جدل لغة التدريس بالمغرب: حين يؤدي المجتمع ثمن التردد السياسي!

يحاول التقرير فهم الصراع الجاري بالمغرب بين التيارات السياسية الحزبية وغير الحزبية فيما بينها فيما يتعلق بلغة التدريس، ويحاول كل طرف تسجيل مكاسب سياسية لصالحه، ويعيش المجتمع المغربي على وقع صراع بين لغات رسمية دستورية، وهي العربية والأمازيغية، ولغة غير دستورية، هي الفرنسية.
06268bfd0817408a880cde319fcf5318_18.jpg
أحد الفصول المدرسية بالرباط بالمغرب (الجزيرة)

يشهد المغرب في الآونة الأخيرة نقاشًا محتدمًا حول لغة تدريس العلوم، أعاد الى الواجهة موضوع "فرنسة" أو "تعريب" التعليم في المدرسة العمومية؛ ما تسبب في خلاف فكري وسياسي عميق بين مختلف التيارات، حيث ما زال المغاربة منقسمين فيما بينهم حول لغة التدريس في المرحلة الإعدادية والثانوية، بعد أكثر من ثلاثين سنة على اعتماد التعريب.

بعد أن اكتشف حزب العدالة والتنمية، الذي يقود الحكومة، أثناء مناقشة القانون الإطار 51.17، المتعلق بإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، في البرلمان، وجود تدخل غير دستوري، وذلك من خلال مخالفة مضمون مشروع القانون الإطار في المادتين 2 و31 لما تضمنته الرؤية الاستراتيجية للمجلس الأعلى للتعليم في الشق المرتبط بالهندسة اللغوية لصالح تدريس بعض المواد العلمية والتقنية بالفرنسية. اندلعت أزمة سياسية جديدة داخل الأغلبية الحكومية أدت الى اعتراض الحزب وخروجه عن التوافق الذي تم بين جميع الأحزاب السياسية الممثلة داخل البرلمان في آخر لحظة، وخاصة بعد تدخل كل من رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، الذي اعتبر نفسه معنيًّا بهذا النقاش نظرًا لأن الملك، محمد السادس، كان قد كلفه بإعداد القانون الإطار في أواخر ولايته الحكومية؛ كما تدخل أيضًا ممثل حزب الاستقلال على الخط والذي كان يُتهم بتخريب المدرسة المغربية، والذي طرح إمكانية إسقاط الحكومة؛ الأمر الذي جعل كلا الحزبين في وضع سياسي محرج بسبب ازدواجية وتقلب مواقفهما.

في الوقت الذي يعتبر فيه المدافعون عن اللغة العربية أن اعتماد "لغة الضاد" من شأنه أن يؤدي إلى الاستقلالية الثقافية عن المستعمر الفرنسي، مسنودة في ذلك بالشرعية التاريخية والدينية والسياسية، تؤكد أطراف أخرى أن مشروع التعريب ليس أكثر من مجرد خطاب أيديولوجي غير واقعي وأن العربية اليوم ليست لغة للعلوم، كما أن الخبراء ليسوا معنيين بالصراع السياسي والأيديولوجي بقدر ما يهتمون بالإنتاجية والبراغماتية؛ الأمر الذي جعلنا أمام صراع مصالح بين لغات تحتل مواقع متباينة ولا تحظى بنفس القيمة الرمزية ولا تمتلك نفس الوسائل والإمكانات، وهو ما نتج عنه نوع من التشوه اللغوي الذي أصبح يطبع الشخصية المغربية مما يستدعي ضرورة حسم الدولة في الاختيار اللغوي بدون تردد وبشكل واضح ونهائي.

بناء على ما تم ذكره، يناقش هذا التقرير كيف تُوظَّف المسألة اللغوية بالمغرب في الصراع السياسي؛ ومواقف مختلف التيارات من مسألة الصراع اللغوي وكيف تتعامل معها، ومصلحة كل طرف في اعتماد لغة دون أخرى وانعكاسات كل ذلك على المجتمع المغربي.

انسداد جديد يهدد التعايش الحكومي

اندلعت أزمة سياسية جديدة داخل الأغلبية الحكومية بالمغرب، بسبب موقف حزب العدالة والتنمية، الذي يقود الحكومة من القانون الإطار 51.17 المتعلق بإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، منذ إحالته على لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب، بتاريخ 12 سبتمبر/أيلول 2018، حيث لم تستطع الغرفة الأولى للبرلمان الوصول إلى توافق نهائي بشأنه. استطاع رؤساء الفرق في اجتماعاتهم مع رئيس مجلس النواب حسم الخلاف بشأن أغلب مواد مشروع القانون الإطار باستثناء المادة 31 المتعلقة بالهندسة اللغوية، والتي نصت على "إعمال مبدأ التناوب اللغوي، من خلال تدريس بعض المواد، ولاسيما العلمية والتقنية منها، أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد بلغة أو لغات أجنبية" في إشارة للغة الفرنسية، والتي اعترض عليها الفريق البرلماني لحزب العدالة والتنمية، سيما بعد دعوة رئيس الحكومة السابق والأمين العام السابق للحزب، نواب حزبه للتصويت ضد القانون، ولو أدى ذلك إلى إسقاط الحكومة التي يقودها سعد الدين العثماني، معتبرًا أن التصويت لصالح القانون الإطار "خيانة" للدستور وللمبادئ التي قام عليها الحزب(1).

خلقت الخرجة الإعلامية لبنكيران نوعًا من الارتباك لدى نواب حزب العدالة والتنمية؛ حيث انسحب رئيس الفريق "القريب من بنكيران"، من اجتماع ندوة رؤساء الفرق البرلمانية، وذلك إلى حين حسم الخلافات داخل فريق حزبه بخصوص لغة تدريس المواد العلمية والتقنية وإعادة النظر في التعديلات التي تم تقديمها. 

هذه الخطوة اعتُبرت من طرف وزير التربية الوطنية والتعليم العالي، سعيد أمزازي، وهو وزير تكنوقراطي غير محسوب على أي اتجاه حزبي، بمنزلة عرقلة نواب العدالة والتنمية للتصويت على قانون استراتيجي جاءت به الحكومة وأحالته إلى البرلمان، وذلك بعد انقلابهم على ما تم الاتفاق عليه (2).

سيكون لمواقف فريق حزب العدالة والتنمية من القانون الإطار انعكاسات سلبية على الائتلاف الحكومي؛ حيث إن التعايش السياسي بين مكونات التحالف الحكومي لم يعد له معنى؛ في ظل عدم وضوح المواقف واصطفافات الأحزاب المكونة له من خلال تصريف حسابات أيديولوجية وانتخابية بغية التغطية على الصراع الداخلي للتحالف والأزمة الصامتة داخل الحزب الذي يقود الحكومة منذ الانسداد الحكومي الأول (البلوكاج الأول)؛ حيث أصبح الفريق البرلماني للحزب (الذي يرأسه إدريس الأزمي المحسوب على تيار بنكيران الرافض لـ"البلوكاج" الذي مارسه رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار بتحالف مع أحزاب أخرى إبان تشكيل بنكيران للحكومة، علاوة عن كونه منافسَ سعد الدين العثماني على قيادة الأمانة العامة خلال مؤتمر الحزب الثامن) يمارس نوعًا من المعارضة لا من حيث الخطاب والمواقف أو التصويت على القوانين داخل الأغلبية، هذه الخلافات تسببت في تعطيل التصويت على مشروع قانون التربية والتكوين، وعرقلة مجموعة من النصوص التشريعية وهدر الزمن التشريعي.

بعد فشل الاجتماعات التي عقدها رئيس مجلس النواب مع رؤساء الفرق، بادر رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، إلى عقد اجتماع مع قادة الأغلبية من أجل محاولة إقناعهم بضرورة التعجيل بالتصويت على مشروع القانون الإطار، حتى لو صوَّت الفريق النيابي لحزب العدالة والتنمية بالامتناع على المادة 31 التي تهم لغة التدريس. وُوجِه هذ المقترح بالرفض من قبل عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، وإدريس لشكر، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (3)؛ مما أعاد الخلاف إلى نقطة الصفر، وتسبب في عرقلة التصويت على مشروع القانون الإطار التي يتحمل مسؤوليتها حزب العدالة والتنمية بدعوى بحث الأغلبية عن التوافق والتصويت بالإجماع.

هذا الأمر طرح إمكانية سحب الثقة من الحكومة من خلال تفعيل الفصل 103 من الدستور الذي دعا اليه حزب الاستقلال (وهو من أحزاب المعارضة)، من خلال ربط طلب الموافقة على مشروع القانون الإطار، لدى مجلس النواب بتصويت منح الثقة للحكومة حتى تواصل عملها، "جاء المقترح نتيجة التداعيات الخطيرة التي أفرزها مسار مناقشة هذا المشروع داخل مجلس النواب من طرف مكونات الأغلبية الحكومية والأزمة التشريعية غير المسبوقة التي تسببت فيها، واعتبارًا للتصدع المزمن الذي ما فتئت تشهده مكونات التحالف في سياق التحضير للظفر بالانتخابات البرلمانية المقبلة، بتداعياته المتفاقمة على تماسك الأداء الحكومي والعمل التشريعي، وما لذلك من عواقب في إهدار منسوب الثقة لدى المواطن، وتعطيل أوراش الإصلاح الملحَّة ونظرًا للتداعيات الخطيرة لهذه الأزمة السياسية على مصداقية المؤسسات الدستورية"(4).

كما حاول حزب الاستقلال الضغط على الحكومة واستثمارًا في هشاشة التحالف الحكومي الذي يتقاسم مع الحزب القائد له المرجعية المحافظة وينافسه عليها، واستثمارًا للأزمة الحالية التي يعيشها حزب العدالة والتنمية وربحًا للمزيد من النقاط مما قد يعيد التسابق المبكر من أجل الفوز بانتخابات 2021 إلى نقطة البداية بعدما كانت محصورة بين أحزاب العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار. 

فرغم التوصل إلى اتفاق بين فرق الأغلبية والمعارضة، يلاحظ أن هناك متدخلين آخرين حزبيين أو غير حزبيين يحاولون توريط العدالة والتنمية في "فرنسة" التعليم أو إحراجه أمام قواعده والمتعاطفين معه بوضع حد لحلم التعريب بهدف إضعاف الحزب وبغية تصفية حسابات سياسية قديمة قد تنتهي بإسقاط الحكومة أو اللجوء إلى تعديل حكومي موسع قد يفرز تغيرًا في ملامح الائتلاف الحكومي. فهذا الائتلاف أصبح مجرد تعايش سياسي ظرفي هش، وهدف هؤلاء المتدخلين هو تجاوز مرحلة ما بعد بنكيران أو ما عُرف إعلاميًّا بعبارة "البلوكاج الحكومي" الأول.

ورطة العدالة والتنمية وإحراج الاستقلال

ليس نقاش لغات تدريس المواد العلمية بالجديد فقد سبق لوزير التربية الوطنية في الحكومة السابقة، رشيد بلمختار، أن وجَّه مذكرة وزارية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين من أجل الشروع في تدريس المواد العلمية والتقنية باللغة الفرنسية وإحداث مسلك البكالوريا الدولية التي تعتمد كذلك اللغة الفرنسية، تزامنًا مع النقاش الذي كان يجري داخل المجلس الأعلى للتربية والتكوين، الذي يترأسه المستشار الملكي، عمر عزيمان، حول لغة التدريس. وقد عرف المجلس انقسامًا شبيهًا بالوضع الحالي أفضى في الأخير إلى التوافق حول إمكانية إعمال مبدأ "التناوب اللغوي"، الذي شرحته الرؤية الاستراتيجية بأنه "إمكانية تدريس بعض المجزوءات أو المضامين باللغات الأجنبية"، والمقصود بها اللغة الفرنسية، وفي مايو/أيار 2015، ترأَّس الملك، محمد السادس، حفل تقديم الرؤية، وسلمها بدوره إلى رئيس الحكومة السابق من أجل تحويلها إلى قانون إطار استغرق إعداده ثلاث سنوات؛ حيث تمت المصادقة عليه في المجلس الوزاري، في أغسطس/آب 2018، وأحيل المشروع إلى مجلس النواب، في سبتمبر/أيلول 2018، حيث تبين أن هناك اختلافًا بين محتوى الرؤية الاستراتيجية والمادة 31 من مشروع القانون؛ ذلك أنه بينما تسمح الرؤية باستعمال اللغات الأجنبية في تدريس "بعض المضامين أو المجزوءات من بعض المواد"، جاءت المادة 31 من مشروع القانون بمقتضيات مختلفة، حيث نصت على إمكانية "تدريس بعض المواد، لاسيما العلمية والتقنية منها، أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد الأخرى، بلغة أو لغات أجنبية". وهكذا ظهر أن المادة 31 تناقض ما ورد في الرؤية الاستراتيجية، وهو ما دفع رئيس الحكومة السابق إلى الانتفاض، لأن "تلاعبًا" ما قد حصل فيما أخلَّ بالتوافق الذي حصل بين الحكومة والمجلس الأعلى للتعليم (5).

والواقع أن الخلاف لم يسجَّل فقط بين صيغة الرؤية الاستراتيجية وصيغة مشروع القانون الإطار الذي تمت المصادقة عليه في المجلس الوزاري، بل تم تسجيله بين صيغة مشروع القانون الإطار الذي صاغته الحكومة والمشروع الذي خرج عن المجلس الوزاري؛ إذ تغير وضع اللغة العربية كلغة للتدريس من "لغة التدريس الأساس" إلى "اعتماد اللغة العربية لغة أساسية للتدريس"، كما شمل التغيير أيضًا لغة التدريس؛ إذ زال التدرج وغابت الآجال، وتم تجنب الإشارة إلى اللغة الإنجليزية.

أصبح السؤال مطروحًا عن الجهة المسؤولة عن تغيير مضامين فقرة استراتيجية تهم لغة التدريس بين رئيسين للحكومة من نفس الحزب، وعن المسار الذي قطعه مشروع القانون الإطار الذي صاغته رئاسة الحكومة قبل إحالته إلى المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي من أجل إبداء الرأي الاستشاري فيه على وجه الاستعجال. ومعلوم أن هذا المجلس لم يُبدِ رأيه إلا بعد مرور أربعة أشهر، أي بعد الانتخابات التشريعية التي نُظِّمت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2016 والتي عرفت "البلوكاج" وتميزت بفراغ سياسي امتد لعدة أشهر (6).

يصعب التكهن بمآلات هذا التدافع نظرًا لتركيبة المجلس الأعلى وميزان القوى داخله؛ حيث يبدو أن النقاشات التي تدور في المجلس الأعلى للتعليم ليست هي القرارات التي تصدر عنه كما يستنتج تهميش التصورات والاختيارات السياسية والأبعاد الاستراتيجية في تدبير الملف لصالح المنطق التقني العملي الذي يربط لغة التدريس (الفرنسية) بالاقتصاد وسوق الشغل والانفتاح على الخارج سيما دول إفريقيا الفرانكوفونية.

لكن ما يمكن استنتاجه هو سعي بعض الأطراف من خلال القانون الإطار بمادته 31 لتوريط حزب العدالة والتنمية في إنهاء مسار التعريب وتكريس سياسة الفرنسة إما من خلال القبول به بمبرر التوافق وتفاديًا للانسداد أو الإذعان والتصويت لصالحه، وبالتالي تنزيله لأرض الواقع ووضعه في موقف إحراج سياسي أمام المناضلين والمتعاطفين، شبيه بما حدث لحزب الاستقلال الذي كان يدافع عن تدريس المواد العلمية والتقنية باللغة العربية، إلا أن توالي المفاوضات دفعه إلى تغيير موقفه التاريخي، وقبل بتدريسها باللغة الفرنسية التي كان يعتبرها جريمة في حق المدرسة المغربية؛ حيث إن حزب الاستقلال كان يُتهم بأنه خرب المدرسة المغربية منذ أكثر من ثلاثين سنة، عندما قام بتعريب التعليم لأبناء الشعب في الوقت الذي كان يسجل قياديوه أبناءهم في القطاع الخاص ومدارس البعثات، وبالتالي فالتغيير السريع في الموقف من مسألة اللغة وضع حزب الاستقلال في موقف محرج أمام الرأي العام قد يُعتبر اعترافًا ضمنيًّا بمسؤوليته التاريخية في تخريب المدرسة المغربية الأمر الذي سيضر لا محالة بصورة الحزب وسمعته في الاستحقاقات المقبلة.

نحن إذن أمام أربعة مواقف:

• أولًا: موقف العدالة والتنمية الذي ما زال متشبثًا بما جاء في الرؤية الاستراتيجية التي كانت أقل ضبابية مما جاء به القانون الإطار بالرغم من أنها لم تحسم بشكل نهائي في الاختيار اللغوي للدولة.

• ثانيًا: موقف حزب الاستقلال الغامض والمتقلب.

• ثالثًا: موقف بقية الأحزاب التي أذعنت لخيار فرنسة التعليم وتمرير مشروع القانون كما هو.

• وأخيرًا، موقف المواطن المغربي الذي ليس بمقدوره التعبير عن اختياره ولا أن يقرر اللغة التي سيدرس بها أبناؤه.

وسط كل ذلك نجد أنفسنا اليوم أمام صراع مصالح غير متكافئ بين لغات تحتل مواقع متباينة ولا تحظى بنفس الشرعية والقيمة الرمزية ولا تمتلك نفس الوسائل والإمكانيات.

صراع مصالح بين لغات وطنية ولغة فوق دستورية 

تتصارعُ التيارات السياسية المغربية الحزبية وغير الحزبية فيما بينها فيما يتعلق بلغة التدريس، بحيث يحاول كل طرف أن يسجل المكاسب السياسية لصالحه على حساب الآخر؛ حيث يعيش المجتمع المغربي على وقع "صراع لغوي" بين لغات رسمية دستورية، وهي العربية والأمازيغية، ولغة "رسمية" غير دستورية، وهي الفرنسية إضافة إلى العامية المحكية.

هذا الصراع يتخذ في أحيان كثيرة عدة خلفيات، تبدأ بما هو اجتماعي وتمر بما هو لغوي وثقافي، وتنتهي بما هو سياسي واقتصادي. بيد أن الدستور المغربي ينص في فصله الخامس بشكل صريح على أن "العربية هي اللغة الرسمية للدولة"، و"الأمازيغية تعد أيضًا لغة رسمية للدولة" وأن الدولة "تسهر على انسجام السياسة اللغوية". ومع ذلك، فإن الوضعية فوق الدستورية التي تحتلها اللغة الفرنسية بحيث تهيمن على عدد من برامج الإعلام والمراسلات والتعاملات الإدارية والشعب الجامعية... علاوة على المماطلة التي تعامل بها الأمازيغية والتهديد المستمر للعربية واستغلالها في الصراع السياسي والأيديولوجي ينتج عنه تصادمات بين تيارات اللغات العربية والأمازيغية والفرنسية والعامية؛ إذ يسعى كل طرف إلى إعلاء مكانة اللغة التي يناصرها، إما عبر الجمعيات أو مقترحات القوانين أو الشللية بمختلف مستوياتها الثقافية الاقتصادية والسياسية.

وتوضيحًا لتجليات هذا الصراع الثقافي في مظهره والسياسي في جوهره نلاحظ بخصوص:

  • العربية والأمازيغية: رغم أن الدستور اعتبرهما لغتين رسميتين للبلاد، إلا أن هناك اتجاهًا شبه عام يعطي الأولوية أو الغلبة للعربية مقابل الأمازيغية، لعدة اعتبارات يتعلق أحدها بالمرجعية الفكرية أو الأيديولوجية لبعض ا?حزاب ذات المرجعية الإسلامية التي تقدس اللغة العربية وتؤمن بأفضليتها خاصة حزبي ا?ستقلال والعدالة والتنمية، علاوة على بعض أحزاب اليسار التي تؤمن بالقومية العربية. العامل الثاني مرتبط بكون الطبقة السياسية المغربية ما زالت مرتهنة للتعامل الرسمي مع اللغة ا?مازيغية الذي كان قبل ترسيمها في الدستور، واليوم تتهرب وتماطل في إخراج القانون التنظيمي المؤطر لها.

  • العامية والعربية: العاميات هي الأكثر استعمالًا في المغرب، لأن الدولة غير جادة في وضع العربية في السياق الذي يجعل منها لغة الحياة العامة، ولا حتى في المدرسة والإعلام. فمن يطالبون بتعويض العربية بالعامية، هم عامة من يملكون شركات الإعلانات ويحتكرون سوق الإشهار بالمغرب، على الرغم من أن الأمر غير مسموح به من الناحية القانونية، إلى جانب كتابة العربية بالحروف اللاتينية. هذه الوضعية يتحمل مسؤوليتها بشكل أكبر أصحاب النفوذ الذين يحتقرون العربية، ولا يعتبرونها لغة حية ويتكلمون فقط الفرنسية في حياتهم اليومية وحتى مع أطفالهم.

  • العربية والفرنسية: هناك صراع محتدم بين العربية والفرنسية، فأنصار العربية يعتبرون أنها وقعت ضحية لسطوة لغة المستعمر، التي تسيطر على مفاصل الحياة العامة إعلاميًّا واقتصاديًّا وتعليميًّا وإداريًّا، بينما أنصار الفرنسية يضغطون بشتى الوسائل من أجل الرفع من شأن الفرنسية لدوافع ثقافية وسياسية واقتصادية(7)؛ بدعوى إصلاح التعليم وتوفير فرص الشغل، في تحالف بين التيار الفرانكفوني الذي يمثل المصالح الفرنسية، وفئة من (التكنوقراط) الذين يوظفون خبرتهم الميدانية في تزكية تلك المخططات والترويج لها ثقافيًّا وإعلاميًّا.

يعمل الطرف الأول على حماية مكتسباته الاقتصادية والسياسية الموروثة من العهد الاستعماري والتي أصبحت تهددها التيارات الإسلامية الصاعدة، أما الطرف الثاني فهو مستعد دائمًا لخدمة أصحاب المصالح والنفوذ دون أي حس وطني.

لذلك، فإن اعتماد اللغة الفرنسية في التدريس ليس مجرد اختيار تربوي مرحلي بل إنه مشروع استثماري فرنسي بالأساس في اللغة والثقافة قد تضاهي عوائده المالية ما تحققه الصادرات الصناعية الفرنسية، وهذا يفسر حضور اللغة كعنصر أساسي في كل الاتفاقيات التي عقدتها فرنسا مع مستعمراتها السابقة (والتي اعتمدت أغلبها اللغة الفرنسية كلغة رسمية أولى بعد الاستقلال)، ضمن ما يسمى بـ"التبادل الثقافي" على اعتبار أن كل متكلم للفرنسية هو مستهلك محتمل للمنتوجات الفرنسية الثقافية وغير الثقافية، ويُقدَّر متكلمو اللغة الفرنسية بما يفوق 200 مليون نسمة(8). على أن اللغة الفرنسية ليست مشكلًا في حد ذاتها بالمغرب بل تعتبر مشكلًا من خلال السلطة والقوة المبهمة وغير المبررة التي تتمتع بها على حساب اللغات الوطنية، ما يجعل منها أشبه بصفقة تجارية فرنسية تتم بالمغرب بعيدًا عن قوانين السوق وفوق أي منطق دستوري أو سياسي.

إن ما يروج اليوم، حول فرنسة مناهج التعليم بالمغرب، لا يخرج عن سياق إعادة إنتاج المنظومة الاستعمارية ثقافيًّا ولغويًّا واقتصاديًّا، رغم أن الاتجاه العام لدى المغاربة هو الانتقال من الفرنسية، بصفتها إرثًا استعماريًّا ومن مظاهر التمييز الطبقي، إلى الإنجليزية، لغة العولمة والعلم والتكنولوجيا بهدف مواكبة العصر. 

بين هذا وذاك، يبقى الخاسر الأول والأخير هو التلميذ والمجتمع المغربي برمته، والذي أصبح يعاني من تشوه لغوي مرعب مردُّه فشل منظومة التعليم؛ حيث إن اللسان المغربي لا يكاد يثبت على الحديث بلغة واحدة، حتى أضحى كلام الفرد مزيجًا من العربية والأمازيغية والفرنسية والإسبانية والإنجليزية بالإضافة للعاميات المحلية مع نظيراتها المشرقية، وأصبح المغاربة لا يمتلكون سيادتهم اللغوية التي تمكِّنهم من الحسم بشكل نهائي في الاختيارات الاستراتيجية المتعلقة بالهوية وبلغة التدريس.

التشوه اللغوي وضرورة الحسم 

يعتبر التردد والالتباس من السمات التي تطبع سياسة الدولة المغربية تجاه الوضع اللغوي، وهي سياسة مرتبكة غير حاسمة وغير واضحة المعالم، ذلك ما ترجمته مواقف حزبي الاستقلال والعدالة والتنمية في التعامل مع الفصول المتعلقة بلغة تدريس المواد العلمية والتقنية، فكلاهما أظهر تخبطًا واضحًا في موقفه؛ في البداية أيَّدا المادتين 2 و31، اللتين تهدفان عمليًّا إلى التخلي عن العربية لفائدة الفرنسية قبل أن يتراجعا تحت ضغط قواعدهما (خاصة تأثير حركة التوحيد والإصلاح على الفريق البرلماني لحزب العدالة والتنمية) وثقل المصلحة والأيديولوجية التي تؤطِّر ممارستهما السياسية، بمجرد ما تحولت المسألة إلى قضية رأي عام.

وهذا أشبه بالنفاق السياسي والاجتماعي الذي تمارسه بعض مكونات الدولة نفسها؛ فلطالما رفعت شعارات مخالفة لرغباتها الحقيقة؛ وهذا هو سبب الارتباك والغموض اللغوي؛ حيث إنها تفضل اللغة الفرنسية وتعتمدها الطبقة المتنفذة في الحفاظ على وسائل الترقي الاجتماعي لأبنائها وفي نفس الوقت ترفع شعارات الإسلام والعربية والأمازيغية أمام الطبقات المهمشة والفقيرة مثلما رفعت شعارات اللغتين الرسميتين، العربية والأمازيغية، إبان فترة الحراك في الشارع، ونشهد اليوم عودة اللغة الفرنسية على مستوى تدريس العلوم بعد أكثر من ثلاثين سنة من التعريب.

إن أحد أهم الأسئلة التي على الدولة الإجابة عنها اليوم، هو: هل نريد الخروج من واقع التشوه اللغوي وإفساح المجال للمتلاعبين بالهوية أم أننا نريد أن نظل حبيسي لحظة التردد والشرود وعدم الحسم، استجابة للضغوط وجبرًا للخواطر الذي يؤدي ثمنه اليوم المجتمع المغربي وستدفع ثمنه الأجيال القادمة بعيدًا عن حسابات الأحزاب السياسية غير المؤهلة أصلًا للبت في هذه القضايا المصيرية، والتي تعاني من قصر في النظر ولا ترى أبعد من المكاسب الانتخابية الموسمية؟ فإن موقف الدولة يفترض أن يكون استراتيجيًّا ونابعًا من إرادة الأمة المغربية العريقة ويستجيب لتطلعات الشعب سعيًا لاستعادة المبادرة الحضارية والدخول في مضمار الأمم الصاعدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مصطفى جالي، باحث مغربي.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1)   محمد اليوبي: "بلوكاج" التشريع بالبرلمان.. هل ستسقط الحكومة بسبب التعليم؟ موقع الأخبار بريس، 8 أبريل/نيسان 2019، تاريخ الدخول 10 أبريل/نيسان 2019:

https://bit.ly/2UTmpV5

(2)  وتقترح الصياغة التي توصل إليها رؤساء الفرق البرلمانية تفعيل مبدأ التناوب اللغوي وتدريس المواد العلمية باللغات الأجنبية، وأساسًا الفرنسية، وقبلت في مرحلة من التوافق بالإبقاء على مبدأ مجانية التعليم وحذف المقتضيات التي تنص على تمويل الأسر الميسورة للتعليم تفاعلًا مع مقترح فريق العدالة والتنمية، بالإضافة إلى قبول مقترح الفريق الاستقلالي القاضي بحذف لفظ "التعاقد"، لكن اعتراض حركة التوحيد والإصلاح وتأثيرها، ثم عبد الإله بنكيران، خلط أوراق الجميع، ودفع قيادة العدالة والتنمية إلى التريث، والمطالبة بالاحتفاظ بالصيغة التي توافق ما جاء في الرؤية الاستراتيجية أول مرة.

(3)  الشرقي لحرش: قانون التعليم.. القصة الكاملة لـ"بلوكاج" لغة التدريس، موقع تيل كيل عربي، 6 أبريل/نيسان 2019، تاريخ الدخول 9 أبريل/نيسان 2019:

https://bit.ly/2VnCy4z

(4)  بلاغ اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، الموقع الرسمي لحزب الاستقلال، 3 أبريل/نيسان 2019، تاريخ الدخول 9 أبريل/نيسان 2019:

https://bit.ly/2Vf96xJ

(5)  إسماعيل حمودي: التضليل السياسي، 5 أبريل/نيسان 2019، تاريخ الدخول 10 أبريل/نيسان 2019:

http://www.alyaoum24.com/1233179.htm

(6)  بلال التليدي: هل توضع حكومة العدالة والتنمية في حرج إنهاء مسار التعريب؟، موقع عربي 21، 14 سبتمبر/أيلول 2018، تاريخ الدخول 9 أبريل/نيسان 2019:

https://bit.ly/2Po7oV6

(7)  حسن الأشرف، الهوية اللغوية... صراعات داخل المجتمع المغربي، العربي الجديد، 17 يناير/كانون الثاني 2018، تاريخ الدخول 9 أبريل/نيسان 2019:

https://bit.ly/2ZtvimK

(8) إدريس جنداري، التناوب اللغوي وإعادة إنتاج النسق الفرنكفوني، موقع لكم، 9 أبريل/نيسان 2019، تاريخ الدخول 9 أبريل/نيسان 2019:

https://lakome2.com/opinion/111481