مجموعة من المسلمين في بريزنيتسا ببلغاريا (أسوشيتد برس-أرشيف) |
ملخص ولتجاوز التاريخ السيء مع الأقليات سمحت السلطات البلغارية بوجود حزب حركة الحقوق والحريات الذي ينتمي كل أعضائه إلى الأتراك البلغاريين، على الرغم من أن الدستور يحظر الأحزاب القائمة على أساس عرقي أو ديني أو طائفي. وضمنت صوفيا بهذا انخراط الأقلية المسلمة في المشهد السياسي؛ وبالتالي فإن مطالبها لا يمكن أن تكتسي طابعًا عرقيًا وإثنيًا، وإنما تخضع للشروط السياسية السائدة. في حين تحصل الأقلية المسلمة على فرصتها لتكون فاعلاً سياسيًا له تمثيله في البرلمان من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح لفائدة المسلمين هناك بكل مكوناتهم خاصة إذا ما استطاعوا تجاوز انقساماتهم. |
تهدف هذه الدراسة إلى التعريف بالمجتمعات المسلمة في بلغاريا وتبحث في خصوصياتها وهويتها، وفي علاقاتهم البينية وعلاقاتهم بالمجتمع الأرثوذكسي الذي يعيشون فيه، وتستعرض أهم الإشكاليات والتحديات التي تواجههم وكيف ينظرون إلى المستقبل.
مسلمو بلغاريا: الديمغرافيا والانتماء
لم تكف وسائل الإعلام وكبريات الصحف ومراكز البحوث الاستراتيجية في أوروبا وخاصة في بلدان الجزء الشرقي من القارة عن رفع صوتها عاليًا داعية إلى ضرورة دق ناقوس الخطر محذرة مما سمته "المد الأخضر" القادم من تركيا، والساعي إلى توحيد ما توصف بالحركات والجماعات الإسلامية المتشددة، وتمدده إلى ألبانيا مرورًا باليونان وبلغاريا وصولاً إلى البوسنة والهرسك(1).
هذه الدعوات التحذيرية وجدت لدى بعض الأحزاب السياسية الراديكالية في منطقة البلقان، مثل المجر وصربيا وكرواتيا وبلغاريا، آذانًا صاغية حولتها إلى هدف سياسي قومي.
ففي بلغاريا التي هي موضوع البحث، صرح "يان يانييف" زعيم المعارضة ورئيس حزب "نظام، قانون، عدالة" (RZS) بأن "بلغاريا التي تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي تبدو بعض جهاتها وقراها في حاجة ملحة إلى عملية تحرير ثانية من الحكم العثماني". التصريح نقلته وكالة الأنباء البلغارية في 5 مارس/آذار 2009. وتعهد حزب يانييف بالضغط على الحكومة الائتلافية البلغارية لإنهاء ما سماه الاعتداءات المتكررة على حقوق المواطنين في المناطق الجنوبية من البلاد وإجبارهم على اعتناق الإسلام مع أنهم ليسوا أتراكًا، بل هم مواطنون بلغاريون يضمن لهم الدستور كامل حقوقهم، كما أن أسلمتهم بالقوة، على حد وصفه، تنزع منهم حق اختيار دينهم وتتعارض مع القيم الأوروبية المسيحية وتسعى إلى بث الفرقة داخل النسيج المجتمعي البلغاري.
في مقابل هذا التوجه، قال رئيس الوزراء البلغاري المكلف "مارين رايكوف" في 23 مارس/آذار 2013، وإثر لقائه المفتي الأكبر في بلغاريا، مصطفى حاجي: "المسلمون جزء لا يتجزأ من الأمة البلغارية، بقطع النظر عن انتمائهم العرقي والإثني، ولابد من أن تُقدّم لهم كل الضمانات بأن لا يُسمح لأي أحد باستغلال "جراحات الماضي" التي آلمتهم طويلاً".
جدير بالذكر أن هذا التصريح المطمئن من أعلى هرم السلطة في بلغاريا، جاء بعد محاكمة ثلاثة عشر من الناشطين السياسيين المسلمين في بلغاريا خلال العامين الماضيين بتهم تعلقت بالتخطيط لعمليات إرهابية واستعمال العنف المنظم ضد المصالح العليا للدولة، وقد ذكّرت تلك المحاكمات التي انتهت بتبرئة المتهمين، بوضع المسلمين البلغاريين وما تعرضت له الأقلية المسلمة في بلغاريا في عهد نظام الرئيس "تودور جيفكوف" في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي من عمليات إخضاع وإدماج قسرية ومحاكمات للرأي طالت عددًا من قيادات ورموز المسلمين، وتوقع المتابعون لهذه القضايا في حينه تصاعد العنف بين الإثنيات المختلفة التي تعيش على أرض بلغاريا مع تهاوي النظام الشيوعي عام 1989، واليوم لا تزال الأقلية المسلمة التي تمثل أكثر من 13% من مجموع سكانه(2) تعاني في هذا البلد البلقاني صنوفًا من التمييز والاضطهاد.
كان نظام تودور جيفكوف، الشيوعي المتطرف في قوميته، قد أجبر حوالي 800 ألف من ذوي الأصول التركية على تغيير أسمائهم المسلمة وذلك تحت شعار التوحيد الكامل والنهائي للأمة البلغارية ذات الأغلبية الأرثوذكسية وتخليصها من الحضور التركي/المسلم الذي خالطها لمدة امتدت أكثر من خمسة قرون.
رسميًا، لا تعترف سلطات صوفيا بوجود أتراك في بلغاريا، فهؤلاء قد غادروا البلد في إطار ما يُعرف بمعاهدة 1968 الموقعة بين صوفيا وأنقرة، ولم يبق في بلغاريا سوى مسلمين بلغاريين كانت سلطات جيفكوف تقول إنه تمت أسلمتهم "وتَتْركتهم" عنوة في عهد الإمبراطورية العثمانية، وظلت سلطات صوفيا تروج أن هؤلاء استعادوا وعيهم بهويتهم الأصلية وتصالحوا مع إثنيتهم ودينهم واختاروا تغيير أسمائهم وانتمائهم.
نُظمت في ربيع عام 1989 عمليات ترحيل قسري ألقت خلالها سلطة نظام جيفكوف بأكثر من 340 ألفًا من مسلمي بلغاريا في الشوارع بعد مصادرتها منازلهم وممتلكاتهم، ولم تكن هذه الحملة العنصرية القومية لنظام جيفكوف –الذي كان في مراحله الأخيرة التي سبقت الثورة- تلقى رضًا تامًا من سكان المناطق المختلطة عرقيًا، كما أنها لم تكن محل إجماع داخل صفوف قيادات الحزب الحاكم، ثم كانت أولى القرارات السياسية التي اتخذها الإصلاحيون الشيوعيون في بدايات التغيير السياسي الذي هبّ على بلغاريا تتعلق بها وتسير في نهج إعادة الحقوق لمسلمي بلغاريا.
الأقليات البلغارية في إحصاء عام 1992
بحسب إحصاء شهر ديسمبر/كانون الأول 1992(3)، يبلغ عدد سكان بلغاريا حوالي 8.5 مليون نسمة موزعين بين 85.8% من البلغاريين، و9.4 % من الأتراك، في حين بلغت نسبة الغجر 3.7 % وصُنّف الباقون وهم 1.1% في خانة الجنسيات الأخرى.
تعطي النتائج الحاصلة من التصنيف بحسب الانتماء الديني صورة مختلفة نوعًا ما؛ حيث بلغت نسبة المسلمين في مجملها 13.1%، وكان التوزيع الداخلي للأقلية المسلمة كالتالي: الأتراك 75.3% من إجمالي المسلمين في بلغاريا، إلى جانب البلغاريين المسلمين المعروفين باسم البوماك ويمثلون 13.5%، والغجر 10.5% بالإضافة إلى أقلية قليلة من التتار والشركس (انظر الملحق أدناه**).
كما هي الحال في دول البلقان الأخرى، يعود وجود المسلمين في بلغاريا إلى عاملين اثنين: يتمثل الأول في عمليات الهجرة وقدوم مئات الآلاف من المسلمين مع بسط الامبراطورية العثمانية سلطتها على تلك البقاع، فيما يعود العامل الثاني إلى اعتناق الآلاف من السكان الأصليين للإسلام.
نجد أكبر التجمعات السكانية للمسلمين متركزة حول منطقتين: تقع الأولى في الشمال الشرقي من بلغاريا حيث مربع (روس-سيليسترا-فارنا–شومان)، في حين توجد منطقة تجمع المسلمين الكبرى الثانية في جنوب البلاد عند جبال "الرودوب". ويسكن بين هاتين المنطقتين حوالي 80% من أتراك بلغاريا، في حين يتواجد 90% من "البوماك" في منطقة الرودوب الغربية(4).
خصوصيات مسلمي بلغاريا
يتميز مسلمو بلغاريا عمومًا بطبيعتهم الريفية، فهم في أغلبهم يشتغلون بالفلاحة، ولا تتعدى نسبة سكان المدن بين المسلمين (من الأتراك والبوماك) 31.61 % من مجموع مسلمي بلغاريا(5).
1- الأقلية التركية في بلغاريا: اختلافات مذهبية وضعف تجانس اجتماعي واقتصادي
ينقسم الأتراك البلغاريون على مستوى الديانة إلى سُنّة وعلويين(6). يعيش العلويون في مجتمعات مغلقة ويقطنون مناطق "دوبرودجا" و"ديليورمان" ويقيمون شعائرهم الدينية وفقًا لمذهب متشدد مختلط علوي-باكتاشي، ويحافظ شيعة بلغاريا على علاقات حسنة في عمومها مع مسلمي بلغاريا السنة.
من المفيد الملاحظة هنا أن الموقف الرسمي لدار الإفتاء في بلغاريا، والذي تم إعلانه في مؤتمر عام 1997 وشهد انتخاب المفتي الأكبر، مصطفى حاجي، ذي الأصول البوماكية وذلك لأول مرة في تاريخ بلغاريا الحديث، يُعرّف مسلمي بلغاريا على أنهم "سنيون-حنفيو المذهب" ولا يذكر الطائفة العلوية من بين الأقليات المسلمة المنضوية تحته.
إضافة إلى هذه الاختلافات المذهبية، فإن الأقلية التركية المسلمة في بلغاريا ليست متجانسة اقتصاديًا؛ ففي الوقت الذي تعرف فيه الجماعات التركية حياة مرفهة نسبيًا بسبب وفرة الأراضي الخصبة في منطقة "دوبرودجا" المعروفة تقليديًا بإنتاجها الغزير للقمح، وتُعتبر "الهلال الأخضر البلغاري" فإن أراضي منطقة "الرودوب" غير خصيبة ولا تسمح إلا بزراعات قليلة وضعيفة في جهة الغرب يتمثل أغلبها في إنتاج البطاطس، أو في إنتاج التبغ في جهة الشمال، وهذا التناقض في ما توفره المعطيات الطبيعية لسكان هذه المناطق من الأتراك يعكس حجم الاختلاف في مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي بين سكان المنطقتين الذي ما انفك يزداد وضوحًا منذ عام 1989.
وقد تفاقمت أزمة سكان جنوب بلغاريا عمومًا ومسلميها خصوصًا، بعد إغلاق المناجم التي كانت تشغّل أيدي عاملة مكونة في أغلبها من الأتراك والبوماك والغجر. كما أن إلغاء العمل بنظام التعاضديات الفلاحية المشتركة وخسارة أسواق تصدير التبغ زاد في عزل منطقة الجنوب البلغاري عن التطور الاقتصادي والاجتماعي، حيث تبلغ نسبة البطالة بين القوة العاملة فيه إلى 50%، وتبلغ في ذروتها حوالي 80% في بعض القرى. بينما، وفي تناقض صارخ، نرى أن منطقة مزارع الدانوب توفر حياة دينامية لساكنيها وقدرًا من التطور الاقتصادي، حيث تنمو التجارة والمصانع والشركات الصغرى والمتوسطة التي تحقق دخلاً ماديًا محترمًا، وتوفر فرص عمل أكثر لسكان تلك المناطق.
يبقى أن نشير إلى أن الاختلافات بين أتراك المنطقتين له تأثير على ممارسة العمل السياسي والوعي بضرورته من أجل تحقيق المطالب الاجتماعية والتمكين للأقلية التركية في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ويتألف حزب الحركة من أجل الحقوق والحريات في أغلبه من مثقفي الأقلية التركية التي تسكن المدن وتتمتع بقدر من التعلم، أما أتراك المناطق الداخلية فيُبدون اهتمامًا أقل بكثير بالنشاط السياسي.
وهذا يحملنا على التساؤل عن الدور الذي تلعبه النخبة البلغارية التركية وأثر ذلك على تحسين أوضاع الأتراك وفرض نفسها على الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية من أجل تحقيق مكاسب لها، وفي غياب مؤشرات وإحصاءات دقيقة تبحث في تأثير الدور الذي تلعبه تلك النخبة التركية، فإن الملاحظة الأبرز هي أن ذلك الدور يظل ضعيفًا ودون التطلعات.
2- البوماك: إشكالية الهوية ومعضلة الانتماء
البوماك هم من سكان بلغاريا الأصليين بلا جدال، اعتنقوا الإسلام مع بسط الامبراطورية العثمانية نفوذها على أرض بلغاريا ما بين القرن الخامس عشر وبداية القرن التاسع عشر بحسب أكثر الروايات وثوقًا وتوثيقًا.
يتمركز غالبية البوماك الذين يبلغ عددهم حوالي ربع مليون نسمة، وفقًا لإحصاءات غير دقيقة، في المناطق الواقعة إلى الغرب من سهول "الرودوب" الممتدة على طول نهر "ميستا"، وأيضًا في بعض القرى المتناثرة حول منطقة "لوفيتش" في شمال البلقان، وتتميز أقلية البوماك بتآزرها وعيشها في جماعات مغلقة قليلة الانفتاح على الآخرين.
ومنذ العام 1878، عندما بدأت دول منطقة شرق أوروبا سعيها الحثيث إلى بناء الدولة-الأمة، كان البوماك في بلغاريا يجدون أنفسهم في فوهة المدفع داخل مجتمع يرى فيهم ما يذكّره بآلام "فترة الحكم التركي الغاشم" الذي امتد لأكثر من خمسة قرون، وبما أن الذاكرة الجمعية للبلغاريين الساعين إلى تأسيس مشروعهم المجتمعي (الدولة-القومية) بُنيت على تلك الذكريات لعقود طويلة، فإن البوماك كانوا وما زالوا إلى اليوم يمثلون بالنسبة لهم أيضًا الدليل الحي بين ظهرانيهم على "عمليات الأسلمة المفروضة بالقوة" على فئة من الشعب البلغاري من قبل الأتراك العثمانيين كما عبّر عن ذلك بوضوح يان يانييف في تصريحه السالف الذكر.
هذا الوضع الحساس وغير المريح للبوماك أدى بالنظام الحاكم اليوم إلى محاولة "إعادة تأهيل" هذه الفئة وربطها بـ"أصولها" ونفض آثار "التتريك" عنها.
من ناحية أخرى، فإن اختلاط المرجعيات القيمية والسلوكية واللغوية والثقافية والتقاليد المتبعة المستمدة من التعاليم الدينية الإسلامية والمسيحية لدى البوماك تجعلهم يشعرون بغربة مزدوجة، فلا البلغاريون الأرثوذكس يعتبرونهم منهم بسبب عقيدتهم، ولا الأتراك يعتبرونهم مسلمين خالصين بحكم تاريخهم المسيحي ولغتهم البلغارية، وقد أدى هذا النبذ المزدوج بالبوماك إلى مزيد من العزلة وشعور أقوى بضياع هويتهم.
يتعرض البوماك اليوم لعمليات "بلغرة منظمة"(7) تستهدف الشباب بعد أن عجزت كل المحاولات السابقة من قبل الكنيسة وبعض الأحزاب التي اتبعت سياسة الإغراء والتهديد عن حمل البوماك على التخلي عن دينهم. شباب البوماك اليوم يعيشون داخل المجتمع البلغاري غربة مزدوجة، فهم مسلمون بالوراثة، لكن غالبيتهم يجهل أبسط أصول الإسلام، وهم يرتادون مدارس وجامعات بلغارية ويتلقون تعليمًا يغلب عليه إما الطابع الأرثوذكسي أو العلماني. في المقابل فإن مؤسسات البوماك الدينية، مثل مؤسسة مفتي بلغاريا والجماعات المسلمة المحلية تحاول توفير بعض التعليم الديني غير النظامي أمام فقر واضح في إنشاء مدارس ومعاهد وجامعات نظامية إسلامية تقدم لشباب البوماك المسلمين تعليمًا عصريًا يؤهلهم تأهيلاً عاليًا يمكّنهم من الالتحاق بالوظائف المحترمة.
هذا النقص أدى ببعض العائلات إلى إرسال أبنائها إلى الدراسة في جامعات بعض الدول الإسلامية أو حتى في دول غرب أوروبا، وفي هذا اللجوء إلى الهجرة من أجل طلب العلم نجد أن بعض المتعلمين قرروا البقاء في مهاجرهم في حين عاد آخرون إلى بلغاريا لاسيما الذين درسوا في جامعات المدينة المنورة، مبشرين بنهج ديني وعقيدة مختلفة عما درج عليه جُلّ البوماك المسلمين خلال عقود طويلة مما أدى إلى تصادمهم مع أهلهم أولاً، ومع قادة العمل الإسلامي ممثلين في المؤسسات الدينية التقليدية، ومن ثم مع المجتمع البلغاري عمومًا ومؤسسات الدولة التي ترى فيهم "دعاة فتنة داخلية ومجموعات مرتبطة بالتنظيمات الإرهابية الإسلامية العالمية"، وزاد حادث تفجير الحافلة التي كانت تقل سائحين يهودًا في شهر أغسطس/آب 2012 من تنامي هذا الشعور لدى صنّاع القرار في صوفيا.
3- الغجر: ضياع الهوية وتذبذب بين الأرثوذكسية والإسلام
من الصعب تحديد انتماء هذه الأقلية التي يبلغ تعدادها وفقًا لإحصاء عام 1992، 3.7% من عدد السكان أو حوالي 314 ألف غجري؛ فثلث المنتمين إلى هذه الأقلية (حوالي 112000) كانوا قد أعلنوا خلال استفتاء 1992 أنهم مسلمون، في حين توزع الثلثان الآخران بين من أعلنوا اعتناقهم المسيحية الأرثوذكسية أو اختاروا أن يكونوا غير مصنفين، وتبقى المعطيات الدقيقة حول هوية هؤلاء المواطنين من البلغاريين غير واضحة أحيانًا ومتضاربة في أحيان أخرى، لكن العامل الموحد الأبرز لهذه الأقلية يظل كامنًا في انتمائهم الإثني واللغوي.
إن أهم ما يمكن قوله حول هذه الأقلية إجمالاً، وبالأخص المسلمين منهم، هو أنها عانت وتعاني من تهميش وإقصاء من كل أوجه الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ فالغجر في بلغاريا هم أقل الفئات المجتمعية تحصيلاً علميًا وأكثرهم فقرًا، وساهمت طبيعة عيشهم المعتمدة على التنقل المستمر داخل المدن الكبرى في تشرذمهم وإضعاف وحدتهم وتعرضهم إلى التمييز والإقصاء.
المسلمون الغجر لا يُظهرون انتماءً واضحًا إلى أي من المذاهب الإسلامية الموجودة في بلغاريا؛ فبعضهم سني وبعضهم الآخر شيعي والبعض المتبقي ينتقل من مذهب لآخر، أما سمة إسلامهم الغالبة فتخلط بين الشعائر الإسلامية والعادات والتقاليد الغجرية التي يخالطها كثير من الموروثات المسيحية، وهو ما جعل إخوانهم من المسلمين الأتراك والبوماك لا يرتبطون معهم بأي نوع من العلاقات المؤسسية، ولا نجد لهم تمثيلاً في مؤسسة الإفتاء أو في دور الإفتاء المحلية الموجودة في مختلف مدن وقرى بلغاريا.
مستقبل مسلمي بلغاريا
بقطع النظر عن تداعيات الدعوات الغربية المحذرة من توسع خطر "الزحف الإسلامي الأخضر" القادم من دول البلقان عمومًا، وتحفيز سلطات البلدان البلقانية على مواجهته بصرامة، فإن علاقة مسلمي بلغاريا، وبشكل أساسي علاقة الأقلية التركية المسلمة في بلغاريا بالسلطة الحاكمة في صوفيا لا تزال تتراوح بين رفض وجودها (حزب أتاك القومي المتشدد ينادي بتنقية المجتمع البلغاري ممن يسميهم العثمانيين) والعمل على طردها وتشريدها (وذلك محكوم في جانب منه أيضًا بمستوى تردي أو تحسن العلاقة بين الدولتين البلغارية والتركية)، أو بمحاولات إخضاعها وصهرها في المجتمع البلغاري الأرثوذكسي وسلخها عن هويتها ودينها (وهو ما تعمل عليه بعض الجمعيات بقيادة جهات نافذة في الكنيسة الأرثوذكسية)، وصولاً أخيرًا إلى الاعتراف بحقوق تلك الأقلية وتمكينها من المشاركة في الحياة السياسية البلغارية باعتبارها طرفًا وطنيًا كامل الحقوق.
فمنذ العام 1990، قررت السلطات البلغارية، التي تشعر بعقدة الذنب تجاه ما ارتُكب من جرائم في حق الأقلية المسلمة، معالجة مسألة الأقليات باعتبارها أحد عناصر الجدل السياسي الوطني، وبالرغم من أن دستور البلاد يحظر الأحزاب القائمة على أساس عرقي أو ديني أو طائفي، فإن حزب حركة الحقوق والحريات الذي ينتمي كل أعضائه إلى الأتراك البلغاريين، استطاع أن ينفذ إلى حيز الفعل والتأثير في المشهد السياسي البلغاري، على خلفية ما يمكن وصفه بالاتفاق غير المكتوب بين الحكومة وممثلي الأقلية التركية(8).
رسم هذا الاتفاق غير المكتوب حدودًا غير مرئية لتسوية سياسية معقدة مقتضاها منح الأقلية التركية حقوقًا، ولو على نطاق محدود، في مقابل التزام أتراك بلغاريا بالعمل السياسي المعلن في إطار الوطن البلغاري دون التفكير في الانفصال.
تبدو هذه التسوية السياسية المعقدة هي الحل الأمثل الذي ضمن لصوفيا انخراط الأقلية المسلمة في المشهد السياسي العام وبالتالي فإن مطالبها لا يمكن أن تكتسي طابعًا عرقيًا وإثنيًا، إنما تخضع للشروط السياسية السائدة ولمدى قدرتها على تحقيق مكاسب في الساحة السياسية.
تعطي هذه المعادلة الفرصة للأقلية المسلمة لممارسة الضغط بصفتها لاعبًا سياسيًا له تمثيله في البرلمان -حصلت حركة الحقوق والحريات على 9.38 % في انتخابات مايو/أيار الماضي- من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح، ولعب أدوار اجتماعية واقتصادية وثقافية تعود بالفائدة على أفراد الأقلية المسلمة بمكوناتها التركية والبوماكية والغجرية. لكن هذه المعادلة تظل مرهونة بمدى قدرة قادة الأقلية المسلمة في بلغاريا على توحيد جهودهم ونبذ خلافاتهم وسعيهم إلى كسب معركة إثبات وجودهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
_____________________________________
كريم الماجري - باحث متخصص بشؤون البلقان
المراجع
(1) نجد هذا أساسًا في مقالات الصحف البلغارية والمجرية، ومركز الدراسات البلقانية الصربي وأهم كتابات هانتغتون وغيره.
(2) إحصاء 2011 المثير للجدل والمطعون في جديته ونزاهته من قبل عديد من المراقبين يكشف أن نسبة المسلمين في بلغاريا لا تتعدى 8% فقط.
(3) تعتمد هذه الدراسة على إحصاء 1992 وليس على إحصاء 2011 للأسباب الموضحة أعلاه.
(4) المصدر: المعهد الوطني للإحصاء والديانات والإثنيات في بلغاريا: صوفيا 1993.
(5) تومو فاغيلونا: الغجر في المرحلة الانتقالية، صوفيا: المعهد الدولي لدراسة الأقليات والعلاقات الدولية 1995.
Tomova (Ilona), The Gypsies in the Transition Period, Sofia : International Center for Minority Studies and Intercultural Relations, 1995.
(6) يبلغ عدد العلويين حوالي 84 ألفًا وفقًا لإحصاء عام 1992.
(7) من كتاب: يوليان كوستانتينوف: قصة تغيير أسماء البوماك في بلغاريا 1900- 1912.
(8)يظل البوماك والغجر شبه غائبين عن المشاركة في العمل السياسي للأسباب التي أشرنا إليها سابقًا.
|
عودة للصفحة الرئيسية للملف |