أوقعت الحرب على البوسنة، أكثرمن 200 ألف قتيل وهجرت ما يزيد عن مليون ونصف المليون شخص و ارتكب فيها الصرب جرائم إبادة جماعية بحق مسلمي البوسنة (غيتي) |
ملخص ويعتبر مسلمو البوسنة الإسلام دينًا وثقافة، ومكونًا رئيسيًا في هويتهم القومية، وأي تشكيك في أسس دولة البوسنة بصفتها تلك، يعني تشكيكًا في وجود مسلميها. ومن التحديات الأخرى أن هناك توجهًا جديدًا في القارة الأوروبية يعمل على التشكيك في انتماء الإسلام إلى أوروبا، بما ينال من المسلمين في البوسنة والهرسك والبلقان عمومًا. |
نبدأ تقديم هذه الورقة بما خطّه، محمد ماشه سليموفيتش مؤلف كتاب "الصوفي، الدرويش، والموت"(1):
"أمّا نحن فلا ننتمي لأي أحد، دائمًا ما كنا نلحق بجهة ما، دائمًا نمثل ميراثًا لجهة ما؛ فهل من الغرابة أننا فقراء؟ قرون مضت ونحن نبحث عن ذواتنا لنتعرف عليها،الآخرون يمنحوننا شرف الاحتماء براياتهم لأننا لا نملك رايتنا الخاصة، يتوددون لنا إذا ما احتاجوا إلينا ثم يرموننا.. نعيش في منطقة تتقاطع فيها العوالم، على الحدود بين الشعوب، معرضين للهجوم من قبل الجميع، ونحن دائمًا مذنبون في حق أحدٍ ما. علينا تتكسر أمواج التاريخ العاتية، كما تتكسر على الآكام...".
إن وضع المسلمين الحالي في البوسنة تلخصه اليوم مرة أخرى، كلمات الكاتب ماشه سليموفيتش هذه.
التاريخ الحديث لمسلمي البوسنة والهرسك(2)
عندما يتعلق الأمر بتاريخ القارة الأوروبية في القرن العشرين، فإننا نذكّر بأن آخر تصفية حساب مع الفاشية والنازية، على الأقل من الناحية الرسمية على مستوى الرأي العام والسياسة الأوروبية، تمت عام 1945 مباشرة إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية. عندها، من حيث المبدأ على الأقل، لم يعد للفاشية حضور في الدولة كما في المشهد الاجتماعي.
إلى ذلك، فإن آخر مراجعة وتصفية حساب مع الشيوعية في أوروبا، رسميًا دائمًا، حصل مع انهيار جدار برلين عام 1990. وكما هو معروف، فإن المأساة الأكثر دموية بين تلك التي صاحبت تفكك المنظومة الشيوعية والنظام القائم عليها في يوغسلافيا الاشتراكية.
بشكل عملي، تواصلت المعارك والمواجهات على أرض يوغسلافيا الاشتراكية سابقًا من عام 1992 وإلى العام 1999.
وقد تدخلت قوات حلف الناتو في البوسنة عام 1995 وفي كوسوفو بصربيا عام 1999(3)، ونجد عددًا غير قليل ممن يرون أن هذين التدخلين من قوات الناتو كانا بدافع واضح لحماية مسلمي البلقان من مخطط فعلي وبين للقضاء النهائي عليهم(4). في ذلك الوقت، كانت الشيوعية من حيث المبدأ على الأقل، قد انتهت وغابت عن الدولة والمجتمع. لقد كانت نتيجة الحرب العالمية الثانية كارثية على أوروبا: عشرات ملايين القتلى والجرحى، كما شهدت عمليات إبادة جماعية ومحرقة استهدفت يهود أوروبا.
بنفس القدر من الأهمية، نذكّر أيضًا بأن الحروب في يوغسلافيا الاشتراكية، وأساسًا في البوسنة (1992–1995)، أدت إلى تهجير ما يزيد عن مليون ونصف المليون شخص وأكثر من 200 ألف قتيل، وأيضًا إلى ارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق مسلمي البوسنة(5).
تبدو هذه المقارنات بين مأساتي يهود أوروبا ومسلمي أوروبا مرعبة بكل تأكيد، لكنها ستكون أكثر رعبًا إذا لم نخضعها للتحليل الهادئ، ومن ثم قراءة المسارات والعلامات التي تلَتْهُما.
أردنا من خلال هذه المقدمة المختصرة لفت النظر إلى أن هذا التاريخ القريب لمسلمي البوسنة يمثل لهم أحد أهم التحديات التي يواجهونها، ذلك أن العدوان المرتكب ضد البوسنة (1992–1995)، تمامًا كما الحرب التي شُنت على هذا البلد أدّيا إلى النتائج الكارثية التالية:
-
أعداد كبيرة من القتلى، والضحايا والأشخاص المتأثرين بما جرى!
-
عمليات تهجير قسري للسكان.
-
التدمير العنيف لقيم العيش المشترك بين الكاثوليك والأرثوذكس والمسلمين واليهود.
-
نشر أيديولوجيا عدم الثقة بين مختلف الأديان، ومحاربة كل إمكانية للتعايش بين مختلف المؤمنين في البوسنة.
-
التحريض وافتعال التوتر بين مختلف الثقافات، وغير ذلك.
إن سياسة نظام سلوبودان ميلوشيفيتش في صربيا، وسياسة رادوفان كارادجيتش في مناطق من البوسنة، والتي كانت مراقبة وموجهة من ميلوشيفيتش، هي التي قادت، بشكل عام، إلى هذه التبعات الكارثية على البوسنة.
هذه الكوارث لم تحل فقط على مسلمي البوسنة، بل على الكاثوليك والأرثوذكس، وعلى سكان البلد الآخرين. لكن، وبالأخذ في الحسبان موقع البوسنة الجغرافي والجيوسياسي، فإن المسلمين هم الذين يعانون أكثر من غيرهم من تلك التبعات الكارثية وستكون معاناتهم لوقت طويل.
يمكننا الجزم بالقول: إن التاريخ غير البعيد، وتحديدًا لمسلمي البوسنة، يبدو بالنسبة لهم أطول بكثير، وسيكون حملاً ثقيلاً لن ينزاح عن كواهلهم في القريب المنظور. لذلك، فإن هذا التاريخ غير البعيد لمسلمي البوسنة، لا يبدو فقط تحديًا، بل هو أيضًا عقبة كأداء في طريق صناعة الحاضر، كما أنه عقبة في سبيل بناء مستقبل مزدهر.
صناعة حاضر مسلمي البوسنة والهرسك
نعتقد أن كل ما أفرزه العدوان والحرب التي شُنت على البوسنة في الفترة ما بين 1992–1995، ما زالت بشكل ما مستمرة كغيرها من التبعات المرعبة التي أنتجها العدوان والحرب. يقول مثل بوسني: "ليس أثقل من الحرب على من عاشوها سوى ذلك الوضع الرمادي الذي يليها".
قبل أن نعرض إلى التبعات الموجعة للعدوان والحرب على مسلمي البوسنة في الوقت الحاضر، فإنه من الضروري أن نرسم الخارطة الديمغرافية للبوسنة والهرسك والتغيرات الطارئة على خطوطها العامة خلال ما يزيد عن عقدين ماضيين(*).
كان آخر إحصاء سكاني في البوسنة قد أُجري عام 1991. وقد كانت نسبة الصرب حينها حوالي 30%، والكروات حوالي 17% والبوشناقيين (المسلمين) ما يقرب من 44%، في حين توزعت نسبة 6% بين ما يصنفون بالآخرين (يوغسلافيين، وغيرهم). وقد أدت حرب 1992–1995 إلى تقلص أعداد مختلف شعوب البوسنة، ولذلك عدة أسباب، نجملها في التالي:
-
مقتل عدد من مواطني البوسنة.
-
عمليات تهجير قسري خلال الحرب وبعدها.
-
هجرة الشباب نحو الدول الغربية.
-
معدلات نمو سكاني ضعيفة بعد الحرب.
-
تدهور الوضع الاقتصادي في فترة ما بعد الحرب.
-
تتحدث الصحافة ووسائل الإعلام في البوسنة منذ سنوات عديدة حول ما يسمى "الطاعون الأبيض" الذي حل بكل شعوب البلد ومجمل سكانها. بالإضافة إلى الأسباب التي ذكرناها آنفًا من حيث تأثيرها على تراجع عدد سكان البلد وتغير خطوط خارطة توزيع السكان فيه، علينا أيضًا التنبيه إلى ضعف اقتصاد القرى وقطاع الفلاحة في البوسنة. وقد شهدنا خلال ما يزيد عن خمسة عشر عامًا عمليات نزوح لسكان القرى نحو المدن، ومع ذلك فإن معدلات النمو السكاني اليوم في مدن البوسنة تعرف نموًا يتراوح بين الضعيف أو المنعدم تمامًا.
عند الحديث عن صناعة حاضر مزدهر، فإنه يكون من الأهمية بمكان أن نستحضر السياق العام والبيئة الوطنية التي تعالج فيها تركة وتبعات الحرب، فعلى إثر إمضاء اتفاقيات دايتون للسلام في البوسنة، أصبح البلد مقسمًا إلى كيانين (ثم نشأ لاحقًا ما يسمى بقطاع برتشكو). ومنذ الإمضاء على اتفاقيات دايتون للسلام، وجد في البوسنة قوتان، إحداهما تقدمية وإيجابية والأخرى سالبة وشادّة إلى الخلف؛ فالأولى تدعو إلى الحفاظ على وحدة البوسنة كدولة، في حين تعمل الثانية على إلغاء وجودها وتدميرها. ويظهر ذلك جليا على المستويات التالية:
-
الجراح العميقة الواضحة لدى العائلات التي قُتل لها عدد كبير من أفرادها، وصعوبة إعادة تأهيل ومعالجة الآلام والمصائب التي حلت بالضحايا والمهجرين والمبعدين. وكما قال الرئيس الراحل علي عزت بيغوفيتش عدة مرات من قبل، فإن البوسنة خرجت من الحرب كبلد أصابه زلزال رهيب وبدرجة عالية من مقياس ميركال(6)، وكأن كل شيء زحزح عن مكانه.
-
إعادة المهجّرين ومن بقوا على قيد الحياة إلى مساكنهم التي أخرجوا منها. يبدو هذا المسار مرتبطًا بالمسائل الأمنية والسياسية والاقتصادية. ومع أن اتفاقيات دايتون للسلام في البوسنة تضمن حق عودة المهجرين والمبعدين إلى ديارهم، فإن العمل على تنفيذ ذلك الحق قد قوضه الوضع الاقتصادي الصعب الذي يمر به البلد.
-
إعادة بناء تقاليد حسن الجوار، التي تم تدميرها بشكل شبه كلي، بين مختلف الديانات والشعوب في البوسنة، حيث سيطول الوقت الذي سيشعر فيه سكان هذا البلد بآثار تدمير مظاهر الحياة الحضرية المشتركة بين المسلمين والكاثوليك والأرثوذكس واليهود وغيرهم.
-
نظرا لأن تدمير دولة البوسنة وإنهاء وجودها كان أحد أهم أهداف سياسة ميلوشيفيتش خلال العدوان والحرب عليها. وقد أكدت محكمة جرائم الحرب الدولية في هاغ(7)، فإن العدوان والحرب على البوسنة التي اندلعت عام 1992، صاحبهما العمل على تدمير التراث الديني والثقافي "للآخرين"، وتظهر الإحصائيات أن العدد الأكبر من الميراث الديني والثقافي المدمر يرجع إلى مسلمي البوسنة.
إعادة تفعيل دور مؤسسة الجماعة الإسلامية
إن نفس حجم التدمير الواسع الذي أصاب البوسنة، أصاب كذلك الجماعة الإسلامية في هذا البلد، بصفتها المؤسسة الدينية لمسلمي البوسنة.
خرجت مؤسسة الجماعة الإسلامية في البوسنة من حرب 1992-1995 وقد خسرت عددًا كبيرًا من منتسبيها، كما دُمر عدد هائل من مكتسباتها الروحية والمادية التي لا تقدر بثمن. ووفقًا للإحصاءات التي تقدمها رئاسة علماء الجماعة الإسلامية في البوسنة(8)، فإن الفترة ما بين 1992 و1995 شهدت تدميرًا كاملاً لما يقرب من 650 جامعًا ودور حفظ القرآن الكريم، في حين حصل تخريب جزئي أو كلي لما يقرب من 530 جامعًا ودار حفظ للقرآن الكريم وعقارات أخرى تابعة للجماعة الإسلامية في البوسنة. وتبعًا لنفس المصدر -رئاسة العلماء- (www.rijaset.ba ) فإن 80% من المساجد والعقارات المدمّرة التابعة للجماعة الإسلامية كان الفاعلون فيها من القوات الصرب، وباقي الـ20% من تلك المساجد والعقارات دُمّرت على أيدي القوات الكرواتية.
إن جرائم القتل التي طالت موظفي ومنتسب الجماعة الإسلامية في البوسنة، والتدمير الذي لحق بمساجدها ومكتسباتها لم يتم اعتباره من الآثار الجانبية للعمليات الحربية، بل إن كل هذا الدمار كان في حد ذاته هدفًا لأغلب العمليات العسكرية المخططة والمنفذة بقصد التطهير العرقي الذي استهدف مسلمي البوسنة. ونحيل القارئ الكريم في هذا الصدد لمراجعة ما كتبه ملاحظون غربيون موضوعيون(9).وقد بادرت مؤسسة الجماعة الإسلامية منذ انتهاء العدوان والحرب بإعادة بناء المساجد وإعادة الترميم الجزئي وتجميع الجماعات المسلمة المطاردة والمهجرة(10).
تتألف مؤسسة الجماعة الإسلامية في البوسنة، من ثمانية دور إفتاء، بالإضافة إلى الرئاسة كمؤسسة مركزية تتخذ من العاصمة سراييفو مركزًا لها، كما يلحق برئاسة علماء البوسنة، مؤسسات الجماعات الإسلامية في كل من جمهورية سلوفينيا وجمهورية كرواتيا ودولة صربيا.
وكما قلنا سابقًا، فإن أهم أولويات مؤسسة الجماعة الإسلامية في البوسنة، بعد 1995، كانت استصلاح وإعادة بناء ميراثها العقاري خاصة في البوسنة، بما فيها تلك الواقعة داخل كيان ريبوبليكا صربسكا، والتي طالها دمار وخراب واسع.
منذ 1995 وإلى حد يومنا هذا، تم تجديد بناء عدد من المساجد في أماكن تلك المدمرة والمخربة، لكن عمليات الترميم والبناء هذه لم تصاحبها عودة للاجئين والمهجرين مماثلة في نسقها. ومن ناحية أخرى، فإنه يجب توفير الأسباب والدواعي الروحية المصاحبة للعودة الجسدية المادية لأولئك الأشخاص. وتلك العودة الروحية لا يمكن لغير مؤسسة الجماعة الإسلامية أن تضمنها وترعاها.
ويوجد عدد من الأسباب وراء بطء عمليات إعادة بناء المساجد التي كانت قائمة قبل الحرب:
-
أولاً: منذ عام 1995 وحتى 2000، كان يوجد إشكال أمني يحول دون عودة المهجرين إلى أماكن سكنهم الأصلية.
-
ثانيًا: أن عددًا من المهجرين قسرًا من البوسنة (بمن فيهم المهجرين المسلمين) قد وجدوا أماكن إقامة جديدة في مختلف دول أوروبا، وأميركا الشمالية وأستراليا؛ حيث وجدوا فرصًا لبناء حياة جديدة، ووظائف للعمل، وبسبب ذلك فإن عددًا قليلاً منهم فقط قرر العودة إلى أماكن إقامتهم في البوسنة قبل الحرب.
-
ثالثًا: الوضع الاقتصادي في البوسنة سيء جدًا، وهناك صعوبات في الحصول على عمل، وتجري عمليات تخطيط لخصخصة عدد كبير من المؤسسات الصناعية وإحالة ملكيتها للقطاع الخاص والشركات الأجنبية. وقد تم ذلك على حساب العمال البسطاء ولم تجر عمليات تجديد تلك المؤسسات واستعادتها نشاطاتها السابقة. يضاف إلى كل ذلك السعي المحموم إلى وضع كل العراقيل المعطِلة لتنفيذ برامج عودة المهجرين وفقًا لمسارها المأمول.
-
رابعًا: تواصل هجرة الشباب من البوسنة نحو دول أوروبا الغربية، وأميركا وكندا، وذلك بشكل مستمر، نتيجة الظرف الاقتصادي الحرج للبلد وعدم وجود إشارات مشجعة على تحسنه في الأمد المنظور.
-
خامسًا: تعرض اللاجئين العائدين إلى مدنهم وقراهم، التي ارتُكبت فيها جرائم إبادة جماعية وتنظيف عرقي، إلى معاملة عنصرية بسبب انتمائهم العرقي. ونظرًا لاتساع أعداد الضحايا من المسلمين في البوسنة، فإن تلك العنصرية في "الأماكن التي تم تنظيفها إثنيًا" تستهدف أساسًا العائدين من المسلمين.
-
سادسًا: أن اهتمام المجتمع الدولي بالبوسنة في تراجع مستمر،فمنذ التدخل الأميركي في العراق عام 2003، فقد تحول تركيز المجتمع الدولي على "مناطق ساخنة" أخرى، ما تسبب في زيادة تعطيل وتعقيد تنفيذ برامج عودة اللاجئين والمهجرين في البوسنة.
كل هذه الإشكالات والتحديات التي تعترض مسلمي البوسنة في حياتهم اليومية، تجعلهم في مواجهة مباشرة في حاضرهم المستمر مع ما بداخلهم من ذكريات وآلام وجراح عميقة. وحتى نكون موضوعيين، فإننا نؤكد مرة أخرى على أن مثل تلك التحديات يواجهها أيضًا الكاثوليك والأرثوذكس وغيرهم من سكان البوسنة. لكن، وبالنظر إلى حجم الخسائر الفادحة في صفوف المسلمين، كما بالنظر إلى الوضع الجيواستراتيجي الحالي للبلد وتغير معطيات العلاقات البلقانية-الأوروبية، فإن مسلمي البوسنة سيكونون الأكثر عرضة لتلك المصاعب وستطول معاناتهم أكثر.
الإسلاموفوبيا -التخويف من الإسلام- في البلقان
حتى في عهد يوغسلافيا الاشتراكية تعرض المسلمون، من حين لآخر، لمظاهر الإسلاموفوبيا. وقد مثلت الاضطرابات في كوسوفو خلال عقد الثمانينيات دافعًا لنشر كتابات مخوفة من الإسلام في تلك المرحلة من تاريخ يوغسلافيا الاشتراكية. وقد كتب الأخصائي الأميركي، نورمان سيغار، نصًا عدّد فيه أمثلة من التعاطي الإسلاموفوبي مع مسلمي البلقان من قبل مثقفي بلغراد خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي(11).
إن الإسلاموفوبيا –التخويف من الإسلام-، وهي واحدة من أكثر المصطلحات المستعملة إعلاميًا، وأيديولوجيا جيوسياسية في أوروبا والغرب عمومًا، تقوم في الأصل على أن المسلمين غير مرغوب فيهم في أوروبا والغرب، فهم: غرباء"، هم "الآخرون"(12).
وتتضمن الكتابات المتماهية مع أيديولوجيا التخويف من الإسلام -الإسلاموفوبيا- إيقاعًا متناغمًا مع الكتابات المعادية لليهود والسامية والمكتوبة في بداية القرن العشرين في بريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها من بلدان أوروبا(13).
لقد كتب العديد من المفكرين المسلمين في أوروبا، وغيرهم من الأوروبيين من الكتّاب الديمقراطيين وعلمانيي التوجه، وأدلوا بدلوهم في قضية الإسلاموفوبيا وقدموا أجوبة للرد على تلك الهجمات والحملات التشهيرية. وقد كان "الإسلاموفوبيون" -المخوفون من الإسلام- على حق بقولهم: إن الإسلام وفد إلى أوروبا، لكنهم تغاضوا عن حقيقة أن المسيحية واليهودية أيضًا ديانتان وفدتا بدورهما على أوروبا ولم تنشآ فيها. وبالتالي، ومن وجهة نظر دينية بحتة، فإن أوروبا قارة مستعمرة؛ فالمسيحية واليهودية والإسلام كديانات تقليدية لأوروبا اليوم لم تنشأ على أرضها، لكنها قدمت لها من المثلث شرق الأوسطي: القدس-مكة المكرمة-المدينة المنورة.
تحديات المستقبل القريب
مع نهاية هذا المقال، نذكّر بأن مستقبل مسلمي البوسنة ليس أمرًا جاهزًا ولا مفروغًا منه، بل المستقبل بالنسبة لهم هو تكليف وعمل مستمر تعترضه عوائق جمة.
ووفقًا لما نعرفه عن الأسس التي يقوم عليها نشاط الأحزاب وإعلان النوايا وسياسات المؤسسات القومية والدينية التابعة لمسلمي البوسنة، فإنه بإمكاننا القول: إن على مسلمي هذا البلد الالتزام بالتالي:
-
أولاً: الحفاظ على دولة البوسنة دولة مدنية، وأن تبقى دولة متعددة القوميات تتسع لكل الشعوب المكونة لنسيجها الاجتماعي. وقد كرر الرئيس الراحل علي عزت بيغوفيتش في مناسبات عديدة قوله: "علينا تقاسم السلطة مع الصرب والكروات في البوسنة، لكننا لن نسمح بتقسيم البوسنة".
-
ثانيًا: أن يعمل مسلمو البوسنة بقوة على التحاق بلدهم بعضوية الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو. ويعتقد مسلمو البوسنة أن ذلك سيعود بالازدهار على الجانب الاقتصادي وسيرسخ الأمن في البلد.
-
ثالثًا: مسلمو البوسنة مستعدون لرعاية تقاليد إسلامهم كدين وثقافة، ويعتبرانهما مكونين رئيسيين لهويتهم القومية. وفي هذا الخصوص نقول: إن مسلمي البوسنة، كانت لهم فرص عديدة للالتقاء والتأقلم مع أشكال مختلفة من العلاقات الثقافية والدينية، وبنوا علاقات وطيدة مع مسلمي أوروبا والشرق الأوسط.
أما التحديات الأهم التي تواجه مستقبل مسلمي البوسنة، فنراها على المستويات التالية:
-
أولاً: إن التشكيك في الوجود الفعلي لدولة البوسنة بصفتها تلك، يعني تشكيكًا في وجود مسلميها. هذا التحدي يمكن ويجب تجاوزه ببذل جهد للحفاظ على البوسنة كدولة ديمقراطية وعصرية ومتعددة الجنسيات.
-
ثانيًا: هناك توجه جديد وخفي في القارة الأوروبية يعمل على التشكيك في انتماء الإسلام إلى أوروبا ويحاول منعه من تأكيده لذلك الانتماء؛ لذلك فإن التحدي الكبير أمام مسلمي البوسنة يكمن في تجديد أساليب طرح الإسلام في صورة عصرية وتقديم نموذج أصيل لثقافة الإسلام والمسلمين في البوسنة وفي البلقان. وعلى الفئة المثقفة من مسلمي هذا البلد تقديم صيغة دينامية متفاعلة مع محيطها عن الإسلام والثقافة الإسلامية.
-
ثالثًا: إن توسع الاتحاد الأوروبي شرقًا ليضم في المنظور القريب دول غرب البلقان يمثل في حد ذاته أحد التحديات الكبرى التي تواجه مستقبل المسلمين في البوسنة؛ إذ يعيش اليوم ويعمل في بلدان الاتحاد الأوروبي عدد كبير من المسلمين، وهذا المعطى يمثل سببًا ومبررًا لمسلمي البوسنة في عملهم على الانضمام لهذا المشروع الأوروبي الموحد، وهم مطالبون بالاستعداد الجيد له حتى يكون دخولهم فيه مثمرًا.
نقول في النهاية: إن حقبات السلام الطويلة كانت غالبًا ما تسمح لهذا البلد بتحقيق التقدم والازدهار، كما يتجدد خلالها نسيج البوسنة الإنساني والبشري ويتطور. كما أنه في المقابل فإن الحروب دائمًا ما تسببت في إلحاق الدمار والخراب في البوسنة كبلد تلتقي على أرضه مختلف الأطياف والديانات والقوميات.
دعونا نأمل أن يؤدي السلام في البوسنة إلى إعادة بناء العلاقات متعددة الأطراف والأطياف بين أبنائها ودياناتها وشعوبها بمختلف قومياتها.
___________________________________________
الدكتور أنس كاريتش - أستاذ تفسير القرآن الكريم في الكلية الإسلامية في سراييفو، وأستاذ زائر في عدد من الجامعات الغربية، باحث متخصص في التراث والفلسفة الإسلامية، له عدّة بحوث ودراسات عن التراث العربي في تفسير النصوص ومن أهمها قراءة نقدية تفسيرية للموسوعة الفلسفية "رسائل إخوان الصفا".
ترجم النص إلى العربية: كريم الماجري - باحث متخصص في شؤون البلقان
الهوامش والمصادر
1- راجع ماشه سليموفيتش، الصوفي والموت، داني، سراييفو، 2004، ص. 309- 310.
2 - هناك كتابات عديدة حول مسلمي البوسنة بلغات مختلفة، منها: مارك بينسون، مسلمو البوسنة، تاريخ تطورهم منذ العصور الوسطى إلى انحلال يوغسلافيا. جامعة هارفارد، كامبريدج، ماساشوسيتس، 1996. ومالكولم نويل، البوسنة، التاريخ المختصر، بان بوكس، ماكميلين، لندن 1996. وهاغ بولتون بالاشتراك مع سهى تاجي–فاروقي، الهوية الإسلامية ودولة البلقان، هيرست وشركاه، لندن، 1997.
3- هناك كتابات كثيرة حول الحروب التي شهدتها يوغسلافيا الاشتراكية، منها: برانكا ماغاش وإيفو جانيتش (ناشرون)، الحرب في كرواتيا والبوسنة 1991–1995، فرانك كاس، لندن، بورتلاند، 2001.
4- كلما وُجّه الانتقاد إلى المسؤولين الأميركيين بسبب الحروب التي تشنها بلادهم على العراق وأفغانستان استشهدوا بأنهم حركوا الآلة الحربية لحلف الناتو في البوسنة (1995)، وفي كوسوفو (1999) لـ"إنقاذ المسلمين".
5- ارجع لكتاب يُعتبر وثيقة مميزة للمؤلف، روي غوتمان، تحت عنوان: شاهد على الإبادة الجماعية، دار النشر ماكميلان، نيويورك، 1993.
6- مذكرات علي عزت بيغوفيتش، أسئلة لا مفر منها: ملاحظات من السيرة الذاتية، المؤسسة الإسلامية، Markfield, Leicestershire مارك فيلد، لايسسترشاير 2003.
7- راجع في هذا الخصوص الوثائق والأحكام الصادرة عن محكمة الجنايات الدولية لجرائم يوغسلافيا السابقة التي نصبها مجلس الأمن الدولي؛ حيث أدانت المحكمة الجنائية انتهاكات القانون الإنساني في يوغسلافيا السابقة، أو زوروا موقع www.icty.org
8- زوروا موقع رئاسة العلماء في البوسنة، باللغة الإنجليزية www.rijaset.ba
9- راجع على سبيل المثال، روبرت ج. دونيا، سراييفو، سيرة ذاتية، هارست وشركاه، لندن، 2009.
10- نجد أنفسنا مطالبين في هذا الصدد بالتوضيح للقارئ العربي، ومن وجهة نظر قانونية بحتة، أن مؤسسة الجماعة الإسلامية في البوسنة (تمامًا كما الشأن لكل المؤسسات الدينية الأخرى) مستقلة عن الدولة؛ وهذا يعني أن مؤسسة الجماعة الإسلامية، وبدون أي تدخل أو مساعدة من الدولة، تسيّر بنفسها مساجدها ومدارسها الإسلامية وزواياها وأوقافها.... وتختار مؤسسة الجماعة الإسلامية كذلك قياداتها بكل حرية وباستقلال عن جهاز الدولة. رأس الدكتور مصطفي أفندي تسيريتش مؤسسة الجماعة الإسلامية من 1993 وحتى 2012، ومنذ سبتمبر/أيلول تم اختيار حسين أفندي كافازوفيتش. ويحمل المكلف برئاسة مؤسسة الجماعة الإسلامية (منذ تأسيسها عام 1882، خلال حكم الإمبراطورية النمساوية-المجرية للبوسنة) لقب رئيس العلماء.
11- نورمان سيرغار، دور المستشرقين الصرب في تبرير الإبادة الجماعية المرتكبة ضد مسلمي البلقان، منشور في المجلة الفصلية للثقافة الإسلامية، مجلد XXXVIII رقم 3، لندن، 1994.
12- انظر إلى مقالنا: أنس كاريتش، من هو الآخر في وقتنا الحاضر؟، ورقات متفرقة، مؤسسة قرطبة، لندن، 2001.
13- عرض مميز لمظاهر من الإسلاموفوبيا الحديثة في الغرب، انظر: الإسلاموفوبيا والكراهية ضد المسلمين: الأسباب والعلاج، مؤسسة قرطبة، لندن، 2001.
عودة للصفحة الرئيسية للملف |