العلاقة بين الانتقال الديمقراطي وتحقيق التنمية في الدول العربية

تحتاج الدول العربية لفترة زمنية لتطوير آليات الديمقراطية، لكن الشيء الثابت أن المجتمعات العربية تجاوزت فكرة من أين تبدأ؛ فقد جربت منح "الزعماء الوطنيين" فرصة قيادة المجتمعات، فكانت النتيجة أن الدول العربية باتت في أسفل قوائم التنمية، ولعله آن الأوان لاستعادة دور المؤسسات ومنح الشعوب فرصة للمشاركة.
4d419e94c3954fccac5570422af82e19_18.jpg
(الجزيرة)

اندفع الشباب العربي والتحمت به الجماهير في العديد من الدول العربية سعيًا وراء تحقيق مطالب متعلقة بالعدالة الاجتماعية والكرامة والحرية، غير أنه لا توجد معايير واضحة ومتفق عليها لقياس مؤشر الحرية والكرامة رغم منطقية المطالب والاتفاق عليها؛ فالعدالة الاجتماعية شعار براق لا يختلف حوله طرفان، لكن التحدي يكمن في كيفية تحقيق هذا الشعار وترجمته على أرض الواقع. 

ولتحقيق ذلك فإن المدخل الملائم لتحقيق العدالة الاجتماعية هو زيادة معدلات النمو الاقتصادي وتحسين آليات توزيع الدخل؛ والارتقاء بالتالي بالمستوى المعيشي للمواطنين، وهو المعنى الضمني للتنمية الاقتصادية.

لكن السؤال الذي يسبق هذا كله، هو: كيف يمكن إحداث النمو الاقتصادي المرغوب، وضمان أن تكون نتائجه عنصرًا مساهمًا في تعزيز العدالة الاجتماعية، أي "نموًّا تضمينيًّا" يُدخل كافة الشرائح الاجتماعية في دائرة المستفيدين، ولا يعمل على تهميش الفئات التي لا تجد من يمثلها في دوائر صنع القرار؟ وهذا يُدخلنا إلى صلب الموضوع الذي تعتزم هذه الورقة معالجته، وهو: هل يمكن تحقيق تنمية اقتصادية تنعكس على كافة الشرائح الاجتماعية في ظل غياب تمثيل حقيقي عبر المؤسسات الديمقراطية والهيئات المنتخبة؟ وما هي المشكلات والعقبات والتحديات التي تعترض هذا المسار؟

إن إشكالية العلاقة ما بين التحول الديمقراطي والتنمية باتت أكثر إلحاحًا مع دخول "الربيع العربي" منعطفًا جديدًا. وتكاد تكون المجتمعات في حيرة: هل تعود إلى عصر الاستقرار المصحوب بالاستبداد وترضى بما كان يتحقق من نمو اقتصادي مشوَّه وموجه لخدمة فئات معينة؟ أم يجب إعادة صياغة معادلة النمو والتوزيع على أسس جديدة، وهو ما يحتاج إلى وقت ولكنه يقود إلى ما يُعرَف بالاستقرار الدائم والنمو القابل للاستمرار المصحوب بتوازنات اجتماعية؟ وهنا يدخل الوقت كعامل حاسم في تقرير البديل المطروح، ويرتبط ذلك بقدرة المجتمعات والدول على العبور من خلال المرحلة الانتقالية والتضحية على المدى القصير وربما المتوسط من أجل التأسيس للمرحلة الجديدة. ويأتي على نفس القدر من الأهمية موضوع إدارة توقعات المجتمعات التي تكون في العادة ذات سقوف مرتفعة وتتوقع تحسن الأوضاع خلال فترات قصيرة جدًّا، وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان عند تأخر التنمية إلى تعميق الشعور بالإحباط وبالتالي نكوص التحول الديمقراطي.

وهناك عدة مستويات للوصول إلى خلاصة في هذا الموضوع، يتعلق الأول بما تقول به النظريات الاقتصادية والنماذج المتبعة في دول العالم، بينما يتعلق الثاني بتجربة الدول العربية والنموذج الذي ساد -ولا زال- في العديد من تلك الدول، والثالث مرتبط بالمستويين الأول والثاني ويخص استجابة الفاعلين الاقتصاديين مع المتغيرات والمستجدات، سواء في القطاع العام أو الخاص أو المجتمع المدني، ودور المؤسسات في كل ما يجري.

المستوى النظري والتجربة العالمية

لا يوجد على المستوى النظري فيما يتعلق بالعلاقة بين الديمقراطية والتنمية ما يؤسس أو يدعم وجهة نظر مقابل الأخرى؛ فوجود وترسخ المسار الديمقراطي لا يعني أن تحقيق التنمية الاقتصادية مسألة محتومة، فهناك عدد من الدول ومنها على سبيل المثال، كوريا الجنوبية، سنغافورة، وحاليًا الصين حققت معجزتها الاقتصادية على أيدي قادة من الحزب الشيوعي. لكن الميل الأكبر لدى الباحثين الاقتصاديين ينحى باتجاه تفضيل نشر الديمقراطية بالنظر إليها كقيمة بحد ذاتها ويرتبط بها مفهوم الحرية، إلا أن المستوى النظري يحتمل أكثر من تفسير، ومنذ الخمسينيات، عندما أطلق بعض المتخصصين من أمثال البروفيسور في جامعة هارفارد في حينها كوزنيتس -الحائز على جائزة نوبل في السبعينيات من العام الماضي- الحوار حول هذا الموضوع والجدل لا ينتهي حول ما الذي يأتي أولاً (التنمية أم الديمقراطية)؟ وما هو الإطار الزمني فيما يخص هذه التراتبية، فهل منح الحقوق السياسية وحده في المراحل الأولى للتنمية كاف وشرط مسبق لتحقيق التنمية الاقتصادية، أم أن منح الحقوق السياسية كاملة يمكن أن يعطِّل الكثير من المبادرات الاقتصادية التي يمكن أن تقودها الدول التي يحكمها رؤساء يمتازون بقوة الشكيمة ولديهم تصور حول وجهة بلادهم؟ والمثال الأوضح حول دور القادة يبرز في كوريا الجنوبية إبان حقبة الجنرال العسكري تشونج بارك (1961-1979) والذي جاء إلى الحكم بعد فترة من عدم الاستقرار والانقلابات والتغييرات المتعاقبة في الحكومة، وخلال حقبته التي امتدت حوالي 18 عامًا شهدت كوريا سنواتها الذهبية. لكن من يرفضون فكرة "الحاكم المستبد الصالح" يجادلون بأن الظرف التاريخي، والحرب بين الكوريتين، ورغبة المعسكر الغربي في إنجاح تجربة كوريا من الصعب تكرارها، رغم أن تجربة الجنرال بينوشيه في تشيلي تُعتبر قصة نجاح أخرى تدعم مبدأ المستبد القادر على تحقيق قدر معقول من التنمية.

وأساس التشكيك هو العديد من الحالات التي شهدت انتكاسات اقتصادية بسبب غياب الديمقراطية وانتشار الفساد مثل الأرجنتين والمكسيك، فعندما لا تكون الحكومات منتخبة، يسهل عليها تسخير موارد البلاد لصالح فئات معينة في المجتمع وتصبح الدولة في خدمة رأس المال وأصحاب المصالح، وهو ما ينشأ عنه تحالف "غير مقدس" يؤدي إلى تهميش الفئات الصغيرة وكذلك الأطراف أثناء عملية النمو الاقتصادي، ولعل تونس ومصر تعتبران من النماذج الأكثر حضورًا عربيًّا في هذا المجال. وفي الجانب النظري فإن أصحاب هذه النظرية يتساءلون محقين: كيف ستتم محاربة الفساد وضمان إنفاذ العقود وتطبيق القوانين بشكل عادل في ظل وجود تحالفات تخدم مجموعات معينة في المجتمع؟ ومن الذي سيضمن وجود سياسات ضريبية وسياسات إنفاق عام تعبِّر عن مصالح الجميع، وتحقق قدرًا مقبولاً من التوازن؟

وما يجعل حسم هذه الموضوع صعبًا هو وجود أمثلة من قبل الطرفين يستعان بها؛ فالصين التي يتميز نظامها وفقًا للوصفة الغربية بغياب الديمقراطية وتعدد الأحزاب تحقق معجزة اقتصادية ونموًّا غير مسبوق، في حين أن الهند ذات النظام الديمقراطي متعدد الأحزاب تعاني في نظامها الاقتصادي من التدخل المفرط  للدولة، رغم أن الأعوام الأخيرة تشير إلى أنها بدأت تحقق معدلات نمو إيجابية تفوق الخمسة في المائة سنويًّا، وبدأ الاقتصاد بالتعافي مع انسحاب الدولة من الكثير من المجالات التي يعمل فيها القطاع الخاص، وما بين الصين والهند يبرز مثال آخر هو البرازيل، التي لم تخرج من أزمتها الاقتصادية وتبدأ بمحاربة الفساد إلا عندما باتت تتبع نظامًا ديمقراطيًّا، ونجح الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، بإخراج حوالي 10 ملايين برازيلي من تحت خط الفقر خلال سنوات رئاسته الثماني عرفت البرازيل خلالها أفضل معدلات النمو في تاريخها الحديث، وكان تدخل الدولة في بعض المجالات التصنيعية، مثل صناعة الطائرات لغايات النقل المدني أحد أبرز قصص النجاح التي حققتها البرازيل.

وإذا تم الاتفاق على أن الإطار النظري وتجارب الدول تتباين ولا تعطي مؤشرات واضحة حول إشكالية العلاقة بين الديمقراطية والتنمية وما يرتبط بها من مؤشرات، يبقى النظر إلى حالات الدول بعينها والحكم على كيفية تطور التجربة، وما هي الدنياميكيات التي نظمت العلاقة بين أطراف الإنتاج المختلفة. وهذا ما يقودنا إلى استعراض نهج التنمية في الدول العربية على مدى العقود الخمسة الماضية.

الدولة الريعية والسلطوية العربية

من الصعب التعميم على الدول العربية ووضعها في قالب واحد فيما يخص النموذج الاقتصادي المتبع، ولكن البحث يشير الى قواسم مشتركة ميزت نموذج التنمية العربي على مدى العقود الماضية وارتباط ذلك بطبيعة النظام السياسي السائد.

القاسم المشترك الأول هو أن الدول العربية اتبعت نموذج الدولة الراعية والحاضنة والمسؤولة عن تحقيق التنمية الاقتصادية وبالتالي تحقيق العدالة الاجتماعية، اتُّبِع هذا النموذج على غرار ما اتبعه العديد من دول أميركا اللاتينية ضمن حالة الاستقطاب الدولي التي سادت خلال مراحل معينة بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي وموقع هذه الدولة أو تلك ضمن هذا الاستقطاب الدولي. ولعل مصر في زمن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تُقدِّم النموذج الأكثر وضوحًا حول الدول الذي يجب أن يناط بالدولة لتحقيق الأهداف التنموية. ضمن هذا النموذج كان هناك اتفاق ضمني بين الشعب والدولة، وهو ما يُعرَف في أدبيات الاقتصاد السياسي بـ "الصفقة السلطوية"، تتولى الدولة بموجبه توفير الرعاية وتحقيق النمو وفرص العمل والتعليم والصحة، في حين يوافق المواطن على عدم التدخل في الشؤون والقرارات السياسية؛ فالدولة المستقلة حديثًا، من الناحية النظرية، تعرف كيف تدير أمورها وتتدبر أمر المواطن الذي يجب عليه التركيز فيما يعنيه من أمور حياتية؛ ما دام التعليم وفرص العمل متاحيْن للجميع. وساد هذا النموذج في دول ذات موارد وفيرة مثل العراق والجزائر وسوريا، تلك النماذج من الحكم الجمهوري، تولت مقاليد الحكم بمعظمها نخب ذات خلفيات عسكرية، وكان هدفها تحقيق التنمية والحفاظ على الاستقرار والأمن، من هنا تشكَّل أول حلف بين  القادة في هذه الدول والمؤسسات الأمنية، ولم يكن يحرك هذه الدول، باستثناء السنوات الأولى لها في الحكم سوى الهاجس الداخلي، والخطر القادم من الداخل وليس الخارج.

والداخل كانت مطالبه على تنوعها تركز على كيفية تعزيز المشاركة السياسية واتباع نموذج مغاير لما هو متبع، من هنا تشكَّل تحالف بين المؤسسة الأمنية وقادة هذه الدول وأصحاب المصالح الذين لم يكن يهمهم سوى مصالحهم للحفاظ على النموذج القائم.

تلك المصالح لم يكن بالإمكان حمايتها إلا من خلال إدراج المؤسسة الأمنية ضمن دائرة المصالح الاقتصادية بحيث يصبح لهم مصلحة في الحفاظ على ما يجري، ومن خلال هذه الآلية يمكن فهم لماذا تسيطر المؤسسة العسكرية في مصر على نسبة غير معلومة من الاقتصاد، ذات الحال تنطبق على الجزائر وسوريا وغيرها؛ إذ تداخلت المصالح بين فئات لا يوجد الكثير ليجمعها. ومما ساعد هذه الدول على الاستمرار بالنهج الذي اتبعته اتباع وصفات التحرير الاقتصادي والخصخصة. إن تلك التحولات الاقتصادية التي كانت ترعاها المؤسسات الدولية منذ بداية الثمانينيات، كان تقوم على مبدأ تحرير الاقتصاد، والتحرير  يعني إلغاء القيود البيروقراطية المعوقة لتسريع النمو، وقد نشأ شكلان من التحرير: يتعلق الأول بالمنظومة القانونية التي خضعت لمراجعات عديدة كان عنوانها "تسهيل الاستثمارات" وخلق البيئة الملائمة للاستثمار، والهدف منها تشجيع القطاع الخاص وتطمينه للدخول في مجالات إنتاجية، أما الشكل الثاني فكان يتعلق ببيع أصول القطاع العام، فيما عرف بموجة الخصخصة.

والإشكالية التي رافقت هذه التحولات أن عملية صنع القرار كانت مقصورة على عدد من النخب الاقتصادية والسياسية والأمنية، التي كانت بالدرجة الأولى تراعي مصالحها؛ لذلك نجد أن تصميم الإصلاحات الاقتصادية جاء للحفاظ على المنظومة الاقتصادية القائمة أكثر مما قُصد به تغيير بنيوي، ومن هنا شاع مبدأ تحرير الاقتصاد أولاً ومن ثم تتبعه مسألة التحرير السياسي.

غياب المؤسسات والمشاركة في القرارات

والسؤال، هو: هل كان من الممكن تحقيق نمو اقتصادي وتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية في ظل هيمنة شبه مطلقة على صناعة القرار من قبل فئة محدودة من أصحاب المصالح وتغييب للكثير من الفئات الاجتماعية؟ وهل كان من الممكن أن تأخذ التحولات الاقتصادية الأبعاد الاجتماعية في الحسبان؟ وما هي معايير النجاح التى كانت متبعة للحكم على نجاعة البرامج وبالتالي تأهليها للدخول إلى المنظومة الدولية بما فيها من استثمارات ومساعدات؟

إن طبيعة التحالفات القائمة في الدولة التي كان يفترض أنها تراعي مصالح مواطنيها في الكثير من الدول العربية تشير -وبغضِّ النظر عن المدخل النظري والجدل القائم- إلى أن الدول التي نجحت فيها الأنظمة السلطوية كان فيها مؤسسات وكان الكثير منها لديه سجل مقبول في مجالات التعليم والمساءلة؛ ففي كوريا الجنوبية مثلاً، كان معيار الحوافز والتصدير واضحًا، والشركات التي لم تكن تحقق الشروط المطلوبة في تصدير سلعها مثلاً، كان يتم استثناؤها من برامج الحوافز، ولم يكن هناك تدخلات في المعايير الموضوعة، أما الصين، فهناك معايير ليس على المستوى الوطني فحسب بل أيضًا على المستوى المحلي فيما يجب تحقيقه، ولا تغيب الدولة التي تحقق فوائض مالية كبيرة عن المشهد من خلال الاستثمار المتواصل في البنى التحتية وتوفير الأسس لتحقيق نمو اقتصادي. أما تشيلي فتجربة التعليم حتى في عهد الديكتاتور بينوشيه كانت مصدرًا للإشادة الدولية لأن البنى الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني قررت الحفاظ على تقدم التعليم.

أما الدول العربية، فإن القوانين كانت تصاغ لخدمة فئات معينة، وباتت عقود التخصيص وبيع أصول الدولة تخضع لعملية غير واضحة، يشوبها الفساد، وكان الشعار المرفوع بالدفاع عن المصلحة العامة والذي توفر له المؤسسة الأمنية الحماية هو الذي يسود؛ فالإعلام شبه مغيب، والمؤسسات التشريعية صورية، فيما كانت قيادات النقابات العمالية -وإلى حد كبير- يتم تعيينها.
 
كل ذلك أدى الى نتيجة انقلبت فيها الصورة، فرغم تحقيق تونس مثلاً معدلات نمو اقتصادي على مدى عقد من الزمان، ورغم أن الصورة الظاهرية لهذا النمو المحتفى به كانت براقة، إلا أن الغائب كان هو آليات التوزيع والمشاركة التي لم تكن لتتحقق في غياب تمثيل حقيقي ليس على مستوى البرلمان، بل على مستوى النقابات والمجتمع المدني؛ فالبرلمان الصوري كان يمرر التشريعات المطلوبة منه، والمؤسسات الأخرى ارتبطت بالمنظومة القائمة بحيث لم تعد معنية بأي قدر من التوازن الاجتماعي. أما المؤسسات الأمنية فأولوياتها داخلية وتتعلق بالحفاظ على مكتسباتها، حينها حصل تماهٍ ما بين مصالح القطاع الخاص وقادة الدول والمؤسسات الأمنية، وتم في هذه الأثناء إفراغ مؤسسات المجتمع المدني نسبيًّا من محتواها.

كل هذا أسس لانتشار الفساد والتهميش، فبات النمو المتحقق عنصرًا يعمِّق من الاختلالات الموجودة وفجوات الدخل بدلاً من كونه عاملاً مساعدًا على الاستقرار السياسي والاجتماعي، وحالات مصر، وتونس، والأردن والمغرب تعتبر نماذج لهذا الخلل، وضمن هذه التركيبة فإن النمو أصبح عنصرًا يساهم في تعميق الفجوات داخل المجتمعات بدلاً من كونه عنصرًا إيجابيًّا يساهم في مراحل لاحقة برفع درجة الوعي كما يساهم ببناء طبقة وسطى تعزز أسس الاستقرار السياسي.

الخروج من النفق وطريق المستقبل

بالنظر إلى أن سؤال التنمية والديمقراطية غير محسوم على المستويين النظري والعملي، وفي مراجعة تجربة الدول العربية تبين بشكل واضح أن غياب الديمقراطية وسيادة عقد اجتماعي بين الحاكم المستبد والمواطنين، والذي ساد لفترة امتدت على مدى عقود، لم يُظهِر في المنطقة العربية ما يوصف في بعض الدول الآسيوية بالحاكم المستبد الصالح، الذي يعمل لصالح المواطنين، ويمتلك رؤية اقتصادية وسياسية، ويعتمد على دور المؤسسات لتحقيق التنمية كمثال ماليزيا، بل ظهر البُعد العائلي والقبلي أحيانًا مثل اليمن، فيما أحكم العسكر القبضة على مقاليد الأمور في دول أخرى مثل العراق والجزائر لغاية الآن. وفي بعض الدول استحالت الدول إلى ما يشبه الإقطاعيات الكبيرة التي تورَّث من الآباء إلى الأبناء، ولعل ما تمر به سوريا الآن هو المثال الصارخ على أن الهدف هو الاستمرار بالحكم والتوريث وتوزيع المغانم وليس تحقيق التنمية، ما يجعل مناقشة الإطار النظري لإشكالية التنمية والديمقراطية خارج السياق؛ فهدف بعض الأنظمة لم يكن يومًا تحقيق التنمية لبناء قاعدة الشرعية السياسية للنظام، بل كان الهدف اقتسام الغنائم وممارسة الدور المطلوب من أطراف خارجية للحصول على الشرعية السياسية اللازمة للاستمرار في الحكم.

لكن مصادر الشرعية المزعومة بدأت تتآكل في وقت مبكر؛ فالعالم الخارجي مرَّ بتحولات ساعدت فيها التطورات التكنولوجية ولم يعد الصمت وغضُّ البصر عما يجري في الكثير من الدول من ممارسات ممكنًا. كذلك يجب ملاحظة التحولات الداخلية وصعود فئات الشباب والوعي المتنامي بالحرية كقيمة أحد الأسباب التي ساهمت في البدء بالتغيير في العديد من الدول العربية. بالطبع ساهم في ذلك ضعف وهشاشة ما تحقق في إطار التنمية، بمعنى أن مصادر الشرعية السياسية سواء تجاه نشر المزيد من الديمقراطية أو تحقيق مستويات رفاه اجتماعي لم تتحقق، وهو ما حتم ضرورة إعادة السؤال إلى صيغته الأساسية، وهي: كيف يمكن كسر هذه الحلقة المفرغة؟ وهنا بات على النخب السياسية التي رافقت الأنظمة الفاشلة الإجابة على هذا السؤال، والسعي لتبرير مقاربة جديدة في العلاقة بين الديمقراطية والتنمية.

إن التجربة العربية تشير بوضوح إلى أن تغييب الانفتاح السياسي ساهم إلى حد كبير بسيادة نموذج اقتصادي مشوه جعل الدول رهينة المتنفذين من رجال الأعمال، ولعل تجربة أمين التنظيم بالحزب الوطني الذي كان يحكم في مصر أحمد عز الذي حُكم عليه بالسجن تشير إلى الكيفية التي كانت تتحول بموجبها المؤسسات التشريعية إلى رهينة هذا النوع من رأس المال الذي لا يستهدف سوى تحقيق المزيد من الأرباح على حساب المهمشين. ولا تختلف تجربة عائلة الطرابلسي في تونس، أو مخلوف والأسد في سوريا كثيرًا عن المآلات التي بلغتها تلك المقاربات والتي كانت تقيس النجاح بما تحققه من أرباح. وكانت المؤسسات الدولية تتقبل تلك النتائج، ولم يكن غياب الديمقراطية أو ضعف المؤسسات مهمًّا على الإطلاق في مؤشرات التقييم التي كانت تنفذها تلك المؤسسات وتُمنح على أساسها شهادات حسن السلوك الاقتصادي بغضِّ النظر عن الأداء السياسي نظرًا لقناعة تلك المؤسسات بهذا النمط من النمو.

وفي إطار المقاربة الجديدة التي تسعى الدول العربية إلى تبنيها يجب ألا يكون هناك لبس في موضوع تحديد الأولويات؛ فالتجربة العربية غنية بالأمثلة على فشل مقاربة تحقيق التنمية أولاً ومن ثَمَّ تحقيق الانفتاح السياسي ثانيًا؛ فما وقع في الدول العربية هو تراجع شديد في مؤشرات التنمية الحقيقية وتدهور في البيئة السياسية. وما يجادل به البعض خلال مراحل التحول التي تمر بها دول مثل المغرب ومصر وتونس، وحالة التراجع الاقتصادي فإن ما تواجهه هذه الدول يُعتبر طبيعيًّا في إطار التحولات التي تمر بها وهي تسعي لتحقيق نمو قابل للاستمرار، وهناك عدد من المؤشرات الرئيسية التي يجب أن توضع في الحسبان لدى قياس أثر التنمية في الدول العربية، وهي مجموعة اتفق عليها عدد من الاقتصاديين ومن أبرزهم  آمارتا سين وجوزيف ستيجلتز، وذلك في إطار مقاربتهم قبل عدة أعوام.

ومن هذه المؤشرات ما يتعلق بدرجة الانفتاح السياسي ومدى رضا المواطنين عن مستوياتهم المعيشية إلى جانب الابتعاد عن المفهوم التقليدي في حسابات الناتج المحلي الإجمالي. وهذه المؤشرات لا تنظر إلى الجانب الاقتصادي المجرد بل تأخذ البعد التنموي وتتيح للفئات المهمشة التي لا تمتلك الكثير من المصالح رصد المتغيرات الحقيقية التي تهمها.

خاتمة

بشكل عام فإن إشكالية الديمقراطية والتنمية لا تشكِّل خللاً في المضمون؛ فالحائز على جائزة نوبل، الهندي الأصل آمارتا سين اعتبر مفهوم التنمية مكملاً لموضوع الحرية، والحديث عن تحقيق هدف على حساب الآخر ربما يصلح لفترة زمنية معينة، فحتى الدول التي تساق كنماذج لنجاح فكرة الحاكم المستبد في تحقيق التنمية تتغير، ولعل مثالي كوريا الجنوبية، تشيلي وبعض دول أميركا اللاتينية كلها تشير إلى أن المجتمعات عندما تصل مرحلة تنموية معينة لا تحتمل أن يحكمها حاكم متسلط وغير منتخب؛ إذ تبرز الحاجة إلى مؤسسات للرقابة والتقييم، ويصبح هناك حاجة لقوانين شفافة ومنظمات مجتمع مدني تدافع عن مصالحها ومصالح أعضائها على مستويات عدة.

والأكيد أن الدول العربية ستحتاج إلى فترة زمنية لا يستهان بها لتطوير آليات الديمقراطية الحقيقية، لكن الشيء الثابت أن المجتمعات العربية تجاوزت فكرة من أين تبدأ؛ فقد جربت منح "الزعماء الوطنيين" فرصة قيادة المجتمعات، فكانت النتيجة أن الدول العربية باتت في أسفل قوائم التنمية، ولعله آن الأوان لبدء خطوات عملية تقوم على استعادة دور المؤسسات ومنح الشعوب فرصة حقيقية للمشاركة؛ فالأنظمة السابقة، ما رحل منها وما هو على الطريق فقدت الشرعية الوطنية وشرعية الإنجاز ولم يبقَ لها الكثير لتقدمه.
________________________________
إبراهيم سيف - باحث أول مختص في الاقتصاد يعمل في مركز كارنيجي للشرق الأوسط ببيروت.

عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف

نبذة عن الكاتب