(الجزيرة) |
ملخص تنطلق هذه الدراسة من فرضيتين أساسيتين؛ تتمثل الأولى في أن النجاح الفعلي، طويل المدى، للحرب الراهنة، لن يتحقق إلا بشرط رئيسي يتمثل بفك التشابك بين تنظيم "الدولة الإسلامية" والمجتمع السني، والثانية ترتبط بما تمر به المنطقة بأسرها، من مرحلة انتقالية تشهد انهيارًا للدولة القُطرية وحالة من الفوضى وعدم الاستقرار، مما يعطي فرصة لصعود الميليشيات العسكرية ذات الطابع الطائفي أو الديني أو العرقي. تخلص الدراسة إلى أن القضاء على تنظيم "الدولة الإسلامية" عسكريًّا لن يخلق حالة من الاستقرار الإقليمي، ولن ينقذ الدولة القُطرية العربية؛ إذ تؤشر المعطيات الواقعية إلى أننا أمام مرحلة انهيار للتوازنات القديمة من دون خلق آفاق سلمية بديلة؛ ما يجعل من سيناريو العنف والتفتيت السياسي والجغرافي هو السيناريو المتوقع في المدى المنظور، طالما أن البديل الديمقراطي الوطني التوافقي ليس ناجزًا بعد، في كثير من الدول والمجتمعات العربية. |
مقدمة
في اليوم التالي لسقوط مدينة الموصل بيد تنظيم "الدولة الإسلامية" وتمدده السريع؛ بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها بتغيير مقاربتهم تجاه الأوضاع في كل من سوريا والعراق. لم تعد واشنطن تنظر إلى ذلك التنظيم بوصفه تنظيمًا محليًّا عراقيًّا يعاني من أزمة بنيوية تتمثل بعدم قابلية المجتمع السني للتعايش مع أيديولوجيته الدينية المتشددة، ويواجه صحوات عشائرية سنية، كما كانت عليه الحال في العام 2008، فقد أصبح، الآن، لاعبًا إقليميًّا عابرًا للحدود يسيطر على مساحة واسعة من الأراضي ويهدم الحدود لوصل المناطق التي يسيطر عليها بين سوريا والعراق، ويمتلك ترسانة عسكرية ضخمة، جاء أغلبها عبر ما حصل عليه من معاركه مع الجيشين العراقي والسوري، ولديه كفاءة قتالية عالية وخبرة عسكرية وجهاز يدير المعارك على مستوى محترف، ويمتلك مصادر للثروة من حقول النفط التي يسيطر عليها ويتقن التعامل مع "السوق السوداء" للهروب من العقوبات الشديدة، فضلاً عن توظيفه للصراع الإقليمي وتضارب مصالح الدول في المنطقة والعالم، ويحظى بغطاء مجتمعي ناجم عن تفشي الطائفية وحالة الفوضى والفراغ السياسي الكبير في المنظومة الرسمية العربية.
تحركت الولايات المتحدة الأميركية وحشدت معها دولاً غربية وعربية عبر تحالف عسكري هدفه الرئيس تقليم أظافر تنظيم الدولة الإسلامية، وإيقاف تقدمه، وصولاً إلى القضاء عليه. وبعد أعوام من إنكار المشكلة الجوهرية التي أدت إلى صعود هذا التنظيم؛ بدأ الحديث يأخذ طابعًا أكثر عمقًا في إدراكها؛ إذ اعترفت الإدارة الأميركية بوجود أزمة سنِّية في المنطقة أدت إلى صعود هذا التنظيم، فوصلت عبر تفاهمات إقليمية (مع دول المنطقة بخاصة كل من إيران والسعودية) إلى "صفقة" التخلص من رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، بدعوى أن سياساته أدت إلى تعزيز الروح الطائفية في العراق، وأضعفت من شرعية مؤسسات النظام السياسي الجديد هناك، لكن هذا الحل كان أقرب إلى تسطيح الأزمة واختزالها والتغاضي عن الدور الإيراني الذي لا يزال فاعلاً في بناء شبكة كبيرة لتجذير نفوذه ليس في العراق وحده، بل في المنطقة العربية، مرورًا بسوريا ودعم نظام الرئيس بشار الأسد، ودفع حزب الله والميليشيات الشيعية إلى أتون الصراع الأهلي هناك لإنقاذ النظام من الغرق(1).
تحاول هذه الدراسة الوقوف عند أسباب صعود "تنظيم الدولة" في المجتمعات السنية، وتناقش العوامل والمتغيرات المؤثرة في ترسيم مستقبل تنظيم الدولة الإسلامية ومصيره، في ظل الحرب الراهنة عليه، التي تديرها الولايات المتحدة الأميركية عبر تحالف دولي وإقليمي.
تجاهل الشروط المؤسسة
تكمن المفارقة في أن التحالف قرر ضرب التنظيم في العراق وسوريا معًا، مع تجاهل مواجهة الشروط المؤسسة له ولصعوده، والتي تتمثل في سياسات النظام السوري وقمعه للاحتجاجات السلمية واستمراره خلال ثلاثة أعوام في استخدام الأسلحة المختلفة لضرب المعارضة؛ ما أدى أولاً إلى عسكرة الانتفاضة السلمية، وثانيًا: إلى بروز القاعدة ثم انشطارها بين تنظيم الدولة الإسلامية والنصرة هناك، وأخيرًا، إلى تعزيز نفوذ هذا التنظيم الذي أتقن فن اللعبة الطائفية ووظفها بدوره في مواجهة الطرف الآخر، معتمدًا على خطاب هويَّاتي صلب وسافر، في تجنيد الشريحة السنِّية الكبيرة، التي كانت تشعر بحالة من اليأس والإحباط الشديد من أي أفق سياسي سلمي للتغيير، ومن تخاذل المجتمع الدولي عن وضع حد للمأساة التي عايشتها، فأدت إلى هجرة الملايين وقتل مئات الآلاف، وتعرضت لجملة من المجازر والكوارث التي حلَّت بها.
مع صعود النزعات الطائفية المتبادلة، وجنوح القوى السياسية الشيعية نحو طهران، بوصفها مركز الثقل الإقليمي لها، وضعف الوسط السياسي الرسمي السنِّي عمومًا، وشعور المجتمعات السنية في ثلاثة مجتمعات رئيسة: العراق وسوريا ولبنان، بحالة من الفراغ السياسي وتهديد عميق لهوياتها ومصالحها؛ لم يعد صعود هذا التنظيم أمرًا يستعصي على الفهم والإدراك والتحليل، فهو إن لم يكن، بالضرورة، خيارًا ثقافيًّا حضاريًّا طبيعيًّا، فإنه ضمن الظروف الاستثنائية وحالة الفوضى والصراع الداخلي بات لدى فئات من المجتمع السني أداة للدفاع عن النفس، سواء قبلوا بها أو رفضوها حيث لم يجدوا مسارًا بديلاً لمقاومة فعالة لها(2).
لذلك؛ تبقى الأزمة السنِّية هي نقطة الضعف الجوهرية في استراتيجية إدارة الرئيس أوباما في مواجهة التنظيم، مع عدم استعداد السنَّة للرهان على حلول جزئية قاصرة، قد تؤدي إلى مزيد من الضعف والفشل في حال تم إضعاف هذا التنظيم، الذي لا يعبِّر عن خيارات سنِّية طبيعية اختيارية، بقدر ما يعكس الشعور بالقلق والرعب من الظروف الراهنة.
ولإدراك الإدارة الأميركية أن الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية عملية معقدة؛ إذ إن الأبعاد العسكرية فيها متشابكة مع السياسية، فإنها وضعت تصورًا بعيد المدى، يربط التقدم العسكري بشرط جوهري، يتمثل بفك التشابك بين تنظيم الدولة والحاضنة السنية في كل من العراق وسوريا، وتعتمد في ترجمة نتائج القصف الجوي لمكاسب عسكرية بالإضافة للقوات الكردية والجيش العراقي على السنَّة العراقيين والسوريين، الذين تريد الولايات المتحدة وحلفاؤها تدريبهم لمواجهة القاعدة، لذلك جرى التفكير في إنشاء "الحرس الوطني" في العراق، لتدريب السنَّة من أبناء العشائر وإدماجهم فيه، وكذلك الأمر تدريب الجيش الحر في سوريا(3).
أسئلة متعددة
يقودنا ما سبق إلى السؤال الجوهري في الحديث عن المرحلة القادمة ومستقبل المنطقة العربية، ويتمثل في سيناريوهات اليوم التالي للحرب الراهنة على تنظيم الدولة الإسلامية؟
ينبثق عن هذا السؤال أسئلة متعددة؛ من قبيل ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتمكن مع حلفائها من القضاء عسكريًّا على هذا التنظيم وإنهاء دولته التي أعلن عنها ممتدة بين الأراضي السورية والعراقية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي مآلات الأوضاع في العراق وسوريا في حال لم تحل المشكلة السياسية السنية في سوريا، وفشلت جهود احتواء السنة العراقيين؟ وهل إنهاء "داعش" سيؤدي إلى عودة الاستقرار الإقليمي؟
قبل الولوج إلى محاولة الإجابة عن التساؤل الرئيس السابق وما ينجم عنه من أسئلة متعددة، فمن الضروري أن نذكِّر بأربع ملاحظات رئيسة حول التنظيم وطبيعته والشروط المنتجة له:
-
يرتبط صعود تنظيم الدولة الإسلامية بوصفه فاعلاً إقليميًّا، عابرًا للدول والمجتمعات، بعاملين رئيسين: الأول: يتمثل بالنزعة الطائفية في المنطقة الناجمة عن النفوذ الإقليمي الإيراني، والفراغ السياسي السنِّي، وانفجار الصراعات الداخلية على أسس طائفية ودينية وعِرقية في كل من العراق وسوريا، والثاني: ينبثق من سياسات الأنظمة السلطوية وقمع الاحتجاجات السلمية وحالة الانسداد السياسي، والانقلاب على مخرجات الربيع العربي أي إنه مركَّب على أزمة سياسية عربية.
-
يمكن النظر إلى تنظيم الدولة باعتباره نموذجًا من نماذج متعددة عابرة للمجتمعات، تتمثل بالجماعات الدينية والطائفية التي أصبحت فاعلاً رئيسًا في ظل حالة الفوضى السياسية والأمنية، فالجماعات الشيعية العراقية وحزب الله والقوى الكردية والحركات السلفية الجهادية وفروع القاعدة والحوثيين تتوافر على الشروط السياسية والمجتمعية نفسها التي أدت إلى صعود ذلك التنظيم.
-
يتأسس هذا الدور السياسي والأمني والعسكري لهذه التنظيمات والجماعات على فشل الدولة الوطنية العربية في الإدماج السياسي وحماية قيم المواطنة والقانون وسيادة حالة من الفوضى الأمنية والفراغ السياسي.
-
إن صعود هذا التنظيم، محليًّا وإقليميًّا، ليس طارئًا وهزيمته تتجاوز الجانب العسكري والأمني، إلى مواجهة الشروط الموضوعية السياسية التي تقف وراءه ووراء التنظيمات والنماذج الشبيهة.
من هذه الملاحظات يمكن استنطاق نتيجتين مهمتين، هما:
-
الأولى: أن النجاح الفعلي، طويل المدى، للحرب الراهنة، لن يتحقق إلا بشرط رئيس وهو فكُّ الاشتباك بين تنظيم الدولة الإسلامية والمجتمع السني، ومدى قناعة المجتمع السني بالانقلاب مرة أخرى على التنظيم، كما حدث في العام 2007 مع تجربة الصحوات.
-
والثانية: أن المنطقة بأسرها تمر بمرحلة انتقالية تشهد انهيارًا للدولة القُطرية ومنظومتها السياسية، وهي حالة تتجاوز العراق وسوريا إلى أغلب دول المنطقة؛ إذ نجد حالة الفوضى وعدم الاستقرار تسود اليمن وليبيا ولبنان وصحراء سيناء في مصر، في مقابل حالة صعود للميليشيات العسكرية ذات الطابع الطائفي أو الديني أو العرقي.
في ضوء هذه الملاحظات، وبالعودة إلى سؤال اليوم التالي للحرب الراهنة على تنظيم الدولة الإسلامية، يمكننا الحديث عن المؤشرات التالية:
-
على صعيد التحالف الدولي والإقليمي: يعاني التحالف من غموض السيناريوهات والمراحل التالية، ويقع في معضلات جوهرية؛ أهمها:
-
أولاً: تدرك الإدارة الأميركية أن القضاء على التنظيم أو إضعافه من دون دحرجة الأهداف لتصل إلى النظام السوري، لن يحل المشكلة، ولن يقلب موقف المجتمع السني ليكون مشاركًا فاعلاً في القضاء على التنظيم، فطالما أن الرئيس أوباما لم ينطق بكلمة السر، وتتمثل بمد الأهداف لتصل إلى قوات النظام السوري أو إجباره على قبول التنحي، فإن المجتمع السني السوري لا يرى ضوءًا في نهاية النفق، وستبقى شروط صعود هذا التنظيم قوية، وهي مقاربة تؤكد عليها تركيا كشرط للانخراط الكامل في مواجهة التنظيم وتؤيدها فرنسا. في المقابل، فإن إعلان الإدارة الأميركية أن الحرب تستهدف نظام بشار الأسد، سيجرها إلى صراع مزدوج، مع النفوذ الإيراني وتنظيم الدولة في الوقت نفسه، وربما يؤدي إلى انقلاب الأصدقاء في الحكومة العراقية، عمليًّا، عليها.
-
ثانيًا: في الوقت الذي تعمل فيه الولايات المتحدة على إضعاف تنظيم الدولة وضربه، فإنها تتحالف مع الحكومة العراقية، التي تدعم الميليشيات العراقية، التي تتبنى نهجًا طائفيًّا مقابلاً لهذا التنظيم، وترتكب انتهاكات شبيهة به، وهي التي تتحالف -أيضًا- مع نظام بشار الأسد وحزب الله في سوريا في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. فمثل هذا التعاون المباشر، أو غير المباشر، في تحقيق هدف مشترك بين الإدارة الأميركية وهذه الفصائل لن يساعد على طمأنة المجتمع السني ومنحه شعورًا بإمكانية الخروج من الوضع الراهن، الذي يشعر فيه بتهديد وجودي على هويته في هذه المجتمعات(4).
-
ثالثًا: كيف يمكن أن تقنع الإدارة الأميركية المجتمع السني، في ظل تباطؤ وتأخر الحل السياسي، بأن هذه الحرب هي لصالحه ولا تخدم خصومه، بينما يجد هذا المجتمع -على النقيض من ذلك- أن المستفيد الأول من الضربات التي توجه لهذا التنظيم هما النظامان العراقي والسوري، وفي حال نجح كل منهما في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، فما الضامن للسنَّة بألا ينقلبا عليهم، كما حدث سابقًا، بعد النجاح في إضعاف التنظيم عبر الصحوات السنية التي تجري إعادة استنساخها باسم "الحرس الوطني"، ويكون قد خسر طرفًا قويًّا استطاع إعادة بناء موازين القوى، بالرغم من عدم قبول المجتمع السني بالضرورة له ولأجندته الدينية والسياسية.
-
رابعًا: لا تزال هنالك شكوك كبيرة في صلابة التحالف الدولي الإقليمي ضد تنظيم "الدولة"؛ فبالرغم من أن هنالك عشرات الدول التي تشارك في الضربات الجوية، إلا أن هنالك -في المقابل- تباينًا في رؤية هذه الدول لمصالحها، بخاصة في المنطقة، فتركيا لم تقبل بالتدخل البري لإنقاذ مدينة كوباني الكردية، ولم تسمح خلال الفترة الأولى من الحرب الجوية باستخدام قواعدها، لأنها تطالب بمقاربة لا تهدف فقط إلى التخلص من تنظيم الدولة، بل كذلك من الرئيس السوري الأسد. والدول العربية، بخاصة السعودية تشعر بقلق من النفوذ الإيراني ومن علاقة النظام العراقي الجديد بطهران، وتأخذ موقفًا متشددًا من نظام الأسد، وبالرغم من أنها تنظر إلى تنظيم الدولة بوصفه مصدر تهديد رئيسيًّا لأمنها الوطني والاستقرار الإقليمي، إلا أنها تنظر إلى طهران، كذلك، كمصدر تهديد حقيقي لها، ما يخلق شقوقًا في التحالف الدولي في حال استمرت الحرب لمدة طويلة، كما تصرح الإدارة الأميركية(5).
-
خامسًا: بالرغم من أهمية الضربات الجوية وتأثيرها على المدى البعيد، إلا أنها لن تكون حاسمة تمامًا من دون القوات البرية في القضاء على التنظيم، ومعضلة التحالف تكمن في أن الحديث عن تدريب السنَّة في العراق وسوريا لمواجهة تنظيم الدولة لا يزال يواجه صعوبات وتعقيدات سياسية وفنية؛ فالحرس الوطني العراقي المزمع تأسيسه وتطويره يحتاج لأعوام كي يكون قادرًا على المواجهة، والجيش السوري الحر لا يزال ضعيفًا وغير قادر على الاستفادة من إضعاف التنظيم وحصاره عسكريًّا وجغرافيًّا، وليس واضحًا بعد كيف ستتدحرج الحرب وتتطور أهدافها ومساراتها في حال لم تنجح الجهود السياسية في التخفيف من وطأة الأزمة السُّنِّية في كلا البلدين(6).
-
سادسًا: في خلفية المشهد الدولي والإقليمي هنالك تراجع كبير في الرغبة الأميركية في التورط في أية حروب وصراعات أخرى في المنطقة، وهو وعد أوباما للرأي العام الأميركي، يعزز هذه الرغبة تنامي قناعة جديدة في أوساط سياسية وفكرية أميركية بأن المنطقة العربية بأسرها في طور التفكك وانهيار المنظومة السياسية الجغرافية، التي تشكَّلت بعد الحرب العالمية الأولى، وفشل الدولة الوطنية العربية، ما يجعل من محاولات الحفاظ على الوضع القائم أمرًا مستعصيًا، وربما هذا ما عبَّر عنه الرئيس الأميركي أوباما نفسه، في لقاء مع الصحفي الأميركي، توماس فريدمان، عندما قال: "ما نراه في الشرق الأوسط وأجزاء من شمال إفريقيا هو أمر يعود إلى نظام من الحرب العالمية الأولى بدأ يتفكك"(7).
مثل تلك المعطيات تخلق شكوكًا في مدى استمرارية التحالف الراهن واستدامته وقدرته على التعامل مع شروط التفكك والفوضى الراهنة، ومما يعزز هذه الشكوك ويدعمها تلك القراءات الاستراتيجية التي تتحدث عن تراجع أهمية منطقة الشرق الأوسط على سُلَّم المصالح الحيوية الأميركية، بخاصة مع اكتشاف النفط بكميات كبيرة في الولايات المتحدة نفسها(8).
وبالرغم، من أن التنظيم حافظ على صلابة تماسكه، والتزام أعضائه مع القيادة، إلا أن التوسع الكبير للتنظيم في الآونة الأخيرة قد يكون له نتائج معاكسة تمامًا على الحالة الداخلية، فوفقًا للتقارير الغربية فإن أعدادًا كبيرة انضمت إليه في العراق وسوريا، بعد الانتصارات العسكرية وإعلان الخلافة؛ ما يخلق حالة من التفاوت في التزام الأعضاء في الداخل، ويؤدي إلى مساحات هشة واسعة، وفي حال تعرض لهزائم وخسائر عسكرية كبيرة، وتراجع نفوذه في المرحلة القادمة، فإن احتمال فقدانه لأعداد كبيرة من الأعضاء والعشائر الذين بايعوا، لأسباب واقعية، لا أيديولوجية، سيكون كبيرًا ومؤثرًا، وهو ما حصل في مرحلة الصحوات في العام 2007؛ إذ تراجع نفوذ التنظيم وانكمش وانسحب جزء كبير من الأتباع.
تبقى نقطة ضعف التنظيم، وربما مقتله الحقيقي، في علاقته بالمجتمع السُّني، فإذا حدث وانقلبت شريحة واسعة عليه، لأسباب سياسية أو لعدم قبول ما يفرضه من تصورات دينية ونظام حياة على المجتمع، فإن شرط الصعود سيتحول إلى سبب للتراجع والانكماش.
ولأن التنظيم يدرك تمامًا أهمية "الحاضنة السنية"، وحجم الضربة القاصمة التي تلقاها على يد الصحوات السنية سابقًا، فقد حرص على تطهير المناطق الجغرافية التي يسيطر عليها، عبر فرض نفوذه وإلغاء القوى الأخرى، ومطالبتها بالانضواء تحت رايته وبيعته، وجعل من صراعه مع الفصائل السنية المنافسة أولوية في استراتيجيته القتالية (انعكس ذلك في المراجعة التي أجراها، والتي وضع فيها قاعدة "تسع رصاصات في رؤوس المرتدين وواحدة في رؤوس الصليبيين). إلا أن هذه المقاربة نفسها تحمل بذور الفشل والانهيار، لأنها تقوم على عامل الخوف والقوة، لا القناعة والتوافق، وهي تجعل من علاقته بالمجتمع السُّنِّي مؤقتة، اضطرارية، ليست مبنية على خيار استراتيجي وثقافي عميق.
من الضروري أن تتم قراءة هذا الفاعل السياسي الجديد في إطار العنف السلطوي، سواء كان ذا طابع طائفي، مثل العراق وسوريا، أو استبدادي، كما هي الحال في مصر والجزائر والدول العربية الأخرى، وفي إطار الأزمات البنيوية التي تعاني منها الدول العربية، وتخلق مشاعر شعبية جامحة في التهميش والإقصاء وغياب الأفق السلمي والظروف الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة(10).
ومن الضروري، كذلك، النظر إلى صعود تنظيم الدولة في سياق الفوضى الطاحنة في ليبيا، والفراغ السياسي ونمو الجماعات المرتبطة بالسلفية الجهادية هناك، وفي صحراء سيناء، وفي اليمن مع سيطرة الحوثيين على صنعاء، ومع الأزمة البحرينية والأزمات الداخلية العربية، فهنالك اليوم حالة جديدة متنامية من تفكيك المجتمعات وانهيار السلطة الأخلاقية للدولة، والعودة إلى الأشكال الأولية من التعبير عن الهوية(11).
مثل هذه المناخات تخلق جاذبية لنموذج الدولة الإسلامية وقابلية لاستنساخه وتطبيقه في العديد من المجتمعات، طالما أن المسارات البديلة مغلقة إلى الآن، فليست خطورة هذا التنظيم أنه اجتاز الحدود وأقام كيانًا عابرًا لها، ومتوحشًا في سلوكه مع الخصوم، بل إنه أصبح نموذجًا للوعي الشقي السلبي ولحالة المجتمعات العربية والمسلمة.
أصبح هذا التنظيم "نموذجًا"، وقد وجدنا كيف سعت جماعات أخرى في ليبيا واليمن ومصر إلى استنساخه، فطالما أن الأزمة السياسية السنية لم تُحل، والأزمة السلطوية العربية قائمة، فإن هذا التيار والتيارات الأخرى، سواء كانت شيعية أو عِرقية أو غيرها ستجد فرصةً للنمو والصعود والتكيف مع الضغوط والظروف المختلفة، وإذا تراجعت في مكان ستتنشر في مكان آخر(12).
في الحرب الأفغانية (2002) استطاعت الولايات المتحدة الأميركية مع حلفائها القضاء على حكم حركة طالبان الأفغانية، وتدمير مركز القاعدة وتشتيت قيادته، لكن المشكلة عادت للظهور سريعًا بعد أعوامٍ قليلة، واليوم تعترف أوساط أميركية متعددة بأن العملية السياسية لم تستطع أن تخلق حالة من الاستقرار لذلك البلد، وأن القاعدة، بنسخها المتعددة، وآخرها تنظيم الدولة الإسلامية (الذي انشق عنها) أصبحت أكثر انتشارًا وحضورًا وقوة، بالرغم من كل الجهود الأمنية والعسكرية والاقتصادية لضربها وحصارها.
خاتمة
خاتمة القول وجملته: إن القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية عسكريًّا لن يخلق حالة من الاستقرار الإقليمي ولن ينقذ الدولة القُطرية العربية؛ إذ تؤشر المعطيات الواقعية إلى أننا أمام مرحلة انهيار للتوازنات القديمة من دون خلق آفاق سلمية بديلة، وهي التي كان يمكن أن توفرها الثورات الديمقراطية العربية، لكن الطريق أمامها أصبحت متعرجة ومعقدة؛ ما يجعل من سيناريو الفوضى والعنف والتفتيت السياسي والجغرافي على أسس بدائية هو السيناريو المتوقع في المدى المنظور، طالما أن البديل الديمقراطي الوطني التوافقي ليس ناجزًا بعد في كثير من الدول والمجتمعات العربية؛ وذلك يعني أننا ندور في حلقة مفرغة من الصراعات والأزمات الداخلية والإقليمية الطاحنة(13).
____________________________________________
محمد أبو رمان: باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية متخصص في شؤون الجماعات الإسلامية.
المصادر والهوامش
1- قارن ذلك بـ: يوزورجمهر شرف الدين، لماذا تخلت إيران عن المالكي في النهاية، موقع بي بي سي العربي، 13 أغسطس/آب 2014، على الرابط التالي: http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2014/08/140813_iran_let_maliki_go، انظر كذلك: تقرير "أوباما ينتقد المالكي ويرسل 300 خبير عسكري للعراق، صحيفة العربي الجديد، 19 يونيو/حزيران 2014.
2- ذلك لا يعني، بأية حال من الأحوال، قبولاً سنيًّا بهذا التنظيم وخطابه وسلوكه، ومن الواضح أن المعارك التي تحدث في سوريا والعراق بين الفصائل الوطنية والإسلامية الأخرى ضد نفوذه بمثابة دليل على وجود مقاومة وممانعة داخلية، وشعور بخطورته، سياسيًّا وثقافيًّا، على مصائر المجتمع السنِّي ومصالحه، لكن الأحداث والتطورات تبرهن على أن المسار الراهن يخدمه أكثر مما يخدم خصومه من المجتمع السني الذي يقع بين فكي الكماشة؛ القلق على الهوية السنية من التهديد الطائفي السياسي من جهة، ونمو هذا التيار وما يحمله من أخطار على ثقافة المجتمع السلمي ونمط حياته ومصالحه من جهة ثانية.
3- David Ignatius, Obama faces growing pressure to escalate in Iraq and Syria, Washington Post- 14 October.
4- قارن ذلك بـ: روبرت بابر، حتى لو قتلنا أبا بكر البغدادي من يطفيء نار الغضب السُّني في الشرق الأوسط؟ موقع سي إن إن العربي، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، على الرابط التالي: http://arabic.cnn.com/middleeast/2014/11/02/commentary-baer-isis-assassination
5- انظر: هبة القدسي، واشنطن ترفض الشروط التركية لإقامة منطقة حظر طيران أو مناطق عازلة، صحيفة الشرق الأوسط، 7 أكتوبر/تشرين الأول 2014.
6- انظر: مصطفى العبيدي، تباين مواقف القوى السياسية العراقية بشأن إنشاء الحرس الوطني لمواجهة الإرهاب، صحيفة القدس العربي، 17 سبتمبر/أيلول 2014.
7- انظر: توماس فريدمان، أوباما: شيعة العراق أهدروا الفرصة، صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، 12 أغسطس/آب 2014.
8- يمكن ملاحظة العديد من التقارير الأميركية والغربية التي تذهب نحو هذه القراءة لمستقبل المنطقة؛ Robert Kaplan, The End of The Middle East, Real Clear World, 30 October 2014، يمكن قراءته على الرابط التالي: إضغط هنا.
وكذلك الأمر: , Middle East Meltdown, Foreign Policy, October 30/2014 Aaron David Miller
انظر كذلك تقريرًا آخر في الدلالات نفسها: Why post-colonial Arab states are breaking down, Economist, 1 October 2014، يمكن قراءته على الرابط التالي: http://www.economist.com/news/middle-east-and-africa/21623771-why-post-colonial-arab-states-are-breaking-down-rule-gunman
9- Aaron David Miller, Middle East Meltdown, Foreign Policy, October 30/2014
10- Chuck Freilich, The Middle East Heads towards a Meltdown, The National Interest, 26 June 2014,
http://nationalinterest.org/feature/the-middle-east-heads-towards-meltdown-10753?page=2
11- Glenn Greenwald, How Many Muslim Countries has the American Bombed or Occupied since 1980, The Interception, 6-11-2014.
https://firstlook.org/theintercept/2014/11/06/many-countries-islamic-world-u-s-bombed-occupied-since-1980/
12- انظر، على سبيل المثال: أنصار بيت المقدس تنضم إلى داعش وتبايع البغدادي، الحياة اللندنية، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، وكذلك: داعش في درنة الليبية: محكمة شرعية واستمالة ضباط، السفير البيروتية، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2014.
13- Murtaza Hussain, The Middle East Un Holly Alliance, The Intercept, 4-11-2014
https://firstlook.org/theintercept/2014/11/04/middle-easts-counterrevolutionary-alliance/
عودة للصفحة الرئيسية للملف |