مآلات التقارب الإيراني الأميركي: دروس من الماضي

تبحث الورقة الدروس المستفادة من محاولات تقارب شهدها التاريخ المعاصر، وكيف يمكن أن تُستثمر لإنجاح جهود التقارب بين الولايات المتحدة وإيران.
31 مارس 2014
201433171817626580_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
تبحث الورقة الدروس المستفادة من محاولات تقارب شهدها التاريخ المعاصر، وكيف يمكن أن تُستثمر لإنجاح جهود التقارب بين الولايات المتحدة وإيران.

تناقش هذه الورقة الأسس التي قامت عليها جهود التقارب بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وكذلك جهود التقارب بين الصين والولايات المتحدة في السبعينات، كما تحاول الورقة أن تبين العوامل التي أدت إلى الفشل في الأولى والنجاح في الثانية. كما تعرض الورقة مسألة توافر هذه العوامل في التقارب الإيراني الأميركي في ضوء ذلك كله.

ويخلص الدكتور كاتز إلى أنه إذا ما ثبت أن الإجراءات والتلميحات الإيرانية فيما يتعلق بسياستها الخارجية هي مجرد تكتيك مرحلي؛ يهدف إلى استدراج أميركا للتوقيع على اتفاقية بشأن السلاح النووي مع تخفيف العقوبات، تمكن طهران من مواصلة سياساتها التي يعتبرها أصدقاء أميركا في المنطقة مصدرًا للتهديد، فإن جهود التقارب الأميركي الإيراني لن تعيش طويلاً؛ حتى ولو تم التوصل إلى اتفاقية بشأن المشروع النووي. ويعتقد أن خيبة الأمل التي يمكن أن تحصل في حال تبيُّن أن طهران تخدع واشنطن لن تعني إلا أنه يجب على طهران أن تُقَدِّم تنازلات أكبر في المستقبل؛ إذا ما أرادت أن تنجح جهود التقارب؛ وذلك كي تتغلب على تراث من محاولات التقارب الفاشلة، تمامًا مثلما فعل غورباتشوف.

منذ الثورة الإيرانية عام 1979 تمت عدة محاولات لتحسين العلاقات الإيرانية الأميركية، باءت كلها بالفشل؛ غير أن الجهد الذي يُبذل في الوقت الراهن لهذا الغرض يبدو أكثر جدية، وتحديدًا منذ أن أصبح حسن روحاني رئيسًا لإيران في أواخر عام 2013، وتبرز إرادة الرئيس أوباما والرئيس روحاني كدافع مهم في عملية التقارب؛ ولكن على الرغم من وجود بعض التقدم الجيد في الموضوع النووي، تبقى هناك الكثير من الخلافات المهمة العالقة بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية، كما يوجد تاريخ طويل من العداء المتبادل؛ وبناء على ذلك تبرز الكثير من التساؤلات حول احتمالات نجاح أو فشل جهود التقارب الحالية بين إيران والولايات المتحدة؟

إن الجواب عن هذا السؤال ليس واضحًا حتى الآن، وقد يأخذ بعض الوقت قبل أن يتَّضح؛ لقد كانت هناك تجارب سابقة من أجل التقارب مع حكومات كان لها مع الولايات المتحدة علاقات عدائية لفترة طويلة؛ اثنتان من هذه المحاولات الجديرة بالاهتمام تمت في سبعينات القرن الماضي، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وبين الولايات المتحدة والصين من جهة أخرى؛ والحاصل أن كلاًّ من محاولتي التقارب كان لها نتائج مختلفة؛ فكان عمر التقارب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي قصيرًا، وأدَّى إلى مرحلة من العلاقات الشديدة العدائية بين واشنطن وموسكو؛ في المقابل حققت محاولة التقارب بين الولايات المتحدة والصين نجاحًا كبيرًا في تأسيس علاقات طيبة نسبيًّا من الناحية العملية (على الرغم من أنها لم تؤدِّ إلى تحالف حميم) بين واشنطن وبيجين.

تناقش هذه الورقة الأسس التي قامت عليها جهود التقارب بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وكذلك جهود التقارب بين الصين والولايات المتحدة في السبعينات، كما تحاول الورقة أن تبين العوامل التي أدت إلى الفشل في الأولى والنجاح في الثانية، كما تعرض الورقة بإيجاز مسألة توافر هذه العوامل في محاولات تقارب أخرى في ضوء ذلك كله، وتبحث الورقة الدروس المستفادة من هذه المحاولات، وكيف يمكن أن تستثمر لجهود التقارب بين الولايات المتحدة وإيران.

جهود التقارب بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي

لقد كانت الرغبة المتبادلة في الحدِّ من السباق النووي، وتقليل احتمالات نشوب حرب نووية ماحقة هي الأساس الذي بُني عليه التحسن في العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في بداية السبعينات من القرن الماضي؛ فبينما كان لدى الولايات المتحدة ترسانة أسلحة نووية أكبر من تلك التي كانت لدى الاتحاد السوفيتي منذ بداية الحرب الباردة حتى نهاية الستينات، وأدَّى تورط أميركا عسكريًّا في الهند الصينية، ومشاكل جانبية في حينه إلى نجاح الاتحاد السوفيتي في ترتيب أوضاعه (حسب بعض المعايير)؛ بل أن يتفوق على الولايات المتحدة الأميركية فيما يتعلق بالتسليح النووي؛ وبالتالي فقد كان لدى واشنطن حافز قوي للتوصل لاتفاق يحد من ترسانة موسكو النووية المتنامية؛ أما بالنسبة إلى السوفيت فقد كانوا يُدركون أن الولايات المتحدة كانت تتفوق عليهم من الناحية التكنولوجية؛ وعليه فقد تحفزت موسكو لوقف واشنطن عن الاستفادة من هذه الميزة؛ وذلك من خلال التوصل إلى اتفاق يُحد من برنامج أميركا النووي.

ومنذ نوفمبر/تشرين الثاني 1969 وحتى مايو/أيار 1972 دخل المفاوضون الأميركان والسوفيت في محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية (صولت)، وفي 26 مايو/أيار 1972 تمخض عن هذه المفاوضات توقيع اتفاقيات (صولت 1)، التي وضعت قيودًا على كل من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية سواء الأميركية أو السوفيتية؛ خاصة ترسانات الصواريخ البالستية الهجومية العابرة للقارات، والصواريخ البالستية التي يمكن إطلاقها من الغواصات، والصواريخ الاستراتيجية الدفاعية المضادة للصواريخ البالستية؛ وقد أدى ذلك التفاهم إلى ارتفاع مستوى الآمال في حصول علاقة أقل عدائية، وأكثر تعاونية بين القوتين العظميين؛ ليس فقط في المجال النووي ولكن فيما هو أعم وأكثر من ذلك.

ولكن سرعان ما بدأت المشاكل تبرز؛ إذ كان كثير من أعضاء الكونغرس منزعجين من أن اتفاقية (صولت 1) سمحت للاتحاد السوفيتي أن يمتلك صواريخ هجومية نووية بكميات أكبر مما تمتلكه الولايات المتحدة؛ فاتفقت واشنطن وموسكو على تعديل ذلك، ودخل الطرفان في محادثات فيما بعد في عام 1972؛ كان الهدف من هذه المحادثات هو إنجاز اتفاقية (صولت 2) القاضية باتفاقهما على أن يكون لدى كل منهما كميات متساوية من الأسلحة النووية، كما اتفقوا على الحد من تلك الأسلحة؛ ولكن سرعان ما تبين أن حالة الوفاق لم تمتد إلى ما كان يعرف حينها بالعالم الثالث؛ فبينما كان الانسحاب العسكري الأميركي من الهند الصينية في بداية عام 1973 يؤذن بنهاية التدخل الأميركي الواسع النطاق في العالم الثالث أثناء الحرب الباردة، فإن تلك المرحلة قد شهدت بدء مرحلة "فلسفة التدخل السوفيتي" وحلفائه هناك؛ كما حصل في أنغولا (1975)، والقرن الإفريقي (1977، 1978)، وكمبوديا (بدءًا من 1978)، وأفغانستان (بدءًا من 1979).

أدى الدعم السوفيتي للتدخل الكوبي في أنغولا والتدخل السوفيتي-الكوبي في القرن الإفريقي والدعم السوفيتي للغزو الفيتنامي لكمبوديا إلى توتر في العلاقات السوفيتية الأميركية، وقد عطَّلَ كل واحد من هذه الأحداث محادثات (صولت)؛ وعلى الرغم من ذلك فقد تم التوصل إلى اتفاقية (صولت 2) الموسعة؛ وذلك من خلال محادثات تمت بين الرئيس كارتر والقائد السوفيتي بريجين؛ وذلك في 18 من يونيو/حزيران 1979؛ ولقد ساهمت التوترات المستمرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (بما في ذلك توترات سببتها فلسفة التدخل الماركسية) إلى أن يقوم مجلس الشيوخ الأميركي بتأجيل تعديل اتفاقية صولت 2، وعندما غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان في ديسمبر/كانون الأول 1979، ازدادت وتيرة التوتر السوفيتي الأميركي بشكل درامي؛ فسحب الرئيس كارتر اتفاقية صولت 2 من مجلس الشيوخ، وماتت فكرة التقارب وتم استئناف الحرب الباردة بلا هوادة.

كانت التوقعات المختلفة لكل واحد من الطرفين -بشأن النتائج- سببًا لفشل محاولة السوفيت والأميركان في التقارب؛ فقد توقع الجانب الأميركي أن التقدم السوفيتي الأميركي بشأن الأسلحة النووية، والتحكم فيها قد يؤدي إلى علاقة أكثر تعاونية؛ تمتد إلى تفاهم الطرفين بشأن العالم الثالث، في المقابل رأي الاتحاد السوفيتي أن التحسن في العلاقات يقتصر على مجال التحكم في الأسلحة النووية (الأمر الذي استفاد منه الطرفان)؛ بينما كانت المنافسة في بقية المجالات بين الطرفين مستمرة؛ لاسيما في العالم الثالث؛ ورأى الاتحاد السوفيتي أن الانسحاب الأميركي من الهند الصينية والتردد في التدخل في مناطق أخرى في العالم الثالث يوفر فرصة له كي يُوَسِّع نفوذَه، وتلك فرصة لم تكن واشنطن تظن أن موسكو ستضيعها؛ وجاء الغزو السوفيتي لأفغانستان لينهي فكرة التقارب السوفيتي الأميركي تمامًا؛ والذي حصل أن الاتحاد السوفيتي اعتبر أن ما قام به ليس فعلاً هجوميًّا؛ ولكنه محاولة دفاعية بهدف الحفاظ على نظام ماركسي حليف للسوفيت، وكان ذلك النظام قد جاء للحكم قبل ذلك بعام، وكان مجيئه فيما يبدو مقبولاً للغرب، شعرت موسكو بالحيرة من رد الفعل الأميركي، الذي كان من ضمنه سحب كارتر لاتفاقية (صولت 2) من مجلس الشيوخ؛ حيث إن هذه الاتفاقية كانت (من وجهة نظر موسكو) ذات فائدة للأميركيين كما كانت مفيدة للسوفيت(1).

سبعينات القرن الماضي وجهود التقارب الصيني-الأميركي

على الرغم من أن أول اختبار نووي صيني في عام 1964 وما تلاه -من حيازة أسلحة نووية- كان مثيرًا لقلق الولايات المتحدة وحكومات أخرى؛ فإن التقارب الصيني الأميركي الذي تم في بداية السبعينات من القرن الماضي لم يشمل اتفاقية للتحكم في الأسلحة النووية الصينية والأمريكية، وبالفعل فلم يكن هناك شأن للتقارب بين واشنطن وبيجين بقضية الأسلحة النووية، وبدلاً من ذلك فقد قام التقارب على أساس الخوف مما بدا على أنه التهديد السوفيتي المتنامي للطرفين.

وظهرت تصورات متزايدة بين القادة الأميركيين والصينيين أن الدولة الأخرى لم تكن مصدر تهديد كما ظنوا في السابق؛ وقد ساهم الانسحاب الأميركي من الهند الصينية في طمأنة بيجين بشأن النوايا الأميركية؛ وبالمثل فإن التحول الصيني من دعم القوى المناهضة لأميركا في العالم الثالث إلى دعم القوى المناهضة للاتحاد السوفيتي ساعد على تخفيف القلق الأميركي تجاه نوايا الصين؛ وبمجرد أن رأت الصين أنها تحتاج أميركا كحليف مقابل الاتحاد السوفيتي، وأن التأثير السوفيتي في العالم الثالث كان يتمدد، فإن القرار الصيني بعدم دعم الثورة المناهضة لأميركا كان ذا مغزى استراتيجي كبير.

على الرغم من بقاء خلافات مهمة حول الموقف من تايوان، والتوتر المستمر بين الصين وبين بعض حلفاء أميركا الأسيويين؛ فقد وافقت واشنطن وبيجين من حيث المبدأ على احتواء تلك القضايا؛ وقد تم تمتين التعاون الصيني الأميركي بشكل أكبر اعتبارًا من منتصف السبعينات من القرن الماضي؛ وذلك من خلال قرار الزعيم الصيني الجديد دينج شياو بينج بتبني اقتصاد السوق العالمي، ومن خلال نمو سريع في التبادل التجاري بين الصين من جهة، وبين أميركا وبين الكثير من حلفائها (بما فيهم أولئك الأسيويين التي كان للصين معهم خلافات)(2).

وبحلول 1989-1991 تطور التعاون الصيني مع الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها؛ فأصبح قويًّا بدرجة كبيرة -خاصة في مجال التجارة- حيث تمكن التقارب الصيني الأميركي في النهاية من تجاوز فكرة التهديد السوفيتي المشترك، الذي بني ذلك التقارب على أساسه؛ واستمرت هذه العملية بشكل أساسي خلال العقدين التاليين؛ غير أنه في السنين الأخيرة بدأ قلق الولايات المتحدة وآخرين كثر يزداد بسبب النوايا الصينية تجاه بعض الدول المجاورة، وبسبب دعوى الصين البحرية في مياه تعتبرها أميركا وآخرون مياهًا دولية، وبسبب صعود الصين على وجه العموم(3)؛ غير أن واشنطن وبيجين استطاعتا حتى الآن احتواء خلافاتهما واستمرتا في تعاونهما الاقتصادي؛ في المحصلة حتى إن تدهورت العلاقات الصينية الأميركية على نحو خطر، فإن التقارب بين البلدين الذي بدأ في بداية السبعينات كان أمرًا رائعًا؛ وذلك بالنظر إلى أنه دام أكثر من أربعين سنة حتى الآن.

تأملات في محاولات التقارب

تدل دراسة التقارب الذي حصل في مرحلة السبعينات من القرن الماضي بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وبين الولايات المتحدة والصين على أنه لن يكتب النجاح للتقارب القائم مبدئيًّا على اتفاق للتحكم في السلاح النووي أو غيره من أسلحة الدمار الشامل، دون إنهاء للتنافس الدائم على التأثير والنفوذ في دول أخرى؛ بينما يمكن للتقارب أن ينجح في حال إذا قام لمواجهة تهديد جيوسياسي مشترك، والحد من التنافس على النفوذ في دول أخرى، وزيادة العلاقات التجارية؛ ولكن هل بإمكان محاولتي تقارب تمتا قبل أربعة عقود أن تنهضا كدليل إرشادي مفيد من أجل فهم فيما إذا كان أي جهد مماثل قابل للنجاح في الوقت الراهن؟

تنص الكتب الإرشادية للتمويل المتبادل على أن: الأداء السابق ليس مؤشرًا على الأداء اللاحق؛ ولكن يبقى أن الحالات اللاحقة تشير إلى أن العوامل التي تم إقرارها كمحددات للنجاح أو الفشل لكل من جهود التقارب التي تمت في السبعينات من القرن الماضي ما زالت حاضرة في معظم الحالات التي تكون الولايات المتحدة الأميركية طرفًا فيها؛ لقد كان الأساس الذي بُني عليه التقارب السوفيتي الأميركي بعد نهاية الحرب الباردة (أواخر الثمانينات وبداية التسعينات) أوسع بكثير من فكرة التحكم في السلاح النووي؛ فلقد ساهمت موسكو في تسهيل ذلك التقارب، ليس فقط بانسحابها من دول في العالم الثالث؛ حيث كانت تنافس الولايات المتحدة من أجل النفوذ؛ بل ومن أوروبا الشرقية والجمهوريات غير الروسية التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي السابق، التي لم تكن تتوقع واشنطن أن تنسحب روسيا منها ببساطة(4)؛ من جهة أخرى فإن التوصل إلى اتفاقيات إضافية بين الأميركيين والروس بشأن التحكم في السلاح لم يمنع التدهور في العلاقات الروسية الأميركية؛ وذلك منذ صعود بوتين، الذي استأنفت موسكو تحت قيادته التنافس على النفوذ مع واشنطن في عدة بلدان (على الرغم من أن عدد البلدان محل التنافس ليس بعدد البلدان نفسه الذي كان يتم التنافس عليها أثناء الحرب الباردة)، وقلصت كذلك من الاندماج الروسي في اقتصاد السوق العالمي(5).

في المقابل فإن التقارب الناجح بين الأميركان والفيتناميين في منتصف التسعينات لم يكن له علاقة بالسلاح النووي، أو أسلحة الدمار الشامل الأخرى؛ ولكنه قام بدلاً من ذلك على الانسحاب العسكري الفيتنامي من كمبوديا في نهاية الحرب الباردة، كما كان مبعثه القلق الفيتنامي الأميركي المشترك من صعود الصين، وتنامي اندماج فيتنام في اقتصاد السوق العالمي(6).

وكانت فكرة التوصل إلى اتفاقية بشأن السلاح النووي سببًا رئيسًا في إحدى محاولات تحسين العلاقات الأميركية مع كوريا الشمالية؛ ولكن هذه المحاولة فشلت أساسًا كنتيجة لمضي بيونغ يانغ في برنامجها النووي، ولسلوكها الذي ينطوي على تهديد لحليفين مهمين لأميركا؛ وهما: كوريا الجنوبية واليابان، ولخشية بيونغ يانغ من أن انفتاحها على السوق العالمي سوف يؤثر سلبًا على النظام الحاكم المنطوي على نفسه(7).

اقتضى التقارب الليبي الأميركي في بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين أن تنبذ ليبيا أسلحة الدمار الشامل، كما اقتضى أن توقف دعم الإرهاب في البلدان الأخرى؛ ولقد انتهى التقارب بين واشنطن والقذافي عندما تدخلت أميركا -إلى جانب بعض حلفائها من العرب والغربيين- لدعم معارضيه في 2011(8). ولا تقاس تجربة التقارب الليبي الأميركي مع نسق النجاح أو الفشل الظاهر في جهود تقارب أخرى؛ فقد كان القذافي خارج الإطار فيما يخص سلوكه، ولا يفترض أن يكون ذلك مفاجئًا.

يمكننا الآن حيث نضع في الاعتبار كل هذه التجارب أن نتحول إلى مناقشة جهود التقارب الإيراني الأميركي الحالية.

جهود التقارب الإيراني-الأميركي الحالية

حتى وقت قريب كانت جهود التقارب بين إيران وأميركا أكثر شبهًا بجهود التقارب السوفيتي الأميركي منها بجهود التقارب الصيني-الأميركي، ومما سمح لدرجة من التقدم الذي حصل في التقارب الحاصل حاليًّا بين إيران والولايات المتحدة الأميركية هو الإرادة الإيرانية المتزايدة للتوصل إلى اتفاق بشأن المجال النووي؛ وذلك منذ أن خلف حسن روحاني أحمدي نجاد كرئيس لإيران في أغسطس/آب 2013، ولقد أدت مبادرة دبلوماسية سرية بين إيران وأميركا إلى اتفاق مرحلي بين إيران ومجموعة الخمسة +1 (وهي الدول دائمة العضوية في الأمم المتحدة بالإضافة إلى ألمانيا)، في هذه المبادرة تعهدت طهران بتعليق تخصيب اليورانيوم فوق المستوى التجاري، وأن تتخذ إجراءات أخرى مقابل تخفيف بعض العقوبات الاقتصادية الدولية، التي فرضت عليها سابقًا(9). وتجري الآن مفاوضات بين إيران والدول الخمسة +1 بشأن اتفاق يساهم في حل القضية النووية، كما يساهم في تخفيف العقوبات الدولية الاقتصادية على إيران.

كان الحافز الرئيس لجهود التقارب بين إيران والولايات المتحدة هو إيمان إدارة أوباما أن إيران يمكن إقناعها بعدم السعي إلى الحصول على أسلحة نووية من جهة، ورغبة إيران في إنهاء الوجع الاقتصادي الذي تعانيه بسبب الأثر المركب للعقوبات المتزايدة، والسياسات الاقتصادية الخاطئة التي اتبعها الرئيس نجاد؛ ولكن مثلما حدث في جهود التقارب السابقة بين الاتحاد السوفيتي وأميركا، فإن واشنطن وطهران بعيدتان عن حل خلافاتهما بشكل كامل فيما يخص القضية النووية، وكما لاحظ فريد زكريا بعد أن قابل الرئيس روحاني، فإن: "بين إيران وأميركا رؤى مختلفة تمامًا حول صفقة مقبولة ونهائية"(10).

ومثلما حصل في جهود التقارب السوفيتي-الأميركي، فإن الجهود الحالية للتقريب بين إيران وأمريكا لا تبدو أنها سوف تمتد إلى دول أخرى؛ ذلك أن هناك خلافات بشأن سورية ولبنان؛ حيث تستمر إيران بدعم حلفائها المتعددين(11). وبينما تود إيران -وبلا شك- أن ترى العقوبات الاقتصادية قد رفعت عنها؛ مما يمكنها من بيع مزيد من النفط والغاز في السوق العالمية، فإن الحكومة الإيرانية لم تُبْدِ أي إشارة إلى أنها مستعدة لإعادة هيكلة اقتصادها غير النفطي كي تركز على تصدير البضائع والخدمات إلى السوق العالمية كما فعلت الصين.

إن الاستمرار في ذلك التوجه لا يبشر بخير فيما يخص احتمالات التقارب الأميركي في الوقت الراهن، في الآونة الأخيرة تبدت إشارات مشجعة تشي أن طهران تأخذ قلق أميركا وبعض حلفائها بشأن الدول الأخرى بعين الاعتبار؛ ففي بداية فبراير/شباط 2014 أكد البروفيسور ناصر هاديان -وهو محاضر بجامعة طهران المرموقة- أن "قلق طهران يزداد بسبب احتمال تفتت سورية إذا ظل بشار الأسد في السلطة"، وبما أنه ليس هناك من حل عسكري ناجح في سورية؛ فإن "إيران تعتقد أن أفضل حل هو الانتخابات على أن ينظمها ويشرف عليها المجتمع الدولي، من أجل اختيار الحكومة القادمة"(12).

إضافة إلى ذلك تَبَنَّى مسؤولون إيرانيون في الآونة الأخيرة نهجًا أكثر تصالحية مع إسرائيل، حليفة أميركا؛ فبينما رفض المسؤولون الإيرانيون دائمًا المشاركة في اجتماعات يتحدث فيها مسؤولون إسرائيليون، فإن الوفد الإيراني ظل جالسًا عندما تحدث وزير المياه والطاقة الإسرائيلي في مؤتمر الطاقة المتجددة المنعقد في دبي في يناير/كانون الثاني 2014؛ وعليه ردت الحكومة الإسرائيلية بالمثل عندما جلس وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون في الصف الأمامي في إحدى جلسات مؤتمر عن الأمن في ميونخ؛ حيث كان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف هو المتحدث، وبينما كان ظريف يجري مقابلة في اليوم التالي مع التلفزيون الألماني، أقر بوقوع الهولوكوست، واصفًا إياها بـ "مأساة مرعبة"، (وهذا خلاف ما كان يفعله نجاد الذي كان يشكك في المسألة). وأشار ظريف إلى أنه إذا توصل الإسرائيليون والفلسطينيون إلى اتفاقية سلام، فمن الممكن أن تعترف طهران بإسرائيل(13). وعلى الرغم من شكوك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المستمرة؛ فإن بعض التقارير تُشير إلى أن مسؤولين في وزارة الدفاع وفي الاستخبارات الإسرائيلية يرون أن تلك التلميحات الإيرانية حقيقية(14).

لقد تنافست إيران وتركيا لمدة طويلة في المنطقة؛ إذ دعمت كل منهما أطرافًا متعارضة في الصراع في سورية، الذي بدأ في عام 2011، وعلى الرغم من ذلك فقد زار رئيس الوزراء التركي أردوغان طهران في يناير/كانون الثاني 2014، وتتحسن العلاقات بين البلدين في الوقت الحالي، وخاصة في المجال التجاري(15). ويبدو أن إيران تحاول أن تُحسن علاقاتها مع بعض دول مجالس التعاون الخليجي؛ فقد كان لإيران علاقات جيدة مع عمان ودبي منذ مدة طويلة، وفي الآونة الأخيرة بدت قطر والكويت وأبو ظبي أكثر تفاؤلاً (وإن بدرجات مختلفة) بشأن إمكانية تحسين علاقاتهم بطهران، وتظل علاقات إيران بالسعودية والبحرين عدائية؛ فالرياض والمنامة يرون أن إيران تدعم المعارضة الشيعية في البحرين، وهي دولة سنية ملكية؛ بينما تعارض كل من الرياض وطهران سياسة بعضهما البعض في العراق وسورية ولبنان(16).

ويشير كل ذلك إلى أنه منذ أن أصبح روحاني رئيسًا، أخذ إدراك طهران يزداد لحاجتها إلى أن تخفف التوتر مع معظم (إن لم نَقُلْ: كل) حلفاء أميركا في المنطقة؛ إذا أرادت التقارب مع واشنطن، ولا يبقى إلا أن تُظهر طهران مدى استعدادها في القيام بذلك، هل مواقف إيران الودية تجاه بلدان مجلس التعاون الخليجي وتركيا؛ بل حتى تجاه إسرائيل -هل هي إشارة إلى أن طهران مستعدة لأن تواصل علاقات التعاون معهم بشكل دائم؟ أم أن طهران تقوم بذلك مرحليًّا حتى يحين الوقت الذي تحصل فيها على اتفاقية نووية وتخفيف للعقوبات؟ حتى إن أرادت طهران حقيقةً أن تواصل علاقات حسنة، أو تخفف التوتر مع بعض أصدقاء أميركا في المنطقة، فهل هي مستعدة لأن تقلل من دعمها لحلفائها التقليديين في سورية ولبنان من أجل هذا الغرض؛ أم هل تستطيع طهران أن تفكر أنها يمكن أن تحسن علاقاتها بشكل أو بآخر بأصدقاء الولايات المتحدة؛ بينما تقوم في الوقت نفسه بمساعدة نظام الأسد وحزب الله؟ وأخيرًا هل تأمل طهران في أن تحسين علاقاتها مع أميركا يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تحسين العلاقات مع المملكة (السعودية) ، أم هل تظن طهران أن تحسين العلاقات مع أميركا يمكن أن يؤدي إلى تقليل دعم واشنطن للرياض في ظل تنافس مستمر بين إيران والسعودية في المنطقة؟

ليس هناك حتى الآن إجابات واضحة لأيٍّ من هذه الأسئلة؛ وبالنظر إلى جهود التقارب السوفيتية الأميركية وجهود التقارب الصينية الأميركية في بداية السبعينات من القرن الماضي (وكما هو واضح في الجهود اللاحقة)، فإن ما يبدو واضحًا هو: إذا كانت طهران تبحث عن حل للقضية النووية؛ بينما هي تستمر في سياساتها، التي يعتبرها أصدقاء أميركا في المنطقة عدائية، فإن جهود التقارب مع أميركا لن يكتب لها النجاح على الأرجح؛ ولكن إذا كانت طهران تبحث عن حل للقضية النووية، وتبحث في الوقت نفسه إما عن تحسين علاقاتها مع أصدقاء أميركا في المنطقة أو الحد من الخلاف معهم، فإن جهود التقارب الجارية قد يكتب لها النجاح.

إن التصريحات الإيرانية الأخيرة والأفعال التي تهدف إلى تخفيف التوتر بين إيران وبين إسرائيل من جهة، وبين إيران وتركيا وبعض دول مجلس التعاون الخليجي من جهة أخرى قد رفعت سقف التوقعات في أن طهران يمكن أن تواصل البحث عن تقارب حقيقي؛ يشمل إما حل الخلافات بشأن الدول الأخرى، أو على الأقل التقليل من حدتها؛ وإذا تبين أن هذه التلميحات الإيرانية فيما يتعلق بالدول الأخرى هو مجرد تكتيك مرحلي؛ يهدف إلى استدراج أميركا للتوقيع على اتفاقية بشأن السلاح النووي مع تخفيف العقوبات، تمكن طهران من مواصلة سياساتها التي يعتبرها أصدقاء أميركا في المنطقة مصدرًا للتهديد، فإن جهود التقارب الأميركي الإيراني لن تعيش طويلاً؛ حتى لو تم التوصل إلى اتفاقية بشأن المشروع النووي. إن خيبة الأمل التي يمكن أن تحصل في حال تبين أن طهران تخدع واشنطن لن تعني إلا أنه يجب على طهران أن تقدم تنازلات أكبر في المستقبل إذا ما أرادت أن تنجح جهود التقارب؛ وذلك كي تتغلب على تراث من محاولات التقارب الفاشلة، تمامًا مثلما فعل غورباتشوف.
____________________________________
مارك ن. كاتز - بروفيسور متخصص في العلوم السياسية بجامعة جورج ماسون بالولايات المتحدة الأميركية، يكتب كاتز في العلاقات الدولية للأنظمة الثورية، ويحمل آخر كتبه عنوان: "المغادرة دون خسارة: الحرب على الإرهاب في العراق وأفغانستان"، نشر جامعة جون هوبكنغز، عام 2012.

ملاحظة: ترجم النص إلى العربية المترجم محمود محمد الحرثاني - محاضر الدراسات الثقافية والترجمة بجامعة الأقصى، غزة، فلسطين.

الهوامش والمصادر
(1) For a detailed account of the rise and fall of the 1970s-era Soviet-American rapprochement effort, see R.L. Garthoff (1994) Détente and Confrontation: American-Soviet Relations from Nixon to Reagan, rev. ed. (Washington, DC: Brookings Institution). For an account of the Soviet-American competition in the Third World during this period, see P.W. Rodman (1994) More Precious than Peace: The Cold War and the Struggle for the Third World (New York: Charles Scribner’s Sons), pp. 113-256.
(2) Garthoff, Détente and Confrontation, pp. 758-96. See also S.M. Walt (1996)Revolution and War (Ithaca, NY: Cornell University Press), pp. 310-27.
(3) H. De Santis (2012) ‘The China Threat and the “Pivot” to Asia’,Current History, Vol. 111 (746), pp. 209-15.
(4) Rodman, More Precious than Peace, pp. 259-548; and R.L. Garthoff (1994)The Great Transition: American-Soviet Relations and the End of the Cold War (Washington, DC: Brookings Institution). See also M.N. Katz (1989) ‘Evolving Soviet Perceptions of U.S. Strategy’,The Washington Quarterly, Vol. 12 (3), pp. 157-67.
(5) A.E. Stent (2014)The Limits of Partnership: U.S.-Russian Relations in the Twenty-First Century (Princeton: Princeton University Press).
(6) F.Z. Brown (2010) ‘Rapprochement between Vietnam and the United States’,Contemporary Southeast Asia,Vol. 32 (3), pp. 317-42.
(7) E. Chanlett-Avery and I.E. Rinehart (2014) ‘North Korea: U.S. Relations, Nuclear Diplomacy, and Internal Situation’, Congressional Research Service, 15 January 15, http://www.fas.org/sgp/crs/nuke/R41259.pdf(accessed 13 February 2014).
(8) D.G. Kimball (2013) ‘Assessing the First-Phase Deal to Guard Against a Nuclear-Armed Iran’, Arms Control Association, 2 December, https://www.armscontrol.org/issuebriefs/Assessing-the-First-Phase-Deal-to-Guard-Against-a-Nuclear-Armed-Iran (accessed 13 February 2014).
(9) F. Zakaria (2014) ‘A Perilous Pathway to an Iran Deal’,The Washington Post, 31 January, p. A21.
(10) W. Fulton et al. (2013) ‘Iranian Strategy in Syria’, American Enterprise Institute Critical Threats Project/Institute for the Study of War, May; A. Hashem (2013) ‘Iran’s Ties to Hezbollah Unchanged’,Al-Monitor, 10 August, http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2013/08/iran-hezbollah-policy-will-not-change-under-rouhani.html(accessed 13 February 2014); and Tasnim (2014) ‘Iran Pledges Support for Iraq’s Fight against Terrorism’,Tasnim News Agency, 14 January, http://www.tasnimnews.com/English/Home/Single/249391 (accessed 14 February 2014).
(11) N. Hadian (2014) ‘Nasser Hadian: Reasons Iran Wants Peace in Syria’,The Iran Primer, 4 February, http://iranprimer.usip.org/blog/2014/feb/04/nasser-hadian-reasons-iran-wants-peace-syria (accessed 13 February 2014).
(12) M.Javedanfar (2014) ‘Iran, Israel and the Politics of Gesture’,Al-Monitor, 5 February, http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2014/02/iran-israel-politics-gesture.html (accessed 13 February 2014).
(13) B. Caspit (2014) ‘Israeli Security Officials Recognize Change in Iran’,Al-Monitor, 4 February, http://www.al-monitor.com/pulse/tr/contents/articles/originals/2014/02/iran-israel-historic-developments-hope-defense-officials.html# (accessed 13 February 2014).
(14) T. Abbas (2014) ‘Iran-Turkey Relations: Between Competition and Cooperation’,Asharq Al-Awsat, 31 January, http://www.aawsat.net/2014/01/article55328330 (accessed 13 February 2014).
(15) D. Murray (2014) ‘Iran, Saudi Arabia, and the Middle East’s 30 Year War’,The Spectator, 25 January, http://www.spectator.co.uk/features/9122371/armageddon-awaits/(accessed 13 February 2014); Al Bawaba (2014) ‘What Will Qatar Get Out of an Iranian Nuclear Deal’,Al Bawaba Business, 12 January,http://www.albawaba.com/business/qatar-iran-gas-lng--546714 (accessed 14 February 2014); and F. Gardner (2014) ‘Gulf States Divided Over Iran Sanctions’, BBC News, 13 January, http://www.bbc.co.uk/news/world-middle-east-25713793 (accessed 14 February 2014).
(16) D. Murray (2014) ‘Iran, Saudi Arabia, and the Middle East’s 30 Year War’,The Spectator, 25 January, http://www.spectator.co.uk/features/9122371/armageddon-awaits/(accessed 13 February 2014); Al Bawaba (2014) ‘What Will Qatar Get Out of an Iranian Nuclear Deal’,Al Bawaba Business, 12 January,http://www.albawaba.com/business/qatar-iran-gas-lng--546714 (accessed 14 February 2014); and F. Gardner (2014) ‘Gulf States Divided Over Iran Sanctions’, BBC News, 13 January, http://www.bbc.co.uk/news/world-middle-east-25713793 (accessed 14 February 2014).

عودة للصفحة الرئيسية للملف

نبذة عن الكاتب