أزمة الإخوان المسلمين بالأردن.. نهاية الصراع الدائري وبداية التعويم السياسي

تتميز العلاقات بين السلطات والإخوان في الأردن حاليا بالصراع، كأحد آثار الخلاف بينهما خلال ثورات الربيع العربي، وبرزت بعض آثاره في التصدعات التي يشهدها التنظيم وسعيه إلى الفصل بين السياسي والدعوي.
fcdbf62f32674c57a88ea4e4b720477b_18.jpg
إخوان الأردن: التأقلم من أجل البقاء (الأوروبية)

يأتي قرار حزب جبهة العمل الإسلامي، الذي يمثِّل الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، بالمشاركة في الانتخابات النيابية القادمة، سبتمبر/أيلول 2016؛ بعد مخاض تاريخي كبير مرَّت به الجماعة وحزبها، يتمثَّل في أبعادٍ ثلاثة رئيسة: البُعد الأول: هو الأزمة الداخلية؛ التي تطورت مع الجماعة بصورة حادَّة منذ العام 1999، ووصلت في الأعوام الأخيرة إلى تخوم الانشقاقات المتتالية والخلافات العلنية؛ وانتهت إلى تأسيس جمعية جديدة باسم جماعة الإخوان المسلمين، على يد المراقب العام الأسبق للجماعة، عبد المجيد ذنيبات، والتي سحبت التمثيل القانوني للجماعة الأم مع اعتراف الدولة بها، ثم تأسيس نخبة من قيادات الجماعة المفصولة (مبادرة زمزم) لحزب جديد، وإعلان القيادات التاريخية للجماعة ومعها مجموعة من الشباب القيادي نيَّتهم تأسيس حزب جديد بديلًا لجبهة العمل الإسلامي.

البُعد الثاني: يتمثل في الأزمة مع الدولة؛ إذ وصلت العلاقة بين الطرفين مع الربيع العربي إلى "حافة الهاوية"، ثم في مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري في مصر، 3 يوليو/تموز 2013، إلى "الطلاق الكامل"، الذي انتهى إلى مصادرة الوجود القانوني للجماعة، وبقاء الحزب وحده بوصفه إطارًا سياسيًّا وتنظيميًّا قانونيًّا وحيدًا معترَفًا به من قِبل الدولة، ويعيش هو الآخر أزمة كبيرة مع أجهزتها.

أما البعد الثالث فمرتبط بالتطورات الإقليمية، والمخاضات الشبيهة داخل "جماعات" الإخوان في مصر واليمن، والتمايز الجديد بين الحالتين المغاربيتين، بنسختيها التونسية والمغربية والحالة المشرقية التي وصلت إلى أزمات مركَّبة.

تمثل الانتخابات النيابية القادمة، إذًا، اختبارًا مهما لمدى قدرة جبهةالعمل الإسلامي على تجاوز المرحلة السابقة، وتدخل بنا إلى مشهد جديد تتوارى فيه جماعة الإخوان المسلمين إلى الظل، ويتسم تمثيلها السياسي بـ"التعويم"، عبر أحزاب متعددة متنافسة تنتمي فكريا إلى "مدرسة الإخوان".

مقدمة 

أغلق حزب جبهة العمل الإسلامي مركزه الرئيس، في عمَّان، يوم الاثنين 30 مايو/أيار 2016، ووشَّح البوابة باللون الأسود، احتجاجًا على جملة من الإجراءات الرسمية التي اعتبرها الحزب جزءًا من سياق إقصائي تجاه الحزب وأعضائه وكوادره، مثل: الاعتقالات، والمنع من السفر، وإغلاق مقرات للحزب في المحافظات، ومنع إقامة الفعاليات حتى الاجتماعية، كالدعوة إلى إفطار رمضاني (1). الإجراءات، التي أشار إليها الحزب، ليست سوى قمة جبل الجليد في ديناميكية الأزمة المتفاقمة منذ قرابة عقدين بين الحزب، ومن ورائه جماعة الإخوان المسلمين (التي أصبحت، عمليًّا، في طور المحظورة قانونيًّا، بعدما تمت مصادرة ممتلكاتها ومبانيها، وتأسيس جماعة جديدة من قِبل المراقب العام الأسبق، عبد المجيد ذنيبات)، من جهة، وأجهزة الدولة التي تدير الأزمة مع الجماعة، وتحديدًا جهاز المخابرات العامة، من جهةٍ ثانية.   

1- من التعايش إلى الأزمة

 ثمة مراحل متعددة مرَّت بها العلاقة بين الطرفين: جماعة الإخوان ومعها جبهة العمل الإسلامي، والدولة الأردنية. فمنذ عقد الخمسينات، وصولًا إلى منتصف الثمانينات، كان هناك ما يمكن أن نسميه مرحلة "التعايش" بين الطرفين، التي وصلت في لحظات تاريخية معينة إلى التعاضد والتحالف ضد أخطار مشتركة، تمثَّلت في الخمسينات والستينات بالاتجاهات القومية واليسارية والأنظمة الداعمة لها، وفي السبعينات بالمنظمات الفلسطينية اليسارية، وبداية الثمانينات دعم الأردن الإخوان المسلمين السوريين ضد نظام حافظ الأسد (2)

إلا أن العلاقة لم تكن "سمنًا على عسل" أو تحالفًا تاريخيًّا صلبًا، كما يروِّج بعض السياسيين، بقدر ما كانت "علاقة الضرورة السياسية"، قبل أن تبدأ الأمور تأخذ مسارًا مختلفًا برزت مؤشراته الأولى في رسالة من الملك الحسين إلى الرئيس السوري حافظ الأسد في منتصف العام 1985، مع بداية حكومة زيد رفاعي، في الأردن، يتهم فيها الملك الراحل الإخوان المسلمين بأنهم خدعوه، ويحاول رأب الصدع مع الرئيس السوري السابق (3). 

لكن عادت الظروف لتخدم، مرة أخرى، بقاء العلاقة بين الملك والإخوان، عندما وقعت انتفاضة 1989، احتجاجًا على رفع الأسعار، وكانت مفتاحًا لعودة الحياة الديمقراطية والانتخابات النيابية إلى الأردن؛ حيث شارك الإخوان في الانتخابات وحققوا نتائج كبيرة، وكاد عددهم مع الإسلاميين المستقلين أن يصل إلى نصف عدد أعضاء مجلس النواب؛ ما مثَّل المؤشر الأول على القلق الرسمي من هذه القوة الصاعدة، البديلة للقوى اليسارية والقومية. ويؤكد د. مروان المعشر، وكان يعمل حينها في الجهاز الاستشاري الحكومي، أن أغلب مؤسسات الدولة لم تكن تتوقع هذه النتيجة (4). 

بالرغم من هذا القلق الرسمي، إلا أن ظروف احتلال صدام للكويت ثم حرب الخليج 1991، أسهمت في دخول الإخوان المسلمين، للمرة الأولى، بصورة رسمية، إلى حكومة مضر بدران، فتولوا في التعديل الحكومي 5 حقائب وزارية. لكن، ومنذ تلك اللحظة بدأ مسار العلاقة بالتراجع والتقهقر؛ فبعد انتهاء حرب الخليج وخسارة صدام، وبحث الأردن عن "مخرج استراتيجي" من المأزق الكبير حينها، ودخول الملك في مفاوضات السلام وفي طور الخصخصة الاقتصادية، بدأ التراجع عن الخطوات الديمقراطية السابقة، واتخذ قرار تحجيم القوة الشعبية الجديدة المقلقة. 

خلال التسعينات، أُقِرَّت جملة من القوانين والتشريعات، مثل قانون انتخاب الصوت الواحد، وقوانين الجامعات، من أجل تحجيم الجماعة؛ ما أدَّى في العام 1997 إلى مقاطعتها الانتخابات النيابية، ما شكَّل أول موجة انشقاق جماعي، من رَحِم جناح الحمائم، فخرجت المجموعة التي أسست لاحقًا حزب الوسط الإسلامي، بدعم وتأييد من الدولة (5). وفي نهاية العام 1999، كانت الأزمة في طريقها إلى تطور آخر، مع وفاة الملك الحسين وتولِّي الملك عبد الله الثاني مقاليد الحكم. كانت أولى الخطوات اللافتة هي طرد قادة حماس من الأردن، وتبخُّر قنوات الاتصال التقليدية التي كانت فاعلة في عهد الملك الحسين، حتى في مراحل التوتر بين الدولة والجماعة. 

وجدت الجماعة نفسها أمام معطيات جديدة ومطابخ مختلفة للقرار، ومواقف أكثر تصلبًا من قبل الدولة تجاه الجماعة، ولعبة ذات طابع صفري، أي ما يكسبه طرف يخسره الآخر. وبالرغم من أن الجماعة شاركت في انتخابات العام 2003، إلا أن الأمور عادت إلى التوتر بين الطرفين منذ العام 2006، مع بروز تباين شديد في نظرة كليهما إلى المتغيرات الإقليمية. وحدث تداخل شديد في رؤية الطرفين للملفات الداخلية والإقليمية، وهو التداخل الذي سيحكم الأزمة خلال المراحل اللاحقة. نظر النظام إلى الجماعة بوصفها حليفًا أو تابعًا لحركة حماس، ولمحور الممانعة، إيران وسوريا وحزب الله، بينما نظرت الجماعة إلى النظام بوصفه جزءًا من معسكر الاعتدال العربي، الموالي للولايات المتحدة الأميركية، في مواجهة "قوى المقاومة" والممانعة. 

في العام 2006، سيطرت حماس على الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وأصبحت شريكًا في الحكومة الفلسطينية، وهو ما أثار قلق السلطات الأردنية من انتقال العدوى إلى الأردن، وتم تهويل خطر الجماعة في أروقة الدولة، والتخويف من علاقتها بحركة حماس ومحور الممانعة، فجاءت الانتخابات النيابية في العام 2007 لتشهد عملية تزوير كبيرة لإضعاف تمثيل الحركة، واقتصاره على 6 مقاعد؛ مما أدى إلى انسحاب الحركة من الانتخابات البلدية احتجاجًا على التلاعب في العملية الانتخابية (6). 

2- الربيع العربي: الوقوف على الحافة  

في ظل تنامي الأزمة بين الطرفين، ومقاطعة الجماعة للانتخابات النيابية في العام 2010، اندلعت ثورات الربيع العربي 2011، متزامنة مع الحراك الشعبي الأردني، الذي أدَّى إلى إسقاط حكومة سمير الرفاعي، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة معروف البخيت، لتقود عملية إصلاح سياسي، مصحوبة بتأسيس لجنة حوار وطني، تضم القوى السياسية المتنوعة. حدثت مفاوضات بين الدولة والجماعة من أجل المشاركة في لجنة الحوار الوطني، التي كان من المفترض أن تمهِّد الطريق لقانون انتخابات جديد، وتعديلات دستورية، وتحريك الحياة السياسية ودفع العجلة الديمقراطية. لكن تلك اللحظة التاريخية -أي الربيع العربي- عمَّقت شكوك الطرفين المتبادلة، وفاقمت "فجوة الثقة" بينهما. لم يشارك الإخوان في لجنة الحوار الوطني، ولا حتى في الانتخابات النيابية التي تلت ذلك في العام 2013. 

راهن الإخوان على لحظة الربيع العربي، واندفعوا في الاعتقاد بأنها تمثِّل مرحلة تاريخية جديدة وحقبة أخرى، بخاصة مع الانتخابات التشريعية في مصر وفوز د. محمد مرسي، برئاسة الجمهورية؛ فرفعوا سقف مطالبهم، وأعلن أحد أبرز رموز الجماعة، زكي بني أرشيد، أن الجماعة تريد الانتقال من المشاركة إلى الشراكة السياسية في علاقتها بالنظام. صحيح أن الإخوان لم يرفعوا شعار إسقاط النظام، كما حدث في الثورات العربية الأخرى، لكنهم -وفق مصادر الحكم في الأردن- كانوا يسعون إلى "انقلاب ناعم" على الملك، عبر التركيز على تعديلات دستورية تحجِّم دور الملك السياسي إلى درجة كبيرة، سواء في إجباره دستوريًّا على اختيار رئيس الوزراء من الأغلبية النيابية، أو نزع صلاحية اختيار مجلس الأعيان من يديه، أو تقليص صلاحياته الأخرى. 

تعززت قناعة مراكز القرار في الدولة بأن الجماعة تتلاعب بالشعارات والمطالب وتوزيع الأدوار عبر مشاركتها بتجمعات وحركات راديكالية، مع إيقاف خطابها الرسمي عند حدود الإصلاح، ومثال ذلك ما حدث عندما شارك الإخوان بقوة بتأسيس حركة 24 آذار، التي كانت تسعى -وفق هذه القراءة- إلى إقامة اعتصام شبيه بميدان التحرير بمصر، للضغط على الملك للقبول بإصلاحات جذرية. في الطرف الآخر، استمرت شكوك الإخوان بمدى جدية الدولة في إحداث إصلاحات سياسية جديدة، ونظروا إلى ما تقوم به من إجراءات وتشكيل لجان حوار بوصفه محاولة لكسب الوقت، وتبديد زخم الحراك الشعبي. 

في الوقت نفسه، وصل إلى مواقع القيادة في الجماعة جيل جديد، أراد تغيير قواعد اللعبة السياسية مع النظام، ولم يكتف بالدور الهامشي أو المحدود، الذي لا يؤثِّر على صناعة القرار جوهريًّا أو على مخرجات العملية السياسية، بل أراد هذا الجيل أن يعيد هيكلة قواعد اللعبة السياسية عبر استثمار لحظة الربيع العربي، بدلًا من الشعار التاريخي المرفوع "المشاركة لا المغالبة"، وبدأ هذا الجيل يتساءل: لماذا القبول بقواعد لعبة تُبقي الخيوط كاملة بيد الدولة والنظام (7). 

حدثت الانتكاسة الكبرى، لاحقًا، في مسار الربيع العربي، في العام 2013 عبر الانقلاب العسكري في مصر، الذي أطاح بأول رئيس مصري منتخب، من جماعة الإخوان المسلمين، ثم تبعها قرار إماراتي-سعودي-مصري باعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة محظورة وإرهابية. وتشكَّلت أجندة المعسكر المحافظ العربي، التي لعب الأردن فيها دورًا مهمًّا في دعم نظام السيسي واللواء الليبي خليفة حفتر، وتم تعريف الربيع العربي بوصفه خطرًا محدقًا، والدفع نحو العودة إلى الحالة القائمة عشية الثورات الشعبية (8). 

نجم بالضرورة عن تلك التطورات اصطفاف متناقض، مرة أخرى، لكل من الجماعة والدولة؛ فالدولة مع المعسكر المحافظ، والإخوان أقرب إلى المعسكر التركي-القطري، الذي أيَّد الربيع العربي، وصعود الإسلاميين، وأصبحت قنوات الاتصال والتواصل بين الطرفين شبه منقطعة، ومنسوب الثقة وصل إلى الحضيض، بخاصة لدى النظام.  

3- مخاض وسط ثلاث أزمات

مثَّل الانقلاب العسكري في مصر، 3 يوليو/تموز 2013، نقطة تحول جديدة في سياق الأزمة المتدحرجة بين الجماعة والدولة. فبالرغم من أن الأردن لم يَسِرْ في ركاب القرار الإقليمي الرسمي العربي السابق (مصر، الإمارات، السعودية) باعتبار الإخوان جماعة محظورة وإرهابية، إلا أنه كان شريكًا في صوغ العقيدة الجديدة التي تتضمن اعتبار حركات الإسلام السياسي عمومًا، إخوانًا وسلفيين وجهاديين، خطرًا رئيسًا داخليًّا، أَوْلى من الأخطار الخارجية، وهي العقيدة التي حكمت موقف هذه الدول من تركيا وقطر، قبل أن تتراجع المقاربة السعودية وتقوم باستدارة غير صريحة تجاه الإخوان وحماس، وتنفصل عن المقاربة العربية المحافظة، منذ تسلُّم الملك سلمان مقاليد الحكم. 

تدارس مجلس السياسات (وهو أعلى هيئة لصوغ السياسات الرسمية الأردنية) خيارات الأردن في التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين غداة الانقلاب المصري، ووضعها في ثلاثة سيناريوهات: الأول: هو حظر الجماعة قانونيًّا واعتبارها إرهابية، أسوة بتلك الدول؛ والثاني: هو استثمار مرحلة ضعف الجماعة وفتح قنوات الحوار السياسي معها، لإخضاعها لشروط اللعبة التي يحددها النظام؛ والثالث: بقاء الوضع على ما هو عليه، مع تجميد أي اتصال أو تواصل استراتيجي مع الجماعة، وتركها لأزمتها الداخلية التي كانت تأكل من قوتها ورصيدها الاجتماعي والسياسي (9). 

اتُّخذ القرار، وبقيت الأمور معلّقة بين الجماعة والدولة، مع حالة من الضبابية الشديدة في موقف الطرفين؛ فالجماعة كانت تراهن على فشل أجندة المعسكر المحافظ، وعودة الثورة المصرية والإخوان، وربما محمد مرسي، وتعيش "حالة إنكار" لما حدث، أولًا، وأزمة النظام الاقتصادية، ثانيًا؛ بينما النظام كان يراهن على الأزمة الداخلية الإخوانية. مع مرور الوقت، بدأ ينقشع الضباب وتتضح موازين القوى الجديدة، وبدأت الجماعة تدرك أن معطيات لحظة الربيع الأولى تلاشت، على الأقل في المشهد الأردني، مع تبخر الحراك الشعبي الداخلي، تحت وطأة القلق من الظروف الإقليمية، ومع الأزمة الداخلية للجماعة، ومع استمرار نظام السيسي برغم أزماته الداخلية. 

إلا أن التطورات الأكثر أهمية، التي فتحت الباب لتغيير مقاربة الدولة نحو الجماعة، ما أعطى فرصة للتيار الإقصائي ليقول كلمته، هو قيام المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان، عبد المجيد ذنيبات، في مارس/آذار 2015، بتسجيل جمعية جديدة مرخصة باسم الإخوان المسلمين، لتأخذ، لاحقًا، ممتلكات الجماعة ووضعها القانوني، وتترك الجسم الكبير للجماعة مع القيادة الحالية خارج إطار القانون؛ إلى أن انتهى الأمر بإغلاق المركز العام للجماعة في شهر إبريل/نيسان الماضي (10). 

واكبت الأزمة مع النظام أزمة داخلية تعايشت معها الجماعة منذ منتصف التسعينات، لكنها هي الأخرى كانت تتدحرج وتكبر مع مرور الوقت، حتى شقَّت الجماعة وشطرتها إلى أجزاء؛ ففي العام 1997 كانت أول عملية انشقاق لمجموعة من تيار الحمائم، احتجاجًا على قرار الجماعة بمقاطعة الانتخابات النيابية، ثم أسست المجموعة نفسها في العام 2001 حزب الوسط الإسلامي، الذي احتضنته الدولة لمنافسة الجماعة وحزبها جبهة العمل الإسلامي. 

منذ العام 1999، وعلى إثر طرد قادة حماس من الأردن اتخذت حالة الانقسام في الجماعة صيغًا جديدة، بين جناح مؤيد لحركة حماس، ومتحالف مع الصقور، وُصف إعلاميًّا بالمتشدد، وتيار (أطلق عليه الوسط) مع إعطاء الأولوية للشأن الوطني، متحالف مع الحمائم، وُصف إعلاميًّا بالمعتدل. استمرت الخلافات والانقسامات بين الجناحين إلى أن وصلت إلى إقصاء "الجناح المعتدل" من القيادة، في العام 2012، عبر تسلُّم الشخصية الصقورية، همام سعيد، موقع المراقب العام للجماعة، للمرة الأولى؛ إذ كان المراقب -تاريخيًّا- حمائميًّا ومن أصول شرق أردنية (11). لم تفلح المحاولات اللاحقة لحماية لُحمة الجماعة، فتم الإعلان عن مبادرة زمزم، عبر قيادات من الجماعة، قام المكتب التنفيذي بفصلهم لاحقًا مع من التحقوا بالمبادرة، وأعلن أصحاب المبادرة مؤخرًا عن تأسيس حزب سياسي جديد، ثم جاءت "عملية الذنيبات" بتأسيس جماعة جديدة، ثم لاحقًا أعلن تيار الحكماء، الذي يتشكَّل من قيادات تاريخية في الجماعة مع نخبة من الشباب، عن نيتهم تأسيس حزب سياسي جديد. 

في سياق موازٍ لهذه التطورات، بدأت تنضح لدى الجماعة الأم فكرة استقلالية جبهة العمل الإسلامي، والاكتفاء بدور أدبي وديني للجماعة، مع الحفاظ على إطارها الحركي، ووضع العمل السياسي في عُهدة الجبهة، وأرسلت الجماعة رسالة حسن نوايا، في تعديلات النظام الأساسي المقترحة، عبر التخلِّي عن الإشارة لارتباط الجماعة بجماعة الإخوان المسلمين في مصر. 

في ضوء المشهد الحالي، من المفترض أن نكون أمام واقع جديد بالكلية؛ جماعتان للإخوان المسلمين، القديمة والجديدة، لا تعملان مباشرة في الحقل السياسي، وتتركان للأحزاب "الإخوانية" الحرية الكاملة في المشاركة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى "تعويم التمثيل الحزبي" للإخوان؛ حيث توجد جبهة العمل الإسلامي التي تمثِّل الجماعة القديمة، وحزب زمزم، المتحالف مع الجماعة الجديدة، وحزب الوسط الإسلامي الذي يمثِّل إخوانًا سابقين، وربما حزب جديد يمثِّل قيادات الجماعة التاريخية ونخبة من الشباب التكنوقراط، ما يزال قيد التشكل (12). 

هذه التطورات، على صعيد الأزمتين الأوليتين؛ الداخلية ومع النظام، تزامنت مع أزمة ثالثة لا تقل أهمية وتأثيرًا على صعيد مستقبل الجماعة في الأردن، وهي الأزمة الإقليمية التي ترتبت، كما ذكرنا سابقًا، على قرار "المعسكر المحافظ" اعتبار الجماعة إرهابية. مثَّل هذا الإجراء ضغطًا أكبر على الجماعة وقياداتها ومئات الآلاف من أعضائها، ووضعها تحت حصار إقليمي ودولي غير مسبوق، وتزامن مع اختلافات كبيرة شديدة داخل الجماعة في التعامل مع المتغيرات الجديدة، في مصر والأردن والخليج واليمن. وظهرت هذه النتائج في الانقسامات الأردنية والمصرية الداخلية، في الجماعة، وفي تمايز التجارب المغربية، في كل من المغرب وتونس، وآخرها إعلان النهضة التونسي التمييز بين الدعوي والسياسي، وتحول الحزب إلى حزب سياسي مدني بمرجعية دينية. عمَّقت هذه التطورات المخاض الداخلي الذي تمر به "جماعات" الإخوان، ورفعت من منسوب حرارة النقاشات والحوارات الداخلية حول المستقبل والخيارات والفرص والأخطار والتحديات، وعزَّزت من صراع الأجيال والقيادات. 

4- نهاية اللعبة وما بعدها

أدركت جماعة الإخوان المسلمين (الأم) -التي لا تزال تحتفظ بالجسم الأكبر من أبناء الجماعة ومؤيديها- أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، وأن النظام لن يتراجع عن حظر الجماعة قانونيًّا، ويعتبر ما تحقَّق انتصارًا ساحقًا، لم يكن ليحدث لولا الأزمة الداخلية للجماعة من جهة، والظروف الإقليمية من جهة أخرى. 

تزامن إدراك الجماعة مع التفكير في خطوات جديدة لمحاولة الخروج من نفق الوضع الراهن، فقامت بإرسال رسائل "حسن نوايا" متعددة، أولها: حول تعديل النظام الداخلي وإسقاط العلاقة مع التنظيم المصري، وثانيها: تضمَّن الرد الناعم تمامًا على إغلاق مقراتها، وثالثها: محاولة التواصل مع قيادات في الدولة من أجل الوصول إلى أجوبة واضحة حول "نوايا الدولة" تجاه حزب جبهة العمل الإسلامي، في حال قرر العودة إلى الانتخابات والمشاركة، فيما إذا كانت هنالك ضمانات على عدم حدوث تزوير ضد مرشحي الحزب، أم أن الدولة ماضية إلى آخر مربع في تكسير الجماعة، ثم الحزب. ورابعها: إجراء الانتخابات التنظيمية لمجلس الشورى، بعد حظر الجماعة، بصورة سرية من دون ضجة، وكانت أقرب إلى "التزكية" الداخلية لأعضاء الشورى الجدد (13). 

الكرة اليوم في ملعب الدولة؛ هل كان ما اتخذته من خطوات هو لإجبار الجماعة على الانتقال إلى صيغة الحزب السياسي المرخص، أم أن الحزب سيواجه إجراءات وسياسات شبيهة بتلك التي حدثت مع الجماعة؟ والسؤال الأكثر أهمية من ذلك هو فيما إذا كانت هذه الإجراءات تهدف -في نهاية اليوم- إلى تكسير الحزب والوصول به إلى انشطارات أخرى، أو حتى الحظر الكامل لأسباب معينة؛ أم أن النظام سيكتفي بالتضييق عليه ومحاصرته وربما التأثير على نتائجه في الانتخابات وحضوره في المواقع المختلفة؟ 

ما هو واضح اليوم أن جماعة الإخوان المسلمين في صيغتها السابقة انتهت، وأن اللعبة السياسية التي كانت قائمة بين الجماعة والدولة، والصراع الدائري (الشد والجذب)، الذي وصفه الباحث الأميركي، ناثان براون، بلعبة "ميكي ماوس" انتهت أيضًا، وأننا أمام مشهد جديد بالكلية عنوانه تعويم التمثيل السياسي للإخوان، عبر أحزاب سياسية متنافسة، بين تلك التي تقع في مربع المعارضة، حزب جبهة العمل الإسلامي، وتلك التي تقع في مربع قريب من الدولة، مثل كلٍّ من زمزم والوسط الإسلامي، فيما يترقب الجميع مآلات انبثاق حزب جديد، لتيار الحكماء، قد يشكِّل علامة فارقة عمَّا سبق، لما يتوافر عليه من خبرة ومصداقية وشعبية لرموزه وقياداته.

_________________________

 محمد أبو رمان - باحث في الجماعات الإسلامية

مراجع

  انظر: "العمل الإسلامي يغلق مقره الرئيس ويوشِّحه بالسواد.. ويقاضي الحكومة"، موقع صحح خبرك الالكتروني، 28 مايو/أيار 2016، الرابط التالي:

http://www.sahehkhabarak.com/NewsDetails.aspx?id=22187&%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D9%8A%D8%BA%D9%84%D9%82-%D9%85%D9%82%D8%B1%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3%D9%8A-%D9%88%D9%8A%D9%88%D8%B4%D8%AD%D9%87-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%A7%D8%AF..%D9%88%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%B6%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D8%A9

انظر: محمد أبو رمان، حسن أبو هنية، الحل الإسلامي في الأردن: الإسلاميون والدولة ورهانات الديمقراطية والأمن، مؤسسة فريدريش أيبرت، ومركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، عمَّان، ط2، 2014، ص71-76.

 إبراهيم غرايبة، جماعة الإخوان المسلمين في الأردن: 1946/1996، مركز الأردن الجديد للدراسات، عمَّان، ط1، 1997، ص85-86.

4 لقاء خاص مع مروان المعشر في منزله بعمَّان.

5 انظر: محمد أبو رمان وحسن أبو هنية، الحل الإسلامي في الأردن، مرجع سابق، ص76-79.

6  المرجع السابق ص79-86.

7  انظر حول تطور علاقة الجماعة بالنظام خلال المرحلة الأولى من الربيع العربي: محمد أبو رمان، خيارات المشاركة السياسية في ديمقراطية مقيدة: حالة الإخوان المسلمين في الأردن، مجلة اتحاد الجامعات العربية للآداب، اتحاد الجامعات العربية، م12، ع2، 2015، ص476-481.

 انظر: السعودية تعلن الإخوان المسلمين إرهابية، وكالة أنباء رويترز، 8 مارس/آذار 2014. الرابط التالي: http://ara.reuters.com/article/topNews/idARACAEA260CW20140308 ، وكذلك: الإمارات تصنِّف الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، على الرابط التالي: http://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKCN0IZ0PK20141115

(9) الأردن: مجلس السياسات يدعم النسور ويجمد وضع «الإخوان»، موقع جريدة الحياة اللندنية، الأحد، 01 ديسمبر/كانون الأول 2013.

 (10)انظر صحيفة الرأي، "إغلاق المركز العام لجمعية الإخوان غير الشرعية"، 13 إبريل/نيسان 2016.

11 انظر: "همام سعيد مراقبًا عامًا لشوى الإخوان"، جريدة الرأي، 1 مايو/أيار 2012.

12   انظر: تيار حكماء الإخوان يعلن عن تأسيس حزب بقيادة عربيات، جريدة الرأي، 5 يونيو/حزيران 2016.

13 انظر على سبيل المثال: "إخوان الاردن تلغي تبعيتها لإخوان مصر، الجزيرة نت، 14 فبراير/شباط 2016، على الرابط التالي: http://www.aljazeera.net/news/arabic/2016/2/13/%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%AF%D9%86-%D8%AA%D9%84%D8%BA%D9%8A-%D8%AA%D8%A8%D8%B9%D9%8A%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A8%D9%85%D8%B5%D8%B1