هل يمكن للصناديق السيادية الخليجية أن تعوِّض موارد النفط؟

تحاول هذه الورقة دراسة إمكانية تعويض عائدات الصناديق السيادية في دول الخليج لعائدات الموارد النفطية في الموازنات العامة لهذه الدول، مع تزايد الحديث عن خطط لإصلاح وإعادة هيكلة هذه الصناديق وتطويرها في أفق تحويلها إلى مصدر رئيس للدخل في عصر ما بعد النفط.
10ef488662fb42ca87a2e82f52f058dc_18.jpg
(الجزيرة)

تستعرض هذه الورقة الوضع الراهن للصناديق السيادية لدول مجلس التعاون الخليجي في ظل تفاقم عجز الموازنات العامة في جل دول المنطقة، مع تهاوي أسعار النفط في الأسواق العالمية خلال السنتين الماضيتين. كما تبحث دور تلك الصناديق في تعويض جزء ذلك العجز، وحماية دول الخليج من تقلبات أسعار النفط. وتطرح إلى جانب ذلك سؤال الإصلاحات المقترحة لهذه الصناديق، على ضوء المبادرة السعودية لإنشاء أكبر صندوق سيادي في العالم يمكنه تعويض إيرادات النفط، ضمن خطة طموحة لتغيير هيكلة اقتصادها، وإمكانية توجه بقية دول الخليج في نفس المسار. وتخلص الورقة إلى نتيجة مفادها وجود إمكانية لتعويض عائدات الصناديق السيادية لعائدات الموارد النفطية في عدد من دول الخليج، شريطة تطويرها ومضاعفة حجمها عدة مرات، دون إغفال المخاطر المصاحبة لهذا التحول من اقتصاد مبني على الموارد الطبيعية إلى اقتصاد مبني على الاستثمار، لا سيما الاستثمار الخارجي.

مقدمة 

بعد أشهر فقط من بدء الأزمة الاقتصادية الحالية في دول الخليج والناجمة عن انخفاض أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية، لجأت الدول الخليجية مجتمعة ودون استثناء، إلى إقرار عجز الموازنة العامة والاستدانة لمواجهة العجز، بدل اعتمادها كليًّا على صناديقها السيادية وعائداتها التي لم تستطع تغطية العجز المتفاقم للموازنات العامة. كما قامت تلك الدول ببيع جزء من أصول تلك الصناديق للمساهمة في تمويل عجز الموازنة الهائل. وهو ما طرح عددًا من الأسئلة حول حجم العائدات السنوية لتلك الصناديق، ومدى قدرتها على تعويض عائدات النفط والغاز. 

لقد ازداد الاهتمام العالمي بموضوع الصناديق السيادية الاستثمارية منذ إعلان السعودية عن مشروعها الطموح لتطوير صندوق سيادي استثماري بقيمة تزيد عن 2 تريليون دولار، وزيادة حصة استثماراته الخارجية من 5 إلى 50% من إجمالي قيمة الصندوق بحلول عام 2020، وذلك لتعويض مداخيل النفط والاعتماد شبه الكلي عليها في الموازنة العامة للدولة. 

وتأتي أهمية هذه الصناديق باعتبارها أدوات استثمارية لتنويع مصادر الدخل خاصة في الدول المصدِّرة للنفط والغاز، والتي تعتمد بشكل كبير في موازناتها العامة على عائدات تصدير هذه المواد، وتُمكِّنها الصناديق السيادية من توفير استثمارات مختلفة في قطاعات اقتصادية متنوعة خارج دائرة النفط والغاز، سواء داخل البلاد أم خارجها. فذلك سيجنِّبها الاعتماد شبه المطلق على تصدير المواد الخام ويحميها بالتالي من مخاطر تقلبات الأسعار في الأسواق العالمية للطاقة وتأثيراتها على العائدات السنوية للدول المنتجة. 

لقد تزايد هذا الاهتمام بالصناديق السيادية ودورها في دول الخليج خاصة، مع بروز أزمة الموازنات العامة لهذه الدول، وذلك بعد تهاوي أسعار النفط والغاز في الأسواق الدولية وتسجيل بعض دول المنطقة عجزًا في موازناتها العامة لأول مرة منذ سنوات طويلة. ولعبت الصناديق السيادية دور صمام الأمان لبعض الدول في مواجهة عجز الموازنة وانهيار أسعار النفط، بالرغم من محدودية هذا الدور على المدى المتوسط والطويل. 

وتطرح الظروف الحالية أسئلة عديدة حول استمرار دول الخليج في اعتمادها الكبير على مواردها النفطية، ومدى ديمومة تلك الموارد، وتعرُّض اقتصاداتها المستمر لمخاطر تقلبات الأسواق العالمية، والإمكانات التي توفرها الصناديق السيادية الاستثمارية كبديل ممكن لتلك الموارد. فإلى أي مدى نجحت تلك الصناديق في لعب الدور المنوط بها، سواء في تنويع مصادر الدخل للدولة أم حمايتها من مخاطر تقلبات الأسواق الدولية للطاقة؟ وما هي إمكانيات إصلاح هذه الصناديق، للعب دور أكبر مستقبلًا، خصوصًا مع تفاقم عجز الموازنات العامة في دول الخليج؟ وهل تستطيع هذه الصناديق تعويض عائدات النفط والغاز مستقبلًا، في خطة التحول الاقتصادي التي بدأتها بعض الدول الخليجية مثل السعودية؟ 

1- الوضع الحالي للصناديق السيادية الخليجية 

يعود تاريخ أول صندوق سيادي في العالم إلى سنة 1953، وهو الذي أنشأته دولة الكويت لإدارة فوائضها المالية وعائداتها من النفط. وتلتها بعد ذلك كل الدول الخليجية بدءًا من السعودية سنة 1972، والإمارات سنة 1976، وسلطنة عُمان سنة 1980، ثم قطر سنة 2005، والبحرين سنة 2006. 

ومن ضمن أكبر عشرة صناديق سيادية في العالم، توجد أربعة خليجية وفق بيانات سنة 2016، وهي: الصندوق الإماراتي (أبو ظبي) في المرتبة الثانية عالميًّا بحوالي 792 مليار دولار، يليه الصندوق السعودي في المرتبة الثالثة بحوالي 598 مليار دولار، ثم الصندوق الكويتي في المرتبة الرابعة بحوالي 592 مليار دولار، والصندوق القطري في المرتبة التاسعة بحوالي 335 مليار دولار. في حين جاءت كل من عُمان في المرتبة 31 عالميًّا بحوالي 34 مليار دولار، والبحرين 41 عالميًّا بحوالي 11 مليار دولار(1). 

وتبدو وضعية الدول الأربعة الأوائل متقدمة جدًّا مقارنة بكل من سلطنة عمان والبحرين، وذلك بسبب قلَّة موارد هاتين الأخيرتين من النفط والغاز ومحدودية حصة إنتاجهما عالميًّا؛ حيث تفوَّق الصندوق القطري مثلًا، وهو المنشأ حديثًا، على الصندوق العماني بحوالي 10 مرات، رغم أنه أصغر منه بحوالي 25 سنة. وذلك نتيجة احتياطات الغاز الهائلة التي اكتُشفت في قطر، والتطوير الكبير لهذا القطاع ابتداء من سنة 2005 (وهي نفس سنة إنشاء الصندوق السيادي القطري). 

تجدر الإشارة إلى أن الكثير من الغموض والسرية يحيطان بتفاصيل استثمارات الصناديق السيادية الخليجية، ونوعية تلك الاستثمارات وأماكن تواجدها، باستثناء بعض الاستثمارات المعروفة في شركات عالمية شهيرة، وأصول وسندات الخزانة التي تصرِّح بها الدول الأخرى. 

وتتشابه الدول الخليجية في بنية صناديقها السيادية من حيث إنها تُموَّل عن طريق عائدات تصدير النفط والغاز، باستثناء صندوق واحد تابع لإمارة دبي تُقدَّر قيمة أصوله بحوالي 196 مليار دولار، ويُموَّل عن طريق فائض العملات الأجنبية لدى الإمارة، الفقيرة من حيث الموارد البترولية، والغنية بموارد أخرى قادمة من قطاعات السياحة والأعمال والتجارة. وبلغت أرباحه السنوية لعام 2015 حوالي 7.5 مليارات دولار، بنسبة تصل إلى حوالي 3.7%(2). كما تتشابه تلك الصناديق السيادية في طريقة إدارتها عبر هيئات استثمارية مستقلة في شكل صناديق (Funds) لها هيئاتها الإدارية المستقلة، باستثناء الصندوق السعودي الذي يتبع البنك المركزي السعودي المعروف بمؤسسة النقد العربي السعودي القابضة الخارجية-ساما (SAMA). ويُعرف هذا الصندوق أساسًا بسرية استثماراته الخارجية واستراتيجياته الاستثمارية، وعدم القدرة على فصله عن سياسات البنك المركزي السعودي. 

وعلى عكس باقي الدول الخليجية، فإن المملكة لا تستثمر بكثافة عوائد فوائضها النفطية في الأسواق الأجنبية؛ حيث يضع البنك المركزي السعودي ما يزيد على نصف احتياطياته الأجنبية في أصول بالدولار الأميركي منخفضة المخاطر قليلة العائد، مثل سندات الخزانة الأميركية وحسابات مصرفية في بنوك عالمية. كما تتوفر السعودية أيضًا على صندوق آخر أصغر حجمًا، يُدار بنفس طريقة الصناديق السيادية الخليجية الأخرى، وهو صندوق الاستثمارات العامة (PIF)، وهو موجَّه أساسًا نحو الاستثمارات الاستراتيجية في الاقتصاد السعودي. 

وتشير إحصائيات معهد صناديق الثروات السيادية (SWFI) المتخصص في تتبع الصناديق السيادية حول العالم، إلى أن مجموع أصول الصناديق الخليجية يصل إلى حوالي 2 تريليون و981 مليار دولار(3). وهو ما يعني أكثر من 40% من إجمالي الثروات السيادية في العالم. وهي نسبة كبيرة جدًّا بالنسبة لست دول فقط تكوِّن مجلس التعاون الخليجي. هكذا تتجلى الأهمية الحيوية لهذه الصناديق الاستثمارية في الاقتصاد العالمي المتعطش لمزيد من الاستثمارات، خاصة بعد الركود الذي تسببت فيه الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008. 

فقد أثَّرت تلك الأزمة في حجم الأصول المالية للصناديق السيادية الخليجية بدرجة كبيرة؛ حيث تكبدت كل تلك الصناديق خسائر فادحة بلغت في إجماليها حوالي 27% من حجم الأصول خلال عام واحد(4)؛ وهو ما يعني خسارة حوالي 350 مليار دولار؛ ما جعلها في صدارة المتضررين من تلك الأزمة. كما أدت الأزمة المالية العالمية إلى خسائر فادحة في بعض الاقتصادات الخليجية غير النفطية وخاصة في إمارة دبي، التي عرفت أزمة عقارية كبيرة سنة 2009، ترافقت مع تداعي أسعار العقارات فيها وفقدان القطاع العقاري في الإمارة زهاء نصف قيمته؛ ما دفع بالصندوق السيادي لإمارة أبو ظبي إلى التدخل لإنقاذ دبي من شبح الإفلاس، عبر ضخَّ ما يزيد عن 15 مليار دولار في ديون دبي. 

2- آفاق الإصلاحات الممكنة للصناديق السيادية الخليجية في ظل أزمة الموازنات العامة 

فتحت الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008 وما ترتب عليها من تبعات، البابَ أمام توظيف جديد للصناديق السيادية في معالجة أزمة الديون السيادية، والتي زادت وتيرتها بشكل كبير مع تفاقم أزمة الموازنات العامة في دول الخليج بعد انهيار أسعار النفط سنة 2014، واضطرار تلك الدول إلى استخدام أصول الصناديق السيادية كمورد جديد في الموازات العامة. فقد أدى انهيار أسعار النفط في السوق العالمية إلى انخفاض كبير في عائدات النفط والغاز في الدول الخليجية والتي تعتمد بشكل كبير عليها في موازناتها العامة واقتصادياتها عمومًا؛ حيث تُشكِّل عائدات النفط حوالي 80% من إجمالي الإيرادات الحكومية، وحوالي 49 %من الناتج المحلي الإجمالي لدول الخليج(5). 

وقد أدى تراجع الإيرادات النفطية إلى زيادة الضغط على الصناديق السيادية، وذلك عبر بيع جزء من أصولها لتمويل عجز الموازنات العامة؛ حيث قامت المملكة العربية السعودية مثلا بسحب حوالي 100 مليار دولار من أصول صندوقها السيادي سنة 2015، وهو ما يعادل 14.6% من القيمة الإجمالية لأصوله. أما دولة الكويت فقد قامت بسحب حوالي 30 مليار دولار من أصولها في الصندوق السيادي، وهو ما يعادل 5% من القيمة الإجمالية لأصوله(6). 

وعمومًا، تبدو هذه الاستراتيجية فعَّالة على المدى القصير كبديل للاستدانة من الخارج وتفاقم الدَّيْن العام، رغم أن عددًا من الدول الخليجية وفي مقدمتها السعودية اضطرت إلى الاستدانة عبر طرح سندات للخزانة في الأسواق المالية بقيمة 17 مليار دولار. كما أن الكويت استدانت حوالي 10 مليارات دولار لتمويل عجز الموازنة العامة لأول مرة منذ 16 عامًا عبر طرح سندات للخزانة في الأسواق المحلية والدولية(7). كما قامت قطر بإصدار سندات بقيمة 4.12 مليارات دولار، والإمارات بقيمة 5 مليارات دولار. 

لكن المشكلة الرئيسية لهذه الاستراتيجية هي استنزافها لأصول الصناديق السيادية في حال امتداد الأزمة الحالية زمنيًّا لعدة سنوات، وتراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية على المدى المتوسط والطويل؛ حيث يمكن أن يؤدي استمرار نِسب العجز الحالية في الموازنات العامة بسبب تراجع أسعار النفط، إلى استنزاف الصناديق السيادية للدول الخليجية خلال السنوات القليلة المقبلة. وستكون كلٌّ من البحرين وسلطنة عُمان أول المتضررين من ذلك بسبب محدودية إمكانات صناديقها السيادية. وتبدو الدول الخليجية اليوم أمام مفترق طرق تاريخي؛ حيث إن عليها أن تختار ما بين تخفيض هائل في موازناتها العامة بما في ذلك خفض الرواتب والأجور العالية لمواطنيها، أو محاولة تمويل عجز الموازنة العامة من خلال الاستدانة وبيع الأصول المالية الموجودة في الخارج، وهما خياران أحلاهما مُرٌّ. 

في ظل هذه الظروف طرحت مجموعة من الدول الخليجية خططًا طموحة للخروج من هذه الوضعية، على رأسها المملكة العربية السعودية، التي تبنَّت مؤخرًا خطة للتطوير الشامل لاقتصادها في أفق سنة 2030. تهدف الخطة إلى تنويع مصادر دخل المملكة وتخفيف اعتمادها على العائدات النفطية، وتطرح زيادة كبيرة في أصول الصندوق السيادي السعودي، لتصل قيمته إلى أكثر من 2 تريليون دولار، بدل 595 مليار دولار حاليًّا. وهو ما يعني مضاعفته أربع مرات، وذلك من خلال بيع حصة بنسبة 5% من شركة أرامكو النفطية العملاقة لتمويل الصندوق. وسيتم توزيع استثمارات الصندوق الجديد مناصفة بين الاستثمارات الداخلية والاستثمارات الخارجية. هذه الاستراتيجية ستغيِّر خريطة الصناديق السيادية في العالم من خلال استحواذ الصندوق السعودي على حصة تفوق 25% من أصول الصناديق السيادية العالمية مجتمعة. 

ويهدف هذا المشروع إلى جعل عائدات الاستثمارات المصدر الرئيسي للدخل بدل الاعتماد الحالي على العائدات النفطية. ويعني ذلك بناء قاعدة اقتصادية غير نفطية وترشيد الإنفاق الحكومي مع دعم للقطاع الخاص وتوفير مزيد من الوظائف، ودعم الاستثمارات الصغرى والمتوسطة داخل المملكة، عبر الشراكات والتمويل والتسهيلات المختلفة، لتطوير القطاع الخاص والنهوض به، إضافة إلى تنمية الاستثمارات الخارجية وتنويعها لتقليل المخاطر ورفع حجم الإيرادات. 

من المتوقع أن يحذو عدد من الدول الخليجية حذو السعودية، في إصلاح صناديقها السيادية وتطويرها كمدخل رئيسي لخفض الاعتماد الكبير على الإيرادات النفطية كمصدر رئيسي للدخل؛ فقد قامت كل من قطر والإمارات بزيادة حجم صناديقهما السيادية ما بين سنتي 2015 و2016، في توجه واضح نحو الاعتماد على عائدات الاستثمار بدل عائدات النفط والغاز في ظل تدهور أسعارهما في الأسواق العالمية. ويُتوقع أن يتعزز هذا التوجه أكثر في حالة نجاح الإصلاح السعودي وبدء قطف ثماره خلال السنوات القليلة المقبلة. لكن إلى أية درجة يمكن لعائدات استثمارات الصناديق السيادية أن تحل محل العائدات النفطية في دول الخليج؟ وما هي السيناريوهات المحتملة لذلك؟ 

3- هل يمكن للصناديق السيادية تعويض عائدات النفط والغاز؟ 

سننطلق هنا من مقارنة حجم الصناديق السيادية مع حجم الإنتاج النفطي في كل دولة من دول الخليج لمعرفة الفارق بين العائدات السنوية للإنتاج النفطي مقابل عائدات الاستثمارات التي تديرها الصناديق السيادية. فمثلًا بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، بلغت عائدات تصدير النفط سنة 2015 حوالي 118.4 مليار دولار، في مقابل 43.4 مليار دولار من العائدات غير النفطية بما في ذلك 9.9 مليارات دولار من عائدات الاستثمار(8)، (دون تحديد دقيق لعائدات استثمارات الصندوق السيادي وغيرها من الاستثمارات الأخرى). وبالتالي يمكن القول: إن حجم عائدات الاستثمارات لا يغطي سوى 8.4 %من إجمالي العائدات النفطية، وهو رقم ضئيل مقارنة بالفجوة ما بين القطاع النفطي وقطاع الاستثمارات. 

وحسب تصريحات وزير المالية السعودي السابق، إبراهيم العساف، فإن عائدات الصندوق السيادي خلال السنوات العشر الأخيرة كانت ما بين 8 و11%(9) ؛ وذلك يعني أن إيراداتها كان يجب أن تتجاوز على الأقل 55 مليار دولار سنة 2015، وهو ما لم يحصل فعليًّا؛ ما يعني أن حديث العساف كان عن نسبة النمو في الفوائض المالية وليس عن عائدها السنوي. فهذا النمو ينتج عن الأرباح السنوية كما يمكن أن ينتج عن ضخِّ مزيد من العائدات النفطية في الصندوق السيادي، خصوصًا أن معظم استثمارات ذلك الصندوق موجَّهة إلى سندات الخزانة الأميركية ذات الإيرادات المنخفضة جدًّا(حوالي 1% سنويًّا). 

لمعرفة العائدات السنوية الحقيقية المتوقعة للصناديق الاستثمارية الخليجية لابد من مقارنتها بعائدات صناديق سيادية أخرى؛ حيث تبلغ عائدات أكبر صندوق سيادي في العالم، وهو الصندوق النرويجي 4% سنويًّا؛ وهو رقم معقول جدًّا بالنسبة إلى عائدات الاستثمار في العالم خاصة في ظل حالة الركود الاقتصادي العالمية. وبالتالي، وفي حال أرادت السعودية تعويض مداخيل النفط بمداخيل الاستثمار، يجب عليها مضاعفة صندوقها السيادي حوالي 10 مرات (ليبلغ أكثر من 6 تريليونات دولار)، أو تغيير خطتها الاستثمارية والتوجه نحو استثمارات أخرى ذات مردودية أعلى (حوالي 4 أو 5%). وهو ما يعني أنها بحاجة إلى مضاعفة حجم صندوقها السيادي بحوالي 3 مرات أو أربع مرات (تقريبًا نفس خطة السعودية الحالية لتطوير صندوقها السيادي ليصل لأكثر من 2 تريليون دولار). وذلك بالموازاة مع إصلاحه وتوجيهه نحو الاستثمارات الخارجية ذات المردود الاقتصادي العالي، والاستثمارات الإنتاجية داخليًّا. إن ذلك سيجعل الخطة السعودية الحالية لتطوير الصندوق السيادي ممكنة ومعقولة فيما يخص تعويض عائدات النفط على المدى الطويل بعائدات الاستثمار، لكن المعضلة الحقيقية تتجلى في استمرار عجز الموازنة العامة وعدم قدرة الإيرادات الحالية على تغطية النفقات العامة للبلاد. وفي حال استمرار عجز الموازنة في مستوياته الحالية، ستكون تلك الخطة غير ذات جدوى على الأمد البعيد، خاصة مع تراكم العجز سنويًّا وعدم قدرة الإيرادات النفطية وغير النفطية على تغطيته، ومع وصوله إلى مستويات قياسية بلغت 87 مليار دولار سنة 2016، وهو رقم أعلى من الإيرادات غير النفطية للدولة. 

بالنسبة إلى دولة قطر، يبدو الوضع أفضل بكثير؛ حيث إنها تملك صندوقًا سياديًّا كبيرًا (حوالي 335 مليار دولار)، مقارنة بحجم العجز في موازنتها العامة والذي بلغ حوالي 12.8 مليار دولار سنة 2016، نتيجة تراجع أسعار النفط والغاز، وهو العجز الأول منذ 15 سنة. ولو احتسبنا عائدات استثمارات الصندوق السيادي بمعدل تقريبي (حوالي 5%)، فسيكون عائده السنوي 16.7 مليار دولار. ولو احتسبنا حجم إيرادات الدولة القطرية البالغة إجمالًا حوالي 42.7 مليار دولار، فسيكون واجبًا على قطر مضاعفة حجم صندوقها السيادي مرتين تقريبًا، لتغطية إيراداتها من قطاع النفط والغاز على المدى البعيد. وهي مسألة ممكنة التحقيق في المدى المتوسط في حال وجود خطة واضحة لذلك. 

والأمر ذاته ينطبق على الكويت، التي تعاني من عجز في موازنتها العامة بلغ 23.2 مليار دولار سنة 2016، وهو أول عجز لها منذ 16 عامًا. وهو أقل من عائدات استثمارات صندوقها السيادي المتوقعة. وتتركز معظم استثمارات الصندوق الكويتي في ثلاثة أصول رئيسية، هي الأسهم والعقارات وأدوات الدخل الثابت. ويحيط بهذا الصندوق واستثماراته الكثير من الغموض، كما أن عوائده المعلنة يبدو أنها مبالغ فيها على الأقل مقارنة بالصناديق السيادية المماثلة (حيث أُعلن أن صافي أرباحه بلغ 9% سنة 2015، مقابل حوالي 4% مثلًا للصندوق السويدي وصندوق دبي)، وكان يمكن أن تغطي تلك الأرباح عجز الموازنة العامة بالضعف وتغنيها عن الاستدانة. وسيكون على الكويت مضاعفة حجم صندوقها السيادي في حال أرادت الاعتماد على عائدات الاستثمار المتوقعة لتعويض العائدات النفطية في المستقبل. 

لكن الدول التي ستعاني أكثر هي البحرين وسلطنة عُمان؛ حيث تملك صناديق سيادية صغيرة الحجم وغير قادرة على تغطية إيرادات النفط أو عجز الموازنة العامة في الأفق المنظور، وهو ما يدفعها إلى التفكير في مصادر أخرى للدخل، من أجل توسيع قاعدتها الإنتاجية غير النفطية وتشجيع الاستثمار الخاص. 

وتبقى إمارة دبي حالة فريدة في الخليج، بسبب عدم اعتمادها على النفط والغاز (بلغت إيرادات النفط حوالي 6% فقط من الموازنة العامة سنة 2016)، وامتلاكها صندوقًا سياديًّا تُقدَّر قيمة أصوله بحوالي 196 مليار دولار. لقد نجحت الإمارة في تحقيق موازنة بلا عجز لسنتين على التوالي، في الوقت الذي عانت فيه بقية دول الخليج من عجز في الموازنة بسبب انخفاض أسعار النفط، في إشارة واضحة لتجاوز الإمارة عصر البترول ودخولها عصر الاستثمار. ورغم نجاحها الباهر في هذا الصدد، إلا أن دبي كانت أكبر المتضررين من الأزمة المالية العالمية سنة 2008؛ حيث كادت تشهر إفلاسها سنة 2009، لولا تدخل إمارة (أبو ظبي) وضخ أموال النفط لشراء ديونها السيادية. وهو ما يفتح الباب أمام التساؤل حول إمكانية وقوف دول الخليج أمام الأزمات الاقتصادية العالمية بدون موارد النفط وبالاعتماد على صناديقها السيادية فقط، خاصة مع انخراطها الكبير في العولمة الاقتصادية وضعفها أمام تقلبات الأسواق العالمية. 

خلاصات وآفاق 

تبدو الخطط الطموحة لعدد من الدول الخليجية لتطوير صناديقها السيادية حتى تكون قادرة على تعويض إيرادات النفط والغاز، مشجعة بالنسبة للدول التي تملك صناديق سيادية ضخمة (الإمارات، الكويت، السعودية، قطر)، وموارد نفطية كبيرة توفر لها القدرة على تحقيق تلك الأهداف. وستكون التجربة السعودية رائدة في هذا الصدد في حال نجاحها في تحقيق الأهداف المرسومة لها على المدى المتوسط والطويل؛ حيث ستشجع بقية الدول الأخرى على نهج نفس السياسة مستقبلًا وتسخير موارد النفط والغاز على أفضل وجه. 

لكن هذه السياسة الجديدة تنطوي على مخاطر أخرى عالية مرتبطة أساسًا بالتقلبات الاقتصادية العالمية والأزمات المتعددة التي يعرفها الاقتصاد العالمي ككل. فمحاولة الهروب من تقلبات الأسواق العالمية للنفط والغاز، واللجوء إلى أسواق الاستثمارات، سيجعل هذه الدول ومعها صناديقها السيادية عرضة للتقلبات الاقتصادية العالمية وحالات الركود الاقتصادي المستمرة. 

وقد عرفت سنة 2008، أكبر خسائر تاريخية للصناديق السيادية الخليجية؛ حيث فقدت حوالي 27% من قيمة أصولها التي تبخرت بين عشية وضحاها. وهو ما كشف هشاشة سوق الاستثمارات العالمية، وخاصة الاستثمارات العقارية وأسواق الأوراق المالية التي تعرف إقبالًا كبيرًا عليها من قبل تلك الصناديق السيادية. وبالتالي قد تؤدي محاولة الهروب من تقلبات أسعار النفط، إلى السقوط في تقلبات أسعار أسواق أخرى تعرف بدورها تذبذبات دورية متواصلة. 

ولتجاوز هذا المأزق، ينبغي على تلك الصناديق تنويع استثماراتها وتوجيهها أكثر نحو الاقتصاد الحقيقي ذي الطبيعة الإنتاجية، بدل التوجه نحو أسواق المال عالية المخاطر، والتي أثبتت الأزمة المالية لسنة 2008 قصورها وارتفاع المخاطر المتعلقة بها. في وضع متقلب كالذي تعرفه الأسواق العالمية، يكون الاستثمار في الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات أكثر أمنًا واستدامة من الاستثمار في أسواق المال (العقود المالية، السندات، العملات) وأسواق العقارات عالية المخاطر. ولا بديل لدول الخليج عن بناء اقتصادات جديدة معتمِدة على الاستثمار في ظل حقيقة نفاد مواردها النفطية عاجلًا أم آجلًا. وهو تحوُّل وجب التخطيط له جيدًا؛ فهو ليس تحولًا اقتصاديًّا وحسب، بقدر ما سيكون أيضًا تحولًا اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا ستكون له تداعيات كبيرة على مستقبل المنطقة كلها في العقود القليلة المقبلة.

_____________________________

محمد الكوخي - باحث في السياسات الاقتصادية

References

1. Sovereign Wealth Funds Institute SWFI (2016), Sovereign Wealth Fund Rankings: http://www.swfinstitute.org/sovereign-wealth-fund-rankings/

2. Investment Corporation of Dubai (ICD) Annual Report 2015:  https://www.icd.gov.ae/2016/06/28/investment-corporation-of-dubai-records-annual-net-profit-of-aed-27-5-billion/

3. Sovereign Wealth Funds Institute SWFI (2016), Sovereign Wealth Fund Rankings: http://www.swfinstitute.org/sovereign-wealth-fund-rankings/

4. Brad Setser & Rachel Ziemba, (2009), GCC Sovereign Funds Reversal of Fortune, Council on Foreign Relations Working Papers, January 2009.

5. International Monetary Fund (IMF), Gulf Cooperation Council, (2015), Annual Meeting of Ministers of Finance and Central Bank Governors, October 2015 Riyadh, Saudi Arabia: https://www.imf.org/external/np/pp/eng/2015/111015.pdf

6. Dam Bouyamourn, (2015), Sovereign Wealth Funds in Arabian Gulf Sell off Assets to Plug Fiscal Deficits, The National News, October 17, 2015: http://www.thenational.ae/business/economy/sovereign-wealth-funds-in-arabian-gulf-sell-off-assets-to-plug-fiscal-deficits

7. BBC News (03.07.2016): http://www.bbc.com/arabic/business/2016/07/160628_kuwait_borrows_financing_budget_deficit

8. مجلة الاقتصادية (2015)، 27% من إيرادات السعودية في 2015 "غير نفطية".. الأعلى على الإطلاق. عدد 8114، 29 ديسمبر/كانون الأول 2015.

9. Reuters News Agency (25.12.2014): http://ara.reuters.com/article/businessNews/idARAKBN0K30QM20141225