تشاد: قراءة في الفترة الانتقالية ورهانات الانتخابات

يسعى الرئيس التشادي، محمد ديبي كاكا، من خلال الانتخابات الرئاسية الراهنة لاستنساخ نموذج مماثل لنظام حكم والده بواسطة شرعية انتخابية مشكوك في نزاهتها، وقد يتسبب في تأجيج الأوضاع السياسية والأمنية، سواء من خلال تصعيد الاحتجاجات السياسية أو المواجهات المسلحة.
يسعى الرئيس محمد ديبي كاكا لاستنساخ نموذج مماثل لنظام حكم والده بواسطة شرعية انتخابية مشكوك في نزاهتها (رويترز).

تشهد تشاد حالة من الاضطرابات السياسية والأمنية منذ أن نالت استقلالها من فرنسا، في أغسطس/آب 1960، فمنذ تولي الرئيس السابق، إدريس ديبي، الحكم، في ديسمبر/كانون الأول 1990، بانقلابه على نظام الرئيس الأسبق، حسين حبري، بدعم وتأييد من النظام السوداني بقيادة عمر البشير، لم تتغير الأوضاع في تشاد حيث غرقت في أتون حروب استنزاف مع الجماعات المسلحة المعارضة التي حاولت تغيير نظام الحكم في محاولات متعددة. وفي الجانب الآخر نجد أن القوى السياسية ظلت فاعلة مستفيدة من طبيعة النظام الذي يعتمد على البعد الإثني والعرقي. وقد استطاع محمد ديبي كاكا، رئيس الفترة الانتقالية، توظيف التقاطعات والتناقضات الإقليمية والدولية لتوطيد أركان حكمه وترسيخ شرعيته عن طريق الانتخابات.

قراءة تاريخية لفهم النظام السياسي

بدأت الحياة السياسية في تشاد مسيرتها وهي متأثرة بالولاء القبلي، وارتبطت سياساتها بالاتجاهات الشخصية للقائمين بأمرها، وهو ما أدى إلى افتقارها إلى المشاركة الشعبية الفاعلة في الحياة السياسية فالأحوال التي نشأت فيها الأحزاب على مرِّ التاريخ، هي: إما العلاقات الأسرية، وإما التركيبة القبلية، وإما الدين (فالشماليون مسلمون، والجنوبيون مسيحيون أو وثنيون). هذا بالإضافة إلى عوامل خارجية أسهمت بشكل كبير في حدوث الاضطراب السياسية والأمنية.

وقد أسهم عجز الأحزاب السياسية في تشاد، وهشاشة برامجها السياسية، وتقلبات زعمائها وعجزهم عن نقل البلاد إلى حالة الوحدة الوطنية، والتطور، والتنمية السياسية والاقتصادية؛ في إفساح المجال أمام المؤسسة العسكرية لتلعب دورًا جديدًا في الحياة السياسية التشادية، وسهَّل ولوجها في الحياة السياسية سلسلة الانقلابات العسكرية التي يفضي الواحد منها إلى الآخر.

وفي الوقت نفسه أصبح أفراد المؤسسة العسكرية في الدولة يتمتعون بامتيازات لا يتمتع بها موظفو الدولة العاديون ممن هم في المستوى الوظيفي نفسه. فوق هذا وذاك، احتدم صراع العسكر والسياسيين من أجل السلطة، وهو ما قاد البلاد إلى المزيد من المشاكل، مما أدى إلى ظهور حركات مسلحة معارضة لأنظمة الحكم، وأخذت تلك الحركات الطابع المتقلب من أجل الوصول إلى السلطة. في أتون هذه الديناميات استطاع إدريس ديبي، رئيس حركة الإنقاذ الوطني، الاستيلاء على السلطة، في ديسمبر/كانون الأول 1990، بدعم ومساندة من النظام السوداني بقيادة عمر البشير(1).

امتدت فترة حكم ديبي الأب 30 عامًا، وكان أحد أكثر الرؤساء الأفارقة بقاء في السلطة وذلك بفضل العديد من الانتخابات الشكلية التي غالبًا ما تشكك المعارضة في نزاهتها، ناهيك عن الاستيلاء المتزايد من إدارة حكومته على موارد الدولة وخصوصًا الطاقة.

وفي حقبة إدريس ديبي شهدت تشاد حالة من الاضطرابات السياسية والأمنية، من 2006 إلى 2008، واستطاعت قوات اتحاد القوى من أجل الديمقراطية والتنمية بزعامة وزير الدفاع السابق، محمد نوري، خوض معارك ضد الحكومة، وصل بعضها إلى مشارف القصر الرئاسي بالعاصمة، نجمينا، وحاصرته بل كادت تسقط نظام ديبي لولا تدخل الطيران الحربي الفرنسي. وفي سنة 2019، تكرر ذات المشهد حيث حاصرت قوات اتحاد قوى المقاومة التشادية بقيادة تيمان إيرديمي العاصمة، نجمينا، وكادت أن تسقط بيدها لولا التدخل الفرنسي مجددًا(2).

قُتل الرئيس السابق، إدريس ديبي، عشية فوزه بفترة سادسة في الانتخابات الرئاسية في معركة جرت قرب مدينة زيكي في إقليم كانم بشمال تشاد خلال مواجهات مسلحة بين الجيش التشادي وقوات جبهة الوفاق من أجل التغيير "فاكت" بقيادة محمد مهدي؛ حيث كان إدريس ديبي يقود المعارك العسكرية بنفسه، بعد أن دخلت قوات "فاكت" الأراضي التشادية عبر الحدود الجنوبية مع ليبيا، واستولوا في طريقهم على عدد من المدن حتى وصلوا إلى كانم(3).

ويُعتقد أن الرئيس إدريس ديبي لجأ لقيادة العمليات العسكرية بنفسه للتغطية على أصوات المعارضة السياسية المدنية في تشاد والتي تتشكل من عدد من الأحزاب السياسية، ومنظمات حقوق الإنسان المدافعة عن الحريات، ومنظمات المجتمع المدني المختلفة، وخريطة التحالفات السياسية للمعارضة التي تضم أكثر من 50 حزبًا سياسيًّا، إلى جانب مئات النقابات والجمعيات العمالية. وكان جميع هذه التشكيلات قد رفضت قبل أكثر من عام ترشح الرئيس ديبي لولاية سادسة، بل وتحركت في تظاهرات شعبية سلمية رافضة للانتخابات الرئاسية، وتعرض المتظاهرون للبطش والقمع من قبل الأجهزة الأمنية. وتم تنظيم تلك الانتخابات، بكل ما فيها من تجاوزات، حتى فاز بها الرئيس ديبي قبيل مقتله بيوم واحد.

ويعتبر ديبي حليف فرنسا الإستراتيجي وحليف الولايات المتحدة الأميركية، وقد نسق مع هاتين الدولتين الغربيتين برامج للتصدي للجماعات الجهادية، خصوصًا في منطقة الساحل الإفريقي؛ حيث أرسلت تشاد أكثر من ألف عنصر عسكري، في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، إلى المثلث الحدودي بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر(4).

الفترة الانتقالية

منذ إعلان المجلس العسكري الانتقالي برئاسة محمد إدريس ديبي كاكا توليه مسؤولية الحكم في البلاد لفترة 18 شهرًا بعيد وفاة أبيه، بدأت تشاد مرحلة جديدة من مواجهة التحديات الأمنية والسياسية، حيث تصاعدت حد الرفض من قبل قوى المعارضة المدنية والمسلحة مؤكدين أن تعيين محمد ديبي كاكا كان بمنزلة توريث للحكم. وقد وضع المجلس العسكري خارطة طريق للمرحلة الانتقالية لتحقيق العديد من الأهداف المصحوبة ببرامج وتشريعات تساعد التشاديين على الانتقال من نظام الحزب الواحد إلى نظام التعددية الحزبية، تمهيدًا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي سوف تشهدها تشاد في نهاية المرحلة الانتقالية(5).

وفي يناير/كانون الثاني 2022، أعلن المجلس العسكري التشادي، المجلس العسكري الانتقالي (CMT)، عفوًا عامًّا عمَّا يقرب من ثلاثمئة شخص متهم بارتكاب "جرائم رأي، وإرهاب، وجرائم الإضرار بسلامة الدولة". ويفي هذا القرار جزئيًّا بالشروط المسبقة التي طالبت بها المعارضة التشادية المسلحة مقابل مشاركتها في مباحثات الدوحة والحوار الوطني. وقد وصف قائد المجلس العسكري، محمد ديبي كاكا، هذا الحوار بأنه خطوة رئيسية في العودة إلى الحكم المدني. ومع ذلك، فشل الحوار في إشراك العديد من الجهات الفاعلة التي تمثل معارضة مدنية للعملية الانتقالية التي يقودها الجيش(6).

في أغسطس/آب 2022، وقَّعت السلطات الانتقالية في تشاد وجماعات مسلحة في الدوحة اتفاقًا للسلام برعاية قطرية باستثناء الجبهة الوطنية من أجل التغيير. ومن أبرز بنود الاتفاق إعلان وقف شامل لإطلاق النار بين المجلس العسكري الانتقالي والحركات المسلحة، وإنشاء لجنة وطنية تكلف بتنفيذ برنامج خاص بنزع السلاح والتسريح وإعادة دمج القوات المسلحة، كذلك التأكيد على ضرورة أن يكون هناك حوار وطني جامع في العاصمة، نجمينا، بمشاركة القوى السياسية المدنية والحركات المسلحة(7).

اختتم الحوار الوطني التشادي، في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2022، وذلك بعد نحو شهرين منذ انطلاقه في 20 أغسطس/آب؛ حيث جرى الإعلان عن جملة من المخرجات، والتي يمكن عرضها على النحو التالي(8):

أولًا: تعيين محمد ديبي رئيسًا

انتهت المرحلة الانتقالية التي كان المجلس العسكري الحاكم في نجمينا قد أعلن عنها في 20 أبريل/نيسان 2021، وذلك بعد مقتل الرئيس السابق، إدريس ديبي، حيث كان يفترض أن تستمر المرحلة الانتقالية لمدة 18 شهرًا، يعقبها إجراء انتخابات رئاسية. وقد توصل المشاركون في جلسات الحوار الشامل إلى تمديد الفترة الانتقالية لمدة عامين إضافيين برئاسة محمد ديبي كاكا.

ثانيًا: ترشح ديبي كاكا للانتخابات المقبلة

تعهد المجلس العسكري الحاكم في تشاد بعدم ترشح أعضائه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، لكن أحد أبرز بنود الحوار الشامل تمثل في السماح لأعضائه بالترشح في الانتخابات المقبلة في كافة مراحلها، وهذه البند يتيح لرئيس الفترة الانتقالية الترشح للانتخابات الرئاسية.

ثالثًا: تشكيل حكومة جديدة

تعهد محمد ديبي بتعيين حكومة وحدة وطنية تتولي إدارة شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية المقبلة. حيث أصدر قرار بتعيين المعارض السابق ورئيس حزب "الاتحاد الوطني من أجل التنمية والتجديد"، صالح كبزابو، رئيسًا للحكومة الانتقالية الجديدة.

قاطع جزء كبير من قوى المعارضة السياسية والمسلحة جلسات الحوار الشامل، بما في ذلك "الإطار الدائم للتشاور"، والذي يشكل تحالفًا لنحو 20 جماعة من قوى المعارضة، وكذلك ائتلاف "واكيت تاما" المعارض. وقد نددت المعارضة بمخرجات هذا الحوار الذي اعتبروه محاولة لإضفاء الشرعية على النظام الحاكم، فضلًا عن رفضهم لمشروع توريث الحكم من قبل آل ديبي. وقد سعى محمد ديبي إلى تغيير صورته العسكرية؛ إذ عمد إلى تغيير زيه العسكري المعتاد خلال مراسم تسلمه السلطة رئيسًا انتقاليًّا للبلاد، وإبداله بالزي التشادي التقليدي(9). 

ويلاحظ المتابع للشأن التشادي أن الاتحاد الإفريقي كان قد قاطع مؤتمر تنصيب محمد ديبي كاكا رئيسًا انتقاليًّا للبلاد، نظرًا لعدم التزام المجلس العسكري بالوعود التي قطعها سابقًا بشأن مدة المرحلة الانتقالية وعدم الترشح للرئاسيات المقبلة. وقد وُجِّهت انتقادات في السابق للاتحاد الإفريقي لعدم فرض عقوبات على نجمينا بعد سيطرة المجلس العسكري على الحكم بعد مقتل رئيسها السابق، إدريس ديبي، وربط البعض بين موقف الاتحاد الإفريقي بمقاطعة تنصيب ديبي وطموحات رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، السياسي التشادي، موسى فقي محمد، والذي يُعد حليفًا قويًّا للرئيس السابق، إدريس ديبي، وهما ينتميان لعرقية "الزغاوة"، ولدى موسى فقي طموحات واسعة لأن يكون له موضع عال وبارز في مستقبل الخريطة السياسية التشادية(10).

أثار نجاح الاستفتاء الشعبي على الدستور في تشاد تكهنات واسعة النطاق في شأن ما تحمله المرحلة المقبلة لهذا البلد على الصعيد السياسي؛ حيث وافق 86% من الناخبين التشاديين على مشروع الدستور الجديد، الذي قدمته المجموعة الحكومية الانتقالية التي تم إعلانها بعد اعتماد توصيات الحوار الوطني، وقد دعت المعارضة إلى مقاطعة الاستفتاء واعترضت على نتائجه.

وترى المعارضة، التي قاطعت الاستفتاء، أن الغاية منه هي تهيئة الظروف لترشح ديبي كاكا للرئاسة وهو البالغ من العمر 37 سنة، خصوصًا أنه أظهر التزامًا كبيرًا بنهج والده في الحكم، وبدا كأنه الرجل القوي الجديد في تشاد بعد أن حظر في وقت سابق التظاهرات إثر يوم وُصف بـ"الخميس الأسود" في البلاد؛ إذ شهد الـ20 من أكتوبر/تشرين الأول 2022 مقتل 300 متظاهر شاب على يد الجنود والأمن، بحسب ما قالته منظمات غير حكومية(11).

يشكِّل الاستفتاء على الدستور خطوة أساسية لعودة المدنيين إلى السلطة التي وعد بها المجلس العسكري، والتي تم تأجيلها في نهاية بناء على توصيات الحوار الوطني حتى أبريل/نيسان 2024. ويخيم الجدل على الشارع السياسي في تشاد، تلك الدولة التي تعد أحد مفاتيح الاستقرار في منطقة الساحل الإفريقي الغارق بالفوضى الأمنية. ويرى كثيرون أن الدستور التشادي الجديد سيعبِّد الطريق نحو تولي نجل ديبي، محمد ديبي كاكا، الرئاسة خصوصًا أنه يحظى بدعم قوي من الجيش في الداخل ومن فرنسا والولايات المتحدة الأميركية في الخارج(12).

فشل الحوار الوطني في الوصول إلى اتفاق سلام شامل خاصة في ظل وجود مجموعتين مسلحتين تمثلان إشكالية بشكل خاص، وهما اتحاد قوى المقاومة (UFR) وقوات جبهة الوفاق من أجل التغيير ((FACT. ورغم الإجماع المجتمعي في البلاد على عدم تمديد الفترة الانتقالية، إلا أنه تم تمديد الفترة الانتقالية لمدة عامين، والحفاظ على محمد ديبي كاكا رئيسًا للدولة، وسُمح له بالترشح للرئاسة في الانتخابات المقبلة، وتولي معارض تشادي عتيد، هو سوكسيه ماسرا، قيادة الحكومة الانتقالية الجديدة كنتيجة لحوار وطني ممتد، إلا أن ردود الفعل على تشكيل هذه الحكومة كانت رافضة لها إلى حدِّ اندلاع مظاهرات أسفرت عن وفيات وإصابات واعتقالات وإعلان حالة الطوارئ(13).

ومما سبق يتضح التداخل الكبير بين التحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها المرحلة الانتقالية في تشاد، بحيث يصبح مستقبل البلاد مرهونًا بقدرة الحكومة الانتقالية على معالجة التحديات الأمنية والسياسية بصورة متكاملة، نظرًا لعجز أي معالجة جزئية أو انتقائية لهذه التحديات عن استعادة استقرار البلاد من جديد(14).

رهانات الانتخابات والسيناريوهات المتوقعة

تواجه مرحلة ما بعد الفترة الانتقالية العديد من التحديات، ما بين تحديات أمنية وتحديات سياسية واقتصادية. ولكن أصبح سوء الحكم وعدم المساواة الاجتماعية أمرًا لا يُطاق بالنسبة للعديد من التشاديين.

ويعد سوء الإدارة والتفاوت الاجتماعي إرثًا منذ 30 عامًا من نظام ديبي، فضلًا عن الفساد الذي تورطت فيه النخبة الحاكمة ونقص فرص الشباب، وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر والفيضانات بالعاصمة. وبلغت هذه التوترات السياسية والاجتماعية ذروتها عندما دعت منظمات المجتمع المدني إلى تعبئة دائمة ضد الحكومة الانتقالية. ورغم تنديد الحكومة وحظر المظاهرات، فقد تظاهر آلاف من التشاديين في أوقات مختلفة(15).

ويشكِّل الدعم الخارجي الفرنسي على وجه الخصوص مصدرًا من مصادر الاضطراب السياسي بحيث قد يدفع الترتيبات السياسية الهشة للانهيار. فنحن نلاحظ أن دول الساحل الإفريقي القريبة من تشاد شهدت في السنوات الأخيرة تناميًا للتيارات المعارضة للدور الفرنسي في مكافحة الإرهاب باعتباره يمثل شكلًا من أشكال "الاستعمار الجديد" تحت غطاء مكافحة الإرهاب.

وقد عبَّرت هذه التوجهات عن نفسها بقوة في الاحتجاجات التي أعقبت تولي المجلس العسكري الانتقالي السلطة في تشاد من خلال قيام بعض المحتجين بإحراق الأعلام الفرنسية، وتخريب المنشآت التابعة لشركات فرنسية، كتلك التابعة لشركة توتال النفطية. وبينما يعد الدعم الخارجي للقوات المسلحة التشادية ضرورة ملحَّة لمواجهة التحديات الأمنية الكبرى في هذه اللحظة الدقيقة، قد يكون هذا الدعم في ذاته سببًا في تصاعد موجة احتجاجية قد تعصف باستقرار البلاد بصورة كاملة(16).

ستجري الانتخابات التشادية في سياق سياسي متأزم تعكسه المقاطعة الواسعة للانتخابات من أبرز الجماعات المعارضة، وما تشهده البلاد من أزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة، ونشاط الجماعات المتمردة النشطة على الحدود الليبية والسودانية، فضلًا عن تفاقم أنشطة الجماعات الإرهابية في الساحل وحوض بحيرة تشاد.

وهذا الواقع المأزوم وضع القوى السياسية والحركات المسلحة الموقِّعة على اتفاق الدوحة أمام اختبار صعب بعدم السماح لأعضاء المجلس العسكري الانتقالي الترشح في الانتخابات المقبلة(17).

أعلن رئيس المجلس العسكري الحاكم في تشاد، الجنرال محمد إدريس ديبي كاكا، ترشحه للانتخابات الرئاسية المقررة في السادس من مايو/أيار 2024. قال ديبي إنه يترشح للانتخابات الرئاسية 2024 تحت راية ائتلاف أحزاب (تشاد موحدة)، وجاء إعلان ديبي ترشحه بُعيد مقتل قريبه زعيم "الحزب الاشتراكي بلا حدود"، يحيى ديلو، في هجوم لقوات الجيش على مقر حزبه، ووفق الحكومة، كان المعارض مطلوبًا بتهمة التحريض على "محاولة اغتيال" رئيس المحكمة العليا، وقاد هجومًا على مقر جهاز الأمن.

ويرى البعض أن قوات الأمن قامت بإعدام يحيى ديلو من المسافة صفر لإقصائه من خوض الانتخابات الرئاسية، ويعتبر ديلو أحد أشد المعارضين الذين كان يخشاهم ديبي، ويعود ذلك إلى صلة القرابة بينهما، وكلاهما من قبلية الزغاوة التي تحتكر أعلى المناصب في الجيش وأجهزة الدولة منذ 1990. ومنذ تولي يحيى ديلو رئاسة الحزب الاشتراكي بلا حدود، فإنه سعى لتوحيد قوى المعارضة تحت راية ما يُعرَف باسم "اتحاد المعارضة ذات المصداقية" والتي كان لها تأثير مشهود خلال الفترة الماضية؛ حيث دعا يحيى ديلو بوصفه رئيس الاتحاد إلى مقاطعة استفتاء 17 ديسمبر/كانون الأول 2023، واستمر في التنسيق مع كافة أحزاب المعارضة لإخراج محمد ديبي من السلطة؛ منددًا طوال الوقت بالحكم العسكري في تشاد.

ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية صار وجود يحيى ديلو في المشهد السياسي مسألة مثيرة للقلق مِن قِبَل محمد ديبي كاكا؛ لكون ديلو أصبح قادرًا على جمع قوى المعارضة حوله وهو ما سيشكِّل خطرًا على محمد ديبي في حال توحُّد المعارضة على اختيار شخصية واحدة يمكنها منافسة محمد ديبي، وتتنزع منه السلطة(18).

ويبقى اغتيال يحيى ديلو تمهيدًا للطريق أمام رئيس الفترة الانتقالية محمد ديبي كاكا، بل سيكون الطريق مشرعًا أمامه للفوز في الانتخابات الرئاسية الحالية. لقد استخدم رئيس الفترة الانتقالية كل الوسائل والطرق من أجل إبعاد أقوى المنافسين المتوقعين له، فزعيم المعارضة الأسبق، سوكسيه ماسرا، صار في الأشهر الماضية من أقرب المقربين من محمد ديبي كاكا، وصار حزبه "حزب المتحولين" من أحزاب الموالاة، وقد عُيِّن ماسرا رئيسًا للوزراء منذ يناير/كانون الثاني 2024. وكان رجوع ماسرا لتشاد بوساطة من رئيس الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسيكيدي، وبرعاية فرنسية، وتم توقيع اتفاقية كينشاسا في ديسمبر/كانون الأول 2023، فضلًا عن صالح كيبزابو الذي تولى رئاسة الحكومة الانتقالية خلال الفترة من 12 أكتوبر/تشرين الأول 2022 حتى 31 ديسمبر/كانون الأول 2024(19).

ولا شك أن الاعتبارات الجغرافية تفرض على تشاد العديد من التحديات الأمنية والتي تشكل الخطر الأكبر على استقرار مرحلة ما بعد الانتخابات. فمن ناحية أولى تشكِّل الصحراء الكبرى المساحة الأكبر من إقليم تشاد في المناطق الشمالية والوسطى مما يجعل من قدرة الدولة على بسط سيطرتها على إقليمها بصورة كاملة أمرًا بالغ الصعوبة، فضلًا عما تشكله الصحراء من مدخل مهم لمختلف التهديدات الأمنية حيث يمكن اجتيازها بسهولة من قبل الجماعات المسلحة المعارضة وعلى رأسها جبهة الوفاق من أجل التغيير. ومن ناحية ثانية، تحاصر تشاد دول تعاني من الاضطرابات والصراعات بما يوفر ملاذات آمنة لكل التنظيمات الإرهابية "داعش والقاعدة وبوكو حرام" لاسيما إذا تعاطت الحكومة السودانية بسياسة التعامل بالمثل ودعمت الحركات المسلحة التشادية؛ الأمر الذي يعقِّد كثيرًا من مهام الحكومة الجديدة التي تسفر عنها الانتخابات الرئاسية في مايو/أيار الجاري(20).

وهذه الاعتبارات الإقليمية تعزز من فرص الاعتراف بالعملية الانتخابية مهما كانت، وذلك بفضل الأهمية الاستراتيجية المتنامية لتشاد بحيث أصبحت تمثل أحد اللاعبين الرئيسيين في استعادة الاستقرار في إقليم الساحل الإفريقي، مما جعل من نجمينا عاصمة رئيسية للعديد من ممثلي الدول الكبرى المعنية باستقرار الأوضاع في القارة الإفريقية.

ويشكل الدعم الخارجي والفرنسي على وجه الخصوص في ذاته مصدرًا من مصادر الاضطراب السياسي بحيث قد يدفع الترتيبات السياسية الهشة للانهيار؛ إذ تشهد دول الساحل الإفريقي في السنوات الأخيرة تناميًا للتيارات المعارضة للدور الفرنسي في مكافحة الإرهاب باعتبار أنه يمثل شكلًا من أشكال "الاستعمار الجديد" قد شهدت تشاد في مناسبات عديدة قيام بعض المتظاهرين بإحراق الأعلام الفرنسية وتخريب المنشآت التابعة لشركات فرنسية كتوتال النفطية. وبينما يعد الدعم الخارجي للقوات المسلحة التشادية ضرورة حتمية لمواجهة التحديات الأمنية الكبرى(21).

وهناك جملة من السيناريوهات المحتملة التي يرجح أن تتمخض عن الانتخابات الرئاسية في تشاد، ويمكن عرضها على النحو التالي:

أولًا: سيترتب على تنظيم هذه الانتخابات تحت راية تحالف "تشاد موحدة" توسيع كبير لسلطات الجنرال محمد ديبي وذلك ما سنشاهده في حالة فوزه المتوقع، خاصة أنه اكتسب خبرات ونفوذًا إبان الفترة الانتقالية، ومن ثم ترسيخ السلطة في يد ديبي الابن رئيسًا شرعيًّا منتخبًا، وبموجبها سيصبح الأخير يمتلك السلطة منفردًا في تعيين وإقالة الوزراء، وحكام الأقاليم. ومن المحتمل أن يثير هذا السيناريو توترات سياسية قد تهدد حالة الاستقرار الهش في البلاد(22).

ثانيًا: تبقى ظلال حدوث انقلاب عسكري أمرًا واردًا، فقد تشهد نجمينا خلال الفترة المقبلة انقلابًا في ظل تعدد تجارب الانقلابات العسكرية في غرب إفريقيا خلال الأشهر الأخيرة، وربما تزداد هذه الاحتمالية في ظل الانقسامات القائمة داخل المؤسسة العسكرية في تشاد. فمن الممكن حدوث انقلاب عسكري يطيح بمحمد ديبي كاكا، مدعومًا من زعماء وقادة الزغاوة في الجيش، وذلك بعد تصاعد الرغبة في الانتقام من محمد ديبي، والسعي لتنحيته عن الحكم مِن قِبَل جزء كبير من الزغاوة؛ حيث إن مسألة بقائه في السلطة أصبحت تُهدِّد مستقبل بقاء العشيرة الحاكمة كلها في السلطة، ولهذا يمكن التضحية به من خلال عملية انقلاب عسكري أو حتى عملية اغتيال مدبر تمنعه من البقاء على رأس السلطة.

ثالثًا: احتمالية الاستيلاء على السلطة من قبل الحركات المسلحة؛ حيث أصدرت الجماعات المسلحة المعارضة بيانًا مشتركًا حذرت فيه النظام الحاكم في نجمينا من العواقب التي ستترتب على سياسته الخادعة التي تبناها خلال الفترة الماضية، وربما يزيد من خطورة هذا البيان أنه تضمن "جبهة الوفاق من أجل التغيير" (فاكت)، والتي كانت قد قادت الهجمات التي أدت إلى مقتل إدريس ديبي في أبريل/نيسان 2021 لاسيما بعد أن تورطت تشاد في الحرب السودانية حيث أصبحت معبرًا لوجستيًّا لقوات الدعم السريع.

رابعًا: أن يستطيع رئيس الوزراء، سوكسيه ماسرا، النجاح في الانتخابات، وهو زعيم حزب "المتحولون" أبرز المنافسين لديبي كاكا، وهو معارض تاريخي لحكم أسرة ديبي ووجد قبولًا ودعمًا غربيًّا واسعًا، بالرغم من تدني شعبيته بعد توليه منصب رئيس الوزراء مؤخرًا إلا أنه الأكثر قبولًا من قبل سكان الجنوب التشادي، فضلًا عن أن برنامجه الانتخابي يهتم بكل من التعليم والصحة ومحاربة الفساد والتنمية وتوفير العدالة والأمن.

خاتمة

تعكس المرحلة الانتقالية حالة من الهشاشة والاضطرابات التي تعاني منها تشاد؛ إذ تشهد هيمنة نظام آل ديبي بقيادة محمد كاكا على السلطة، وحيث يسعى من خلال الانتخابات الرئاسية الراهنة لاستنساخ نموذج مماثل لنظام حكم والده الذي استمر قرابة الثلاثة عقود بواسطة شرعية انتخابية مشكوك في نزاهتها، وقد يتسبب في تأجيج الأوضاع السياسية والأمنية مرة أخرى، سواء من خلال تصعيد الاحتجاجات السياسية أو المواجهات المسلحة، وسيؤثر التنافس الدولي على المشهد السياسي والأمني في تشاد.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1) صلاح خليل، المرحلة الانتقالية في تشاد: الفرص والتحديات، المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، 18 يوليو 2021، (تاريخ الدخول: 1 مايو/أيار 2024)، https://ecss.com.eg/15639/

2) المصدر نفسه.

3)- Daniel Eizenga, Chad’s Escalating Fight against Boko Haram, The Africa Center for Strategic Studies, April 20, 2020, (Acceessed April 30, 2024):

https://africacenter.org/spotlight/chad-escalating-fight-against-boko-h…

4) حامد فتحي، "الحوار الوطني في تشاد: بناء الدولة أم شرعنة التوريث؟"، حفريات، 11 يناير/كانون الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 2 مايو/أيار 2024)، https://cutt.us/5UF9H

5) المصدر نفسه.

 6) توريث الحكم مستقبل تشاد بعد تمديد الفترة الانتقالية لمدة عامين، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، العدد 1668، أكتوبر/تشرين الأول 2022، ص 2.

7) المصدر نفسه، ص 4.

8) إيمان عبد العظيم، تشاد: ماذا بعد الفترة الانتقالية؟، مركز فاروس للاستشارات والإستراتيجية، 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 4 مايو/أيار 2024)، https://shorturl.at/kpvY6

9) المصدر نفسه.

10) حمدي عبد الرحمن حسن، رحيل الرئيس ديبي في تشاد ومعضلة الأمن في الساحل، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، 20 أبريل/نيسان 2021، (تاريخ الدخول: 1 مايو/أيار 2024)، https://acpss.ahram.org.eg/News/17120.aspx

11) المصدر نفسه.

12) سيدي أحمد ولد الأمير، الأزمة التشادية مظهر من الصراع المعقد بين دوائر النفوذ، مركز الجزيرة للدراسات، 3 مارس/آذار 2024، (تاريخ الدخول: 1 مايو/أيار 2024)، https://studies.aljazeera.net/ar/article/5864

13) المصدر نفسه.

14) دانيال إيزنجا، لحظة حاسمة: المرحلة الانتقالية في تشاد، مركز إفريقيا للدراسات الإستراتيجية، يناير/كانون الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 2 مايو/أيار 2024)، https://africacenter.org/ar/spotlight/ar-a-crucial-moment-in-chads-transition/

15) المصدر نفسه.

16)- Daniel Eizenga, chad's ongoing instability, the legacy of idriss deby. May 3, 2021 (Acceessed April 30, 2024):

 https://africacenter.org/spotlight/chads-ongoing-instability-the-legacy-of-idriss-deby/

17) المصدر نفسه.

18) محمد عبده حسنين، تشاد: هل تصمد المرحلة الانتقالية لديبي الابن؟، الشرق الأوسط، 6 يناير/كانون الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 3 مايو/أيار 2024)، https://shorturl.at/chuGZ

19) سيدي أحمد ولد الأمير، مصدر سابق.

20) محمد صالح عمر، مقتل ابن عمة الرئيس واعتقال عمه.. ما الذي يجري في تشاد؟، الجزيرة نت، 2 مارس/آذار 2024، (تاريخ الدخول: 3 مايو/أيار 2024)، https://shorturl.at/dehV4

21) المصدر نفسه.

22) محمد عبده حسنين، تشاد: هل تصمد المرحلة الانتقالية لديبي الابن؟، الشرق الأوسط، 6 يناير/كانون الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 3 مايو/أيار 2024)، https://shorturl.at/chuGZ