الصومال: جدلية الهوية بين الانتماء العربي والإفريقي

تناول الباحث عبد الرحمن محمود علي عيسى في هذا التقرير إشكال الانتماء الصومالي وتجاذباته بين الإفريقية والعروبة وتأثير ذلك على دول الجوار في القرن الإفريقي وفي شرق إفريقيا، وكيف تأسست على هذا المفهوم جملة من التراكمات التي أثرت وتؤثر في مجرى الأحداث في الصومال.
efe60970f9b1463889c9385a4911db40_18.jpg

تنطلق الورقة من فكرة رئيسية، وهي: ماهية هوية الصومال، وتطرح تساؤلًا مهمًّا، وهو: هل الصومال عربي أم إفريقي، أم إنه عربي إفريقي؟ ويبدو الصومال كمن فقد بوصلته بين انتمائه العربي والإفريقي، وتعرِض لأصحاب فكرة عروبة الصومال وحُججهم كما تتناول موقف من يذهب إلى إفريقيَّة الصومال ووجهة نظرهم.

وتُعرِّج الورقة على انضمام الصومال لجامعة الدول العربية وما رافقه من جدل لم يتنه صداه إلى اليوم، فما زال بعض الصوماليين يشكِّكون في جدوى هذه الخطوة التي قام بها محمد زياد بري في لحظة فارقة من تاريخ الصومال، في حين أن البعض يدافع عن هذا الموقف ويصنِّفه ضمن المواقف التاريخية التي اتخذها محمد زياد بري. وتخلص الورقة إلى أنه بالإمكان الجمع بين الانتماءيْن: العربي والإفريقي ضمن هوية واحدة تنفرد بها الصومال دون غيرها من الدول لخصوصيتها وأنه لا يوجد تناقض بين الانتماءين بل إن ما يجمع بينهما أكثر مما يفرق؛ إذ ليس الصومال فريدًا من نوعه، فهو ليس الدولة العربية الوحيدة التي تجمع بين هويتين: العربية والإفريقية.

تحاول الورقة قراءة هوية الصومال والغوص في العلاقات الصومالية مع جواره المباشر والإقليمي من حيث طبيعتها وحقبها المتعددة وصولًا إلى المرحلة الحالية، كما تسعى إلى استشراف مستقبل هذه العلاقات وما يمكن أن تؤول إليه في العقود القليلة القادمة والدور العربي المطلوب في سياق ضياع الصومال بين انتمائيه العربي والإفريقي ووضع السيناريوهات المطروحة حيال المستقبل حيث يشكِّل الصومال إحدى بؤر قوس الأزمة الذي أطلقه بريجنسكي على المنطقة في نهاية السبعينات.

مقدمة

يتساءل الصوماليون عن هويتهم التي لم تتشكل بعد، هل هي عربية أم إفريقية أم إنها مزيج من الاثنتين، ويبدو التساؤل للوهلة الأولى بسيطًا ولكنه يحمل في طياته الكثير من المتاعب التي أرَّقت مجتمعًا من ملايين الصوماليين، شأن الباحثين في هويتهم لأن معرفة هوية الصومال وتشخيصها بشكل صحيح يساعد حتمًا في إيجاد الحلول الناجعة للأزمة الصومالية.

يجري في الأوساط الثقافية الصومالية جدلٌ واسعٌ حول أزمة الهوية الصومالية، ويطرحون تساؤلًا في غاية الأهمية، وهو: إذا كان المجتمع الصومالي مجتمَعًا متجانسًا في كل عناصر الهويَّة الأساسية من الدِّين واللغة والعِرق والثقافة فلماذا تستمر الأزمة في طول البلاد وعرضها كل هذه المدة؟ وما الذي يؤجِّج الصراع؟ أم أن أزمة الهوية في الصومال تتجاوز جغرافية الصومال؟ ويرى أمين معلوف، في كتابه "الهويات القاتلة: قراءة في الانتماءات والعولمة"، أن الدافع الأساسي لارتكاب العديد من الأشخاص جرائمهم إنما هو من أجل الحفاظ على هويتهم الدينية أو الإثنية أو غيرها. يُعرِّف الباحثون الهوية بتعريفات عديدة، ومنها أنها تعني الخصوصية لمجتمع ما؛ بمعنى أنها ثقافة الفرد ولغته وعقيدته وحضارته وتاريخه.

ومن هذا المنطلق فإن هوية الصومال تعني جغرافية الصومال، لغة الصومال، الذاكرة التاريخية والوطنية للصومال، ثقافة واقتصاد الصومال، وبالنظر والتدقيق في مكونات الهوية الصومالية، فمن أول عنصر للهوية، وهو اللغة، نلاحظ أن اللغة العربية غير منطوق بها في الصومال بشكل كامل مما يُخِلُّ بأُسس أطروحة عروبة الصومال نظرًا لافتقارها لأهم مكوِّن للهوية، ولكنها ليست الدولة العربية الوحيدة التي تعاني من ذلك الجانب فمعظم سكان دول المغرب العربي لا يتحدثون اللغة العربية بالصورة المعروفة بالمشرق العربي إلا فيما ندر، ولكن الموروث الثقافي المتراكم والذاكرة التاريخية والتراث الشعبي للشعب الصومالي يلتصق بالثقافة العربية وإن افتقد اللسان تحت أي ظروف كانت.

البحث عن الهوية

بعد مؤتمر برلين، في عام 1884، وتقاسم القوى الاستعمارية القارة الإفريقية كانت منطقة شرق إفريقيا من نصيب البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين، وبالنظر إلى هذا التاريخ الاستعماري للمنطقة في القرن التاسع عشر نجد أن ما يُعرف بالصومال الكبير (كل الأراضي المتصلة التي يسكنها صوماليون) وقع ضحية هذا التقسيم حيث تمت تجزئته إلى خمس مناطق، وهي: إقليم الصومال الغربي الذي أُلحق بإثيوبيا والمعروف بأوغادين على دفعتين، وإقليم المقاطعة الحدودية الشمالية الملحق بكينيا، وإقليم الصومال الإيطالي، وإقليم أرض الصومال البريطاني، إضافة إلى الصومال الفرنسي والمعروف حاليًا بجيبوتي؛ وترمز النجمة الخماسية البيضاء التي تتوسط العلمَ الصوماليَّ، ذا اللون الأزرق الفاتح، إلى الأجزاء الخمسة للصومال الكبير؛ حيث توحَّد كلٌّ من الصومال الإيطالي والبريطاني وكوَّنا جمهورية الصومال في عام 1960، وبعد 9 سنوات من الاستقلال حدث الانقلاب العسكري ودار الصومال في فَلَك الاتحاد السوفيتي السابق، أثناء الحرب الباردة، ولكن لسوء حظه دخل في حرب مع إثيوبيا مما أدَّى إلى فقدان حليف استراتيجي لم يتم تعويضه، ثم بعد سقوط نظام زياد بري ودخول الصومال في متاهات الحرب الأهلية والإرهاب والقرصنة واللجوء إلى دول الجوار وغيرها من دول العالم، نظَّمت كلٌّ من جيبوتي وإثيوبيا وكينيا ومصر سلسلة مؤتمرات مصالحة للفرقاء الصوماليين لم يصدر عن معظمها نتائج حاسمة وملموسة(1).

وفي خطوة باعدت بين الصومال وعُمقه العربي والثقافي تبنَّى نظام "محمد زياد بري" كتابة اللغة الصومالية -الأبجدية- بالحرف اللاتيني ليقول الصومال للهوية العربية: هذا فراق بيني وبينك، كانت الأبجدية العربية في تنافس شديد مع الأبجدية اللاتينية منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى عام 1972 عندما قرَّر النظام العسكري أن تكون الأبجدية اللاتينية هي الأبجدية الرسمية الوحيدة المعتمدة لكتابة اللغة الصومالية. والغريب أن البريطانيين والإيطاليين لم يفرضوا استعمال الأبجدية اللاتينية إبَّان استعمار كل منهما لجزء من الصومال حتى الاستقلال عام 1960. كما لم يستطع أيٌّ من الحكومات الصومالية بعد الاستقلال اتخاذَ قرار رسمي بهذا الشأن بالطرق الديمقراطية؛ وذلك لتضارب الآراء والمواقف والمصالح. ولكنَّ النظامَ العسكري بقيادة محمد زياد بري وضع ضمن برامجه بندًا يتعلق بحسم أمر الأبجدية سعيًا منه لترسيخ هوية صومالية ثورية، ولكنَّ ذات النظام قرَّر انضمام الصومال لجامعة الدول العربية عام 1974 ليصبح الصومال الدولة العربية الوحيدة التي لا تنطق باللغة العربية كلغة أولى ولا تستعمل الأبجدية العربية رسميًّا في كتاباتها في خطوة تعكس مدى تخبط النظام العسكري في سياسته الخارجية(2).

الجغرافيا وضياع الهوية

يُعد الصومال العضو الوحيد في منظمة الاتحاد الإفريقي الذي رفض الإقرار بقبول التقسيم الاستعماري تقسيمًا أبديًّا مما جعل كل الدول الإفريقية تعتبر الموقف الصومالي خطرًا على وجودها، خالقًا نظرة وتعاملًا سلبييْن باكرًا في علاقة الصومال بشركائه في القارة، ونتيجة لذلك، لم يستطع الصومال إيجاد قواسم مشتركة مع جيرانه المباشرين وتحقيق أسس ثابتة للتعايش السلمي بسبب الحدود التي تركها المستعمر الأجنبي. ويرى فريق من الصوماليين أنفسهم في القارة الإفريقية وليسوا منها، وهذه النظرة معروفة لدى الدول الإفريقية الأخرى مما جعل الصومالي منبوذًا من القارة الإفريقية، وفي نفس الوقت لا يحبِّذ كثير من المواطنين تعريف أنفسهم على أنهم عرب، ولهذا تاه بين هذين الانتماءين ولم يستطع أن يبلور صيغة تجمع بين كل انتماءاته؛ ولهذا فالصومال بلد يعاني من أزمة هوية حقيقية ومعرفة هويته وصياغتها بشكل صحيح يساعد في حلِّ مشاكله السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وهنا نستعرض أهم جيران الصومال.

 
إثيوبيا: صراع التاريخ والجغرافيا
 
تشترك إثيوبيا مع الصومال بحدود هي الأطول وتبلغ نحو 1600 كلم، ويوجد بين البلدين تاريخ مرير من الصراع الديني والسياسي من القرن السادس عشر أيام التحالف الصومالي مع العثمانيين ومملكة الحبشة مع البرتغاليين، وامتد هذا الصراع ليصل إلى أوْجِهِ في نهاية السبعينات من القرن الماضي حيث اندلعت الحرب بين البلدين والتي كان من تداعياتها انهيار الدولة الصومالية بعد خسارتها حليفها الاستراتيجي، وهو الاتحاد السوفيتي السابق، وفي نفس الوقت لم تكسب ود الولايات المتحدة الأميركية في ظل عالم يسود فيه نظام ثنائي القطبية، واعتبرت الولايات المتحدة نظام زياد بري نظامًا مارقًا وشريكًا لا يمكن الوثوق به وبل وعملت على إسقاطه وهو ما تم ولكن بسقوطه لم تقم للصومال حتى الآن قائمة. وهو ما مهَّد الطريق لاحقًا لاجتياح القوات الإثيوبية الأراضي الصومالية ودخولها العاصمة الصومالية، في العام 2006، كاسرة إلى الأبد مبدأ عدم تدخل قوات من دول الجوار. وكان لهذه الخطوة أثران مهمَّان:
• أولًا: تحجيم التهديد الإرهابي الذي كانت تشكِّله حركة الشباب في القضاء على الحكومة الصومالية الهشَّة ودول الجوار والعالم أجمع.
 
• ثانيًا: فاقمت هذه الخطوة من الوضع الإنساني في الصومال وقطَّعت أوصال البلاد إلى مناطق معزولة عن بعضها مما تسبب بكوارث طبيعية سبَّبت جفافًا ومجاعة لم يسبق لها مثيل منذ 60 عامًا.
 
في الوقت الراهن، باتت إثيوبيا جزءًا من قوات حفظ السلام الإفريقية (أميصوم) بتعداد قوات يبلغ قوامها 4395 جنديًّا كرابع قوة مساهِمة في البعثة، بعد أن ملأت الفراغ الذي تركته قوات سيراليون التي غادرت الصومال بسبب تفشي وباء الإيبولا، وتمتاز القوات الإثيوبية على ما سواها من القوات الإفريقية بسرعة ومرونة حركتها نظرًا للحدود الطويلة بين البلدين.
 
كينيا: مُشكِل الحدود المستعصي

تملك ثاني أطول حدود مع الصومال وتبلغ حوالي 682 كلم، كما يوجد في كينيا إقليم صومالي هو الأكبر من بين الأقاليم الكينية، لم يخض الصومال حربًا مع كينيا ولكن حدث أن توترت العلاقات أكثر من مرة بينهما بسبب رغبة الصومال في تحقيق حُلم الصومال الكبير وبوادر النزاع حول الحدود البحرية إضافة إلى أن كينيا تعتزم إعادة اللاجئين الصوماليين قسريًّا في مخيم طاطاب أكبر مخيم للاجئين في العالم(3).

 استضافت كينيا مؤتمرات المصالحة الصومالية علمًا بأن الميثاق الوطني الذي تبنَّى الفيدرالية اعتمد على أراضيها من خلال مؤتمر "إمبغاثي" عام 2004، الذي استمر قرابة العامين والذي كان الأساس للدستور الصومالي المؤقت المعمول به حاليًا، وجدير بالذكر أن كينيا دعمت إقامة ولاية جوبا لتكون منطقة عازلة لحدودها لتحقيق الأمن القومي الكيني(4)، والغريب في الأمر أن كينيا كانت تفضِّل النأي بنفسها عن الانخراط في الأزمة الصومالية وتعقيداتها، ولكن في الفترة الأخيرة انغمست بشكل كبير في الأزمة الصومالية وأصبحت أحد اللاعبين الأساسيين في الأزمة الصومالية؛ ولهذا السبب تساور الشكوك كثيرًا من الصوماليين من أن تدخُّل كينيا في الصومال تحرِّكه دوافع توسعية وخاصة الأطماع في المنطقة الاقتصادية الخالصة EEZ في الحدود البحرية رغم أن الدولتين طرفان في قانون البحار لعام 1982. وترد كينيا على هذه الاتهامات بالنفي القاطع وتبرر تدخلها بحماية حدودها من الهجمات المستمرة من الإرهابيين والقراصنة؛ الأمر الذي ضرب السياحة التي تعد في كينيا من أهم مصادر الدخل القومي والذي أثَّر سلْبًا على الاقتصاد الكيني(5).

جيبوتي: تحريك الخيوط المهمة

تكتسب جيبوتي أهمية كبرى في المنطقة وخاصة في الأزمة الصومالية بسبب نجاحاتها المتكررة في عقد مصالحات للصوماليين أولها في يوليو/تموز 1991 بعد الإطاحة بالرئيس "محمد زياد بري"؛ حيث تم انتخاب علي مهدي محمد رئيسًا مؤقتًا للصومال، وجاءت المصالحة الثانية في جيبوتي عام 2000 الذي انتهى بعد ستة أشهر من تشكيل برلمان وحكومة بقيادة عبد القاسم صلاد، وجمهورية جيبوتي مقر قوات (AFRICOM) وهي دولة صغيرة شحيحة بمواردها الطبيعية ولكن موقعها الاستراتيجي يسمح بأن تلعب دورا مهمًّا، أكبر من حجمها، في شؤون القرن الإفريقي، وتُمسك بخيوط مهمة في الشأن الصومالي لكون غالبية الشعب الجيبوتي صوماليين في بلد مستقل، ولأنها ترى الصومال سندها الأساسي في المنطقة، فقد لعبت دورًا محوريًّا في محاولة إنقاذ الصومال، فرغم أنها كانت جزءًا من الصومال الكبير ونالت الاستقلال عام 1977 إلا أنها تتمتع بعلاقات قوية ومتوازنة مع كلٍّ من إثيوبيا وكينيا فضلًا عن الصومال(6).

أوغندا: أقرب دول الجوار للحياد

وهي أول دولة تبعث بقوات حفظ سلام إلى الصومال، وذلك في مارس/آذار 2007، بتعداد يبلغ 6223 جنديًّا وقواتها تنتشر في أماكن حساسة من العاصمة مقديشو وضواحيها وتُوصف بالجار البعيد القريب، وترتبط مع الصومال بعلاقات ممتازة رغم البُعد الجغرافي النسبي عن الصومال، وكان للصومال فضل على أوغندا عندما كان قوة عسكرية يهابها الجميع ولا توجد حساسيات سياسية، بخلاف إثيوبيا وكينيا، ليس لكونها تشارك في قوات حفظ السلام الإفريقية؛ ولكن لأن معظم الشعب الصومالي يثق بالقيادة الأوغندية التي لا تحمل أجندات خفية، إضافة إلى مقولات -محل اعتبار- بانحدار بعض قبائل منطقة البحيرات العظمى من أصول صومالية وخاصة قبائل "ميوكي" و"التوتسي" في كلٍّ من أوغندا وبوروندي ورواندا، وكذلك اهتمام الرئيس الأوغندي "يوري موسيفيني" حيث يرى أن ذلك نوع من صلات القرابة والدم وثقافة مساعدة القبيلة السائد في إفريقيا, ويُسجَّل له أنه الرئيس الإفريقي الوحيد الذي زار الصومال بعد انهيار الحكومة المركزية في بداية تسعينات القرن الماضي عندما كان الصومال تعصف به الفوضى(7).

لكن من المؤكد أن أوغندا تنطلق على ضوء مصالحها ومصالح حلفائها في المقام الأول، فمن يعتقد أن أوغندا هبَّت لنجدة الصوماليين لسواد عيونهم فهو ساذج لا يفقه في لغة المصالح التي تحكم العلاقات الدولية؛ فالواضح تمامًا أن أميركا، الحليف المقرب من كمبالا، هي من يقف وراء دول "أميصوم" بعد فشل تدخلها المباشر في بداية التسعينات، كما أن مشاركة هذه القوات تأتي لقطع الطريق على تدخل قوات عربية في الصومال.

الصومال وجامعة الدول العربية

انضم الصومال إلى جامعة الدول العربية في عام 1974 قبل دخوله الحرب مع إثيوبيا بقرار من الرئيس الصومالي، محمد زياد بري، بعد مشاورات مكثفة مع النخبة المثقفة ومما يُروى عن الذين عاصروا تلك الفترة أن زياد بري بعد أن فكَّر وقدَّر لم يجد أقرب هوية إلى الفرد الصومالي من الهوية العربية ولهذا قرر الانضمام إلى جامعة الدول العربية؛ القرار الذي أثار جدلًا في الأوساط الثقافية الصومالية والعالمية لم ينته إلى اليوم بين مُبارِك ومرحِّب بالقرار بل واعتباره خطوة تاريخية تُحسَب لزياد بري، وبين من يعتبر القرار خطأ تاريخيًّا دفع الصوماليون ثمنه بفاتورة طويلة من الدماء والمآسي التي ترتَّبت على هذا القرار السياسي.

ومن المؤيدين لهوية الصومال الإفريقية البروفيسور "عمر أينو"؛ حيث يذهب إلى أن الصومال إفريقي إنسانًا وتاريخًا وجغرافيا كذلك، كما هو واضح، وأن انضمامه إلى جامعة الدول العربية ما كان إلا قرارًا سياسيًّا، مشيرًا إلى أن الصومال يعيش الآن تبعات هذا القرار "غير الحكيم"، متمثلًا ذلك في أزمة هويته الثقافية وينتقد بشدة الفكرة المثيرة للضحك والقائلة: "إن الصوماليين وجدوا أنفسهم بالصدفة في إفريقيا ولكنهم ليسوا إفريقيين"، ويعجب من رسوخها لدى الكثير من العامة، ويضيف: إن أزمة الهوية التي يعيشها الصومال نتاج هذه الفلسفة الخاطئة، ويتساءل: لماذا يُصِرُّ الصوماليون على انتمائهم العربي وإن كان نَسَبِيًّا عتيقًا؟! مع أنَّ العرب الحاليين "يأنفون منهم ويدفعونهم بعيدًا"، في ذات الوقت الذي يُرى مسلكهم ذاك "فرارًا من إفريقيَّتهم الصريحة"!! في المقابل، يرى البروفيسور "حسين عبد الله بُلحن" أن الهوية الصومالية من جذور عربية تتحكم فيها ثقافة القبيلة وتراثها وتقاليدها مع إقراره بوجود أقليات من هويات أخرى(8).

كانت -ولا تزال- الإشكالية الكبرى التي تواجه الصوماليين أنهم لا يتكلمون اللغة العربية، بل لديهم لغتهم الخاصة، وإن كان 45% تقريبًا من مفرداتها يعود جذوره إلى اللغة العربية، ويُلاحَظ أن مساحة اللغة العربية تتضاءل يوميًّا في الصومال؛ ففي عهد الاستعمار وما قبله كانت اللغة العربية أقوى مما هي عليه اليوم، وكانت مقديشو والمدن الساحلية، مثل: كسمايو، ومركا، وبراوة، وبوصاصو، وبربرا، مدنًا عربية بامتياز يتكلم سكانها العربية بطلاقة، في حين انحصرت اللغة العربية في حقبة حكم العسكر في المحاكم الشرعية وزوايا المساجد. إن التداخل الثقافي والوجداني من خلال القصص والأغاني والشعر والأدب والمسرحيات والمجلات العربية والأشعار والقصائد، إضافة إلى البُعد المعرفي المتمثِّل في البعثات الأزهرية والمناهج العراقية منح اللغة العربية وجودًا ملحوظًا في الشارع الصومالي وصبغها بنكهة عربية خالصة وحضورًا قويًّا في داخل الدولة الصومالية الوليدة، ولكن يظل البُعد الديني، منذ أن وصل الإسلام إلى السواحل الشرقية لإفريقيا، الرابط الأقوى الذي يربط العرب بالصوماليين(9).

التدخلات الأجنبية وتمزيق الهوية

بعيد انهيار الحكومة العسكرية تدخَّل المجتمع الدولي في الصومال ولكن مهمة المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية انتهت بفشل ذريع نتيجة عدم فهم هوية وطبيعة وثقافة المجتمع، وبعد فترة من التجاهل التام استعاضت الولايات المتحدة عن تدخلها المباشر بتدخل غير مباشر؛ حيث سمحت بقوات إفريقية لحفظ السلام وذلك لاحتواء الوضع في الصومال حتى إشعار آخر، ويرى مراقبون أنه كان الأوْلى أن يأتي التدخل من الجامعة العربية، والسبب يعود إلى عجز الجامعة عن حلِّ القضايا العربية الأقدم والأحدث أو ربما أن الصومال ليس عربيًّا بما فيه الكفاية وفق رؤية بعض الآراء. إن مسألة حسم هوية الصومال لا ترجع إليه فحسب، وإنما أيضًا تخص المجتمع الدولي، ومن سوء حظه أن المجتمع الدولي لم يقرِّر هوية الصومال كما أن الصومال نفسه لم يحدد هويته بنفسه مما جعل كل طرف يعتبر أن الصومال محسوب على الطرف الآخر.

الصومال بين انتماءين

يتأرجح الصومال بين انتمائه العربي والإفريقي، وتقوم السياسة الخارجية الصومالية على ركيزتين أساسيتين لا يمكن الاستغناء عن إحداهما لصالح الأخرى؛ وهما: حُسن العلاقة مع كلٍّ من دول الجوار المباشر والوطن العربي، وعليه فلابد من بناء علاقات قوية بين العرب ودول الجوار الإفريقية لمصلحة الصومال. ولهذا، ينبغي على الصوماليين جذب انتباه العرب تجاه بلادهم كما يجدر بالعرب الاهتمام بالصومال باعتباره دولة استراتيجية وبعْث الروح فيه من جديد، حتى يقوم بدوره المنشود في حماية الأمن القومي العربي، وهذا يتطلب الدخول بقوة في مشروع العملية السياسية والمصالحة الوطنية، والمساعدة في استكمال كتابة الدستور، وبناء وتمكين القوات المسلحة الصومالية وأجهزة القضاء، ودعم مشروع رؤية 2016 في إجراء شكل من أشكال الانتخابات وفق صيغة سياسية في الحُكم تجمع شمل الصوماليين، وتحظى بقبولهم. من العجيب أن الصومال بات وكأنه سقط -تمامًا- من الإدراك العربي سواء كان ذلك عمدًا أو إهمالًا لدرجة تبدو معها المسألة الصومالية وكأنها شأن غير عربي، فالجميع يتحرك في الصومال إلا العرب(9).

يعيش الصومال جدل الهوية مع نفسه ومحيطه الخارجي سواء العربي والإفريقي حيث مرَّت العلاقات الصومالية مع جواره الإفريقي بتقلبات كثيرة من العداء إلى الصداقة ومن التعاون إلى المواجهة وصولًا إلى التدخل العسكري، ولا تزال العلاقات الصومالية مع محيطه الجغرافي تثير تساؤلات المعنيين والباحثين في قضايا القرن الإفريقي، ويرى كثير من المراقبين أن دول الجوار تشكِّل عامل عدم استقرار أكثر مما تمثِّل عامل تهدئة وذلك لرسوخ فكرة مفادها أن مصلحة دول الجوار المباشر مهدَّدة في حالة انتهاء الأزمة في الصومال وأن تحقيق مصالح دول الجوار الاستراتيجية تكمن في بقاء الصومال على حالته الراهنة وذلك لمخاوف وهواجس تؤمن بها هذه الدول في حالة خروج الصومال من محنته وحتى لا يطالب بالأراضي الصومالية التي ألحقها الاستعمار بتلك الدول(10).

ولكن من ناحية أخرى، فإن بقاء الصومال على حالة الفوضى وغياب هيكل الدولة لا يساعد في استقرار هذه الدول على المدى البعيد فعاجلًا أو آجلًا سيصل الحريق المشتعل في الصومال إلى جواره المباشر ثم الجوار الإقليمي حتى يصل إلى كل العالم لأن العالم لم يعد كما كان: كيانات منفصلة بينها حدود يصعب تخطيها، وإنما أصبح قرية واحدة لا تستطيع أية جهة التحكم بالمعلومات والأفكار والبضائع في عصر العولمة والتحديات التي طرحها، وقد انعكست بالفعل الظروف الأمنية على دول الجوار من الإرهاب وتدفق موجات الهجرة والقرصنة مما غيَّر شيئًا من مقاربتها للوضع في الصومال وأجبرها على إبداء مرونة في إحداث الاستقرار السياسي والأمني في هذا البلد الذي أنهكه الصراع السياسي نحو اعتلاء السلطة والعبث بمقدرات وثروات البلاد لخدمة المصالح الأجنبية.

يجب التنبه لأن ازدواجية الانتماء للصومال بين الهوية العربية والإفريقية أضرَّت به أكثر مما نفعت، مما أضاعه بين الفاصل الوهمي لهاتين الهويتين وذلك لكون كل منهما تعتبر الصومال أنه يميل إلى الطرف الآخر، ولم يستطع الصومال الاستفادة من الجانبين في آن واحد لغياب القيادة الواعية ولوقوعه في دوامة الحرب الأهلية والإرهاب، ولهذا ينبغي أن يدرك صُنَّاع القرار في الصومال أن مفتاح نجاح الصومال في إعادة بناء دولته يكمن في طبيعة العلاقات بين هذين المكوِّنين المؤثِّرين من ناحية؛ ومن ناحية أخرى في طبيعة علاقة الصومال مع كل مكوِّن على حِدَة ومراعاة أن تكون العلاقة متوازنة مع كلٍّ من محيطه الجغرافي والثقافي، أو بعبارة أخرى تشكيل هوية صومالية تحمل في طياتها انتماءها العربي إلى جانب الانتماء الإفريقي، والاستناد لواقع أن الصومال ككائن اجتماعي وسياسي قائم بذاته دون أن يماثله أي كائن آخر في العالم في هويته ولكنه -الصومال- يتشارك هويته مع العديد من الدول وخاصة العربية والإفريقية والإسلامية(11).

الخاتمة

إن الصومال لابد أن يبذل كل جهوده لتغيير النظرة السائدة عنه والمترسخة الجذور والمتمثلة في اعتقاد دول الجوار الصومالي أنه لا ينتمي إلى إفريقيا وإنما هو كائن مستوطن في هذه الأرض إضافة إلى الهاجس بأنه متى ما شعر بأن عُودَه قَوِيَ واشتدَّ ساعده سيسعى إلى استرجاع أراضيه بالقوة العسكرية ضاربًا عرض الحائط بالحدود التي رسمها الاستعمار، ويجب أن يستثمر ذلك في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وكل الفعاليات والأوساط الحية كالمنتديات والمؤتمرات الدولية وعبر البرامج الثقافية كدبلوماسية شعبية. إن تغيير تلك النظرة النمطية، وإحلال الفهم القائم على اعتبار ازدواجية التداخل والانصهار الحاصل ضمن انتماء الصومال بين الهوية الإفريقية والعربية، مكانها يعد مصدر ثراء وإغناء إذا ما أُحسِن الاستفادة منه؛ فما يجمع بين العرب والأفارقة أكثر مما يفرِّق(12).

إن أكثر لغة سائدة في إفريقيا هي اللغة العربية، ناهيك عن أن اللغة العربية بذاتها منتمية لمجموعة اللغات "الإفريقية-الآسيوية"، ويُرجَّحُ أن نشأتها كانت في القارة الإفريقية، إضافة إلى انتشار الإسلام في القارة الإفريقية وارتباط كثير من اللغات الإفريقية باللغة العربية، وعليه، فلا يوجد صراع هوية في الصومال بين هذين المكونين إلا في مُخيِّلة من يبحث عن المشاكل ويصطاد في الماء العكر، وبإمكان الصومال أن يحافظ على هويته العربية إلى جانب هويته الإفريقية كما أن العكس صحيح أيضًا، ويمكن أن نأخذ للعبرة مثال دولة إريتريا الشقيقة التي أقصت المكوِّن العربي في هويتها وتنكَّرت له رغم بروز الهوية العربية الثقافية فيها، وبتلك الخطوة خسرت الكثير ولم تكسب وُدَّ من قامت لأجله بتحجيم الهوية العربية.
______________________________________

عبد الرحمن محمود علي عيسى - كاتب وباحث صومالي مهتم بالشؤون الدولية والدبلوماسية.

نبذة عن الكاتب

مراجع
1– أميصوم، موقع أميصوم، مسيرة السلام في الصومال، انظر الرابط التالي (تاريخ الدخول 14 ديسمبر/كانون الأول 2015):
2- أبو حمدية، د. زكريا، هل الأبجدية اللاتينية أفضل لكتابة اللغة الصومالية من الأبجدية العربية؟ مجمع اللغة العربية الأردني، انظر الرابط التالي (تاريخ الدخول: 16 ديسمبر/كانون الأول 2015):
3- كينيا تطالب بنقل أكبر مخيم للاجئين في العالم إلى الصومال، انظر موقع شبكة الإعلام العربية، (تاريخ الدخول: 5 ديسمبر/كانون الأول 2015):
4- نزويلي, فريدريك جوبالاند، دولة كينيَّة في الصومال، انظر الرابط التالي (تاريخ الدخول: 25 ديسمبر/كانون الأول 2015):
5- الصاوي, عارف، سوق الماساي في كينيا يشكو غياب السياح، انظر موقع الجزيرة نت (تاريخ الدخول: 31 ديسمبر/كانون الأول 2015)،
6- حسين, أيمن، دول الجوار الصومالي.. مآرب وعقارب، انظر موقع رسالة (تاريخ الدخول: 5 ديسمبر/كانون الأول 2015):
7- عثمان, عبد القادر، دول الجوار الصومالي وتدمير القرن الإفريقي، موقع شبكة المشكاة الإسلامية. (تاريخ الدخول: 11 ديسمبر/كانون الأول 2015):
8- بُلحن, عمر أينو وحسين، موقع جامعة لندن: مناظرة حول الهوية الصومالية ووضع الأقليات، انظر الرابط التالي (تاريخ الدخول: 17 ديسمبر/كانون الأول 2015):
9- قرني, حسن محمود، العنصرية وأزمة الهوية في الصومال، من أجل الصومال، انظر الرابط التالي (تاريخ الدخول: 10 يناير/كانون الثاني 2016):
10- الموسوي, د. محمد عرب، التوازن الإقليمي في شرق إفريقيا واستراتيجية التدخلات الأجنبية، انظر موقع آفاق الجغرافيا (تاريخ الدخول: 22 ديسمبر/كانون الأول 2015):
11– عبد الرحمن, حمدي، مصر وتحديات قوس الأزمة الإفريقي، موقع الجزيرة نت (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2016): 
12- أحمد, محمد عمر، تأثير دول الجوار على القرار السياسي في الصومال، انظر موقع شبكة الشاهد (تاريخ الدخول: 12 ديسمبر/كانون الأول 2015):