المصدر [الجزيرة] |
حتى وقت قريب لم يكن هناك موقف مصري رسمي واضح ومحدد حول سد النهضة الإثيوبي، وكان يتم تبرير ذلك بانتظار تقرير اللجنة الثلاثية عن السد، باعتبار أن هذا التقرير سوف يوفر لمصر المعلومات التي لم تكن متاحة لها، ومن ثم يمكنها بناء موقف محدد يستند على تقرير موقع من الأطراف الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا) وبالتالي تكون لديها فرصه أفضل للحركة، وقد تم الركون إلى ذلك بالرغم من كل المؤشرات التي تقول إن إثيوبيا كانت تناور لكسب الوقت وتحويل السد إلى أمر واقع.
كانت إثيوبيا قد أعلنت البدء الفعلي في مشروع السد في مارس/ آذار 2011، أي بعد نجاح ثورة يناير/ كانون الثاني المصرية بشهر واحد، واتجهت على الفور إلى اتباع سياسة مؤداها أنها سوف تمضى في بناء السد بغض النظر عن موقف أي طرف، مع السعي إلى استغلال حالة الارتباك الداخلي التي سادت في أعقاب ثورة يناير/ كانون الثاني 2011. وقد عمد زيناوى إلى استغلال ذلك عبر طريقته في التعامل مع وفد الدبلوماسية الشعبية، بتقديم مرونة (شكلية) عبر إعلانه في أبريل/ نيسان 2011 تشكيل لجنة ثلاثية (تقريرها غير ملزم) للنظر في أعمال وتصميمات السد، في الوقت الذى كان يناور فيه لكسب الوقت.
غير أن مضى الوقت وتأخر اللجنة في إنجاز أعمالها بشكل متعمد من الجانب الإثيوبي، في الوقت الذى كانت فيه أعمال إنشاء السد تمضى في طريقها، أدى إلى ظهور تململ واضح في الموقف المصري، عبر العديد من الدراسات والتقارير التي أكدت بشكل واضح على خطورة إنشاء السد بمواصفاته الحالية بسعة تخزينية تصل إلى 74 مليار متر مكعب، بعد أن كانت السعة الأصلية للسد الذى كان مقررا إقامته في هذا المكان، تحت مسمى سد "بوردر" تقتصر على 14 مليار متر مكعب فقط.
ويمكن إيجاز التحفظات المصرية إجمالا، في أن سد النهضة سوف يتسبب، أثناء سنوات في ملء خزان السد، مما يعني حدوث عجز في حصة مصر المائية السنوية يقدر بحوالي 9 مليار متر مكعب وعجز سنوي مماثل في حصة السودان، وأن الكهرباء المولدة من السد العالي وخزان أسوان سوف تقل بحوالي 25%. وتحت الوضع المائي الصعب لمصر والذى تبلغ فيه الحصة المائية للفرد ما يقرب من 600 متر مكعب في السنة، أي أقل بكثير من حد الفقر المائي، فإن هذا العجز المائي الناتج عن السدود الأثيوبية سوف يؤدى إلى تبوير حوالى 2 مليون فدان من الأراضي الزراعية، مع ما يترتب على ذلك من فقدان حوالى 4 مليون آسرة لعملهم ومورد رزقهم، وعجزاً في مياه الشرب والصناعة نتيجة لانخفاض منسوب المياه في النيل والترع،، وسوف يقل إنتاج الطاقة الكهربائية المولدة من قناطر إسنا ونجع حمادي، مع تدهور البيئة وخلل في نظام الحياة الطبيعية، وزيادة تداخل مياه البحر في الخزانات الجوفية الساحلية في شمال الدلتا وزيادة درجة الملوحة في هذه الخزانات.. بالإضافة إلى المخاوف المبررة من احتمالات انهيار السد، مما قد يؤدى إلى نتائج كارثية على السودان ومصر.
وقد حدث نحول كبير في الموقف المصري الرسمي من السد نتيجة عامين أساسيين، الأول هو قيام إثيوبيا بإجراء عملية التحويل لمجرى النيل الأزرق في 7 مايو/ أيار 2013، عقب اللقاء الذى عقده آنذاك الرئيس السابق محمد مرسى مع رئيس الوزراء الإثيوبي في أديس أبابا بيوم واحد، وقبل صدور تقرير اللجنة الثلاثية بيومين، الأمر الذى حمل دلالات سياسية دقت الكثير من أجراس الإنذار في مصر، بأن إثيوبيا مصرة على المضي منفردة في إنشاء السد، وأنها لا تعبأ بتقرير اللجنة أو بالتحفظات المصرية، مما أثار ضغطا شعبيا عنيفا على نظام الرئيس محمد مرسى وحكومته. أما العامل الثاني فقد تمثل في صدور تقرير اللجنة الثلاثية بعد ذلك بعدة أيام، وما انتهى إليه التقرير بعد اجتماعات استمرت عاما ونصف العام، من أن الجانب الإثيوبي لم يقدم إلى اللجنة دراسات وافية سواء عن التصميمات الإنشائية أو الدراسات الهيدرولوجية والبيئية، أو عن آثار السد على دولتي المصب. بالإضافة إلى ما أكده التقرير من أن جميع الدراسات والوثائق المقدمة من الجانب الإثيوبي ليست على مستوى التفاصيل أو الموثوقية التي تحقق الحد الأدنى من معايير الدراسات العالمية المطلوبة لتنفيذ سد بمثل هذا الحجم. مما أدى في النهاية إلى عدم قدرة اللجنة على تقييم مدى سلامة السد الإنشائية أو أثاره السلبية على مصر والسودان.
في هذه الأجواء أضطر رئيس الوزراء المصري السابق هشام قنديل إلى إلقاء بيان أمام مجلس الشورى في 10 يونيو/ حزيران 2013، كان أهم ما ورد فيه أن مصر ترفض السد لأضراره الكبيرة بها، ومن ثم فإنها سوف تتعامل مع ذلك عبر الأدوات الدبلوماسية والسياسية والقانونية و"غيرها".
وهذا الموقف يعد تطورا قويا بالمقارنة مع المواقف التي سبقت هذا البيان والتي كان يعلنها وزير الري المصري الدكتور محمد بهاء الدين والتي كانت تسعى في مجملها إلى التهوين من آثار وتداعيات السد، وتقصر رد الفعل المصري في حالة ثبوت التأثيرات السلبية للسد على السعي إلى التفاوض مع إثيوبيا حول عدد سنوات ملء خزان السد وكذلك السياسة التشغيلية، الأمر الذي كان يعنى انهيار الموقف التفاوضي المصري، قبل أن تبدأ أي مفاوضات أو تحركات جدية حول أخطار السد وتداعياته على المصالح المائية المصرية.
وعقب الاجتماع التشاوري الذى عقده الرئيس المعزول محمد مرسى مع بعض القوى السياسية، والذي تمت إذاعته على الهواء وتسبب في حرج كبير لمصر، بدأت مرحلة من التراشق السياسي والإعلامي بين البلدين، غير أن القاهرة حاولت احتواء ذلك عبر زيارة وزير الخارجية السابق محمد كامل عمرو إلى أديس أبابا في 18 يونيو/ حزيران 2013، والتي يمكن القول إنها كانت زيارة استكشافية، وإن كانت تمثل أيضا أهمية نوعية، حيث إنها سعت إلى نقل الأزمة من خانة التراشق السياسي والإعلامي إلى خانة التفاوض السياسي المباشر، مع السعي بشكل عملي إلى الوصول إلى تفاهمات وحلول وسط. إلا أن النتائج العملية للزيارة كانت محدودة للغاية حيث تمثلت في الموافقة على البدء في مشاورات، حول كيفية المضي قدماً في تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، بما في ذلك الدراسات التي أوصى تقرير اللجنة بإعدادها، وهو الأمر الذى لم يتم الشروع فيه بشكل عملي حتى الآن بسبب وقوع تغيير 3 يوليو/ تموز 2013 في مصر، ثم حدوث فيضانات السودان.
وغنى عن القول إن هذا المسار لا يحقق الحماية لمصالح مصر وحقوقها بقدر ما يتساوق مع أهداف الجانب الإثيوبي. فكل التصرفات الإثيوبية حتى الآن، لم تكن سوى خطوات في إطار إستراتيجية الخداع الإثيوبية طويلة المدى، عن طريق السعي إلى فرض السد كحقيقة واقعة، ثم التحول بعد ذلك إلى مرحلة ثانية تعتمد على القبول الشكلي بمفاوضات غير مجدية من الناحية العملية عبر التحكم في أجندة المفاوضات والسير بها بطريقة دائرية عبر مناقشة قضايا هامشية. وبذلك تقوم إثيوبيا بحماية جوهر استراتيجيتها الرامية إلى إنفاذ بناء السد منفردة، بما يتضمنه ذلك من تكريس سيادتها المطلقة على النهر وكأنه نهر داخلي وليس نهرا دوليا، مع التحكم في تدفقات النهر، وكميات المياه المنصرفة منه باتجاه مصر والسودان، طبقا لما تراه السياسات الإثيوبية محققا لمصالحها، وبذلك يتحقق الحلم الإثيوبي القديم بالتحكم في تدفقات المياه نحو مصر، وما سوف يترتب على ذلك من تداعيات على الأوزان النسبية للقوى الإقليمية في منطقتي حوض النيل والقرن الإفريقي لصالح إثيوبيا وعلى حساب مصر، ويمكن ملاحظة الحضور القوى لهذا الهدف الاستراتيجي، في التكليف الذى تلقته الشركة المصممة للسد من الجانب الإثيوبي والذي تمثل في تصميم وإنشاء سد عظيم وضخم "Great and Huge Dam".
ومن الممكن أن تتضح معالم هذه الإستراتيجية بشكل أفضل إذا أخذنا في الاعتبار أن سد النهضة ليس نهايةَ المطاف بالنسبة لأديس أبابا، وأن هناك ثلاثة سدود أخرى مخططة على النيل الأزرق، بحيث تبلغ السعة الإجمالية للتخزين في هذه السلسلة من السدود 200 مليار متر مكعب. وفى نهاية المطاف يمكن أن تقوم إثيوبيا بتقديم بعض التنازلات الشكلية مثل زيادة عدد سنوات ملء خزان السد، لكي يتسنى لها القول إنها أبدت قدرا من المرونة والحرص على مصالح الدول الأخرى في أسفل النهر.
وفى هذا السياق يجدر بالموقف المصري الانتباه بشدة، إلى أن الإستراتيجية الإثيوبية كانت وما زالت تعمل بقوة على عدة مسارات في وقت واحد، الأول يتعلق بتدشين السد كأمر واقع جديد، في حين انصرف المسار الثاني إلى الفصل بين الموقفين المصري والسوداني من السد في مسعى لإضعاف الموقف المصري وإظهار أنه معزول ومنفرد، أما المسار الثالث فقد تمثل في التصعيد على جبهة اتفاقية عنتيبى، وهى تستخدم من الأصل للتشويش والتغطية على أزمة السدود الإثيوبية، وقد ظهر ذلك في المساعي الإثيوبية في اجتماعات 20 مايو/ أيار 2013 في جوبا.
وهكذا فإنه من الواضح أن التوجهات الحاكمة لأزمة سد النهضة وتداعياته، ذات أبعاد سياسية واستراتيجية وليست تنموية أو فنية فقط، كما تحاول أثيوبيا أن تروج لها، ومن ثم فان المعالجة المصرية يجب أن تسير في نفس الاتجاه. كما أنه من الواضح أن أثيوبيا لن تتراجع عن مواقفها وسياساتها الحالية التي تتجاهل المصالح المصرية بشكل كامل، ما لم تشعر بأن هناك تكلفة عالية للاستمرار في مثل هذه المواقف، الأمر الذى يعنى أنه على مصر أن تسعى إذا أرادت تأمين مصالحها إلى تعديل استراتيجيتها تجاه منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل ككل، بحيث لا تترك هذه الساحات خالية لإثيوبيا، مع السعي لحل تفاوضي وسط يقوم على العودة إلى تصميمات سد بوردر، وهذا أمر متاح من الناحية العملية، ويكفل لإثيوبيا إنتاج 60% من الطاقة المستهدفة من سد النهضة، مع كفاءة أكبر في التشغيل، ووفر كبير في ميزانية وتكلفة إنشاء السد، وتحقيق هدف آخر أكثر أهمية، يتمثل في الحفاظ على أجواء التعاون في حوض النيل الشرقي بدلا من الانزلاق إلى أجواء صراع طويل الأمد لن تكون يكون أي من الأطراف بمعزل عن تداعياته وتكاليفه.
_________________________________________________
*هاني رسلان، رئيس تحرير ملف الأهرام الاستراتيجي ورئيس وحدة دراسات السودان وحوض النيل بمركز الاهرام للدراسات.