الثقافة ومنظومات القيم في مصر خلال ثلاثين عاما

الحديث عن المجتمع المصري له طابعه الخاص، إذ يكشف تأمل أوضاعه عن مجموعة من الحقائق الأساسية، تتمثل الحقيقة الأولى في امتلاك هذا المجتمع القدرة على البقاء، ولكي يحقق له ذلك فإنه يمتلك آليات عديدة...
2011871265091621_2.jpg

الحديث عن المجتمع المصري له طابعه الخاص، إذ يكشف تأمل أوضاعه عن مجموعة من الحقائق الأساسية، تتمثل الحقيقة الأولى في امتلاك هذا المجتمع القدرة على البقاء، ولكي يحقق له ذلك فإنه يمتلك آليات عديدة يلجأ إليها -انتقائيا- حسبما تتطلب الأحوال والظروف.

أحيانا يستدعى آليات القوة والإرادة ليفرض وجوده على بيئته الإقليمية المحيطة به، حدث ذلك في عصر محمد علي باشا وفي عصر عبد الناصر. وأحيانا تدفعه ظروفه من أجل البقاء إلى التراجع والتكيف مع الأوضاع القائمة أيا كانت طبيعتها السلبية، كما حدث في عصر الخديوي توفيق ويحدث الآن. وهو ما يعني أنه يمتلك قدرا من المرونة والحركة الواسعة على متصلات التاريخ، وهى مرونة تضمن له الثقة في إمكانية البقاء.

وتتصل الحقيقة الثانية في تميز هذا المجتمع بأن قوته نابعة من ذاته دائما، فتخلفه وتقدمه صناعة محلية بحتة، بل نجده في أحيان كثيرة يفيض على من حوله ليسهم في تأكيد تطورهم وتقدمهم. حدث ذلك حينما تم تهجير العمالة المصرية إلى عاصمة الخلافة العثمانية في عصر السلطان سليم الأول ليترك أصحاب الحرف بصماتهم هناك، ولينقلوا مهاراتهم إلى رفاقهم الأتراك.

وحدث نفس الشيء في العقود الأخيرة من القرن العشرين، حينما هاجر المصريون إلى مجتمعات الخليج ليشاركوا في إنجاز التحديث، وليعودوا كما ذهبوا، بعد أن تركوا المهارة وأسسوا قابلية التحديث، فالمجتمع المصري تكمن قوته في قدرته على العطاء، عن إيثارية ورغبة في تطوير أوضاع الآخرين. غير أن هذا المجتمع مثلما يمتلك قوة ذاتية، يعاني من ضعف ذاتي كذلك، يحدث ذلك حينما تتساقط المبادئ لديه، إذ يؤكد لنا التاريخ أن هذا المجتمع يصبح قويا حينما يمتلك المبادئ، التي توجه حركته وتنظم تفاعله.

تأكيدا لذلك أنه أقام الحضارة المصرية القديمة حينما اعتقد في الفرعون الإله الذى يسيطر على الأرض وفاض حكمه عليها خيرا وعدلا. وحينما أسلمت مصر كانت هى البلد الإسلامي الوحيد صاحب عاصمة الألف مئذنة. غير أنه حينما تضيع منه المبادئ تتردى حركته ويتخبط وتضيع منه ذاكرته التاريخية وخبرته في مواجهة الأزمات والصعاب، وهي الحالة التى يعاني منها الآن.

فقد تراجع هذا المجتمع حتى تقوقع على ذاته، بعد أن كان هو الحامل لرايات النضال العربي. وهو الآن يعاني من أمراض اجتماعية وأخلاقية عديدة، يجب أن ننظر إليها بقدر من التفاؤل، باعتبار أن ذلك مخاض ميلاد جديد، ننتظره ونساعد على اكتمال ولادته، بنقد ما هو قائم وعبثي، عملا بالقول المأثور "ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت، وكنت أظنها لا تفرج". وكلي أمل في هذا الفرج القادم.

لقد عرضت باستفاضة في هذه الدراسة لسلبيات الواقع المصري المعاصر، وضعت هذه السلبيات تحت "زووم" التكبير، حتى نستنفر قدرتنا على النقد، بحثا عن الأمل وعن الإصلاح.  فنقد ما هو قائم وناقص يساعد دائما على ولادة ما هو جديد ومكتمل. وذلك لقناعة ذاتية أن صلاح مصر هو صلاح للعالم العربي بكامله، وانهيارها سوف يعني حتما انهياره،  فهي رمانة ميزان عالمها العربي، ليس هذا تعبيرا عن شوفينية مصرية، ولكنه تقرير لحقيقة يجب الأقرار بها كمصريين وعرب على السواء، حتى نستطيع الحركة، وحتى يمكن أن نعبئ قدراتنا باتجاه الهدف. وإذا كان السياق الثقافي والسياسي في المجتمع المصري يتيح قدرا من حرية النقد، فإنه يصبح على المثقفين تحمل هذه الأمانة لتوسيع مساحة النقد، والكشف عن العلل، دون وجل أو خوف، بحثا عن الأمل وعن المستقبل. فإصلاح مصر يعني -كما قلت- إصلاح عالمها العربي، وهي مهمة تستحق الجهد وتستحق المخاطرة.

أولاً: علاقة الثقافة ومنظومات القيم بالمجتمع

تتشكل الثقافة من مجموعة المعاني والرموز التي تتبلور على هيئة منظومات قيم توجه سلوكيات البشر في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، سواء كانت سوية أو منحرفة. استنادا إلى ذلك تلعب الثقافة ومنظومات القيم دورا محوريا في بناء المجتمع، لكونها هي التي تتولى تنظيم التفاعل الحادث في المجتمع. فالبشر يؤدون أدوارهم وينجزون سلوكياتهم وهم موجهون بقيم الثقافة. ومن ثم فكلما كانت الثقافة ومنظومات القيم أكثر فاعلية في ضبط التفاعل الاجتماعي، توقعنا أن يكون المجتمع أكثر استقرارا. ذلك يفرض علينا تعرف ماهية الثقافة ومنظومات القيم المشكلة لها والكيفية التي تؤدي بها أدوارها في تنظيم التفاعل الاجتماعي.

فإذا تأملنا بناء الثقافة من الداخل فسوف نجده يتشكل من ثلاثة عناصر أو مكونات أساسية، المكون الأول هو منظومة القيم الوجدانية، وهي تشكل القاعدة المعنوية التى يستوعبها الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية التي تتم في الأسرة، ثم من المدرسة والإعلام بعد ذلك. وتتمثل الوظيفة الأساسية لمنظومة القيم الوجدانية في كونها تربط الشخص بموضوعات بيئته التي ينشأ فيها عاطفيا ووجدانيا، كالارتباط بالأم والارتباط بالوطن والارتباط بالأسرة والارتباط "بالعلم" رمز الوطن. ومن شأن هذه القيم أن تؤسس قاعدة انتماء الشخص لمرجعيته الاجتماعية والوطنية بكل ما فيها، ويتم استيعاب هذا العنصر فى شخصية الإنسان منذ الصغر وبصورة تلقائية فى العادة. ويتشكل المكون الثاني من منظومة القيم الإدراكية التى تتشكل من المعارف الحديثة التى يتعلمها الإنسان من المدرسة وحتى الجامعة. وتتميز القيم الإدراكية بكونها ليست من طبيعة عاطفية كالقيم الوجدانية، ولكنها من طبيعة عقلانية بالأساس، ومن شأنها أن تقوي الجانب العقلاني في الإنسان. والمكون الثالث هو مجموعة القيم التفضيلية، وهي القيم التي تشكل مرجعية الإنسان في الاختيار والمفاضلة بين الموضوعات.

ونحن إذا تأملنا منظومات القيم هذه فسوف نجد أن القيم الوجدانية هي الأكثر فاعلية في الصغر، وكلما كبر الإنسان اتجه إلى العمل وفقا للقيم الإدراكية العقلانية، وكذلك تتسق هذه القيم مع السياق الاجتماعي، ففي السياق الريفي مثلا نجد أن القيم الوجدانية هي الأكثر فاعلية وتأثيرا، وإذا تحركنا إلى السياق الحضري فإن القيم العقلانية "الإدراكية" تكون هي الأكثر فاعلية وقوة.

وتلعب الثقافة ومنظومات القيم المتضمنة فيها دورها في ضبط التفاعل الاجتماعي من خلال أربع صيغ:

الصيغة الأولى: توجد القيم كما هي باعتبارها عناصر رمزية توجه التفاعل في كل مجال من مجالات التفاعل الاجتماعي، فهناك قيم خاصة بالأسرة، وأخرى خاصة بالتعليم وأخرى خاصة بالاقتصاد كالأمانة مثلا والجودة والصدق وغير ذلك من القيم، وبهذا الوجود الرمزي تؤدي القيم دورها في توجية سلوكيات البشر في كل مجال من المجالات الاجتماعية.

والصيغة الثانية: تتحول القيم في مجالات الواقع الاجتماعي المختلفة إلى أشكال معنوية ومعيارية تتولى ضبط التفاعل الواقعي مباشرة. وفي هذا الإطار تتحول القيم إلى تقاليد وأعراف ومعايير وقواعد تتولى الضبط المباشر للتفاعلات والسلوكيات الواقعية، فنحن نحتكم عادة إلى التقاليد والأعراف والمعايير في شؤون حياتنا اليومية.

والصيغة الثالثة: هي التي يتشكل فيها الضمير الفردي من خلال عملية التنشئة الاجتماعية التي توجد على أساسها القيم في المجتمع، إذ يستوعب الفرد من خلال هذه العملية قيم المجتمع ومثله فتشكل ضميره الفردي الذى يوجه سلوكه من داخله في مختلف المجالات الاجتماعية.

والصيغة الرابعة: هي التوقعات المتبادلة التي توجد بها القيم وتؤدي فاعليتها في المجال الاجتماعي. وتعني صيغة التوقعات المتبادلة أن الأفراد وهم يتفاعلون بعضهم مع بعض يتوقعون سلوكيات بعضهم تجاه بعض، لأنهم يؤدون هذه السلوكيات بالنظر إلى قيم مشتركة ومتفق عليها.

ومن الطبيعي أن تلعب هذه الصور الأربع دورها في ضبط سلوك الأفراد، إما من وجودها معاني رمزية وموجهات عامة وإما من كونها تقاليد وأعرافا ومعايير تضبط التفاعل الاجتماعي، أو من خلال ضمائرنا الفردية الموجهة لسلوكياتنا، أو على هيئة أن سلوك كل منا محكوم بتوقعات الآخر عنه، ومن ثم نجده يتصرف في غالب الأحيان وفقا لهذه التوقعات.

فإذا حاولنا تعرف مصادر القيم في المجتمع فسوف نجد أن هناك أربعة مصادر أساسية. الأول: الدين ويشكل في أي مجتمع من المجتمعات قاعدة الثقافة ومنظومات القيم، فالحلال والحرام الديني هو في الغالب الصواب والخطأ الثقافي، ومن ثم فكلما كانت المعاني الدينية متجددة كانت الثقافة أقل محافظة وأكثر ميلا لاستيعاب ما هو جديد.

وإذا كانت الثقافة ذات طابع متجدد على هذا النحو، فإنها بذلك تلعب دورا أساسيا في امتلاك المجتمع لقدر واضح من العافية والصحة الثقافية. ويشكل التراث الثقافي المصدر الثاني لثقافة المجتمع ومنظوماته القيمية. هذا التراث ينتقل إلى المجتمع عبر تتابع الأجيال، غير أن هذه الثقافة التراثية وإن انحدرت لنا من الماضي، فإنها تكتسب حيوية إذا أعيد إنتاجها من خلال التفاعل الاجتماعي القائم والمعاصر، وهو التفاعل الذى يتولى تعديل بعض جوانبها، قد يحذف منها أو يضيف إليها. ويشكل التفاعل الاجتماعي الذي يشارك فيه البشر فى المجتمع المصدر الثالث للثقافة.

فى هذا الإطار يلعب التفاعل الاجتماعي دورا محوريا فى إعادة إنتاج الثقافة، إلى جانب إنه يتولى إنتاج بعض القيم كذلك. وتشكل الثقافة الواردة إلينا من الخارج المصدر الرابع لثقافة المجتمع، فنحن الآن فى عصر وعالم الفضاءات الثقافية المفتوحة. حيث تنتقل الثقافات وتتحرك منظومات القيم دون حواجز، ومن الطبيعي أن تخترق بعض القيم الوافدة من الخارج ثقافة المجتمع. وفي هذه الحالة فإذا كانت ثقافة المجتمع تمتلك القوة والعافية فإنه يكون بإمكانها هضم العناصر الثقافية الوافدة بما يقوي بنيتها، أما إذا كانت ثقافة المجتمع ضعيفة فإن العناصر الثقافية الوافدة هي التي تتولى إعادة تشكيل هذه الثقافة الضعيفة وفق طبيعتها.

وبتأمل حال ثقافة المجتمع المصري نلحظ أنها بدأت تفتقد تماسكها وقوتها، إلى جانب أنها تعاني من تآكل مناعتها الثقافية بفعل متغيرات عديدة، وقد نتج عن هذه الحالة أن ضعفت هذه الثقافة في القيام بدورها في ضبط التفاعل الإجتماعي، وفى توجية سلوكيات البشر في مختلف مجالات الواقع الاجتماعي. بعض هذه المتغيرات يرجع إلى موقف النظام السياسي من عملية تحديث المجتمع والثقافة، بينما يرجع بعضها الآخر إلى طبيعة التحولات الاجتماعية والقوى الفاعلة في إطاره، على حين يرجع بعضها الثالث إلى أوضاع القوى الاجتماعية وحالة الضعف والانهيار الذي أصاب الطبقة المتوسطة وأخلاقها، يضاف إلى ذلك الضعف الذي أصاب مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتآكل الذي أصاب فاعليتها، وهي المتغيرات التي نعرض لها في الصفحات التالية. علما بأننا سوف نركز على التأثيرات السلبية لهذه المتغيرات في النصف الثاني من القرن العشرين.

ثانيا: دور النظام السياسي في إضعاف بنية الثقافة ومنظومات القيم

الحالة الافتراضية التي نؤكد عليها فيما يتعلق بالعلاقة بين النظام السياسي والثقافة ومنظومات القيم تتمثل في أنه من الضروري أن تعمل الأنظمة السياسية على دعم ثقافة وقيم المجتمع، باعتبار أنه إذا كان المجتمع يشكل سياق هذه الأنظمة، فإنه من الضروري أن يكون متعافيا من أي اعتلال، خاصة فيما يتعلق بالثقافة والقيم، لأنها تشكل المعاني التى توجه سلوكيات البشر -المواطنين- في مختلف مجالات الواقع الاجتماعي. ويتحقق دعم النظام السياسي للثقافة والقيم من خلال عدة أبعاد أساسية، حيث يتمثل البعد الأول في ضرورة أن تنبثق أيديولوجيا النظام السياسي من ثقافة وواقع المجتمع الذى ينتمي إليهما.

ذلك ما حدث في التطور الغربي عامة، حيث كانت أيديولوجيات الأنظمة السياسية مشتقة بالأساس من ثقافة المجتمع ومنظوماته القيمية. بينما يتمثل البعد الثاني في ضرورة أن يواجه النظام السياسي أي ثقافة أو منظومة قيم ذات طبيعة انحرافية قد تضر بالتطور الاجتماعي أو تصبح عبئا عليه. في حين يتمثل البعد الثالث في ضرورة دعم مؤسسات إنتاج أو إعادة إنتاج الثقافة حتى تبقى منظوماتها القيمية قادرة على التفاعل مع الواقع المتجدد.

استنادا إلى ذلك سوف نحاول تأمل العلاقة بين الأنظمة السياسية ومنظومات القيم، في هذا الإطار نعتقد أنه قد تتابع على الواقع المصري منذ 1952 وحتى الآن ثلاثة أنماط من الأنظمة السياسية. ويعد النظام الاشتراكي هو النظام السياسي الأول الذى شغل الفترة من 1952 حتى 1970 ونستطيع القول إن هذا النظام قد أضر ببنية الثقافة والقيم من خلال أربعة مظاهر أساسية.

أول هذه المظاهر أن الاختيارات الأيديولوجية للنظام السياسي لم تكن من رحم الثقافة ومنظومات القيم في المجتمع، بل كانت مفروضة عليه من الخارج. وإذا كان التوجه القومي قد شكل الاختيار الأيديولوجى الأول، في الفترة من 1952-1960، وإذا كان هذا التوجه متسقا في بعض جوانبة مع ثقافة وقيم المجتمع، فإنه ابتداء من 1960 وحتى 1970 اختار النظام السياسي الاشتراكية توجها أيديولوجيا له، وهو توجه لم تتسق منظوماته القيمية مع ثقافة المجتمع وقيمة إن لم تتناقض معها. بل إننا نجد أن النظام السياسي استخدم أحيانا ثقافة المجتمع في تبرير الأيديولوجيا الاشتراكية المفروضة عليه.

ويتمثل المظهر الثاني في عدم دعم النظام السياسي لمؤسسات التنشئة الثقافية سواء بالنسبة لأيديولوجيا النظام السياسي أو لثقافة المجتمع.  ففي المرحلة الناصرية لم ينشئ النظام السياسي المؤسسات الثقافية الجادة للتنشئة وفق قيم أيديولوجيته. إضافة إلى أن مؤسسات التنشئة الثقافية للمجتمع بدأ يدب فيها العطب. فقد بدأت "الكتاتيب" في التآكل، وقد كانت تحافظ رغم بدائيتها على قيم الثقافة التقليدية. كما بدأ الخلل يتطرق إلى مؤسسات التعليم الرسمي، حيث بدأ التهاون يدب في أداء هذه المؤسسات، خاصة روافدها التي تغذي الثقافة العامة. من ذلك اعتبار مادة الدين والتربية الوطنية من المواد الاختيارية، التي لا يرسب الطالب بسببها، إضافة إلى تحويل الجامعة الأزهرية إلى جامعة علمانية، انزوت في نطاقها الكليات التراثية. ذلك بالإضافة إلى أن تجير التعليم من خلال الدروس الخصوصية قد بدأ خلال هذه المرحلة وإن بصورة محدودة.

يضاف إلى ذلك أن الهجرة بدأت كثيفة من الريف إلى الحضر خلال هذه المرحلة أيضا، لأن التنمية أخذت الطابع الحضري بالأساس. ونظرا لأن الشرائح الفقيرة هي التي هاجرت في الغالب، فقد بدأت التجمعات العشوائية والثقافات العشوائية تظهر في المدينة خلال هذه الفترة، حتى قيل إن الريف ساعد في ترييف ثقافة المدينة.

ويتصل المظهر الثالث لتشويه الثقافة خلال هذه الفترة بتأسيس بداية الثقافة الانتهازية التي بدأت تتشكل في هذه الفترة من خلال رافدين، الأول يتمثل في أن النظام السياسي رفع شعار تفضيل أهل الثقة على أهل الخبرة، وإذا كان النظام السياسي قد قصد من ذلك الحفاظ على الثورة ومكاسبها، فإنه فتح بذلك القنوات لتسلل بعض العناصر الانتهازية لتنشر ثقافتها على ساحة المجتمع، والثانى أن النظام السياسي فتح قنوات الحراك الاجتماعي أمام أبناء الطبقة المتوسطة، بحيث ساعد الحراك الاجتماعي لديهم على ترسيخ الحراك الثقافي، حيث استوعبوا القيم التي تساعدهم في صعودهم الاجتماعي، ومن ثم تآكلت لديهم الثوابت القيمية، وحلت محلها منظومات قيمية تساعد على الصعود أو الحراك الاجتماعي. خاصة أن المتحركين ينتمون إلى المناطق الرخوة في بناء الطبقة المتوسطة، فى هذا السياق تشكلت بذور جنينية للثقافة الانتهازية.

غير أننا نلاحظ أن النظام السياسي قد قام في هذه المرحلة بحماية المجتمع من ثقافتين فرعيتين، الثقافة الأولى هي الثقافة الدينية المتطرفة والعنيفة سواء على الجانب الإسلامي أو المسيحي. كما حمى المجتمع أيضا من الثقافة الشيوعية حينما حاول بعض معتقدي هذه الثقافة نشرها في إطار الواقع المصري، حيث استمر النظام السياسي في العمل باتجاه إجهاض هذه الثقافة، حتى انتهاء مرحلة النظام الاشتراكي فى العام 1970.

ويشكل النظام الليبرالي النظام السياسي الذي شغل الفترة 1970-1980، حيث أدرك هذا النظام بدايات ضعف القوى الاشتراكية على الصعيد العالمي، وزيادة فعالية المد الليبرالي. ومن ثم أسس سياسة الانفتاح الاقتصادي التي فتحت الأبواب للأيديولوجيا الليبرالية، التي فرضت على المجتمع، خاصة أن النظام السياسي امتلك شرعية قوية بعد انتصاره في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973. ومن ثم انفتح على القوى الليبرالية في العالم حتى سقط أسيرا لها، بحيث يمكن القول إن النظام السياسي في هذه المرحلة ساعد على انتشار بعض منظومات القيم الثقافية الغريبة الليبرالية وفرضها على ثقافة المجتمع، دون أن تولد -مرة أخرى– من رحم ثقافتة. وهي الأيديولوجيا التي تؤكد على منظومات قيم تختلف عن منظومات قيم الثقافة التقليدية، الأمر الذي أدى إلى خلخلة ثقافة المجتمع.

بالإضافة إلى ذلك ظهرت ثقافات انحرافية عديدة، من هذه الثقافات اتساع مساحة منظومات القيم الانتهازية، التى بدت جنينية في المرحلة السابقة، وذلك بسبب اتساع مساحة الشرائح التي تبنت هذه القيم، خاصة من بين أعضاء النخبة الاشتراكية السابقة التي تحولت باتجاه تدعيم قواعد الليبرالية. وتضافر مع ذلك سلوك شريحة من كبار أعضاء بيروقراطية القطاع العام والحكومة في المرحلة الاشتراكية، الذين التحقوا بالطبقة العليا، باعتبارها القوة البارزة في هذه المرحلة الليبرالية. بالإضافة إلى ذلك انتشرت الثقافة الاستهلاكية في المجتمع بسبب اندفاع البشر بطاقة الحرمانات التاريخية، وبسبب عدم وجود قنوات تساعد في توجية المدخرات الصغيرة -التي نتجت عن الهجرة إلى مجتمعات الخليج – لبناء مؤسسات الإنتاج. إلى جانب ذلك ظهرت الثقافة الدينية المتطرفة على الصعيدين الإسلامي والمسيحي، بحيث أدت إلى تفجر الفتن والصراعات الدينية، إلى جانب ذلك تأسست البدايات الجنينية لثقافات انحرافية عديدة سوف تنتشر في المرحلة التالية.

وتعد الفترة من 1980- حتى الآن للنظام أو النمط الثالث استمرارا لذات النظام الليبرالى، ويمكن أن نسميها بمرحلة الفوضى الليبرالية، حيث ضبط إيقاع وتفاعل هذه المرحلة متغيرات عديدة، أبرزها وضوح التبعية للقوى العالمية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى تأثير العولمة التي اخترقت الفضاءات القومية على مختلف الأصعدة الاقتصادية والثقافية والسياسية. إلى جانب ذلك سيطرة رجال الأعمال على السلطة، إضافة إلى ضعف بنية المجتمع في هذه المرحلة، بحيث أصيبت ثقافته بمرض ضعف المناعة الثقافية والقيمية. الأمر الذى دفع إلى انهيار البنية الثقافية للمجتمع ومنظومات القيم المتضمنة فيها لتخلي الساحة لثقافات انحرافية عديدة ابتداء من الثقافة أو القيم الانتهازية، وحتى ثقافة الفساد والرشوة، إلى جانب ثقافة الانحراف الاجتماعي والأخلاقي. وهي جميعها دفعت إلى نمو واتساع ثقافة عدم الانتماء، وشيوع ثقافة الاحتجاج في الشارع المصري، الأمر الذى يشير إلى حالة من الفوضى أو "الأنومي" الثقافية حيث افتقاد المجتمع للمعايير التي توجه سلوكيات البشر في إطاره.

ثالثا: إضعاف التحولات الاجتماعية للثقافة ومنظومات القيم

على مدى نصف قرن جرت مياه كثيرة في نهر المجتمع، فقد حدثت على الصعيد الواقعي تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية من الصعب أن يتصورها خيال، فقد بدأ المجتمع منذ صباح ثورة يوليو/تموز 1952 من مجتمع تقوده أيديولوجيا ليبرالية مشوهة، تجاورها منظومات قيمية لم تندمج معها إن لم تعادها. فإذا به ينتهي بعد نصف قرن إلى مجتمع تقوده أيديولوجيا ليبرالية فاسدة، إلى جانب منظومات قيمية تجاورها، قد تختلف أو تتناقض معها. تحرك المجتمع فى الأربعينيات والخمسينيات بطبقة عليا ذات سلوك أناني في غالبه، وتتعايش مع البرجوازية العالمية وانتهى في العقد الأول من الألفية التالية إلى مجتمع تسيطر عليه الطبقة العليا نفسها، بعواطفها الأنانية ونزعاتها الفردية وتحالفاتها مع البرجوازية العالمية. مجتمع بدأ بالثورة على الفساد وتغيير القيم الفاسدة، فإذا به ينتهي إلى مجتمع منتج للفساد متخل عن القيم، تعوق حالته عملية الإصلاح والتغيير.

وإذا كانت الأشواق قد ازدهرت في صدورنا مع بداية هذه التحولات، التي أوحت لنا بأننا على أبواب تأسيس مجتمع، قوي وفعال وقادر على إشباع الحاجات الأساسية للبشر، بما يعمق عواطف المواطنة. فإذا بنا نجد أنفسنا في العقد الأول من الألفية الثالثة -بعد نصف قرن تقريبا– وقد انطفأت الأشواق وانتكست الآمال، وأصابتنا حالة من الحسرة على الذي كان وذهب. وكذلك على القائم المتهرئ الذي لا نعرف كيف نوقظه ونستنفر مواضع الصمود فيه، عل ذلك أن يكون مقدمة أو دعوة لمشروع اجتماعي يعيد إقامة واستواء المجتمع، ويستدعي هوية أمة. غير أن ذلك يتطلب تشخيص ما انتهت إليه منظومة الثقافة والقيم، تمهيدا لاستكشاف السبل لإعادة بناء ثقافة تحتوي على منظومات قيمية متماسكة.

يكشف تأمل الحصاد الثقافي أو القيمي الناتج عن التحولات الاجتماعية، التي خضع لها المجتمع المصري أن ثمة مظاهر عديدة لحالة من الانهيار القيمي، تشير جميعها إلى مجتمع قد فقد قيمه، ومن ثم قواعده المنظمة للسلوك، فالسلوك في هذا المجتمع أصبح عشوائيا وأصبح يختلف في أحيان كثيرة عما ينبغي أن يكون عليه السلوك لغياب القيم الموجهة أو المنظمة لسلوكيات البشر، أو حتى لضعف أدائها وفعاليتها. لقد اختلط كل شيء حتى أصبح من الصعب أحيانا التفرقة بين الحلال والحرام، والخطأ والصواب، ولذلك أسبابه ومظاهره العديدة.

1 – من الأسباب المسؤولة عن هذه الهشاشة الثقافية تسارع التحولات الاجتماعية الاقتصادية التي مر بها المجتمع، كما سبق القول.

2 - التحولات التي وقعت في المجتمع المصري كانت ذات تأثير سلبي لكونها قد أدت إلى نتيجتين، الأولى تبديد التحولات لخبرات المجتمع ومنظوماته القيمية، فكل تحول كان لاغيا لما قبله. فقد ألغى التحول الاشتراكي القيم الليبرالية باعتبارها قيما مدانة لكونها تشجع على الاستغلال وعدم المساواة. وألغى التحول الليبرالي فى السبعينيات القيم الاشتراكية باعتبارها تؤكد على المساواة في الفقر، إلى جانب كونها تقتل الحافز الفردي وتشجع على الكسل والاعتماد على الدولة. ثم تأتي العولمة لترى في كل هذه القيم مخلفات ماضية، وعلى الجميع أن يعدوا أنفسهم للأخذ بقيم العولمة. وإذا كانت الثقافة تحتوي على خبرة المجتمع، فإنها بذلك تشكل رأسماله الذي يجري تبديده في كل مرحلة من مراحل التحول. وتتمثل الظاهرة أو النتيجة الثانية في أن تتابع منظومات القيم دون هضم المجتمع لها يعني استيعابه لمضامين قيميه متعددة ومختلفة ومتناقضة، الأمر الذي يؤدي إلى إصابة المجتمع بعسر الهضم الثقافي أو التخمة الثقافية، مما قد يؤدي إلى إفراغ المجتمع لكل ما في جوفه من قيم، أو قد يحيا أحيانا بلا قيم أو بقيم سلبية.

وإذا كان من الصعب علينا تصور أن يغير الإنسان مبادئه وقيمه مرات عديدة في حياته، فإنه يصبح من المستحيل أن نتصور تغيير المجتمع لأيديولوجياته ومنظوماته القيمية على مدى فترة زمنية محدودة تناظر مدى الحياة الفردية، غير أن ذلك قد حدث، وقد شكل  كارثة، لقد أضعفت هذه التحولات بنية الثقافة والقيم، لأنها أصبحت جميعها بلا عمق في التاريخ، وبلا جذور في المجتمع. ومن ثم فقد عاشت الثقافة في ظل حالة من "الأنومي" التي تشير في جانب منها إلى ضعف وعدم تجذر منظومات القيم في بنية المجتمع، إضافة إلى عجز المعايير المشتقة منها عن ضبط التفاعل الاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك تخلق في لا وعي البشر في المجتمع منطق أن كل شيء مآله إلى التغير والاستبدال السريع، إذن فلنتعايش مع منظومات القيم دون أن نستوعبها، فقد يأتي الجديد الذي عليه أن يستوعبها، وهو حتما سيأتي، وسوف يأتي بعده ما هو أكثر جدة منه، إذن فلننتظر ولو كان الانتظار بلا قيم.

3 – من المشكلات أو الظواهر التي عانت منها الثقافة ومنظومات القيم كذلك، خلال هذه المرحلة، تعدد المنظومات القيمية بعضها إلى جوار بعض. وإذا كانت الحالة المثالية للمجتمع أن تكون له ثقافته أو مخزونه القيمي الذي يعبر عن هويته، وهي الهوية الثقافية أو القيمية التي تشكل مرجعيته في التعامل مع كل مكونات الوجود المحيط به. فإن الأمر لم يكن كذلك في مجتمعنا، فقد حدثت قطيعة مع الموروث الديني والثقافي، الإسلامي والمسيحي على السواء، وبدأت النظم السياسية في استدعاء أو استجلاب قيم على هيئة أيديولوجيات غربية وغريبة على المجتمع من الخارج، لتساعد في تحديث المجتمع.

ونتيجة لذلك رفض المجتمع القيم أو الأيديولوجيات التي أتت بها الأنظمة السياسية، تلك الأنظمة التي رفض المجتمع أيديولوجياتها من قبل لأنها رفضت موروثه الثقافي. ونتيجة لذلك فلا الموروث الثقافي تم تجديد بعض عناصره ليشارك في تحديث المجتمع وضبط التفاعل فى إطاره، ولا المجتمع انصاع وحدث نفسه وفق قيم ومبادئ أيديولوجيات نجحت في تحديث مجتمعات أخرى. وقد أدى ذلك إلى وضع مدهش وغريب، حيث تواجدت على ساحة المجتمع منظومات قيم غير متفاعلة. منظومة القيم الدينية التي جاءت إلى المجتمع من روافده الإسلامية أو المسيحية، وهي منظومة قاعدية وقوية لأنها متجذرة في بنية الشخصية المصرية. غير أن الأنظمة السياسية ظلت تؤكد على تحديد فاعلية الدين بحدود الضمير الفردي، دون أن تكون له علاقة بتنظيم المعاملات في مختلف مجالات الحياة. إلى جوار ذلك تواجدت على ساحة المجتمع القيم الاشتراكية المؤكدة على المساواة واحترام مبادئ العدالة الاجتماعية وفرض أولوية مصالح الجماعة على مصالح الفرد، وتقييد حرية الفرد بالتزاماته نحو الجماعة. تلتها في مرحلة تالية القيم الاستهلاكية التي تدعو إلى حياة ترفية مسترخية على عكس التقشف والفاعلية التي تدعو إليها القيم الدينية والقيم الاشتراكية. ذلك إلى جانب منظومة القيم الليبرالية التي دعت إلى الحرية الاقتصادية الاجتماعية والسياسية والاحتكام إلى قوانين السوق، وأقرت التفاوت واحترام المصلحة الخاصة. وهو ما يعني أن منظومات القيم المتعددة والموجودة في فضاء المجتمع لم تكن منفصلة فقط ولم تنصهر في منظومة قيمية واحدة كذلك، ولكنها قدمت معاني متناقضة بعضها مع بعض. الأمر الذي أضعف فاعليتها في توجيه سلوك البشر في مختلف المجالات الاجتماعية من ناحية، وأعاقها عن الانصهار في منظومة قيمية واحدة ومتجانسة من ناحية ثانية. ودفع إلى حالة تسعى في إطارها كل منظومة إلى تقديم معان ترفض معاني المنظومة أو المنظومات الأخرى من ناحية ثالثة. نتيجة لكل ذلك تخلقت حالة من انعدام المعايير المتفق عليها أو حالة "الأنومي" بالمعنى الدوركيمي لذلك.

4 – رغم أن الحالة المثالية للمجتمع تؤكد على ضرورة أن يمتلك المجتمع منظومة قيمية واحدة. فإننا نلاحظ انفصالا في بنية الثقافة بين القيم والمعايير والقواعد ذات العلاقة العضوية بكل من النظام السياسي والمجتمع. إضافة إلى التناقض الداخلي بين المنظومات القيمية التي تنتمي لكل منهما. قد يرجع ذلك في بعض منه إلى أن الدولة القومية في العالم العربي لم تتطور من رحم المجتمع وتراثه. أو قد يرجع إلى أن النظام السياسي لم يؤسس مؤسسات لصهر قيم المجتمع مع أيديولوجيا النظام السياسي، كما أنه لم يؤسس علاقات عضوية بين منظومات القيم التي تقع على مستويات متباينة. في هذا الإطار فإننا نجد أنفسنا في مواجهة منظومات قيم تنتمي بالأساس إلى المجتمع كمنظومة القيم الدينية أو المنظومة التراثية، مضافة إلى منظومات قيم تنتمي إلى النظام السياسي، وهي المنظومات المتضمنة في أيديولوجيته، كمنظومة القيم الليبرالية ومنظومة القيم الاشتراكية. بحيث يعد ذلك أحد أسباب حالة ضعف المعايير لتعددها، لأن قيم كل من المجتمع والنظام السياسي أضعفت بعضها بعضا.

ذلك يعني أنه قد أصبح في فضاء المجتمع منظومات قيمية لم يحدث بينها تفاعل أو انصهار، الأمر الذي أسس حالة من تعدد مرجعيات السلوك، فإذا حدث أن تناقضت هذه المرجعيات بعضها مع بعض فإن تأثيرها على السلوك في جملته سوف يصبح ضعيفا. وقد يتعامل الفرد بصورة نفعية وذرائعية مع المرجعيات القيمية المتباينة، ومن ثم تتحول القيم لديه إلى وسائل وليست غايات. وقد ينحرف الفعل الفردي عن مرجعية معينة إلى مرجعية قيمية معيارية أخرى، خاصة في المجتمع أو النظام السياسي، لأنها تحقق له مصالحه. فالإنسان الذي يطالب بدولة ذات مرجعية دينية قد تبارك قوله المرجعية الدينية، غير أن المرجعية الاشتراكية أو الليبرالية تدينه وترفضه. والملحد الخارج عن الملة قد تباركه بعض الأيديولوجيات العلمانية، لكنه يصبح موضع إدانة من قبل القيم أو المرجعية الدينية. في هذا الإطار تتأسس مرة أخرى حالة من اللامعيارية في المجتمع، التي تعني وجود حالة من الفراغ الأخلاقي الذي يسود المجتمع، وفي هذه الحالة قد يصبح سلوك البشر عشوائيا وعاريا من الأخلاق في غالبه.

5 – يضاف إلى ذلك أن الأنظمة السياسية التي ضبطت المجتمع أثناء مراحل التحول التي قطعها في النصف الثانى من القرن العشرين، لم تعمل -كما أشرت- باتجاه دعم مؤسسات للتنشئة الاجتماعية سواء وفق أيديولوجيا النظام السياسي أو حسب ثقافة المجتمع، الأمر الذى أدى إلى إضعاف الثقافة ومنظومات القيم لتوقف مؤسسات التنشئة الاجتماعية والثقافية عن عملية إنتاجها وإعادة إنتاجها. تأكيدا لذلك الضعف الذي أصاب مؤسسة العائلة، التي تحولت من العائلة الممتدة التي تستطيع القيام بعملية التنشئة الاجتماعية بصورة فعالة ومكتملة، لكونها النمط العائلي السائد مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين إلى العائلة النووية، التى أصبح التكوين العائلي في المجتمع المصري بعد ذلك وحتى الآن، ونظرا لقدرة هذه الأخيرة المحدودة على القيام بعملية التنشئة الاجتماعية، اتجه المجتمع الحديث إلى خلق بدائل لها، فإذا لم يستطع المجتمع تأسيس بدائل للقيام بالتنشئة الاجتماعية فإن الأمر يصبح كارثة، لأن الطفل سوف تتلقفه مصادر عديدة، ربما غير سوية تتولى تنشئته. وفي هذا الإطار من المحتمل أن ينشأ وفق قيم منحرفة. غير أن المسألة الهامة في هذا الصدد أن الأسرة النووية أصبحت عاجزة عن نقل ثقافة التراث إلى الأبناء، في مقابل وسائل التنشئة الأخرى كالإعلام وشبكة المعلومات الدولية التي تعمل باتجاه نشر منظومات قيم تخترق به ثقافتنا، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تآكل ثقافة التراث، التي تشكل قاعدة الهوية والمضامين المعنوية للانتماء. ويرتبط بذلك ضعف دور المدرسة التي اقتصرت على تلقين مجموعة من المعارف الإدراكية دون الاهتمام بغرس منظومات القيم الأخرى. الأمر الذي يعني غياب دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية حيث يتعرض مجتمع المدرسة لمجموعة من الانحرافات، التي تقلص من كفاءته على تربية الأبناء، وفق منظومة قيم سوية وقوية قادرة على توجية سلوكه الاجتماعي، كغياب القدوة وتتجير العملية التعليمية بسبب انتشار الدروس الخصوصية، إضافة إلى سقوط المعلم كقدوة عند قطاعات كبيرة من الطلاب.

ويتصل بذلك ضعف دور التنشئة الدينية على الصعيد الإسلامي والمسيحي على السواء، بسبب تراجع حجم وفاعلية هذه المؤسسات. فلم يعد "الكتاب الريفي" أو ما يناظره قادرا على القيام بنفس الدور الذي كان يقوم به في زمن الثقافة التقليدية المتماسكة، ولم تعد الآلية المماثلة على الطرف المسيحي تقوم بنفس الدور. يضاف إلى ذلك أن النظام السياسي نفسه لم يطور السياسات التي يحافظ بواسطتها على الأسرة متماسكة خاصة في المرحلة الليبرالية، حتى تصبح قوية وقادرة على القيام بعملية التنشئة الاجتماعية في مواجهة آليات التنشئة الاجتماعية الأخرى. ذلك بالإضافة إلى عدم بذل الدولة لجهد محدد باتجاه أن تلعب المؤسسة الدينية دورا أساسيا في دعم تربية المواطنين منذ الصغر وفق منظومات قيم الدين والتراث، بما يقطع الطريق على التطرف الديني من ناحية، ويعمق الالتزام بالقيم الدينية والتراثية الوسطية والمعتدلة من ناحية ثانية. بحيث يشب الأبناء منشئين وفق منظومات قيم تربطهم بهويتهم وسياقهم الاجتماعي.

رابعا: دور القوى الاجتماعية فى إضعاف الثقافة ومنظومات القيم

يشير تأمل بناء المجتمع المصري إلى أنه يتشكل من ثلاث قوى اجتماعية، الطبقة العليا والطبقة الوسطى والطبقة الدنيا، وكل من هذه القوى الاجتماعية له علاقته المؤثرة ببنية الثقافة ومنظومات القيم. فى هذا الإطار نجد أن الطبقة العليا تقود نوعية حياة مختلفة عما هو سائد أحيانا فى مجتمعها، الأمر الذى يجعل ثقافتها وقيمها ليست متطابقة تماما مع مضامين الثقافة القومية. ثم إنها بعيدة عن الثقافة التقليدية التى تشكل مرجعية المجتمع، لكونها أكثر ميلا إلى ثقافة التحديث التي هي فى الغالب ثقافة البرجوازية. على هذا النحو هي تشكل إحدى النوافذ التى تتدفق من خلالها الثقافات الأجنبية خاصة الغربية، حيث نلاحظ ذلك فى اللغة والمضامين القيمية للثقافة.

هذه الطبقة عاشت فى ظل ثلاث حالات في مختلف مراحل التحول الاجتماعى، فى المرحلة الأولى التى امتدت فى الفترة من 1952-1970 نجدها قد انسحبت من مناصرة التحول الاجتماعي، واتجهت إلى الاستثمار فى الخارج، وتبديد ثرواتها استهلاكيا ولم تشارك فى تنمية المجتمع وتحديثه. وذلك بسبب إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي، التي قادها النظام السياسى فى مواجهة الممتلكات الواسعة لهذه الطبقة، لتحقيق التوازن الاجتماعي.

وفى المرحلة الثانية 1970-1980 دعيت هذه الطبقة للمشاركة فى التحديث من قبل النظام السياسي، غير أنها نظرا للإجراءات التي تعرضت لها فى المرحلة الاشتراكية السابقة تقدمت للمشاركة بحذر، ليس فى بناء القواعد الإنتاجية فى المجتمع، ولكن فى نشر ثقافة وسلع الاستهلاك على ساحته. وقد أقدمت على هذه المشاركة فى إطار تحالف مع البرجوازية العالمية، حتى تحتمي بدرعها. وفى المرحلة الثالثة 1980 وحتى الآن اطمأنت الطبقة العليا إلى مكانتها، خاصة أنها اتجهت فى المرحلة الأخيرة للسيطرة على السلطة السياسية لتحتمى بها. وفى ظل أمان الحماية عملت على نشر ثقافة ومنظومات قيم سلبية فى فضاء المجتمع، كثقافة الفساد والرشوة، وتعاطى المخدرات، والاعتداء على المال العام. إضافة إلى نشر قيم الاستهلاك البذخى فى المجتمع، ومن ثم لعبت دورا محوريا فى تآكل منظومات القيم والأخلاق العامة فى المجتمع.

وإذا كانت الطبقة العليا قد توجهت شطر الخارج، فإننا نجد الطبقة الدنيا كقوة اجتماعية على العكس من ذلك منكفئة إلى الداخل، حيث تعاني من مشكلات كثيرة فى واقعها. ومن ثم فمعانيها وأبنيتها الرمزية عارية من المثل، الثقافة والقيم لديها لها طبيعتها الأدائية والعملية، التى تساعدها على التكيف مع أوضاعها الصعبة التى تعيشها. تضفي هذه الطبقة المشروعية على أي قيم أو سلوكيات تساعدها على إشباع حاجاتها الإنسانية والأساسية، حتى تتمكن من البقاء حية، بغض النظر عن الطبيعة الأخلاقية لهذه القيم أو السلوكيات. مساحة الانحراف عن مضامين الثقافة تتسع لديها كالطبقة العليا، العليا ترفا والدنيا احتياجا.

هذه الطبقة ظلمت فى مختلف مراحل التحول الاجتماعي، فقد عملت المرحلة الاشتراكية لصالح الطبقة المتوسطة أكثر من اهتمامها بمصالح الطبقة الدنيا. وحينما جاءت مرحلة التحول الليبرالي ابتداء من 1970 وحتى الآن، تشكلت ظروف صعبة سحقت هذه الطبقة ودفعتها إلى طرق سلوكيات انحرافية عديدة. ابتداء من الهروب إلى الدين والتطرف به، وحتى ارتكاب العنف والقتل لأفراد من المجتمع، مرورا ببيع الأبناء والأعضاء، حتى تتمكن من البقاء، ونهاية بظهور ظواهر سلوكية تجسد أنماطا من الانحراف الاجتماعي والأخلاقي الذى أصبح يشكل ثقافة ومنظومات قيم طبقة سقطت فى قاع المجتمع وتعيش حالة من الانسحاق الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي.

الطبقة الوسطى هى الطبقة التى تحافظ على توازن المجتمع أو هى رمانة الميزان. ذلك يرجع إلى أنه فى الحالات المعتادة والمثالية للمجتمع فإن الطبقة الوسطى تكون هي القوة الغالبة في المجتمع. وإذا كانت هي القوة الغالبة فثقافتها ومضامينها القيمية هي التي تتدفق في المجرى الرئيسي المجتمع، ومن ثم تصبح منظوماتها القيمية ومعاييرها هي العمود الفقري لبنية الثقافة القومية، وما عداها يصبح ثقافة فرعية لها، تصبح معاييرها وآدابها هي البوصلة التي تحدد الصواب والخطأ، كما تحدد مدى انحراف الثقافات الفرعية عنها، بهذا المعنى تشكل الطبقة الوسطى المرجعية الأخلاقية للمجتمع. استنادا إلى ذلك يؤكد علماء الاجتماع أن أخلاق الطبقة الوسطى هي التي تحدد طبيعة الأخلاق فى المجتمع باعتبار أغلبيتها، وباعتبار ظروفها الاجتماعية والاقتصادية الوسطية والمعتدلة. بحيث إنه إذا سلمت أخلاق الطبقة الوسطى سلمت أخلاق المجتمع، وإذا فسدت أخلاقها فسدت أخلاقه. وفي هذا الإطار نجد أن ثقافة الطبقة الوسطى تعيش في ظل ثلاث حالات.

فى الحالة الأولى تكون الطبقة الوسطى قوية، مساحتها أوسع على خريطة القوى الاجتماعية، ومن ثم فقيمها هي التي يحتكم إليها. ومن الطبيعي أنه إذا كانت ثقافتها قوية، وهي التي تتدفق في المجرى الرئيسي للمجتمع، فإنها تكون قادرة على تهميش مختلف الثقافات الفرعية الأخرى التي قد تظهر على ساحتها. حيث نجد أن هذه الحالة هي التي ميزت أوضاع الطبقة الوسطى في أعقاب ثورة 1952 وحتى 1970، وذلك يرجع إلى شروع نخبة يوليو في تطوير السياسات الاجتماعية التي منحت كثيرا من الامتيازات لهذه الطبقة لقاء جهودها النضالية في الفترة من ثورة 1919 إلى ثورة 1952.

من هذه السياسات أن الأراضي التى تم الاستيلاء عليها بفعل قوانين الإصلاح الزراعي بلغت مليون فدان تقريبا، أخذت منها الطبقة الوسطى وحدها 614 ألف فدان، بينما نالت الطبقة الدنيا 214 ألف فدان. ذلك بالإضافة إلى مجانية التعليم، حيث شكل أبناء الطبقة الوسطى 85% من طلاب الجامعات حينئذ. إضافة إلى التوظيف الكامل لأبناء هذه الطبقة في البيروقراطية الحكومية. ذلك إلى جانب تخفيض الإيجارات الزراعية في الريف وتخفيض إيجارات المساكن في الحضر، وهي الإجراءات التى أفادت منها الطبقة الوسطى بالأساس. ذلك بالإضافة أيضا إلى سياسة إحلال الواردات في الصناعة، وهي السياسة التى اتجهت لإنتاج السلع المعمرة لتلبية احتياجات الطبقة الوسطى بالأساس، بحيث يمكن القول إن هذه المرحلة هي المرحلة التي ازدهرت فيها أوضاع الطبقة الوسطى.

وفي الحالة الثانية قد تظل الطبقة المتوسطة قوية في وجودها وأخلاقها، غير أنه نظرا لأنها تنقسم إلى شرائح عديدة متراتبة، فإننا نجد أن وجود أو بناء الطبقة الوسطى يعاني من بعض المناطق التي يمكن أن نسميها "البطن الرخوة" للطبقة، وفي هذا الإطار نستطيع أن نميز في بناء الطبقة الوسطى بين منطقتين، الأولى تحتوي على الشريحة التي تقع أسفل هذه الطبقة والقريبة من الطبقة الدنيا، وفي هذا الإطار نجد أنه في حالة قوة الطبقة الوسطى، فإن قيمها ومعانيها تتدفق باتجاه ما هو أسفل منها لترتقي بأخلاق أعلى الطبقة الدنيا.

غير أنه في حالة ضعف الطبقة الوسطى فإن معاني وقيم وأخلاق الطبقة الدنيا تتسرب إلى "المنطقة الرخوة" في أسفل الطبقة الوسطى أي شرائحها الدنيا، لتصبح معاييرها هي المنظمة لتفاعلاتهم، خاصة إذا كانت تعاني من تدهور نوعية حياتها، بحكم حالة التحول الاجتماعي. وتعد الشريحة العليا للطبقة المتوسطة هي "المنطقة الرخوة" الثانية، التي تتخلى فيها الطبقة الوسطى عن بعض قيمها وأخلاقها لتكتسب قيم وأخلاق الطبقة العليا، بالإضافة إلى بعض جوانب نوعية من حياتها.

وفي هذه الحالة نجد أن الشريحة العليا للطبقة الوسطى هي النافذة المفتوحة لتدفق قيم غريبة أخلاقيا إلى ساحتها، قد يكون مصدرها الطبقة العليا، أو الثقافات الخارجية مباشرة. بيد أن الظاهرة الخطيرة والسلبية في هذا الأمر أن انتقال أبناء المنطقة الرخوة أسفل الطبقة الوسطى، من خلال الحراك الاجتماعي بوسائلة المختلفة ووصولهم إلى المنطقة الرخوة أعلاها يكون في العادة مؤثرا على قناعاتهم الأخلاقية. لأنهم يكونون قد عاشوا طيلة حياتهم في المناطق الرخوة لهذه الطبقة، ونشؤوا حسب القيم الضعيفة والمهتزة لهذه المناطق الرخوة، وليس بقيم المنطقة الصلبة التي تشكل وسط وجوهر بنية الطبقة الوسطى. هؤلاء يعانون في العادة من بعض العلل والأمراض الثقافية، فهم قد استوعبوا في الصغر المضامين الثقافية ذات الطبيعة الأدائية للطبقة الدنيا، وهم قد نجحوا في حراك اجتماعي حتى صعدوا إلى أعلى الطبقة الوسطى، ومن ثم فالتزامهم ضعيف بالأخلاق الصلبة للطبقة الوسطى. هؤلاء هم أبناء الشريحة التي تتعامل بقيم انتهازية، الأخلاق دائما ذات طبيعة حراكية وأدائية لديهم، نجدهم فرديين، الغاية تبرر الوسيلة لديهم، يتحدثون عن المثل والمعاني والأخلاق كثيرا، بينما القيم التي توجه سلوكياتهم تصدر عن قناعات وأخلاق أبناء المناطق الرخوة دائما.

فى هذا الإطار فإنه إذا كان النظام السياسي في الفترة 1952-1970 قد منح الطبقة الوسطى امتيازات كثيرة أفاد منها أبناء الطبقة الوسطى بالأساس، فإن سخاء الدولة الاشتراكية في عطائها لأبناء هذه الطبقة ولد لديهم عادة "الأخذ" دون "العطاء"، خاصة أنهم لم يربوا أيديولوجيا وفق القيم الاشتراكية. إضافة إلى ضعف قيمهم بسبب الحراك الاجتماعي المستمر من أسفل هذه الطبقة إلى أعلاها، بحيث أسس هذا الحراك المستمر لديهم عادة تغيير القيم وانتقاء القيم التي تساعد على الصعود الاجتماعي، بحيث أصبحت القيم لديهم ذات طبيعة ذرائعية أو أدائية، وقد كان ذلك مدخلا لتبني هذه الشرائح من أبناء الطبقة الوسطى لمنظومة القيم الانتهازية. حيث الغاية تبرر الوسيلة، وحيث تبتدع القيم والمعاني التي تبرر السعي للحصول على المركز أو المكانة والمصلحة، التبرير يكون أولا للذات ثم يتسع ليصبح تبريرا للآخرين إذا فشل الذكاء وسقط الحياء. على هذا النحو اكتمل تشكل الثقافة والقيم الانتهازية التي سوف تحكم تفاعلات المرحلة من 1970 وحتى الآن، وتوجه سلوكيات البشر في إطارها.

وفى الحالة الثالثة قد تتآكل الطبقة الوسطى وقد تتقلص مساحتها، كما يشخص ذلك القانون الماركسي المتعلق بنضج البنية الطبقية كمدخل لتفجر الصراع الاجتماعي. وارتباطا بذلك قد تتآكل ثقافة وقيم الطبقة الوسطى لتحل محل ثقافتها وقيمها ثقافة وقيم القوى والطبقات الاجتماعية الأخرى، خاصة قيم الطبقة الدنيا، التي تتدفق على ساحتها، وبدلا من الطابع الأخلاقي لثقافتها ومنظوماتها القيمية فإن الثقافة تتحول لديها إلى معان أدائية وعملية تساعدها على التكيف، ومن الطبيعي أن تتزايد مساحة الانحراف على ساحة الطبقة الوسطى، سواء كان انحرافا اجتماعيا أو أخلاقيا. ويمكن القول إن تفاعلات الطبقة الوسطى في مرحلة التحول الليبرالي الذى بدأ منذ العام 1970، وحتى الآن خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة تشخص هذه الحالة.

حيث فرض هذا التحول ظروف عنت كثيرة على الطبقة الوسطى، منها سحب جملة الامتيازات التي منحها إياها النظام السياسي في المرحلة الاشتراكية. الأمر الذي دفعها إلى سلوكيات أربعة، الأول الهجرة إلى خارج المجتمع خاصة أنها وجدت في مجتمعات الخليج فرص عمل ملائمة. والثاني التحرك باتجاه التعلق بأستار الطبقة العليا لتكون في خدمتها، تساعدها في ذلك ثقافتها الانتهازية التي تأسست لديها في المرحلة الاشتراكية، والتي تساعدها على تحقيق تكيفها مع الأوضاع الليبرالية الحالية. والثالث أن تمارس الاحتجاج الاجتماعي على النظام السياسي الذي سحب امتيازاتها وفرض عليها أوضاعا معيشية صعبة، بحيث أصبح ذلك مدخلا لتولد ثقافة الاحتجاج الاجتماعي على ساحة الطبقة الوسطى. والرابع أن تمارس هذه الطبقة التكيف الفائض، في مقابل القهر الفائض المفروض عليها من النظام السياسي. وفي إطار هذا التكيف الفائض تبنت جماعات من أبناء هذه الطبقة بعض المعاني والقيم التي دفعتهم إلى الإتيان بسلوكيات الانحراف الاجتماعي والأخلاقي، بحيث أصبحت هذه السلوكيات شاهدا على انهيار أخلاق الطبقة الوسطى، وهو ما نعرض لبعض أبعاده فى الفقرة الأخيرة.

خامسا: انهيار مؤسسات التنشئة الاجتماعية وإضعاف الثقافة ومنظومات القيم

المتأمل لأوضاع التنشئة الاجتماعية في مصر يدرك أنه قد أصابها هي الأخرى قدر من الانهيار أو عطب الأداء، الأمر الذي أثر على ثقافة المجتمع ومنظوماته القيمية. حيث يدرك المتأمل لمؤسسات التنشئة الاجتماعية المتمثلة في الأسرة والمدرسة والنظام التعليمي، إضافة إلى الإعلام أن بعض هذه المؤسسات قد تأثرت بمراحل التحول الاجتماعي، التي أضعفت قدرتها وفاعليتها على تنشئة أعضاء المجتمع وفق ثقافته ومنظوماته. وبسبب ضعفها نجدها قد أصبحت عاجزة عن إعادة إنتاج الثقافة ومنظومات القيم، وقد نجم عن هذا الأمر العديد من المظاهر، من أبرزها:

1- تهتك النسيج الأسري.
2- انهيار العملية التربوية والتعليمية.
3- تحول الإعلام من داعم وبان لمنظومة قيم إيجابية إلى عامل هدم وتبديد لقيم الثقافة القومية.

سادسا: انهيار الثقافة ومنظومات القيم، حصاد نصف قرن

عرضنا في الصفحات السابقة لجملة المتغيرات التي لعبت دورا محوريا في إضعاف الثقافة ومنظومات القيم. بيد أننا قبل أن نعرض لحالة الثقافة ومنظومات القيم نؤكد على ثلاث ملاحظات أساسية.

تتمثل الملاحظة الأولى في أن الأنظمة السياسية المتتابعة خلال مختلف مراحل التحول الاجتماعي لم تهتم كثيرا بالحفاظ على ثقافة المجتمع وقيمه، بدعمها والعمل على تجديدها، حتى تكون قادرة على التعامل مع مستجدات العصر الذي تعايشه، بحيث تحركت الثقافة ومنظومات القيم عبر الزمن باتجاه حالة من الهشاشة والضعف المتتابع الذي توازى مع تتابع المراحل التاريخية حتى انهارت تقريبا في العقد الأول من الألفية الثالثة. وتؤكد الملاحظة الثانية على تتابع المتغيرات التي أثرت سلبيا على بناء الثقافة ومنظومات القيم، بحيث وجدنا أن كل متغير من المتغيرات التي عرضنا لها سابقة تشكل معولا ساهم في هدم جوانب من بنية الثقافة والقيم حتى انتهينا الآن إلى مجتمع ذي ثقافة هشة، تعجز عن ضبط سلوك البشر في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية. وتذهب الملاحظة الثالثة إلى أنه نتيجة لوهن الثقافة وهشاشتها، فإنها شكلت فضاء ثقافيا فارغا تدفقت إليه أو اخترقته قصدا منظومات قيم منحرفة انحرافا اجتماعيا أو أخلاقيا بحيث شكلت في جملتها مؤشرات على انهيار ثقافة وانهيار مجتمع، ونعرض فيما يلى لبعض جوانب انهيار الثقافة ومنظومات القيم.

  1. تفكيك بنية الدين كمدخل لتفكيك الثقافة والأخلاق.
  2. انتشار ثقافة وقيم الاستهلاك فى المجتمع.
  3. انتشار ثقافة الانحراف الاجتماعي.
  4. انتشار ثقافة الانحراف الاقتصادي.
  5. انتشار ثقافة الانحراف الأخلاقي.
  6. انتشار ثقافة الاحتجاج.

  7. خاتمة:
  8. من الواضح أن الانهيار الثقافي الذي أصاب المجتمع المصري قد أصاب أخلاقه أيضا في مقتل، حيث انتشرت حالة من الفوضى الثقافية والاجتماعية، وهي الحالة التى تعد إخلالا بصيغة العقد الاجتماعي الذي ينظم تفاعل البشر في عيشهم المشترك، وإذا كان من الثابت علميا أن ثقافة المجتمع وأخلاقه قد تنهار وتتآكل في فترة زمنية وجيزة، فإن استعادة سلامتها وفاعليتها يحتاج إلى زمان أطول وجهود جادة وكبيرة ومخلصة، وهي حالة مرت بها مجتمعات كثيرة وصلت أخلاقها إلى حدود دنيا ثم برزت ظروف وعوامل أعادت الصحوة والفاعلية إلى ثقافتها وأخلاقها حتى أصبحت قادرة على ضبط التفاعل وتنظيمه وتوجيه البشر نحو هدف مشترك.

    ومن المتوقع في مواجهة الظروف الصعبة التي يعيش في إطارها المجتمع المصري، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي أن تظهر نخبة اجتماعية مخلصة تتولى إعادة بناء المجتمع بإصلاح أوضاعه الاقتصادية واستعادة القوة لثقافته وأخلاقه وتعبئ الأفراد باتجاه مشروع اجتماعي شامل للنهوض بالمجتمع ووضعه في مكانة عالية يستحقها وتؤهله لها إمكانياته. قد تقود هذه الصحوة النخبة الثقافية المخلصة التي تسعى إلى التغيير، أو تقوده النخبة العسكرية إذا تمترس النظام السياسي الحالي وراء امتلاكه للقوة أو قد يكون ذلك مشاركة بين النخبتين، وذلك لأن أعضاء هاتين النخبتين غير راضين عن الانهيار الحادث في المجتمع إضافة إلى أنهم غير مشاركين في الفساد القائم على ساحته، ومن المعتقد أن يبارك العالم الخارجي هذا التحول، لأن استقرار مصر فيه استقرار لمحيطها العربي وبيئتها الإقليمية الأوسع.
    _________________
    أستاذ متفرغ بقسم الاجتماع -كلية الآداب-جامعة عين شمس

نبذة عن الكاتب