"النظام العالمي": تجديد مركزية أميركا

يعتبر هنري كيسنجر، في كتابه "النظام العالمي"، أن الفوضى العالمية الحالية ناتجة عن أزمة الدولة المعاصرة، وأن المخرج في تعاون بين القوى الكبرى تقوده أميركا.
20141020115645202734_20.jpg
(الجزيرة)

لا يزال هنري كيسنجر إلى اليوم، وبعد سبعة وثلاثين عامًا على مغادرته منصبه كوزير للخارجية الأميركية في عهدي الرئيسين ريتشارد نيكسون ثم جيرالد فورد، اسمًا معروفًا في العالم أجمع. حتى الجيل الحالي من الشباب، ومن لم يقرأ منهم صحيفة أو كتابًا في حياته، يعرف كيسنجر. هذا الرجل الذي ترك بصماته (السلبية إجمالاً) على الخارطة جيوالسياسية والاستراتيجية شرق الأوسطية (الجولات المكوكية وسياسات الخطوة خطوة والتي قادت إلى معاهدة كامب ديفيد والحرب الأهلية اللبنانية ناهيك عن دعم الأنظمة الدكتاتورية... إلخ)، والعالمية (مثل تطبيع العلاقة بين الولايات المتحدة والصين ووضع هذه الأخيرة في مواجهة الاتحاد السوفيتي، قبل إدخالها في مجلس الأمن، ودعم الدكتاتوريات في أميركا اللاتينية.. إلخ). إنه ليس فقط أشهر وزير خارجية في العالم المعاصر بل أكثرهم إنتاجًا للمقالات والكتب ناهيك عن المحاضرات والاستشارات.فمذكراته، فقط، جاءت في ثلاثة مجلدات وليس كتابًا واحدًا، وعندما كان أستاذًا في جامعة هارفارد نشر خمسة كتب، أولها كان عن "مترنيخ ومشاكل السلام"، وهو عبارة عن أطروحته للدكتوراة في التاريخ السياسي والتي ناقشها في جامعة هارفارد العام 1957. وقد بقي معجبًا ببراغماتية وحذاقة مترنيخ طيلة حياته المهنية، وبعد تقاعده نشر عشرة كتب إلى جانب المقالات الصحافية والأعمدة في كبريات الصحف الأميركية.

منعطف خطير

كتابه الأخير "نظام عالمي" الذي نشره في 9 سبتمبر/أيلول الماضي 2014 (والذي يقع في مقدمة وخاتمة وتسعة فصول على مساحة 432 صفحة) قد يكون الأخير؛ فالرجل يبلغ من العمر 91 عامًا. وهو كتاب يؤكد انتماءه المستمر إلى المدرسة "الواقعية" التي لا يزال أحد كبار روادها؛ فهو سبق وامتدح النظامين العالميين تعددي القطبية المنبثق عن مؤتمر فيينا العام 1815، والذي أسست له معاهدة وستفاليا، العام 1648 التي أنشأت الدولة-الأمة السيدة الحديثة، وثنائي القطبية المنبثق عن يالطا ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكنه يعتقد بأننا نفتقد اليوم إلى نظام عالمي مستقر، على غرار الاستقرار الذي أمَّنه النظامان المذكوران. وما يسمى نظامًا عالميًا اليوم، وهو ليس كذلك، يعيش أزمة ويقف عند منعطف خطير. ومن أسباب ذلك تفكك الدولة الحديثة؛ الأمر الذي حدث عمدًا في أوروبا كجزء من سياسة تطوير الاتحاد الأوروبي والتي لم تبين عن فعالية دولية؛ فقد تخطت أوروبا مبدأ الدولة، وهي لا تزال الوحدة الأساسية في الحياة الدولية رغم تعرضها للضغوط الهائلة، وأخذت تتجه نحو سياسة خارجية تعتمد أكثر فأكثر على القوة الناعمة على حساب الفكر التقليدي الأوروبي. وبما أن أوروبا لم تتحول إلى دولة فقد تقع في فراغ سلطوي داخلي وعدم توازن للقوى على حدودها الخارجية، لاسيما في الشرق الأوسط حيث تحتدم الصراعات المذهبية والعرقية والدينية المسلحة وتتعرض الدول فيها إلى اعتداءات على سيادتها ما يجعلها عاجزة عن حماية أراضيها وشعوبها.

وبمناسبة الكلام عن الشرق الأوسط، فمن دون أن يشير إلى الحاجة إلى الحرية والديمقراطية، يقول كيسنجر بأن هذه المنطقة تآكلت فيها الدول من الإهمال وتحولت إلى صراعات وتفاقمت بسبب قوى خارجية (هل الولايات المتحدة من هؤلاء؟ لا يؤكد ذلك). بالطبع، فإن الديمقراطية الناشئة في أفغانستان تعيش حالة شلل تام (أين المسؤولية الأميركية عن ذلك؟)، أما ليبيا فتعيش حربًا أهلية حيث يسيطر المتشددون الإسلاميون الذين قد ينقلون إليها دولة الخلافة التي نشأت في العراق وسوريا. هذان البلدان الأخيران لن يتمكنا من إعادة توحيد نفسيهما من جديد كدولتين سيدتين مستقلتين. والتَّفتت القبلي والمذهبي والعرقي الذي يعصف بهما قد ينسحب غدًا على المزيد من الدول ويترك المجال أمام سيطرة الكيانات غير الدولتية، مثل: حزب الله والقاعدة وطالبان وداعش وغيرهم، ويؤدي إلى تفكك النظام الإقليمي والدولي وانتشار القوى الخارجة عن النظام والقانون على مساحة الخارطة الإقليمية الإسلامية الواسعة.

الصين وروسيا مسؤولتان عما آلت إليه الأوضاع في الشرق الأوسط بسبب استخدامهما حق النقض (الفيتو) خوفًا من سقوط بشار الأسد وانتقال النزعات الانفصالية الإسلامية إلى أراضيهما، وإيران مسؤولة أيضًا لأنها تطمح إلى توسيع نفوذها في المنطقة وتستخدم لأجل ذلك كيانات غير دولتية مرتبطة بها وبأيديولوجيتها وتبحث عن مقارعة منافسيها والتشكيك بشرعيتهم.

وفي تحليله للعلاقة بين بلاده والمملكة العربية السعودية يحمِّل كيسنجر هذه الأخيرة مسؤولية كبيرة لاعتقادها، ومنذ زمن طويل، بأنها يمكن أن تنجو من الخطر الإسلامي الراديكالي عبر دعم الحركات الإسلامية في الخارج. لقد تبين خطأ هذا الرهان، فتهديد القاعدة وصل إلى الداخل السعودي الذي بات يعاني من الخطر الإسلامي ويخشى تهديداته العلنية المباشرة. ووصول الاضطرابات إلى السعودية، إذا ما حصل، من شأنه إحداث أذى فادحًا بالنظام الاقتصادي العالمي وبالأمن والسلم الدوليين؛ إذ ليس من المعقول الافتراض بأن هناك معارضة سعودية ديمقراطية معتدلة تنتظر أن تحكم السعودية، وهذا على الأقل ما كشفت عنه الثورات العربية التي كانت في الظاهر ثورات تدعو إلى دولة مدنية ديمقراطية وانتهت بوصول الإسلاميين إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع.

في تحليله لراهن الحركات الإسلامية العربية يعود كيسنجر إلى تاريخ الإخوان المسلمين لاسيما إلى النقد الذي وجهه حسن البنا، في العام 1947، للنظام العالمي مقدمًا بديلاً له هو النموذج الإسلامي الطهوري، ثم لسيد قطب الذي أعلن الحرب على النظام العالمي في العام 1964. وفي رأيه أن هذا الفكر شكَّل منعطفًا ومنطلقًا لانتفاضة الجهاديين والمتطرفين في الشرق الأوسط، والتي عبرَّت عنها حركات وتنظيمات مثل القاعدة وحزب الله وطالبان والثورة الإسلامية الايرانية وحزب التحرير والنصرة وداعش وبوكو حرام. وفي هذا الفكر لا يمكن للدولة الحديثة أن تكون الوحدة الأساسية في النظام العالمي لأنها كافرة وعلمانية وغير شرعية، ولا مكان فيه أيضًا لمبدأ عدم التدخل في شؤون الآخرين، فالولاءات القومية على ضلال.

في المقابل، انتشرت صيغة النظام الوستفالي، منذ العام 1648، وأضحت نظامًا عالميًا بفضل الغرب المتقدم والتوسعي الذي سعى لنقلها إلى مناطق أخرى. لقد فقدت هذه الصيغة الحضارية سلطتها وشرعيتها اليوم، وأعداؤها الإسلاميون يتحملون قدرًا كبيرًا من المسؤولية عن ذلك؛ فقد استفاد هؤلاء من الربيع العربي ليحلوا محل قادته الذين ينتمي معظمهم إلى الطبقة المتوسطة المتطلعة إلى المزيد من الحرية والديمقراطية على الطريقة الغربية، لكنهم افتقروا إلى التنظيم والقاعدة الشعبية ووسائل الحكم. عندئذ وجدت الولايات المتحدة نفسها إزاء معضلة التوفيق ما بين مصالحها والقيم الديمقراطية التي تحملها وتعمل على تسويقها.

أخطر ما يقوله كيسنجر هو عن سوريا والعراق؛ إذ يكرر في كتابه، ولو بعبارات ملتوية غير مباشرة، ما سبق وردده في غير مناسبة، منها محاضرة له أمام "فورد سكول" في يوليو/تموز 2013. قال وقتها إنه يفضل بلقنة سوريا على انتصار بشار الأسد أو الجماعات المناهضة له؛ فسوريا، حسبه، كما العراق ليست دولة تاريخية بل مصطنعة خلقها الفرنسيون في شكلها الحالي العام 1920، كما فعل البريطانيون وقتها بالنسبة للعراق، بهدف تسهيل السيطرة عليهما لاحقًا. وهاتان الدولتان تضمان قبائل وإثنيات وطوائف مختلفة دخلت اليوم في حرب طاحنة في ما بينها. وفي رأيه هناك حسنات من وراء تفتيت هذه الدول إلى دويلات صغيرة لأنه يمكّن القوى العرقية والمذهبية والأقليات من توكيد نفسها والسيطرة على مناطقها والاستحواذ على حقوقها، ما يفتح المجال أمام دمجها في نظام عالمي جديد. وهذه فكرة ثابتة لدى "البراغماتي الواقعي" كيسنجر الذي يعتقد بأن الانقلابات الاجتماعية والاضطرابات والحروب الأهلية يمكن استخدامها كوسائل لدمج الأمم في "نظام دولي" على الولايات المتحدة أن تعمل على إنشائه بمساعدة القوى العظمى الأخرى لاسيما الصين؛ ففي عصر الإرهاب الانتحاري وانتشار أسلحة الدمار الشامل ينبغي التعامل مع المواجهات الطائفية الإقليمية كتهديد للاستقرار العالمي برمته، وهذا يستدعي تعاونًا حقيقيًّا وجديًّا بين كل القوى الدولية لأن البديل عن ذلك انتشار الفوضى والتطرف في بقية المناطق.

مشاركة الدول العظمى ضرورية إذن، فالصين وروسيا مسؤولتان لأن سعي الولايات المتحدة لإيجاد حل سياسي، عبر حكومة ائتلافية، من دون بشار الأسد اصطدم بجدار مجلس الأمن، قبل أن يتبين أن قوى المعارضة الفاعلة لم تكن ديمقراطية أو معتدلة. ثم تدخل لاعبون إقليميون كان جل همهم تحقيق النصر على خصومهم وليس الديمقراطية بالضرورة، فانحرف الصراع عن مساره وأضحى صراع مآرب ومصالح جيوستراتيجية وجيو-دينية. ويقدم كيسنجر سرده للأحداث وكيف تحولت إلى حرب أهلية سنية-شيعية، ضربت في طريقها الأقليات الدرزية والمسيحية والكردية، وصولاً إلى سيطرة داعش نتيجة عجز دمشق وبغداد عن فرض هيبة الدولة وسلطتها. بالطبع لا يتكلم كيسنجر هنا عن مسؤولية واشنطن عن هذا العجز، لاسيما غزوها للعراق من غير وجه حق والذي أدى إلى الكوارث  الراهنة. هو يسعى إلى إزاحة المسؤولية عن الولايات المتحدة الأميركية لاسيما وأنه كان من المؤيدين للغزو الأميركي للعراق، وكان من بين الأصوات التي استأنس بها الرئيس جورج بوش الإبن لدى تخطيطه لهذا الغزو الذي كانت له المساهمة الكبرى، بالإضافة إلى عوامل أخرى، في التغيير الجذري لمنطقة الشرق الأوسط وجعلها تصل إلى ما وصلت اليه. وفي كتابه هذا يُثني على بوش لأنه "واقعي" و"حريص على أمن أميركا"، لكنه ينتقد إنفاق تريليون دولار  لبناء الديمقراطية في العراق. وفي الوقت نفسه ينتقد أوباما، لأنه مارس سياسة سلبية، فشلت في بناء التحالفات وطمأنة الحلفاء وتسليح الذين سيحاربون الأعداء دون الاستخدام المباشر للقوة الأميركية.

يعترف كسنجر بأن ما يحدث في سوريا هو أكبر كارثة انسانية في هذا القرن، وبأن أصداءها وصلت إلى العالم أجمع. وسبب هذه الكارثة انهيار الإجماع الدولي وانقسام المعارضة السورية على خلفية تدخلات إقليمية وغياب نظام أمني دولي أو إقليمي فاعل وسعي كل دولة وراء مصالحها الإنانية القومية الخاصة، في وقت كان التدخل العسكري الخارجي، والأميركي تحديدًا، غير ممكن التطبيق عمليًا بعد فشل تجربتي أفغانستان والعراق.

أميركا أبدًا

والهمُّ الذي يحكم الكتاب هو أمن الولايات المتحدة رغم الكلام عن الأخلاق والديمقراطية والحرية وغيرها. وليس هناك إصرار على دمقرطة الصين ونشر الحرية فيها؛ فالواقعية السياسية الكيسنجرية تقتضي التعامل مع هذه القوة العظمى كما هي وليس كما يراد لها أن تكون. ثم إن النظام العالمي الذي يدعو إليه كيسنجر ينبغي أن يقوم بالشراكة مع الصين. وهكذا فهو يهمل روسيا التي قسَّمها إلى قسمين جيوبوليتيكيين، بين الشرق الصيني والغرب الأميركي، ناقلاً بذلك الخط الفاصل ما بين الشرق والغرب من نهر أودر بين ألمانيا وأوروبا الشرقية؛ حيث كان جدار برلين، إلى جبال الأوراس في وسط روسيا. هذه الأخيرة جُلّ ما تفعله في أوكرانيا وسوريا أنها تدعم الانفصاليين الروس ونظام الأسد لسبب داخلي وآخر استراتيجي يتعلق بتعزيز موقعها في المنافسة الدولية مع أميركا.

معضلات عالمية

يطرح الكتاب عددًا من التساؤلات من قبيل: هل نحن في مرحلة تولي قوى منفلتة من عقال كل نظام رسم وجه المستقبل؟ هل ستنتهي الأزمة الاقتصادية إلى أشكال تعاون جديدة أم أنها سوف تحيي الصراعات الناتجة عن النزعة الحمائية؟ هل تساهم التكنولوجيا الجديدة في محاسبة المواطنين للقادة أم يتوسلها الدكتاتوريون في ملاحقة معارضيهم؟ هل تساهم القوى الناشئة، على غرار الصين والبرازيل والهند، في حل المشاكل الدولية أم تنفخ في نار الاضطراب؟ هل يشد الترابط المتعاظم بين دول العالم لحمة التضامن أم يُضحِي مصدرًا لصراعات جديدة؟ إذا كانت أميركا راغبة في لعب دور مسؤول، وعليها أن تفعل، في تطور النظام العالمي، فما الذي ينبغي عليها بالضبط أن تمنع حدوثه مهما كلّف الأمر ولو بمفردها من دون مشاركة الآخرين؟ وما الذي ينبغي أن تسعى لتحقيقه حتى لو تمنَّع هؤلاء عن دعمها؟ وبطريقة عكسية ما الذي يجب عليها أن تمتنع عنه ولو أصرَّ عليه الآخرون، من دول وتحالفات؟ وما طبيعة القيم التي تسعى للوصول إليها؟ وكيف يمكن الجمع بين تجارب تاريخية مختلفة وقيم متباينة في نظام عالمي مشترك؟... إلخ.

لا بأس فأميركا أمة تحل المشاكل وتدرك جيدًا أن السياسة الخارجية ليست قصة لها مقدمة وخاتمة بل سيرورة إدارة تحديات دورية وضبط إيقاعها، وهي تعرف جيدًا أن كلاً من الدول النامية في آسيا، ومنها الصين، وفي غيرها من المناطق، تملك رؤيتها الخاصة إلى النظام الإقليمي والدولي وهي رؤية ناتجة عن تاريخها وثقافتها وأوضاعها الراهنة، وسبل مقاربة هذه الرؤى المتباينة هي التي ترسم تصورنا للتحديات العالمية. وتسعى واشنطن إلى إيجاد توازن في نسج علاقة التعاون مع الآخرين من دون التفريط بالمصالح والقيم. وأبرز التحديات وأعقدها في هذا السياق يبرز في الشرق الأوسط حيث إشكالية الجمع ما بين ترتيب النظام الإقليمي والحرص على تناغمه مع السلام والاستقرار في العالم.

ويلاحظ كيسنجر عدم التطابق بين النظام الاقتصادي العالمي؛ حيث التدفق الحر للسلع ورؤوس الأموال، والنظام السياسي، حيث المصالح الوطنية والقومية للدول. وهذا، في رأيه، من أهم أسباب الأزمات الاقتصادية (تلك التي حلَّت بأميركا اللاتينية في ثمانينات القرن المنصرم ثم بآسيا في العام 1997 ثم روسيا بعدها بعام واحد ثم الولايات المتحدة في العامين 2001 و2007 إلى أن حان دور أوروبا في العام 2010)، والناجمة عن المغامرات والمضاربات. لقد أضحى النظام الاقتصادي العالمي معولمًا في حين بقي الهيكل السياسي للعالم قائمًا على مبدأ الدولة الساعية لتحقيق مصالح شعبها. هذا الاقتصاد في جوهره يتجاهل حدود الدول في وقت لا تزال السياسات الخارجية لهذه الدول تصر على الحدود وتتمسك بها ويضعف فيه الشعور، الذي يحتاجه النظام العالمي، بوجود أهداف مشتركة بين هذه الدول.

وأحد أسباب ذلك عجز المؤسسات الدولية التي تدير الاقتصاد الدولي، ولو ظاهريًا على الأقل، عن تسويق وتحقيق مثل هذه الأهداف، فهذه المؤسسات نفسها تسيطر عليها دول. وهكذا ينتقد الكتاب المنظمات الإقليمية مثل آسيان وآبيك وجماعة السبعة والثمانية، دون أن يقول شيئًا عن سيطرة الشركات الكبرى والمصارف والاحتكارات، والتي كشفت الأزمة المالية في أميركا نفسها عن مسؤوليتها المباشرة في هذه الأزمة. وهنا من المفيد التذكير بأن كيسنجر مستشار لعدد من كبريات هذه الشركات من خلال مؤسسة "كيسنجر آند أسوشيتز" التي يملكها.

إستراتيجية مرتبكة

وبعد أن يعدِّد مكامن وأسباب فشل النظام العالمي والحاجة الماسَّة إلى مثل هذا النظام، يخلص إلى أن الخروج من الفشل الحالي ممكن وذلك عبر إيجاد مفاهيم لمثل هذا النظام في مختلف الدول الفاعلة يتم ربطها ببعضها البعض عبر استراتيجية متماسكة، والتقدم نحو بناء هذا النظام ينبغي أن يكون عبر عملية مستمرة تتخللها مراحل وسيطة.

لا يخفى على القارىء عمومية وغموض الحل المقترح والذي أرفقه صاحبه بمدائح للولايات المتحدة، ولا يخفى على القارىء العربي غياب الكلام عن إسرائيل ومسؤولياتها المعروفة عن عدم استقرار الشرق الأوسط. وحتى عندما يمتدح أميركا "الأمة الحلَّالة" للمشاكل في العالم فإنه ينسى عجزها عن حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وأسباب ذلك، وعلى رأسها سيطرة اللوبي الصهيوني، وكيسنجر ليس بعيدًا عنه البتَّة، على مفاصل القرار الأميركي المتعلق بهذه المنطقة التي يسهب الكتاب في تحليل أزماتها بواقعها وآسبابها ونتائجها المباشرة والبعيدة، مع توزيع المسؤوليات عن هذه الأزمات بين الفاعلين دولاً وجماعات باستثناء... إسرائيل.

معلومات الكتاب
عنوان الكتاب: "النظام العالمي": تجديد مركزية أميركا -“World Order”,
المؤلف: هنري كيسنجر - Henry Kissinger
مراجعة: غسان العزي
الناشر: Penguin Press HC,
سنة النشر: 2014
عدد الصفحات: 432

نبذة عن الكاتب