معركة الموصل: حسابات بغداد في رفض المشاركة العسكرية التركية

ترفض بغداد المشاركة التركية في معركة الموصل لكن لا تستطيع منعها لأنها تفتقد القدرة العسكرية وتخضع للضغوط الأمريكية.
e75740e004ed495db7034449e39a9109_18.jpg
تركيا: تدخل عسكري رغم الرفض العراقي (رويترز)

ازدادت حدة الأزمة بين تركيا والعراق مع انطلاق عمليات تحرير الموصل من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، وتركزت الأزمة حول نشر تركيا لعدد من قواتها في قاعدة بعشيقة القريبة من مدينة الموصل، وإصرارها على لعب دور في المعركة الجارية والترتيبات التي تليها، في مقابل رفض الحكومة العراقية لهذا الدور. تتناول هذه الدراسة أبعاد وخلفيات الأزمة الراهنة واتجاهاتها المحتملة. 

مقدمة 

بدأ إيقاع الخلاف بين الطرفين العراقي والتركي بالتصاعد قبيل بدء معركة الموصل ضد تنظيم الدولة، وعلى خلفية إصرار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على أن يكون لتركيا دور مباشر في التخطيط للمعركة وتنفيذها. كان موقف الحكومة العراقية معارضًا ومستنكرًا، مُصرًا على أن تركيا ليست جزءًا من التحالف الدولي المكلف بمواجهة التنظيم في العراق، وأن تحركاتها العسكرية داخل العراق لم تأتِ بطلب أو بالتنسيق مع الحكومة العراقية -الطرف الوحيد المخول بالاتفاق مع الأطراف الخارجية على تحديد نوع المساعدة التي يمكنهم تقديمها في إطار هذا الصراع-.

لكن قبل المضي بتشريح جوانب الأزمة الراهنة، وهي ليست الأولى في ملف العلاقات بين البلدين، سنبدأ بخلفية عامة عن جذورها، يتبعها قراءة للموقف التركي من معركة الموصل، ومن ثم مواقف الأطراف العراقية، قبل الختام برسمة للسيناريوهات المُحتملة.   

جذور الأزمة 

لم تكن العلاقات العراقية-التركية في أحسن حالاتها قبل الأزمة الراهنة نتيجة لمجموعة من التراكمات التي سبقتها وعمَّقت عدم الثقة بين الجانبين. ربما يمكننا ربط ذلك بتحولين رئيسيين في السياسة الخارجية التركية: 

الأول: هو محاولة الدخول على خط الصراعات والتفاهمات العراقية الداخلية، تحديدًا عبر التقارب مع الأطراف التي تحرص على الاستقلال عن النفوذ الإيراني والسعي إلى لعب دور الراعي الإقليمي لها، ففي السابق ساندت تركيا القائمة العراقية بقيادة إياد علاوي، العلماني من أصول شيعية، وحاليًّا تساند الحزب الإسلامي الذي تعرَّض للإقصاء على يد رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، والجناح السياسي الذي تمثِّله عائلة النجيفي العريقة في الموصل والذي يقوده أسامة النجيفي، زعيم ائتلاف (متحدون) ونائب رئيس الجمهورية، وأخوه أثيل النجيفي الذي شغل منصب محافظ نينوى لدورتين قبل أن تتم إقالته من قبل البرلمان العراقي في مايو/أيار 2015 (1). 

 أمَّا التحول الثاني فيتعلق بالانفتاح المتبادل بين تركيا وحكومة إقليم كردستان بزعامة مسعود البارزاني بعد سنوات طويلة من عدم الثقة والشك المتبادل بين أنقرة والقوى الكردية. جاء هذا الانفتاح على خلفية تبني الحكومة التركية في صيف العام 2009 مشروع المصالحة والحل الديمقراطي للقضية الكردية في تركيا (2)، الذي رافقه فتح قنوات التواصل مع القوى الكردية العراقية، وبشكل خاص الحزب الديمقراطي الكردستاني. 

اندرج هذان التحولان في سياق الاتجاه العام الجديد الذي تبنَّته حكومة العدالة والتنمية نحو الانخراط "البنَّاء" في الشرق الأوسط، وتعميق علاقات تركيا في العالمين العربي والإسلامي كجزء من عملية الافتراق عن التراث الأتاتوركي القائم على التطلع نحو أوروبا. وبدا لبعض الوقت أن الانفتاح على كردستان الذي أدَّى تدريجيًّا إلى صياغة منظومة من العلاقات الاقتصادية والسياسية المتقدمة بين الطرفين قد مثَّل من وجهة نظر الرؤية السياسية لوزير الخارجية التركي الأسبق، أحمد داود أوغلو، نموذجًا لسياسة تصفير المشاكل التي اتضح لاحقًا أنها كانت رؤية رومانسية لا يمكنها الصمود أمام الحقائق الصعبة للمنطقة، خصوصًا إثر أحداث الربيع العربي التي تمت قراءتها من قبل حزب العدالة والتنمية كفرصة لنشر "النموذج التركي" الجديد في المصالحة بين الإسلام والديمقراطية والعلمانية، ولتوسيع النفوذ التركي، تحديدًا عبر الشراكة مع القوى السياسية المشابهة في المنطقة، كالإخوان المسلمين. لكن الانقلاب العسكري في مصر والحرب الأهلية في سوريا أعاقا هذا الطموح بل وزجَّا بتركيا في صراعات المنطقة إلى جانب بعض أطرافها وضد أطراف أخرى، بما استدعاه ذلك من مزيد الانخراط في التنافسات الإقليمية. 

وفي الحقيقة، فإن هذا الانخراط كان قد حدث عراقيًّا وبشكل سابق على أحداث الربيع العربي، وبالتحديد قبيل الانتخابات البرلمانية في العام 2010 حينما دعمت تركيا ائتلاف العراقية، بزعامة إياد علاوي، والذي ضمَّ في داخله الحزب الإسلامي وتكتل النجيفي. تلا ذلك توتر العلاقات مع رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، الذي استفاد من ظروف الانسحاب العسكري الأميركي لتوطيد سلطته الداخلية والانقضاض على بعض منافسيه، تحديدًا من السياسيين السُّنَّة. فنائب رئيس الجمهورية السابق والرئيس السابق للحزب الإسلامي، طارق الهاشمي، لجأ إلى تركيا بعد أن سعى المالكي إلى اعتقاله بتهمة التورط في أعمال إرهابية، وتبع ذلك اتهامات من أردوغان للمالكي بتبني سياسات طائفية وإقصائية، ردَّ عليها المالكي باتهام أردوغان بالتدخل في الشؤون العراقية الداخلية (3). بالنسبة للجانب التركي، فإن الاعتراف بدور لتركيا في تشكيل الوضع العراقي أصبح هاجسًا عبَّرت عنه شكاوى أردوغان من أن الحكومة العراقية لا تمانع في وجود نفوذ واسع للولايات المتحدة وإيران داخل العراق، لكنها تنفر فقط من محاولة لعب تركيا مثل هذا الدور، وقد أوعز ذلك غالبًا لرفض الطرف الشيعي في مقابل رغبة الطرفين السنِّي والكردي بهذا الدور (4). 

وبالفعل، ركزت السياسة التركية في العراق خلال الأعوام الخمسة الأخيرة على بناء شبكة نفوذها في إقليم كردستان والمناطق السنية شمال العراق، تحديدًا محافظة نينوى، وأصبحت تركيا الفاعل الاقتصادي الأول في ذلك الجزء من البلاد، والمنفذ الرئيسي لمشاريع مد أنابيب الطاقة المنفردة لإقليم كردستان التي كان الإقليم يسعى من خلالها إلى تصدير نفطه بدون المرور عبر الأنبوب الوطني العراقي، كما شجعت تركيا محافظ الموصل على التفكير بالاستثمار في حقول النفط في نينوى بمعزل عن الحكومة العراقية (5). ويبدو أن الهدف التركي من إقامة شبكة الشراكات الاقتصادية هذه هو تحويل إقليم كردستان وشمال العراق إلى مجهِّز الطاقة الرئيسي لتركيا بما يقلِّل من اعتمادها على مصادر الطاقة الأخرى، كإيران وروسيا، وإلى منطقة نفوذ سياسي تنافس من خلاله النفوذ السياسي لإيران في وسط وجنوب العراق. 

تركيا وقضية الموصل 

كان سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة بداية لمرحلة جديدة من إعادة ترتيب الأوراق في العراق والمنطقة. بشكل عام، لا يبدو أن تركيا رأت في سيطرة التنظيم على أجزاء واسعة من الأراضي العراقية والسورية التحدي أو الخطر الأكبر عليها (على الأقل قبل أن يبدأ التنظيم بشنِّ هجمات على الأراضي التركية)، بل إنها اعتبرت أن بقاء نظام بشار الأسد في سوريا هو المشكلة الرئيسية. ولكن من الناحية الجيوسياسية، تَركز القلق التركي على إمكانية أن يستفيد حزب العمال الكردستاني، المصنف في أعلى قائمة الإرهاب التركية، من الفراغ الأمني شمال سوريا ومن اتساع نفوذ (وحدات حماية الشعب)، وهي ميليشيا كردية-سورية قريبة من حزب العمال، حصلت على دعم غربي واسع في قتالها ضد تنظيم الدولة. اعتبرت تركيا أن نشاط المقاتلين الكرد المناوئين لها هو التهديد الأكبر لأمنها، خصوصًا مع الانتكاسة في عملية المصالحة مع أكراد تركيا، واتجاه حكومة أردوغان للتحالف مع القوى القومية التركية التي لا تتخذ موقفًا وديًّا تجاه المطالب الكردية بمزيد من الحقوق السياسية والثقافية. التقى هدف تأمين مناطق جنوب تركيا وقطع التواصل بين جيوب المقاتلين الكرد في شمال العراق وسوريا مع الأقاليم الكردية في تركيا، ليقوي الرغبة بأن يكون لتركيا دور أكبر في صياغة مرحلة ما بعد تنظيم الدولة في نينوى. 

دعمت تركيا فصائل سنِّية مسلَّحة تتألَّف من حوالي ألفي مقاتل حملت في البداية اسم "الحشد الوطني" وتبدل اسمها قبيل معركة الموصل إلى "حرس نينوى"، وهي بقيادة المحافظ السابق لنينوى، أثيل النجيفي، الذي تعتبره تركيا حليفها الرئيسي في العراق. كما جرت تفاهمات بين أنقرة وحكومة إقليم كردستان، خصوصًا فيما يتعلق بالحدِّ من نشاط مقاتلي حزب العمال الكردستاني. أثمرت التفاهمات مع هذه الأطراف عن قيام تركيا في ديسمبر/كانون الأول 2015 بإرسال حوالي 500 جندي مع مدرعات ثقيلة إلى قاعدة عسكرية أنشأتها في بعشيقة، شمال شرق الموصل وعلى مسافة حول 30 كم من مركز المدينة، وتولَّت فيها تدريب قوات النجيفي (6). على المستوى الرسمي، قال المسؤولون الأتراك إنهم أرسلوا تلك القوات بعد حصولهم على موافقة الحكومة الاتحادية العراقية؛ الأمر الذي نفاه رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، لاحقًا في بيان أصدره وتضمَّن محضر اجتماعه مع رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، مشيرًا إلى أن الأتراك تصرَّفوا بشكل أحادي وبدون علم حكومته (7). لكن بعض الوقائع يشير إلى أن الموقف العراقي كان في مرحلة من المراحل مرحِّبًا بالوجود العسكري التركي في بعشيقة، كما يظهر في زيارة وزير الدفاع العراقي المقال، خالد العبيدي، للمعسكر(8). 

توقف الطرفان عن التركيز على هذا الموضوع خلال الأشهر الماضية من العام 2016 بسبب انشغال الحكومة العراقية بالمعارك في الأنبار، وتركيز الجانب التركي على الجبهة السورية. لكن مع اقتراب معركة الموصل، تصاعد التأزم في العلاقة بين الطرفين بعد إعلان الرئيس أردوغان أن حكومته عازمة على المشاركة في معركة الموصل للدفاع عن "إخوتنا التركمان" أو استجابة لمطالب القادة السُّنَّة العراقيين، ومنعًا لسيطرة الميليشيات الطائفية على المدينة في إشارة إلى قوات (الحشد الشعبي) الشيعية المدعومة من إيران (9). 

في المقابل، جدَّد رئيس الوزراء العراقي رفضه، واصفًا القوات التركية في العراق بالغازية، ونافيًا أن تكون جزءًا من التحالف الدولي. رفع ذلك من منسوب التوتر بين الطرفين لينتقل إلى مرحلة الهجوم الشخصي حينما خاطب أردوغان العبادي بالقول: "اعرف حدودك أولًا، فأنت لست بمستوى أن تكون محاوري، أنت لست بمستواي.." (10)، ليتبعه رئيس الوزراء العراقي بتغريدة تنطوي على السخرية من استخدام أردوغان لتطبيق الاتصال عبر جهازه الخلوي عند دعوته مؤيديه للتصدي للانقلاب الفاشل الذي وقع شهر يوليو/تموز 2016 في تركيا. 

وفي الحقيقة، فإن تلك التصريحات المتبادلة لم تتسم فقط بالخروج غير المعتاد عن الخطاب الدبلوماسي، لكنها أيضًا عكست تصورًا تركيًّا ينطوي على قدر من الصحة بأن الحكومة العراقية ليست الفاعل الأهم وليست وحدها صاحبة القرار فيما يجري على الأرض، وأن تركيا يجب أن تتحاور بشأن مستقبل العراق -كما مستقبل سوريا- مع اللاعبين الدوليين والإقليميين الرئيسيين باعتبارها هي الأخرى قوة إقليمية كبرى. ووفقًا للمعلِّق السياسي التركي، أوزكان تيكيت، فإن تركيا تعتقد بأن الموقف العراقي يعكس مصالح إيران والولايات المتحدة، ومسعى إيران لإقامة حكومة موالية لها في الموصل بعد تنظيم الدولة، تمامًا كما فعلت في بغداد، وأن الولايات المتحدة تعمل مع إيران سويًّا في تحالف ضمني يصطدم مع المصالح التركية (11). 

ليست هناك أدلة على أن تركيا تنسِّق تحركها في العراق مع الجانب الأميركي، الذي صرَّح مبعوثه الخاص للحرب مع تنظيم الدولة، بريت ماكغورك، بأن أي وجود عسكري أجنبي في العراق يجب أن يجري بالتنسيق مع الحكومة العراقية، وأن رئيس الوزراء العراقي وحده المخوَّل بالإعلان عن انطلاق العمليات العسكرية لتحرير الموصل. 

مع ذلك، تحاول الولايات المتحدة أن تأخذ الهواجس التركية بالاعتبار وتدفع باتجاه حلٍّ تفاوضي بين بغداد وأنقرة، بما يفسِّر قيام وفد برئاسة نائب وزير الخارجية التركي بزيارة بغداد بعد ساعات من إعلان العبادي انطلاق عمليات الموصل، للتفاوض بشأن وجود القوات التركية في شمال العراق، غير أن الزيارة لم تثمر أي تقدم، فقد تلتها تصريحات من الجانبين تؤكد على موقفيهما السابقين (13). وربما تعتقد حكومة أردوغان أن التقارب النسبي مع روسيا والإحجام الأميركي عن اتخاذ موقف صريح جدًّا بشأن التواجد العسكري لأنقرة في شمال العراق، والتردد الإيراني في الدخول بمواجهة صريحة مع تركيا، توفِّر ما يكفي من العناصر لمواصلة هذا الوجود وتوظيفه للضغط من أجل أن يكون لأنقرة كلمة في تقرير مستقبل الموصل. 

مواقف الأطراف العراقية 

لكن الدور التركي يفتقر لغطاء محلي عراقي بالمستوى الذي يضفي عليه الشرعية؛ فقد أصدر العديد من القوى السياسية الكردية، باستثناء الحزب الديمقراطي الكردستاني، بيانًا يستنكر التوغل التركي في الأراضي العراقية (14)، بينما لم يصدر عن رئيس الإقليم، مسعود بارزاني، أي تصريح يضفي المصداقية على قول الحكومة التركية إن تواجدها في بعشيقة يجري بالتنسيق مع البشمركة الكردية، رغم وجود أدلة على أن تنسيقًا ما قد جرى بين الجانبين، على الأقل في المراحل الأولى لانتشار تلك القوات، ومعروف أن ميليشيا النجيفي تلقى دعمًا من البشمركة. وفي تصريح يوحي بأن حكومة إقليم كردستان ليست بوارد دعم الوجود التركي في العراق، أصدر رئيس الإقليم، مسعود بارزاني، بيانًا في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2016، يقول فيه: إن الاستعدادات لعملية الموصل قد اكتملت وإنها تجري بتنسيق كامل مع الحكومة الاتحادية في بغداد (15)؛ وهو ما ينفي وجود تنسيق مقابل مع الجانب التركي نظرًا إلى أن بغداد لا تعتبر تركيا جزءًا من التحالف الدولي. 

ولا يجد البارزاني نفسه في موضع مرتاح مع التحدي الداخلي الذي يواجههه من بقية القوى الكردية التي تطالبه بالاستقالة بعد نهاية ولايته، والتحدي الاقتصادي الناتج عن تراجع أسعار النفط والأزمة الاقتصادية في الإقليم، الأمر الذي جعله يقوم بأول زيارة إلى بغداد منذ عدَّة سنوات، ويبادر بالتقارب مع الحكومة العراقية والوصول إلى اتفاق أوَّلي معها بخصوص الخلافات النفطية والمالية بين أربيل وبغداد (16). وكل ذلك يفرض عليه اتخاذ موقف حذر بخصوص الإصرار التركي المنفرد على الانخراط في معركة الموصل بدون تنسيق واضح مع الجانب الحكومي العراقي والجانب الأميركي. 

أمَّا القوى السنية المتواجدة في بغداد، فلم يصدر عنها موقف موحد تجاه الأزمة، فباستئناء مواقف معارضة للدور التركي عبَّرت عنها كتل صغيرة كتجمع (الحل) النيابي الذي يقوده محمد الكربولي (17)؛ فإن القوى السنِّية الرئيسية كالحزب الإسلامي وائتلاف (متحدون) فضلت التزام الصمت، إعلاميًّا على الأقل، خشية توتير العلاقات مع الحكومة العراقية والظهور بمظهر من يدعم تدخل قوة أجنبية في الشأن العراقي. على العكس، فإن القوى السنية التي ليس لها حضور كثيف في بغداد، بدت أكثر ميلًا إلى قبول الدور التركي كمُوازِن ورادع للدور الإيراني، وهو موقف عبَّر عنه نائب الأمين العام لـ(المشروع العربي) في العراق، ناجح الميزان، الذي اعتبر أن تفعيل الدور التركي في تحرير الموصل يُعد "ضمانة بعدم تكرار الجرائم بحق السنَّة على يد الميليشيات" (18). 

أما القوى الشيعية فقد أجمعت على اتخاذ موقف مناوئ لتركيا وعلى رفض أي دور مباشر لها في معركة الموصل، وتراوحت مواقفها بين تهديد بعض فصائل الحشد الشعبي بمقاومة "الغزو" التركي عسكريًّا (19)، وتنظيم التيار الصدري مظاهرة أمام السفارة التركية في بغداد تندد بالتدخل التركي (20)، وتصريح عمار الحكيم، رئيس التحالف الوطني، بأن لصبر العراقيين تجاه السياسة التركية حدودًا (21). 

الاتجاهات المحتملة للأزمة 

على الرغم من أن معركة الموصل انطلقت يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 2016، إلا أن الجانبين التركي والعراقي لم يتفقا على صيغة واضحة للدور التركي في المعركة، وفي الترتيبات التي تليها. وتعمل الولايات المتحدة على ضمان أن لا تنفجر صراعات جانبية بين الأطراف العديدة، العراقية والأجنبية، تعوق نجاح عملية طرد تنظيم الدولة من الموصل، ولذلك فإنها تمارس ضغطًا سياسيًّا -وأحيانًا عسكريًّا أو لوجستيًّا- لضبط التنافسات التي تحيط بأجواء المعركة. من هنا، يميل الموقف الأميركي إلى الاعتراف بدور لتركيا في ترتيبات مرحلة ما بعد تنظيم الدولة، بل ولربما استثمار هذا الدور للضغط على الجانب الإيراني كي يقبل بتنازلات تتعلق بمستوى انخراط الفصائل المدعومة إيرانيًّا في المعركة، وبالإطار السياسي الذي ستستند عليه ترتيبات ما بعد الصراع العسكري. ويبدو أن الضغط الأميركي نجح بانتزاع قرار من حكومة العبادي بعدم اشتراك (الحشد الشعبي) بعملية اقتحام الموصل والاقتصار بذلك على الجيش والشرطة المحلية (22)، وهو ما أكده قادة فصائل الحشد لاحقًا (23). لكن فصائل الحشد ستشارك على الأرجح في العمليات العسكرية في مناطق عديدة من محافظة نينوى، بما فيها تلعفر التي يشكِّل التركمان أغلبية سكانها والتي ينحدر منها عدد مهم من مقاتلي تنظيم الدولة، وهو الأمر الذي ترفضه الحكومة التركية (24). 

آخر تصريح للرئيس أردوغان عند كتابة هذه السطور يشير إلى أن بلاده اتفقت مع القوات الأميركية على دخول الموصل عند الحاجة (25)، وهو تصريح بحاجة للتدقيق ومعرفة وجهة النظر الأميركية تجاهه، لكنه يؤكد أن شروط إدارة معركة الموصل والمرحلة التي تليها ليست محسومة بعد، وأن الجانب التركي سيواصل الدفع باتجاه مزيد من الانخراط والتأثير على الأحداث. على الأرجح ستكتفي تركيا بالاحتفاظ بقاعدتها العسكرية في بعشيقة ومراقبة تطورات الوضع من هناك والتدخل العملياتي الفعلي على الأرض في حالة شعورها بوجود تهديد جدي لمصالحها من طرف حزب العمال الكردستاني أو من الفصائل الشيعية المسلحة. ستركِّز الحكومة التركية على الكيفية التي سيُملأ بها الفراغ في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة، وتسعى لتوظيف وجودها العسكري شمال العراق لضمان وجود أداة ضاغطة تمنع من إقامة ترتيبات تعتبرها أنقرة مضرة بمصالحها. في المقابل، ستضطر بغداد إلى غضِّ النظر عن الوجود العسكري التركي في بعشيقة، مع الاحتفاظ بموقفها الناقد له. وبالرغم من تنديده المستمر بهذا الوجود، فإن العبادي قد يستفيد منه في الضغط على الفصائل الشيعية لكي يضبط حركتها وسلوكها، ويؤكد السلطة النهائية له كقائد عام للقوات المسلحة، وهو أيضًا ما تريده الولايات المتحدة. لكن قدرة العبادي على ضبط الأداء العسكري ستكون معرَّضة للخطر في حالة حصول مفاجآت في المعركة، كفشل القوات المسلحة في تحقيق تقدم كبير أو حصول كارثة إنسانية في المدينة أو عمليات تطهير إثني أو طائفي، أو وقوع صدام بين الفصائل والميليشيات المختلفة المنخرطة في القتال، وهو أمر يبدو أن تلك الفصائل ورعاتها يحاولون تجنبه في هذه المرحلة. أما التحدي الكبير فيتمثل بإيجاد الترتيبات السياسية المناسبة لمرحلة ما بعد تنظيم الدولة، فتركيا لا ترغب برؤية حكومة محلية مناوئة لمصالحها أو قريبة من إيران، وهي ما زالت تتعامل مع المحافظ السابق لنينوى باعتباره الممثل الرسمي للمحافظة، بينما تعتبره القوى الشيعية وبعض القوى السنية أحد المتسببين بسقوط المدينة في يد تنظيم الدولة. وهنا سيكون على العبادي -مدعومًا على الأغلب من الجانب الأميركي- إيجاد صيغة انتقالية لإدارة المحافظة تأخذ بالاعتبار التوازنات القائمة وصراع المصالح والنفوذ بين القوى المحلية والإقليمية، وهو الأمر الذي سيحدِّد ما إذا كانت نهاية تنظيم الدولة هي بداية لتسوية الصراع الجاري في العراق -وإلى حدٍّ ما سوريا- أم انتقالة لمرحلة أخرى من ذلك الصراع. 

_____________________________________

حارث حسن - باحث في الشؤون السياسية العراقية

نبذة عن الكاتب

مراجع

1-  الجزيرة نت، البرلمان العراقي يقيل محافظ نينوى أثيل النجيفي، مايو/أيار 2015، إضغط هنا.

(2)Muftah. The Kurdish problem and the peace process in Turkey. http://muftah.org/the-kurdish-problem-the-peace-process-in-turkey/#.WAKtl4WcHIU

(3) قناة التغيير، أردوغان يتهم المالكي بدفع العراق نحو نزاع طائفي، إضغط هنا.

(4)Aljazeera. Erdogan: We have a historical responsibility in Iraq.18 October, 2016. http://www.aljazeera.com/news/2016/10/erdogan-historical-responsibility-iraq-161018133432623.html

 (5)Robin Mills. Under the Mountains: Kurdish Oil and Regional Politics. The Oxford Institute for Energy Studies, January 2016. https://www.oxfordenergy.org/wpcms/wp-content/uploads/2016/02/Kurdish-Oil-and-Regional-Politics-WPM-63.pdf

(6)New York Times, Presence of Turkish troops in northern Iraq angers Baghdad, October 2016, http://www.nytimes.com/aponline/2016/10/14/world/middleeast/ap-ml-iraq-turkish-troops.html?_r=0

(7) موقع رئيس الوزراء العراقي، أكتوبر/تشرين الأول 2016، http://www.pmo.iq/press2016/12-10-20163.htm

(8) تركيا: وزير الدفاع العراقي زار قواتنا في بعشيقة، 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2016،

http://www.aljazeera.net/news/international/2016/10/14/

(9)Tha Daily Sabah. Turkey will participate in operation to liberate Mosul, president Erdogan says. October 2016, http://www.dailysabah.com/politics/2016/10/11/turkey-will-participate-in-operation-to-liberate-mosul-president-erdogan-says

(10) Washington Post. Turkey’s president tells Iraqi leader to know his place. 11 October , 2016. https://www.washingtonpost.com/world/middle_east/turkeys-erdogan-tells-iraqi-leader-to-know-his-place/2016/10/11/e789f530-8fa5-11e6-bc00-1a9756d4111b_story.html

(11)Daily Sabah. Turkish military presence in Iraq to continue to ensure demographic stability, PM Y?ld?r?m says. 6 October, 2016. http://www.dailysabah.com/war-on-terror/2016/10/06/turkish-military-presence-in-iraq-to-continue-to-ensure-demographic-stability-pm-yildirim-says

(12)Ryan Brown. US urges calm as Turkey-Iraq tension risk ISIS fight. CNN, 11 October, 2016. http://www.cnn.com/2016/10/11/politics/us-turkey-iraq-tensions-mosul-isis-fight/

 (13) جريدة السفير، وفد تركي في بغداد: أردوغان متمسك بتدخله. 10 أكتوبر/تشرين الأول، 2016. http://m.assafir.com/Article/178/514530 

 (14)Rudaw. MPs from five Kurdish parties call on Turkish troops to leave Iraq. 8 October , 2016. http://rudaw.net/english/kurdistan/081020163?keyword=ISIS

 (15) رئاسة إقليم كردستان، رسالة من رئيس إقليم كردستان إلى الرأي العام، 15  أكتوبر/تشرين الأول 2016. http://www.presidency.krd/arabic/articledisplay.aspx?id=ovMpQsbjHjA=

 (16)Kurdistan 24. President Barzani: an agreement reached with Baghdad to resolve all issues.29 September 2016. http://www.kurdistan24.net/en/news/110c5403-6263-4580-8a59-30ca6c0ef10a/President-Barzani--Agreement-reached-with-Baghdad-to-resolve-all-issues-

(17) النشرة. الكربولي: تصريحات أردوغان وحَّدت العراقيين برفضهم التدخل في شؤونهم، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2016. إضغط هنا.

(18) العربية، قيادي عراقي: تركيا "ضمانة" بعدم تكرار الجرائم ضد السنَّة في الموصل، 19 أكتوبر/تشرين الأول 2016، إضغط هنا.

(19) أورينت، الحشد الشعبي طالَبَ بقصف القوات التركية في الموصل وكتلة المالكي تهدِّد بالروس، 12 يوليو/تموز 2016. http://orient-news.net/ar/news_show/96320/0/الحشد-الشعبي-يطالب-بقصف-القوات-التركية-في-الموصل-وكتلة-المالكي-تهدد-بالروس

 (20) راديو سوا، تلبية لدعوة الصدر: مظاهرة حاشدة أمام السفارة التركية في بغداد، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2016، http://www.radiosawa.com/a/baghdad-turkish-embassy-protests/330391.htm

 (21) وكالة الفرات نيوز، رد رئيس التحالف الوطني على تصريحات المسؤولين الأتراك، 9 أكتوبر/تشرين الأول 2016، http://alforatnews.com/modules/news/article.php?storyid=129223

(22) اليوم السابع، الجيش العراقي سيدخل الموصل وليس الحشد والبشمركة، 14 أكتوبر/تشرين الأول 2016، http://www.youm7.com/story/2016/10/14/العبادى-الجيش-العراقى-سيدخل-مدينة-الموصل-وليس-الحشد-والبيشمركة-/2922018

(23) المؤتمر الصحفي للسيد مقتدى الصدر وقادة الحشد الشعبي، 18 أكتوبر/تشرين الأول 2016، https://m.youtube.com/watch?v=mm-m0zcC5Ds

 (24)Fahim Tastekin..Turkey’s brash behavior riles Iraq. Almonitor,,7 October, 2016.  http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2016/10/turkey-iraq-mosul-isis-operation-tigris.html

(25)  الحرة، أردوغان: اتفقنا مع الولايات المتحدة على دخول الموصل متى أردنا،19  أكتوبر/تشرين الأول2016 ،

http://www.alhurra.com/a/erdogan-iraq-musul-isis/330550.html