"تنظيم الدولة الإسلامية": البنية الفكرية وتعقيدات الواقع

تناقش هذه الورقة عددًا من المقاربات التي قُدِّمت في سبيل تفسير ظاهرة تنظيم "الدولة الإسلامية"، وتركز هنا على أربع مقاربات، هي: السياق وعوامل التشكل، والنصوص الدينية والفقهية، إضافة إلى المقاربة الاجتماعية والنفسية، فيما تحاول المقاربة الرابعة القول بأن "داعش" طفرة في تاريخ الجهاد العالمي.
2014112355554780734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
تناقش هذه الورقة عددًا من المقاربات التي قُدِّمت في سبيل تفسير ظاهرة تنظيم "الدولة الإسلامية"، وتركز هنا على أربع مقاربات، هي: السياق وعوامل التشكل، والنصوص الدينية والفقهية، إضافة إلى المقاربة الاجتماعية والنفسية، فيما تحاول المقاربة الرابعة القول بأن "داعش" طفرة في تاريخ الجهاد العالمي. ويقترح الباحث مقاربة تقوم على أمرين، هما: تجاوز فكرة "تَفَرُّد" التنظيم التي تعزله عن حركة الجهاد العالمي، والتحرر من قَيد كونه "تهمة" يتم إلصاقها بفكر أو جهة، وهذا يتجسد في تحليل البِنية الفكرية للتنظيم (جذورها وتطوراتها وأصولها وفروعها) من جهة، وفي تحليل الواقع المعقد الذي ظهرت فيه تلك الأفكار من جهة أخرى. ويُجري الباحث هذه المقاربة بالعودة إلى النصوص الأصلية لفقهاء الجهاد العالمي، ورصد سير وتطور الأحداث على وقع العلاقات التنظيمية، مع الأخذ بعين الاعتبار السياق الدولي من جهة وسياق المشاريع الإسلامية الحركية الأخرى من جهة أخرى.

وتخلص الورقة إلى أن تنظيم الدولة نتاج سياقات مركبة تداخل فيها النص بالواقع أو العكس، وهو تطور من داخل حركة الجهاد العالمي وليس خارجًا عنها.

مقدمة

خضع تنظيم "الدولة الإسلامية" لمقاربات مختلفة سعت إلى تفسيره، ويمكن حَصْرها في أربع: تجد الأولى في السياق وعوامل التشكل والأدوات التي تُعين في فهم وتفسير الظاهرة، والسياق هنا يشتمل على أبعاد متعددة، فمن الناحية الاجتماعية ثمة الانفجار الديمغرافي والبطالة ومستوى التعليم وغيرها، ومن الناحية السياسية هناك الاستبداد السياسي (خصوصًا في أرض التنظيم: العراق وسوريا)، وفشل الدولة الوطنية في التنمية والمواطنة وإدارة العلاقة بين الهويات المختلفة، ومن الناحية التاريخية هناك المجازر وأهوال السجون والتعذيب والحروب الأهلية. فهذا السياق المركب يحيل إلى عقود من تاريخ المنطقة حافلة بالتغيرات والأحداث، ولكنه يهمِّش البنية الفكرية للجهاد العالمي ونصوصه وحججه، وقد يوهم بأن الجهاديين منفعلون بالبيئة ولا مدخل لهم في الفعل نفسه؛ فالمقاربة السياقية تقصِّر في شرح العملية المعقدة التي تتولد فيها الظاهرة.

المقاربة الثانية تحيل إلى النصوص الدينية أو الفقهية حتى لَيغدو النص -بذاته- مولِّدًا للظاهرة، ولكنها لا تفسر لنا لماذا هي ظاهرة حديثة رغم أن النصوص قديمة، ولماذا لم تُنتِج النصوص مثل هذه الظواهر من قبلُ. أما المقاربة الثالثة فهي المقاربة الاجتماعية والنفسية، والتي تركز على الفاعلين وتكوينهم الاجتماعي وبيئاتهم وتجاربهم وبنائهم النفسي، ولكن هذه المقاربة تكاد تُخفق في شرح تعقيدات الفعل والانفعال، بمعنى: هل هؤلاء الأشخاص هم نتاج البيئة أم مؤثرون فيها ومسهمون في صياغتها وصناعة ظروفهم، أو هما معًا؟

أما المقاربة الرابعة فتحاول أن تخرج خارج المألوف عبر القول: إن "داعش" طَفْرة في تاريخ جماعات الجهاد العالمي، ومن ثم فالقوالب التفسيرية وأدواتها المألوفة تعجز عن استيعابها. مشكلةُ هذه النظرة -رغم أنها لا تقدم مقاربة حقيقية- هي إيمانها بتفرد الظاهرة تَفَردًا لا يجد تفسيره إلا في مبلغ وحشيتها وفي تركيبتها التي تبدو مُلغَّزة ومُفاجِئة، وهو تفردٌ محلُّ نقاشٍ؛ سواءٌ بالنظر إلى تاريخ الجهاديين أم تاريخ الصراعات وما شهدته من أفعال وحشية، لكن الفارق المؤثر اليوم هو جاذبية الصورة والضخُّ الإعلامي.

إن المقاربة التي نراها أَجدى تبدأ بأمرين: تَجَاوز فكرة "تَفَرد" التنظيم التي تعزله عن حركة الجهاد العالمي، والتحرر من قَيد كونه "تهمة" يتم إلصاقها بفكر أو جهة، أو "تهمة" يتم دفعُها ونفيها عن دين أو أناس بعينهم، وهذا يتجسد في تحليل البِنية الفكرية للتنظيم (جذورها وتطوراتها وأصولها وفروعها) من جهة، وفي تحليل الواقع المعقد الذي ظهرت فيه تلك الأفكار من جهة أخرى. فهذه المقاربة تبني على أن الأفكار تتشكل في سياقات مركبة تؤثر فيها وتتأثر بها في عملية معقدة لا ينفك فيها النص عن الواقع، بغض النظر عن أيهما أسبق في ذهن الجهاديِّ: النص أم الواقع؛ لأن هذه الأسبقية تؤثر في تحديد طبيعة ونوع العلاقة بالنص وبالواقع هل هي علاقة صدور عن النص أم هي عودة شعائرية إلى النص، وهل النص حاكم أم مجرد غطاء يُتَوسَّل به من أجل الشرعية الدينية، ولكنها -الأسبقية- لا تؤثر في أن الناتج هو مركَّب منهما ونتاجُ تفاعل بينهما؛ وفق شروط خاصة بعضها نفسيٌّ.

لا مناص في هذه المقاربة من العودة إلى النصوص الأصلية لفقهاء الجهاد العالمي (نسميهم فقهاء تَجَوُّزًا)، والإنصات بعناية إلى تصريحات قادتهم، بالإضافة إلى مراقبة سير وتطور الأحداث على وقع العلاقات التنظيمية دون الخوض في تفاصيلها، مع تأمل السياق الدولي من جهة وسياق المشاريع الإسلامية الحركية الأخرى من جهة أخرى.

أولاً: تنظيم الدولة ومشروع الجهاد العالمي

لا يخرج تنظيم الدولة عن منظومة فكر الجهاد العالمي الذي يقوم على أصول وفروع، فالأصل الذي تُجمِع عليه تنظيماته كافةً يتلخص في تحكيم "شرع الله"، وإقامة "الحكم الإسلاميِّ" المتمثل في الخلافة/الدولة الإسلامية، ولا يتحقق ذلك إلا بالجهاد، ومن هذا الأصل القطعي لديهم تتناسل كل المفاهيم والتفاصيل والإجراءات التي سميناها فروعًا ويقع فيها الخلاف. يتجلَّى هذا المعنى بوضوح في التصريحات المتعاقبة لقيادات القاعدة وتنظيم الدولة والنصرة منذ ظهر الخلاف بينهم إلى العلن، فنجده يتكرر في تصريحات أيمن الظواهري وأبي بكر البغدادي وأبي محمد العدناني والجولاني(1) فضلاً عن أدبياتهم المكتوبة.

تقدِّم الجدالات الشفوية والمكتوبة بين تنظيم الدولة والقاعدة مادة نموذجية للتحليل، فهي تُظهر الاتفاق أكثر مما تُظهر الخلاف، فالتصريحات تُظهر اتفاقهم على إقامة مشروع "الدولة الإسلامية في الشام" ثم إعلان "الخلافة" -كما في تصريح الظواهري(2)- وأن هذا المشروع يواجه مشروعين: مشروع إقامة دولة مدنية ديمقراطية وهو مشروع علماني، ومشروع إقامة دولة محلية وطنية تسمى إسلامية، وحقيقته أنه مشروع دولة وطنية تخضع للطواغيت في الغرب يَهدف إلى حَرْف مسار الجهاد كما يقول العدنانيُّ(3)، والجميع متفقٌ على أن العلمانية والقومية والوطنية والديمقراطية "كفرٌ بَوَاح مناقضٌ للإسلام مُخرجٌ من الملة"(4).

وتكشف المساجلات بين العدناني والظواهري شكل العلاقة بين تنظيم الدولة والقاعدة(5)، ووجود مراسلات مستمرة بينهما حتى الشهر الأول من عام 2014، وتفيد بأن تنظيم الدولة تابع للقاعدة وقدَّم لها البيعة والتزم بأوامرها في شؤون الجهاد -كما يفيد الظواهري- ولكنْ "خارج حدود الدولة" على الأقل كما يوضح العدناني، ولكنَّ انشقاق تنظيم الدولة عن القاعدة وقع لأسباب منهجية بحسب العدناني، فـ"القاعدة لم تَعُد قاعدة الجهاد"، بل باتت قيادتها "مِعْولاً لهدم مشروع الدولة الإسلامية والخلافة القادمة بإذن الله".

ورغم محاولة العدناني توصيف الخلاف بأنه خلاف منهجي فإنه من الواضح أنه خلافٌ لا يتناول التصورات والأصول؛ بقدر ما يتناول المسائل التنظيمية والإجرائية، فتنظيم الدولة لم يكن راضيًا عن ابتعاد الظواهري عن ساحات القتال، وعما بدا أنه تراجع أو مهادنة في مسائل الجهاد باتجاه "السلمية"(6)، والخلاف كله يدور على مسألة إعلان "الدولة في العراق والشام" وضمّ النُّصرة، ثم على توقيت إعلان "الخلافة" وإجراءاتها(7)، وهو تَحَلُّل من احتكار الظواهري لقيادة الجهاد العالمي ما دام خارج ساحة المعارك وفَقَدَ سيطرته على تفاصيل التنظيمات الجهادية، وهو تَحَللٌ تدفع إليه إنجازاتٌ على الأرض تهيئ لإعلان خليفة واحد فيها جميعًا يُعلن كفره بالطاغوت ويتبرأ من الكفر والشرك وأهله، ويحكِّم "شرع الله"، وهو الحل الذي قدمه العدناني لحالة التشرذم والاختلاف بين تنظيمات الجهاد والتي يرى أن الظواهري قد تَسبب فيها.

ويكشف أبو قتادة الفلسطيني عن "رسائل وكلام" كان بين أبي محمد المقدسي وتنظيم الدولة، وقد أدرك أبو قتادة أن "إعلان الخلافة هو إذهابٌ للخلاف الجاري بينها وبين خصومها على قيادة الجهاد إلى الدم الصريح وإعطائه صفة الشرعية" (فقه البغاة)(8)، وهو في رده عليهم لا يجادل في أصل المشروع وإنما في تفاصيله الإجرائية وكيفية تحقيق الخلافة؛ فقد دخل "الانحراف" إلى تنظيم الدولة -وفق تشخيصه- من جهتين: الأولى: من أفراخ جماعة الخلافة الذين كانوا حريصين على أن يحصلوا على تزكية منه لأفكارهم التي تتلخص في أن سبب الفساد هو غياب الخلافة، وأنها تحصل بأن يبايع واحد من المسلمين واحدًا من آل البيت، وهي الفكرة التي تلقفها منهم تنظيم الدولة، والثانية: من بقايا جماعات التوقف والتبيُّن وبقايا جماعات الغلو (جماعات التكفير) الذين شاركوا في الجهاد ثم نشروا بعض الأفكار المنحرفة في عقول الشباب الذين تدينوا فجأة والعجمِ الذين أسلموا وهم خالو الذهن من المعرفة الشرعية(9).

"الانحراف" الذي تحدث عنه أبو قتادة الذي كتب ردَّه هذا بطلب من أبي محمد المقدسي، يذكّرنا بما حدث من قبل (1425هـ/2004م) حين كتب أبو محمد المقدسي رسالة لأبي مصعب الزرقاوي الأب الروحي لتنظيم الدولة بعنوان "الزرقاوي مناصرة ومناصحة"(10)، فجوهر هذا "الانحراف" المتكرر في حالتي الزرقاوي والبغدادي يقوم على أمرين:

الأول: التفلت من قيود العمل الجهادي التي أرساها فقهاء القاعدة، بدءًا من مفهوم الجهاد وعدم تحويله إلى "قتال نكائي" أو ثأري، ثم عدم تأثر "الاختيارات الجهادية" بضغوط الأعداء وإجرامهم، والتحرز من التوسع في تكفير المسلمين، ومراعاة الفوارق بين دار الكفر الأصلية التي جمهور أهلها كفار ودار الكفر الاصطلاحية الحادثة التي جمهور أهلها من المنتسبين إلى الإسلام.

الثاني: الطبيعة المتصلبة لقيادة تنظيم الدولة، فافتقار الزرقاوي للمرونة "حرَمه الاندماجَ في القاعدة والنزول تحت إمرة الشيخ أسامة" كما يقول أبو محمد في رسالته، ويشير إلى أن "أبو أنس" الذي قرّبه الزرقاوي ليسترشد به "لم يكن يتبنى اختياراتنا بحذافيرها"، والأمرُ نفسه رأيناه في حالة البغدادي مع الظواهري.

ومن اللافت أن أبا محمد ينص -في حالة الزرقاوي- على أن عدم التقيد بضوابط الجهاد كما تقرره المرجعية سيؤدي إلى بروز قوم "سيَثبون إلى القتال دون ضوابط وسيخرجون على الأمة لا يميزون بين برِّها وفاجرها ولا يوازنون بين مصالحها ومفاسدها"، في حين أن أبا قتادة يرى -في حالة البغدادي- أن "الدولة" ضربت "المشروع الجهادي في نقطتين: الأولى: أنها قسمت المشروع [الجهادي]، والثانية: أنها وجهت الصراع نحو الداخل؛ لدرجة أن خصومتها مع النُّصرة انتقلت خلال ستة شهور من خصومة على الإمارة إلى صراع عقدي"(11) حين جعلت من نفسها "خلافة" على معنى "جماعة المسلمين" لا جماعة من المسلمين.

لا تقدم فكرة "الغلو والانحراف" مسوِّغًا كافيًا لجَعل تنظيم الدولة مختلفًا كليًّا عن القاعدة؛ بقدر ما تدفع إلى القول: إننا أمام تطور داخل العالم المفاهيمي للجهاد العالمي وانفلات من القيود المفروضة من القيادة المركزية؛ تجاوبًا مع الإمكانات التي يتيحها المشروع الجهادي نفسه وما تفرضه التطورات على الأرض، والاختلاف حول الوسائل الأجدى لتحقيق المشروع، بالإضافة إلى الصراع على الإمارة نفسها التي هي مركزية في المشاريع الحركية التنظيمية عامة. فلا يمكن لمسلسل الخروج عن "نظام الفقه الإسلامي" الذي بدأه فقهاء الجهاد العالمي أن يقف عند الحد الذي رسموه هم لأنفسهم وأتباعهم، فمنطق الخروج متسلسل ويدفع إلى مزيد من التشظي، وهو ما عرفناه من تجارب هذه التنظيمات حيث تسيطر فيها الأفكار والتصورات دون القوالب التنظيمية وقيودها فتنفجر الحدود وفق شروط معينة.

ثانيًا: مقولة تَمَيُّز تنظيم الدولة

أسهمت مقولة تَمَيُّز تنظيم الدولة في إضفاء مزيد من الغموض والتعقيد، وتقوم فكرة التميز على جملة اعتبارات: الأول: التغير الذي طرأ على سلوك القاعدة وكشفته الوثائق التي عثر عليها الأميركيون في الحاسوب الشخصي لبن لادن، والذي بدا في تصرفات جبهة النصرة في سوريا، والثاني: الرؤية الأيديولوجية الصلبة والحدِّية التي تُغلِّب الجانب العقائدي والطائفي والهويَّاتي(12)، والثالث: مبلغ التوحش الذي وصل إليه التنظيم ما جعل القاعدة تتحدث عن الغلو والتكفير، والرابع: حالة متقدمة من البراغماتية والانتهازية التي جعلته يكفِّر ويقاتل الجهاديين الآخرين في الوقت الذي يَقبل مبايعة كثيرين بعضهم قطَّاع طرق(13).

لا يحيل أيٌّ من هذه الاعتبارات -إن سلَّمنا بها- إلى أيّ تَغَير في المشروع بل في السياسات كما سبق، فالعدنانيُّ في سجاله مع الظواهري كان صريحًا في تمسك تنظيم الدولة بنهج القاعدة قبل التَّغَيُّر المفتَرَض من قبل الظواهري، ونهج القاعدة كما نفهمه من تصريحات البغدادي والعدناني هو [أننا] "لا نترك السلاح حتى يحكم الشرع"، "ولَنقاتلنَّ لإقامة الدولة الإسلامية"، وأن الأنظمة والجيوش التي تدافع عنها كلها كافرة، وأن الجهاد فريضة(14)، وتشرح الرسالة المنسوبة للظواهري والتي وجهها إلى الزرقاوي في أكتوبر/تشرين الأول 2005 مراحل المشروع كما تصورها الظواهري وتبدأ بإخراج الأميركان من العراق ثم إقامة إمارة إسلامية يتم تطويرها حتى تبلغ مرتبة الخلافة على أكبر جزء يمكنها بسط سلطانها عليه من العراق، خصوصًا في مناطق العرب السنة، ثم مدِّ الموجة الجهادية إلى ما جاور العراق من دول علمانية، ثم "الصدام مع إسرائيل؛ لأن إسرائيل ما أُنشئت إلا للتصدي لأي كيان إسلامي وليد"(15).

الاختلاف بين تنظيم الدولة والقاعدة يظهر في التقديرات والحسابات السياسية خصوصًا مع حنكة وخبرة القاعدة وصِدَامية تنظيم الدولة؛ فمشروع الجهاد العالمي هو إقامة الدولة الإسلامية، والطريق الوحيد لذلك هو الجهاد، وفي عقيدة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين أن الجهاد "ماضٍ إلى قيام الساعة بوجود الإمام وعدمه... وينبغي لكل مؤمن أن يجاهد أعداء الله تعالى وإن بقي وحدَه"، فإن عطَّل الإمام الجهاد قام الواحد والجماعة بالفرض المعطَّل، كما أن "الرافضة طائفة شِرْك وردَّة"، و"قتال المرتدين أولى عندنا من قتال الكافر الأصلي"(16)، وقد شخَّص الجولاني زعيم النصرة الصراعَ بأنه "صراع بين المسلمين وبين اليهود والقوى الصليبية وبين الصفويين والقوى الدولية"، وأنه "صراع طائفي"(17)، وتفيد الرسالة المنسوبة للظواهري -المشار إليها سابقًا- أنه يتفق مع الزرقاوي في حكم الشيعة، ولكنه لا يرى مصلحة في استهدافهم، وأن من مصلحة القاعدة وإيران أن نكفَّ عنها وتكفَّ عنَّا؛ خصوصًا مع وجود نحو مائة معتقل من القاعدة في إيران.

إنه من المثير للتأمل ذلك التناقض في توصيف تنظيم الدولة؛ ففي حين يراه البعض حدّيًّا صلبًا يراه آخر براغماتيًّا إلا مع أقرانه الجهاديين، والواقع أن القاعدة وتنظيم الدولة يُبديان تصلبًا وبرغماتيةً بحسب التقديرات ووفق منطق واحد، فقد أبدت القاعدة براغماتية في مهادنتها لإيران بعد الحرب الأفغانية، وقد امتثل تنظيم الدولة نفسه "لأوامر القاعدة بعدم التعرض للروافض في إيران؛ حفاظًا على مصالح القاعدة وخطوط إمدادها" كما صرَّح بذلك العدناني، وأنه لم يلتزم بذلك داخل حدود دولته، فالحدية عندهما إنما تظهر في حالة ما يصادم الأصول، فيمكن التوسل بالبراغماتية فيما يعزز استمرار المشروع دون ما يقيده أو يعرقله، فحين أعلن تنظيم الدولة "الخلافة" جعل كل من يعارضها في طائفة "البغاة" بحيث ينطبق عليهم فقه البغاة الذي يؤمن به كل الجهاديين، في حين تجادل القاعدة في شرعية هذه الخلافة وأن تنظيم الدولة خرج على بيعة الظواهري، وهكذا تحول الخلاف من سياسي إلى عقديٍّ فالخلافة عنَت أنهم "جماعة المسلمين" والبقية خارجون عليها، وهو من متواليات فقه الجهاد العالمي نفسه وليس خروجًا عليه.

ولابد من القول: إن تنظيم القاعدة فَقَد هرميته وتحول -مع احتلال العراق- إلى فكرة ومشروع تخضع استراتيجياته وفقهه للتطور بحسب المنتمين إليه وبحسب تطورات ساحات المعارك، وقد لاحظنا ذلك خصوصًا مع الزرقاوي كما يبدو من رسالته لبن لادن في يناير/كانون الثاني 2004(18) التي تحدث فيها عن ضرورة استهداف "طوائف الردة" وعدم الاقتصار على العدو البعيد (الأميركان)، وأدخلَ تطورات في تقنيات الجهاد وأعماله الحربية كالتوسع في العمليات الانتحارية والذبح والتوسع في إطلاق وصف الردة، ثم بايع القاعدة ورأَسَ فرعها في العراق في أكتوبر/تشرين الأول 2004، ما عنى قبول قيادتها بالتطور الجديد أو التسليم به على الأقل.

المسألتان الأبرز في معضلة فهم تنظيم الدولة هي تَوَحشه من جهة، وقدرتُه على السيطرة والتوسع على الأرض من جهة أخرى، ومن المؤكد أن لانضمام العديد من الضباط البعثيين إلى تنظيم الدولة تأثيرًا مهمًّا في هاتين المسألتين، بدءًا من مرحلة أبي عمر البغدادي ثم أبي بكر البغدادي. تعود بدايات التوحش إلى الزرقاوي الذي حذره الظواهري في الرسالة المنسوبة إليه في 2005 من "مشاهد الذبح"؛ لخطورتها في معركة الإعلام التي هي "في سباق على قلوب وعقول أمتنا"، ويرجع تشريع "الغلظة والشدة" إلى شخصيتين رئيسيتين، هما: أبو عبد الله المهاجر (عبد الرحمن العليّ) وأبو بكر ناجي. وقد تأثر الزرقاوي كثيرًا بالمهاجر ودرَس عليه كتابَه "مسائل من فقه الجهاد"، وهو كتاب في "فقه الدماء" وضعه صاحبه "للمستسلمين لشرع الله؛ كاستسلام الميت بين يدي مغسِّله، بل أشدّ"، وفيه يقرر "المهاجر" أن البلد التي يُحكم فيها بالقانون بلدُ كفر وتجب الهجرة منها، وأن الإجماع منعقدٌ على إباحة دم الكافر إباحةً مطلقة؛ ما لم يكن له أمانٌ شرعيٌّ، وأن "مناصرة المشركين ومظاهرتهم على المسلمين كفرٌ أكبر" مطلقًا، وأن الإسلام لا يفرِّق بين مدني وعسكري، وأن "ما في القتل بقطع الرأس من الغلظة والشدة أمرٌ مقصود، بل محبوب لله ورسوله"(19). والمهاجر مصريٌّ تخرّج في الجامعة الإسلامية في إسلام أباد، وشارك في الجهاد الأفغاني ودرَّس في معسكرات المجاهدين في كابل، وتولى التدريس في معسكر الزرقاوي في هيرات، وكان مرشَّحًا لتولي مسؤولية اللجنة العلمية والشرعية في تنظيم القاعدة، اعتُقل في إيران ثم أُفرج عنه وعاد إلى مصر بُعيْد قيام الثورة.

أما أبو بكر ناجي فيعتقد أن الجهاد من أهم أبواب هداية الخلق، وأنه "شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان"، وأن "إراقة دماء أهل الصليب وأعوانهم من المرتدين وجندهم من أوجب الواجبات"، ويقول: "نحن الآن في أوضاع شبيهة بأوضاع حوادث الردة أو بداية الجهاد فنحتاج إلى الإثخان ونحتاج لأعمال مثل ما تم تجاه بني قريظة" (قتْل الرجال وسَبْي الذراري والنساء وأخذ الأموال)، فلابد من "اتباع سياسة الشدة بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب"(20).

أما سيطرة تنظيم الدولة على الأرض، فلا يمكن فهمها إلا في إطار التغيرات في المنطقة منذ الحرب على أفغانستان والعراق وصولاً إلى الثورات الشعبية، فتنظيم الدولة تمدد في الفراغ الذي خلَّفه ضعف الدولة وفي أجواء الاستبداد وبعد احتلال العراق، ثم مع الثورة السورية التي قوبلت بعنف وحشي فتحولت إلى ثورة مسلحة، وقد أشار الجولاني -بوضوح- إلى أن ثورة سوريا "أزالت العوائق" وسهَّلت قبول الفكر الجهادي وحمل السلاح بعد أن "لم تكن الناس تقبل منهجنا"(21). والمرجع المهم في رسم هذه الاستراتيجية هو أبو بكر ناجي الذي أطلق مصطلح "إدارة التوحش" على المرحلة التي تنهار فيها الدول ولا يتم التمكن من السيطرة عليها من قِبَل قوى أخرى، وهنا تتقدم "السلفية الجهادية" بمشروعها لإدارة حاجيات الناس وحفظ الأمن والقضاء بين الناس وتأمين الحدود وغير ذلك.

تأتي هذه الاستراتيجية المقترحة في سياق أوسع؛ إذ يشخِّص "ناجي" المشكلة بدءًا من سقوط الخلافة وإقرار اتفاقية سايكس بيكو ونشوء النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، ومع استتباب أنظمة فرَضت قيمًا مغايرة لقيم المجتمعات خالفت العقيدة التي تحكمها، وضيَّعت المقدَّرات ونشرت المظالم، وأحكم النظام الجاهلي السيطرة على العالم بأنظمة الجنسية والورق النقدي والحدود المسيَّجة. ولذلك فالدولة الإسلامية -بحسبه- ستقوم على أنقاض الأمم المتحدة لتُخرج الأمة من حالة الهوان وتقود البشرية للهداية. والمشروع الوحيد المؤهل لذلك هو مشروع "السلفية الجهادية"؛ لأنه الوحيد الذي وضع مشروعًا شاملاً للسنن الكونية والسنن الشرعية وهو منهج رباني. ويوجه "ناجي" انتقاداته لباقي المشاريع الأربعة، وهي: سلفية الصحوة (سلمان العودة وسفر الحوالي) التي تتطابق مع الإخوان، وتيار الإخوان و"مشروعهم العفن"، وتيار إخوان الترابي الذي راعى السنن الكونية ولكنه لم يراع السنن الشرعية فجعل الدولة علمانية، وتيار الجهاد الشعبي (حماس وجبهة تحرير مورو) المختَرق من قبل منهج الإخوان(22).

ثالثًا: البنية الفكرية للجهاد العالمي والنظام الفقهي

"الحكم بما أنزل الله" هو جوهر البنية الفكرية للجهاد العالمي، وهو في سبيل ذلك يبني تصوراته ومشروعية ممارساته على ما يسميه "الشريعة" وهي -عنده- مرادفة للفقه؛ لا فرق، ولذلك حين يُلقي بعض الكتَّاب باللائمة على الفقه الإسلامي الذي يُنتج مثل هذا الفهم الكارثي إنما يقعون أسرى التصور الجهادي نفسه، فالنظر إلى الإمكانات التي يتيحها الفقه الإسلامي من قبل مستثمريه يتيح أيضًا مشروع الإخوان المسلمين المناقض له تمامًا كما يُتيح غيره من المشاريع، وهو ما يعني أن النص الفقهي لا يمكن له أن يفسر ظهور مثل هذه الظواهر، ولاسيما أنه نص قديم في حين أن هذه الظواهر الجهادية والسياسية حديثة جدًّا.

لا يمكن تجاهل أن الإخوان المسلمين هم من بدؤوا تشكيل المذهبية السياسية للدين حين حاولوا أن يعوضوا غياب الخلافة التي سقطت بمشروع الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة تمهيدًا لاستعادة الخلافة، ثم سعَوا إلى بناء النظام الإسلامي الشامل الذي يَقطع مع الأنظمة السائدة في مختلف المجالات، إلا أن تلك الأفكار سَرَت وانزلقت إلى مشروع الجهاد العالمي؛ ولكن بأدوات وأساليب مناقضة لما رجاه الإخوان، وعبر وسيط إخواني هو سيد قطب الذي طرح أفكار الجاهلية والحاكمية وتكفير المجتمعات؛ نظرًا لغياب المعنى الحقيقي لشهادة التوحيد التي لا تتضمن توحيد الله في التشريع الذي أضافه الجهاديون إلى أنواع التوحيد التي قررها ابن تيمية فأصبحت ثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد التشريع، وسيدٌ شكَّل مَعينًا لكل الفكر الجهاديّ بدءًا من عبد الله عزام والظواهري ووصولاً إلى جبهة النصرة وفقهاء تنظيم الدولة(23).

تبدأ منظومة "الحكم بما أنزل الله" الجهادية بمسألة التكفير أولاً، وعنها يتفرع تكفير الحكام الذين يحكمون بالقوانين، وتكفير الراضين بذلك، وتكفير من لم يكفِّر هؤلاء جميعًا، كما أن البلدان التي تُحكم بالقوانين تصبح كلها دار كفر، فيعود الإسلام غريبًا وتعود "حروب الردة" سيرتها الأولى ويجب الجهاد الذي يتحول -معهم- إلى ركن من أركان الإسلام. في المرحلة الثانية من المنظومة يأتي السلوك الواجب على الطليعة الجهادية المؤمنة، وهو الخروج على الحكام الكفار وقتالهم بغضِّ النظر عن القدرة(24)، وفي المرحلة الثالثة يتم النظر إلى كل أحكام هؤلاء الحكام الكفار على أنها ساقطة وغير معتبَرة شرعًا، فلا تعود تنطبق عليهم أحكام "الإمامة" في الفقه الإسلامي، فتسقط كل أحكام الذمة ودار الإسلام والمعاهدات والقوانين وكل المنظومة السياسية المعاصرة، وفي المرحلة الرابعة يأتي إقامة الحكم الإسلام وتطبيق الشريعة ونَصْب الخليفة الشرعي.

هذه المنظومة لم تكن لتستقيم على هذه الصورة دون الطعن في عامة العلماء والمؤسسات ومصادر العلم الإسلامي والعودة المشوهة والانتقائية إلى الكتب، واتخاذ فقهاء مخصوصين من خارج النظام الفقهي، وبما أن المنظومة الفقهية الإسلامية لا تُسعفهم في هذا البناء تجدهم حريصين على الكتابة في فقه الجهاد بصورة مختلفة وبطريقة شديدة الانتقائية، حتى جعل أبو عبد الله المهاجر تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر "من المعلوم من الدين بالضرورة"(25)، ومن ثم يكفِّر من يخالفه، في حين نرى عامة الفقهاء يرون أن هذا التقسيم هو مسألة أمْلَتْها ظروف تاريخية قد تَغَيرت.

في مقابل منظومة الجهاديين هذه تقوم المنظومة الفقهية الإسلامية على أن "الحكم بما أنزل الله" فيه تفصيل وليس حكمًا عامًّا، ولذلك قيل لابن عباس: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال: "كفره ليس كمن كفر بالله واليوم الآخر"، وعن عطاء بن أبي رباح قال: "كفرٌ دون كفر، وفسقٌ دون فسق، وظلمٌ دون ظلم"، وقال طاووس: "كفرٌ لا يُخرج من الملة"(26)، ومعنى ذلك أن الحكم بغير ما أنزل الله يحتمل أن يكون متمحضًا للكفر بأن يعتقد أن فعله هذا أفضل من حكم الله أو مساوٍ له أو أن يكون جاحدًا لحكم الله، ويحتمل أن يكون الحكمُ غير متمحض كأن يكون باجتهادٍ أو عن جهلٍ أو تحت إكراهٍ أو نحوه. ثم إنه لا ملازمة في الشريعة بين التكفير كشرط للإيمان وبين سلب الكافر حقوقه.

فالفقه الإسلامي يقرُّ بشرعية الحكام إذا وصلوا إلى الحكم بواحد من ثلاث طرق: الاختيار، أو البيعة، أو التغلب (كإضفاء شرعية على أمر وقَع لا يمكن دفعه، لا كتشريع للقيام بالتغلب)، وأن الحاكم لا يُكفَّر إلا إذا صدر عنه كفرٌ بَوَاحٌ لا يحتمل التأويل، وأما ما يصدر عنه من أحكام فإن وافق الشرع وجب الالتزام به، وإن خالف فلا طاعة له ويُنكَر عليه ذلك التشريع المخالف وفق قواعد الأمر والنهي في الفقه الإسلامي.

وأما الجهاد، ففي المذهب الشافعي -الذي يُعتبر الأكثر تشددًا؛ إذ يرى أن عِلَّة الجهاد هي الكفر- أن الجهاد واجب وجوب الوسائل لا المقاصد؛ إذ المقصود بالقتال إنما هو الهداية وما سواها من الشهادة، أما قَتْلُ الكفار فليس بمقصود، حتى لو أمكنَ الهدايةُ بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد"(27).

وبخصوص تطبيق الشريعة فهي تختلف عن الفقه الإسلامي، فالشريعة هي أحكام الله المنصوصة القطعية الدلالة التي أجمع العلماء على أنها من أحكام الله التي لا تتغير، أما الفقه فهو نتاج بشري وهو تفسير للشريعة وخاضع للجهات الأربع: الزمان والمكان والأحوال والأشخاص. فالأحكام الشرعية إما أن تكون منصوصة بأدلة القرآن والسنة، سواء كانت دلالتها قطعية أو ظاهرة، وإما أن تكون من فهم المجتهدين للوقائع الجزئية عن طريق إدخالها في نصوص القرآن والسنة بالاستدلال، وهذا تختلف فيه أنظار المجتهدين ويسميه الفقهاء "تحقيق المناط"، وقد يُجمع الفقهاء في عصر على حكم مبني على واقعٍ معين ثم يُجمع غيرهم لاحقًا على حكم آخر؛ لتَغَير الواقع الذي بُني عليه الحكم الأول، فنقول: إن تحقيق المناط اختلف، وإنه اختلافُ عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان.

ولابدَّ من القول: إن بعض المسائل التي ركَّب عليها الجهاديون منظومتهم تستند إلى بعض فتاوى أئمة الدعوة النجدية أيضًا، من ذلك مسألة الحكم بالقوانين الحادثة، فأئمة الدعوة النجدية من محمد بن عبد الوهاب حتى محمد بن إبراهيم مفتي السعودية يكفِّرون من يسنُّ القوانين أو يحكم بها، ولذلك نجد فقهاء الجهاد العالمي يستعينون بتلك الفتاوى، فقد نقل أبو عبد الله المهاجر عن محمد بن إبراهيم تكفير مَن يسنُّ القوانين الوضعية، ووجوب الهجرة من البلد الذي تُسَنُّ فيه القوانين لأنه لم يعد دار إسلام، كما نقل هو وأبو بكر ناجي عن سليمان بن سحمان من أئمة الدعوة، وكان عبد العزيز بن باز أول من أفتى منهم بأن من يَسنُّ القوانين لا يَكفر بإطلاق، فقد يكون سنُّ القانون لضعف أو شهوة أو اجتهاد. ونجد في فتاوى أئمة الدعوة أيضًا الحديث عن النُّفرة من ملل أهل الكفر والدعوة إلى جهادهم و"التطهر بدماء المشركين والكفار"، وأن "الجهاد ركن من أركان الإسلام"، وأن الجهاد لا يحتاج إلى إمام، وأن "الدين لا يقوم إلا بالجهاد"(28)، ونحو ذلك من التكفير والشدة على الحكَّام، ولذلك مُنعت تلك الفتاوى من التداول في المملكة السعودية.

خلاصة

إن ما نراه أجدى في تفسير هذه الظاهرة يجب أن يقوم على تَجَاوز فكرة "تَفَرُّد" التنظيم التي تعزله عن حركة الجهاد العالمي، والتحرر من قَيد كونه "تهمةً" يتم إلصاقها بفكر أو جهة، أو "تهمةً" يتم دفعُها ونفيها عن دين أو أناس بعينهم، وهذا يتجسد في تحليل البِنية الفكرية للتنظيم، وفي تحليل الواقع المعقد الذي ظهرت فيه تلك الأفكار من جهة أخرى. إن فكرة "الغلو والانحراف" تدفع إلى القول: إننا أمام تطور داخل العالم المفاهيمي للجهاد العالمي وانفلات من القيود المفروضة من القيادة المركزية؛ تجاوبًا مع ما تفرضه التطورات على الأرض، والاختلاف حول الوسائل الأجدى لتحقيق المشروع، بالإضافة إلى الصراع على الإمارة نفسها التي هي مركزية في المشاريع الحركية التنظيمية عامة. فلا يمكن لمسلسل الخروج عن "نظام الفقه الإسلامي" الذي بدأه فقهاء الجهاد العالمي أن يقف عند الحدِّ الذي رسموه هم لأنفسهم وأتباعهم.

إن "الحكم بما أنزل الله" هو جوهر البنية الفكرية للجهاد العالمي، ولذلك يبني مشروعية ممارساته على ما يسميه: "الشريعة"، وهي -عنده- مرادفة للفقه؛ ولذلك حين يُلقي البعض باللائمة على الفقه الإسلامي الذي يُنتج مثل هذا الفهم الكارثي إنما يقعون أسرى التصور الجهادي نفسه؛ ذلك أن الإمكانات التي يتيحها الفقه الإسلامي من قبل مستثمريه يتيح أيضًا مشروع الإخوان المسلمين المناقض له تمامًا كما يُتيح غيره من المشاريع، خاصة وأن النص الفقهي نص قديم في حين أن هذه الظواهر حديثة.

إن سيطرة تنظيم الدولة على الأرض، لا يمكن فهمها إلا في إطار التغيرات في المنطقة منذ الحرب على أفغانستان والعراق وصولاً إلى الثورات الشعبية، فتنظيم الدولة تمدد في الفراغ الذي خلَّفه ضعف الدولة وفي أجواء الاستبداد بعد احتلال العراق، وكذلك الحال مع الثورة السورية التي قوبلت بعنف وحشي فتحولت إلى ثورة مسلحة.

هكذا يبدو تنظيم الدولة نتاج سياقات مركبة تداخل فيها النص بالواقع أو العكس، وهو تطور من داخل حركة الجهاد العالمي وليس خارجًا عنها، وهو يَصدُر عن بنية فكرية واحدة وإن تطورت التقنيات والاستراتيجيات الجهادية لتحقيق المشروع الواحد، وتبدو جذوره مركبة بين مصادر متعددة بدءًا من خصومه الإخوان المسلمين مرورًا بسيد قطب وأئمة الدعوة النجدية، وحركية الجهاد العالمي وفقهائه، بالإضافة إلى سياقات سياسية لمنطقة شديدة التعقيد، وفي سياق تَشكُّل الدولة الوطنية التي ورثت الاستعمار، وفي سياق التحدي الغربي والتدخل الأجنبي في بلاد المسلمين في القوانين ونظم الحكم، والسيطرة على الدول، وانتهاك قيم الجماعات وأعرافها وإهانة معتقدات الناس في بعض الأحيان.
________________________________________________
* معتز الخطيب: أستاذ منهجية الأخلاق–مركز التشريع الإسلامي والأخلاق، جامعة حمد بن خليفة

الهوامش والمصادر
1- في تسجيل صوتي للظواهري بُثَّ في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2013، وفي إعلان البغدادي عن دمج النصرة بالدولة بُث بتاريخ 9 إبريل/نيسان2013، وفي تسجيل للعدناني بُث في 30 يوليو/تموز 2013، وفي مقابلة الجولاني مع قناة الجزيرة بتاريخ 19-12-2013، وانظر عقيدة ومنهج داعش في موقع " theshamnews.com".
2- من تسجيل صوتي بُثَّ في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2013.
3- من تسجيل صوتي لأبي محمد العدناني، بُثَّ في 30 يوليو/تموز 2013.
4- يتكرر هذا المعنى في التصريحات والكتابات المختلفة، انظر مثلاً: متن "عقيدة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين"، (مع شرحه: نور اليقين، لأبي مارية القحطاني)، ([د.م]: دار الجبهة للنشر والتوزيع، [د.ت])، ص27، وتسجيلاً للبغدادي بتاريخ 9 إبريل/نيسان 2013 يقول فيه: "إياكم أن تتخلصوا من ظلم الديكتاتورية لتذهبوا إلى ظلم الديمقراطية"، وتسجيلاً للجولاني بتاريخ 24 فبراير/شباط 2014 يتحدث فيه عن جماعات وقعت في ردة وكفر؛ كحال هيئة الأركان والائتلاف السوري ومن يقوم على مشروع "الجيش الوطني"، وفي مقابلة مع سامي العريدي فقيه جبهة النصرة بتاريخ 21 أكتوبر/تشرين الأول 2013 حصر الحكم في نوعين: رباني وجاهلي، وأن أكثر الفصائل تريد تحكيم شرع الله وإقامة دولة الإسلام، أما الفصائل التي تريد إقامة دولة مدنية علمانية فهي قليلة وندعوهم إلى الرشد والاتعاظ بغيرهم.
5- انظر تصريح العدناني بعنوان: "ما كان هذا منهجنا ولن يكون" بتاريخ 17 إبريل/نيسان2014، وتصريح الظواهري بتاريخ 2 مايو/أيار 2014، ثم تصريح العدناني بعنوان: "عذرًا أمير القاعدة"، بتاريخ 11 مايو/أيار 2014.
6- في تصريح له بتاريخ 31 أغسطس/آب 2013 يوضح العدناني أن "السلمية خلاف نهج الرسول ولا تؤدي إلى حق"، وأنه بإعلان الدولة أصبحت فريضتا الهجرة والجهاد في متناول الجميع.
7- انظر إصرار "داعش" على المضي في مشروع الدولة رغم مطالبة الظواهري بحل دولة العراق والشام والفصل بين الدولة في العراق والنصرة في الشام، في تصريحات البغدادي بتاريخ 15 يونيو/حزيران 2013 التي قال فيها: إن "الدولة باقية"، وتصريحات العدناني بتاريخ 30 يوليو/تموز 2013 الذي قال: "فلنقاتلنَّ لإقامة الدولة الإسلامية كل من يقاتلنا".
8- عمر بن محمود أبو عمر: أبو قتادة، ثياب الخليفة، ([د.م]، نخبة الفكر، 2014م)، ص7، وقد كتبه في السجن.
9- المرجع نفسه، ص3-5.
10- انظر رسالة أبي محمد المقدسي للزرقاوي بعنوان: "الزرقاوي: مناصرة ومناصحة"، مؤرخة في جُمادى الثاني، 1425هـ، سجن قفقفا. http://www.tawhed.ws/r?i=dtwiam56
11- في حوار معه بعنوان: "أبو قتادة: لم أخرج بصفقة وتنظيم الدولة زائل"، حاوره محمد النجار، الجزيرة نت، بتاريخ 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2014.
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2014/11/12/%d8%a3%d8%a8%d9%88-%d9%82%d8%aa%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d9%84%d9%85-%d8%a3%d8%ae%d8%b1%d8%ac-%d8%a8%d8%b5%d9%81%d9%82%d8%a9-%d9%88%d8%aa%d9%86%d8%b8%d9%8a%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84%d8%a9-%d8%b2%d8%a7%d8%a6%d9%84
12- انظر محمد أبو رمان، هكذا تشكَّلت أيديولوجيا التوحش، صحيفة العربي الجديد، الاثنين، 6 أكتوبر/تشرين الأول 2014.
http://www.alaraby.co.uk/opinion/c2c162e1-7384-4891-9f2b-8346cb9c0d56
13- انظر: نواف القديمي، كيف تشكَّلت داعش؟، صحيفة العربي الجديد، الأربعاء، 20 أغسطس/آب 2014:
http://www.alaraby.co.uk/opinion/99b08cd2-484b-4e94-850f-c2946ecb648e
 وتحدث ياسين الحاج صالح عن "الطفرة الغولية" في مقاله: طفرة في التفكير لفهم طفرة "داعش"، القدس العربي، 29 أكتوبر/تشرين الأول 2014: http://www.alquds.co.uk/?p=242548
14- استمع إلى تسجيل العدناني بتاريخ 31 أغسطس/آب 2013.
https://www.youtube.com/watch?v=BeT4D3PpV6g
15- نشر الرسالة مدير مكتب الأمن القومي الأميركي جون نغروبونتي في أكتوبر/تشرين الأول 2005، ونسب إلى الزرقاوي نفي صحتها، ولكن التفاصيل الواردة فيها والتطورات التي حصلت حتى الآن تدعم صحتها.
16- هذه الاقتباسات من عقيدة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، مع شرحه نور اليقين، ص25، 28، 31.
17- في حواره مع الجزيرة في برنامج لقاء اليوم، بتاريخ (19 ديسمبر/كانون الأول 2013).
http://www.aljazeera.net/programs/today-interview/2013/12/19/%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7
18- الرسالة نشرتها السلطات الأميركية، واعترف بصحتها تنظيم الزرقاوي ونشرها ضمن رسائله، كما اعترف بصحتها ميسرة الغريب المسؤول الإعلامي لجماعة الزرقاوي، وأبو أنس الشامي.
19-  أبو عبد الله المهاجر، مسائل من فقه الجهاد، ([د.ن]، [د.ت])، ص8، 21، 34-38، 271، 409.
20- أبو بكر ناجي، إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة، ([د.م]: مركز الدراسات والبحوث الإسلامية)، ص31-33.
21- في حواره المشار إليه سابقًا مع الجزيرة.
22- انظر: أبو بكر ناجي، إدارة التوحش، ص3-17، 76.
23- انظر حول سيد قطب وجماعات العنف: معتز الخطيب، الغضب الإسلامي: تفكيك العنف، (دمشق: دار الفكر، 2007)، ويذكر سامي العريدي فقيه جبهة النصرة سيد قطب ضمن المصادر التي يرجعون إليها، وهو من مصادر أبي بكر ناجي في كتابه.
24- يقول أبو مارية القحطاني في شرح عقيدة تنظيم القاعدة: "فإن لم يقع خلع الإمام الكافر إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلعه". أبو مارية القحطاني، نور اليقين، ص33.
25- أبو عبد الله المهاجر، مسائل من فقه الجهاد، ص16.
26- سفيان الثوري، تفسير الثوري، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1983)، ص101.
27- الخطيب الشربيني، مغني المحتاج في معرفة معاني ألفاظ المنهاج، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1994م)، ج6، ص9.
28- انظر: عبد الرحمن بن محمد النجدي، (جمع وتحرير)، الدرر السنية في الأجوبة النجدية، مجموعة رسائل ومسائل علماء نجد الأعلام من عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى عصرنا هذا، ط5، (مصر: [د.ن] 1995م)،  ج8، ص 13، 18، 23، 199، 201.

عودة للصفحة الرئيسية للملف

نبذة عن الكاتب