطى محاولة للهيمنة على مناجم الألماس والذهب الموجود بهذه المناطق، وتعد إفريقيا الوسطى رابع عشرة دولة منتجة للألماس على مستوى العالم. وكانت منظمة العفو الدولية قد نشرت تقريرًا لها تحت عنوان "ألماس بطعم الدم وإفريقيا الوسطى" يوضح أهمية هذه التجارة غير الشرعية وكيف تغذِّي مختلف الميليشيات المتصارعة في هذا البلد الحبيس(5). على الرغم من الحظر الدولي المفروض على تصدير الألماس من إفريقيا الوسطى منذ اندلاع الأزمة سنة 2013، فإن شبكات التهريب ظلت تعمل في هذا القطاع المدرِّ للدخل كما أن الميليشيات المتصارعة ما فتئت تُشرف على استخراج الألماس الخام أحيانًا، وأحيانا تفرض غرامات على شبكات التهريب وتقوم باعتراضها في مسالكها البرية ومنافذها الحدودية مما يسمح لها بتأمين مصدر مهم للتمويل.

وعلى الرغم مما تقوم به "عملية كيمبرلي" (Kimberley Process) منذ تأسيسها بمدينة كيمبرلي بجنوب إفريقيا عام 2000 للوقوف في وجه تصدير الألماس من الدول التي تعرف نزاعات مسلحة، فإن هذا البنية التي تضم العديد من الدول الإفريقية وغيرها عجزت عن الوقوف في وجه هذه التجارة.

إن الكثير من ألماس إفريقيا الوسطى يتم استخراجه وتصديره من طرف شبكات التهريب إلى دول الجوار كجمهورية الكونغو الديمقراطية والكاميرون، وقد ظل هذا التصدير غير الشرعي في اطِّراد، وأغلب هذا الألماس قد تم تهريبه تحت إشراف ميليشيتي "أنتي بالاكا" و"سيليكا"(6).

وتؤكد تقارير الأمم المتحدة أن ما يناهز 140 ألف قيراط من الألماس المهرَّب قد عبرت حدود إفريقيا الوسطى منذ منتصف سنة 2013 إلى الآن(7).

وعلى الرغم من أن سيطرة الميليشيات بإفريقيا الوسطى على استخراج وتصدير الألماس ليست بالجديدة، إلا أنه من الصعب إعطاء نسبة محددة للمبالغ التي تجنيها هذه الميليشيات من هذه التجارة، غير أن المؤكد أن ريع هذا التهريب يتم صرفه في تمويل هذه الميليشيات وشراء السلاح وتجنيد الرجال، وبالتالي استفحال قوة هذه الجماعات المسلحة وتحكمها في إشعال الصراع بشكل متجدد، وهو ما حدث الآن وأدى –فيما يبدو- إلى وضع حد لبرنامج الحكومة الانتقالية وعلى رأسه الانتخابات الرئاسية والتشريعية.

هل أصبحت انتخابات نهاية 2015 حُلمًا؟

كان أحد أبرز نقاط برنامج الحكومة الانتقالية برئاسة بانزا تنظيمَ الشوط الأول من انتخابات رئاسية وتشريعية في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2015، ثم تنظيم الشوط الثاني في الشهر الموالي، بيد أن هذا التاريخ أصبح من شبه المستحيل أن يتم فيه تنظيم هذا الاستحقاق؛ ففي ظل حالة الأمن غير المستقرة في البلاد يصبح تنظيم هذه الانتخابات غير ممكن. ولذلك يمكن فهم تصريحات رئيس الدولة صمبا بانزا حول النظر في إمكانية تأجيل هذه الانتخابات(8)، وكذلك تصريحات رئيس وزرائها كمون حول إعادة جدولة تاريخ إجراء هذه الانتخابات؛ فقد ذكر أن اللائحة الانتخابية ما زالت طورَ الإعداد وأنه قد حصل تأخر في إنهائها؛ مما يترك الباب مفتوحًا أمام تغيير تاريخ هذه الانتخابات، وتحديد تاريخ جديد لتنظيمها. ولا شك أن إعداد اللائحة الانتخابية في ظروف أمنية كالتي تمر بها إفريقيا الوسطى أمر شبه مستحيل، خصوصًا أن الكثير من الناخبين قد أصبح لاجئًا في دول الجوار مثل تشاد والكاميرون والكونغو برازفيل وجمهورية الكونغو الديمقراطية، أو نازحًا عن منطقته غير الآمنة إلى مناطق أخرى في البلد أكثر استقرارًا. ويشير تقرير للأمم المتحدة إلى أن عدد اللاجئين في هذه الدول يناهز 460 ألف شخص أو أكثر مع نهاية هذا العام(9). ويُجمع المراقبون على أن إنهاء اللائحة الانتخابية لا يمكن أن يتم -في أحسن الأحوال- قبل نهاية هذه السنة(10). وقد أعلنت المحكمة الدستورية في قرار سابق أحقية اللاجئين والنازحين في المشاركة في الاستحقاق القادم(11). مع العلم بأن هذا الاستحقاق ليس أولوية بالنسبة لهؤلاء اللاجئين أو النازحين؛ فالسكن والمأكل والمشرب والخوف من حمى الملاريا المنتشرة في المنطقة هي الهواجس الحقيقية لهؤلاء وليس استحقاقات المسار السياسي للبلاد وتنظيمها من عدمه. وتحتاج عملية الانتخابات لتمويلات ضخمة تناهز الخمسة عشر مليون يورو وتعوِّل الحكومة الانتقالية في الحصول على هذا المبلغ على الاتحاد الأوروبي، وهو الشريك الاقتصادي والتنموي الأول للبلاد، فضلًا عن تعويلها على التعاون الفرنسي بشكل أخص.

وتقوم المنظمة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا (إكاس=Eccas) بالتنسيق مع الحكومة الانتقالية بإفريقيا الوسطى حول تطبيع برنامج المسار الانتقالي بما فيه إجراء الانتخابات في وقتها، وقد مدَّد مؤتمر الإكاس المنعقد بالعاصمة التشادية نجامينا في 25 مايو/أيار 2015 فترة هذه الحكومة الانتقالية حتى نهاية هذه السنة لكي تجد من الوقت ما يساعدها على تنظيم الانتخابات المزمع إجراؤها، ومن المحتمل أن تجد منظمة الإكاس نفسها ملزمة بالنظر في هذا التاريخ وربما تمديده إلى أجل آخر. ورغم وقوف هذه المنظمة خلف الحكومة الانتقالية فإن هناك معطى ما فتئ يستفحل وهو عدم ثقة المواطنين في هذه الحكومة التي تتولى تسيير البلاد منذ يناير/كانون الثاني 2014.

القوات الأجنبية ومبدأ الحياد

من الأمور الشائكة التي عرفتها تطورات الأزمة في إفريقيا الوسطى أنه لا قوات الأمم المتحدة المينوسكا (12 ألف شخص) ولا القوات الفرنسية المعروفة باسم سانغاري (ألف شخص) وقفت على الحياد في مجريات الأزمة بإفريقيا الوسطى وتطوراتها المتشعبة. وقد ظلَّت شكوك المواطنين حول هاتين القوتين الأجنبيتين المنوط بهما حفظ السلام في البلد تزداد مع مرور الزمن. فقد كان تدخلهما بطيئًا خلال هذا التطور الأخير في الصراع مما جعل الحصيلة في القتلى والجرحى كثيرة نسبيًّا، وهو أمر كان من الممكن تلافيه لو قامت هذه القوات الموجودة في أغلب أحياء بانغي، والتي لها عيون عديدة في الكثير من الأحياء، بواجبها في التدخل وحقن الدماء. كما تتهم قوات "سانغاري" بأنها نزعت سلاح الكثير من مقاتلي "سيليكا" وتركتهم عرضة لنيران منافسيهم "أنتي بالاكا" خلال أزمة أكتوبر/تشرين أول 2014.

وهذا يعني أن الحكومة الانتقالية ومن ورائها قوات الأمم المتحدة والقوات الفرنسية فقدت الكثير من مصداقيتها في عيون مواطني إفريقيا الوسطى، وهو ما جعل العديد من التظاهرات تطالب باستقالة الحكومة الانتقالية كما تطالب بإبعاد هذه القوات واستبدالها بالجيش الوطني. ولعل قضية اغتصاب أطفال من إفريقيا الوسطى والتي اتُّهم بها عدد من جنود المينوسكا ما زالت حاضرة في الأذهان. وقد أطاحت تلك القضية بالجنرال السنغالي بابكر غاي في شهر أغسطس/آب 2015؛ حيث أقاله الأمين العام للأمم المتحدة بن كي مون من منصبه. ومن الملاحظ أن اللجنة المستقلة التي عيَّنتها الأمم المتحدة للتحقيق في هذه الجرائم تعمل ببطء شديد. وقد اتُّهم أربعة عشر جنديًّا فرنسيًّا منتمون لعملية سانغاري بقيامهم بحالات اغتصاب مماثلة.

خاتمة: هل بدأت نهاية الحكومة الانتقالية؟

أربك التطور الأخير للصراع المزمن بإفريقيا الوسطى الحكومة الانتقالية، فلم يستطع رئيس الوزراء كمون، وفي غياب رئيسة البلاد ووجودها بنيويورك، أن يضبط الوضع الأمني المتدهور إلا بتدخل جنود بعثة الأمم المتحدة المينوسكا وقوات العملية العسكرية الفرنسية سانغاري بعيدًا عن أي فعل للجيش الوطني الضعيف تسليحًا والمفكك تنظيمًا؛ مما يجعل أمن البلاد مرهونًا في أيدي قوات أجنبية.

ولعل أبرز ملف تأثر وسيتأثر إلى حدٍّ بعيد بالتدهور الأمني الجديد هو تنظيم الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فهو تنظيم كان مشكوكًا في إجرائه في آجاله المحددة، وربما تحول ذلك الشك إلى يقين حيث لم يعد الالتزام بتلك الآجال ممكنًا بسبب الوضع الأمني المتردي. وهذا التأجيل سيزيد من انعدام ثقة المواطنين في الحكومة الانتقالية لفشلها في تسيير هذا الملف الذي كان رهانًا بالنسبة للمواطنين فضلًا عن الحكومة الانتقالية نفسها ومجموعة الإكاس الإقليمية التي تقف وراءها.

ومن الملاحظ أن أحد أبرز الملفات التي كان من المتوقع أن تبتَّ فيه الحكومة الانتقالية هو ملف الجرائم والانتهاكات الجنائية الذي ظلَّ متوقفًا؛ فقضاء إفريقيا الوسطى لم يوجِّه، في ظل الحكومة الانتقالية، أية تهمة لأيٍّ كان، مع أن بالبلد جهات سياسية وعسكرية وطائفية متلبسة بملفات جنائية قد تصل إلى حدِّ الجرائم ضد الإنسانية، ولم يُقدَّم أي شخص من تلك الجهات للقضاء المحلي فضلًا عن تقديمه لمحكمة العدل الدولية بلاهاي.

وفضلًا عن ذلك؛ فإن مخرجات "منتدى بانغي" التي كانت ثمرة أسبوع من التداول والنقاش في مايو/أيار 2015 بين الأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني ومختلف الحساسيات في البلد، وتمت تحت إشراف الحكومة الانتقالية، ظلَّت حبرًا على ورق. ولم تستطع الحكومة الانتقالية تطبيق توصياتها العديدة والتي كان المراقبون يظنون أنها ر -في حالة التعاطي الإيجابي معها- قد تُخرج البلاد من حالة الصراع المزمن.

ويبدو أن قوة الميليشيات المتحاربة داخل البلاد، واعتمادها على مصادر تمويل من أبرزها تهريب الألماس وقطع الطرق، وعجز الحكومة الانتقالية عن مواجهتها ستجعل مستقبل البلاد أكثر اضطرابًا، وسيزيد من ضعف الحكومة الانتقالية واعتمادها في تسيير الملف الأمني للبلاد على جهات خارجية مما يعني مزيدًا من ارتهان هذه الحكومة لتوازنات إقليمية ودولية.
______________________________________
د. سيدي أحمد ولد الأمير - باحث بمركز الجزيرة للدراسات.

الإحالات
1 – انظر موقع جريدة "لوموند" الفرنسية، وقد تم تصفحه بتاريخ 30 سبتمبر/أيلول 2015.
http://www.lemonde.fr/afrique/article/2015/09/29/la-centrafrique-au-bord-du-gouffre_4776117_3212.html
2 - انظر موقع مجلة "ليكسبرس" الفرنسية، وقد تم تصفحه يوم 29 سبتمبر/أيلول 2015:
http://www.lexpress.fr/actualite/monde/afrique/centrafrique-trois-manifestants-tues-par-des-casques-bleus-a-bangui_1720258.html
3 – انظر موقع مجلة "جون أفريك"، وقد تم تصفحه بتاريخ 29 سبتمبر/أيلول 2015:
http://www.jeuneafrique.com/268423/politique/centrafrique-catherine-samba-panza-attendu-a-bangui-nouveaux-affrontements/
4 – انظر موقع جريدة "لوموند"، وقد تم تصفحه يوم 30 سبتمبر/أيلول 2015:
http://www.lemonde.fr/afrique/article/2015/08/24/malgre-le-chaos-la-centrafrique-prepare-les-elections_4735405_3212.html
5 – انظر موقع "أمنيستي إنترناسيونال"، وقد تم تصفحه بتاريخ 1 أكتوبر/تشرين الأول:
http://www.amnesty.fr/Diamants
6 – انظر موقع "سلايت أفريك"، وقد تم تصفحه بتاريخ 1 أكتوبر/تشرين الأول 2015:
http://www.slateafrique.com/618557/diamants-de-sang-centrafrique
7 – نفس المرجع السابق.
8 – انظر موقع "سنتر أفريك بريس"، وقد تم تصفحه بتاريخ 30 سبتمبر/أيلول 2015:
http://www.centrafrique-presse.info/site/info-politique-8268.html
9 – انظر موقع التالي وقد تمت مراجعته في 3 أكتوبر 2015:
http://www.unhcr-arabic.org/54c8829a6.html
10 - انظر موقع "سنتر أفريك بريس"، وقد تم تصفحه في 1 أكتوبر/تشرين الأول 2015:
http://www.centrafrique-presse.info/site/info-politique-8183.html
11 - انظر موقع جريدة "لوموند"، وقد ذُكِر سابقًا.

نبذة عن الكاتب