مقدمة

يُقدِّم الملف تأصيلًا معرفيًّا لسياقات نشأة الصحافة الإلكترونية العربية وتطورها، ومقاربة تركيبية لتحديات البنية الهيكلية والتشريعية والمهنية والتكنولوجية والمسارات المستقبلية لهذا القطاع الصحفي.
2c6bde88eb664c76b86bd5d27c651967_18.jpg
(الجزيرة)

ظلت الصحافة الإلكترونية، خلال العقدين الماضيين اللذين برز فيهما الإعلام الجديد مُكَرِّسًا واقعًا اتصاليًّا وإعلاميًّا وثقافيًّا جديدًا، تتمتَّع بحضور أوسع في الحياة العامة؛ شاغِلةً المتلقي العربي ومالِئةً بحواملها المختلفة الفضاء السيبراني بعد التراجع المطرد للصحافة المكتوبة كوسيلة إعلامية وصناعة تعيش أزمة نموذجيها الاقتصادي والمهني اللذين جعلا بعض المؤسسات العريقة تلجأ إلى خيار طي صفحات تجربتها الصحفية، مثل: المستقبل ودار الصياد وقبل ذلك مؤسسة ألف ليلة وليلة والسفير. وفي مصر وحدها أُغلق نحو 50 في المئة من الصحف التي حافظت على الصدور خلال الأعوام الخمسة الماضية، وتراجع عدد المطبوعات الورقية في تونس من 255 صحيفة ومجلة عام 2010 إلى أقل من 50 عام 2018. وبالتوازي مع انتشار الصحافة الإلكترونية ونموها المتسارع، حظي هذا القطاع باهتمام الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين أيضًا للاستثمار في مشاريع إعلامية إلكترونية، حيث نشأت صناعة صحيفة إلكترونية -ولئن كانت في بدايتها- تحاول أن تتواءم مع الخصائص التواصلية لشبكة الويب والتواصل الإنساني عبر الإنترنت، كما استأثرت بانتباه المجال البحثي، لاسيما حركة التأليف الإعلامي والدرس الأكاديمي. 

وتزخر المكتبة العربية بعشرات الكتب التي تتناول الصحافة الإلكترونية في العالم العربي، فضلًا عن الرسائل والأطروحات الجامعية التي تغري الباحثين بمتابعة تطور هذا القطاع الصحفي وانتقالاته في سياق التحولات الاتصالية والإعلامية الهائلة التي فرضتها تكنولوجيا الاتصال الحديثة، وتأثيرها في بيئة الصحافة الإلكترونية وعلاقتها بباقي الأنساق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويُركِّز هذا الإنتاج المعرفي -نظريًّا وتطبيقيًّا- في مقاربته لإشكاليات الصحافة الإلكترونية على أبعاد تقليدية (النشأة والتكوين، والتنظيم القانوني، وأخلاقيات المهنة...)، وحديثة أيضًا (النموذج الاقتصادي للصحافة الإلكترونية، واستخدام الوسائط المتعددة، وتوظيف شبكات التواصل الاجتماعي...)، لكن بمنظور تجزيئي يجعلها أحيانًا قضايا أو ثيمات مستقلة دون مراعاة شبكة العلاقات بين هذه القضايا والسياقات التي تتفاعل فيها، وهو ما يؤثر بلا شك في نتائج الدراسة عندما تفتقر للرؤية التحليلية التركيبية، أو البعد العلائقي، في استقصاء الظاهرة وبحث متغيراتها. 

يحاول هذا الملف البحثي أن يتجاوز المنظور التجزيئي في دراسة بيئة الصحافة الإلكترونية العربية، ويُقدِّم تأصيلًا معرفيًّا لسياقات نشأتها وتطورها، ومقاربة تركيبية لتحديات البنية الهيكلية والتشريعية والمهنية والتكنولوجية والمسارات المستقبلية لهذا القطاع الصحفي من خلال المدخل النظري لـ"إيكولوجيا الإعلام"؛ الذي أصبح حقلًا علميًّا بفضل جهود ثلاثة من الرواد: مارشال ماكلوهان (Marshall McLuhan) ووالتر جاكسون أونج (Walter Jackson Ong) ونيل بوتسمان (Neil Postman)، كما توضح أبحاث الملف، وهو يُعنى بدراسة البيئات الإعلامية المختلفة؛ حيث تلعب التكنولوجيا والتقنيات ونموذج المعلومات ورموز الاتصال دورًا أساسيًّا في الشؤون الإنسانية، ويتم "البحث في العلاقات بين الفاعلين ومعالجات المنظومات الإعلامية في مستويات مختلفة؛ لاسيما أن دراسة وسائل الإعلام تستدعي التفكير في المحتوى والكيفية التي يؤثر بها في الناس، وكيف يمكن لهؤلاء الذين تعرضوا لوسائل الإعلام اتخاذ إجراءات للتأثير في المنظومات الاجتماعية". وتبدو أهمية هذا المدخل في كونه نموذجًا تفسيريًّا للبيئة الإعلامية من خلال دراسة بنيتها وهيكلها والمحتوى وتأثيراته، وديناميات التفاعل بين الظاهرة الإعلامية (الصحافة الإلكترونية) وسياقاتها المركَّبة -السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية- نشوءًا وتطورًا وتكيُّفًا مع البيئة الاتصالية الجديدة، وأيضًا لبحث إطارها التنظيمي وعلاقتها بالإعلام التقليدي والمجتمع، والسوق الإعلامية التي تنتظم نشاطها، وكيفية استجابتها لاحتياجات المستخدمين، وطبيعة ونوع الجمهور الإعلامي الجديد الذي تستهدفه، والمجال العام الذي تتحرك فيه والثقافة السياسية التي تُنْشِئُها، وأسلوب التفكير الذي تُحدثه، والتنظيم الاجتماعي الذي تخلقه. 

إذًا، تنبع أهمية هذا الملف من الرؤية التركيبية لمقاربة الصحافة الإلكترونية في العالم العربي باعتبارها بيئة تتفاعل مع باقي الأنساق الأخرى التي تُشكِّل الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ويتزايد أيضًا حضورها في مجال استقاء الأخبار والمعلومات وكذلك في المجال البحثي، وتسهم في تزويدنا -كما يقول المفكر الفرنسي بول ماتياس (Paul Mathias)- بفائض من القوة الإدراكية وتُوَسِّع أفق الممارسات الاجتماعية والثقافية، ونضيف إلى ذلك إثراءها لأدوات البحث وأساليب التفكير. 

وتأتي أهمية الملف أيضًا من طبيعة التحولات المهنية التي يشهدها الإعلام في العالم العربي، وهي تحولات سريعة وهيكلية، كما يقول الدكتور باسم الطويسي، أحد المشاركين في هذا الملف، أبرزها محاولة الإعلام التقليدي البحث عن مساحة للاستمرار في العالم الرقمي كما حدث لعدد من الصحف اليومية، وكذلك الحال في محاولات بناء نموذج اقتصادي جديد ينعتق من مرحلة التجريب والهواية، علاوة على الأدوار المتنامية للصحافة الإلكترونية في تنمية المجال العام والمشاركة الديمقراطية الوليدة في بعض المجتمعات العربية، على الرغم من أن هذه التحولات السريعة تحدث وسط حالة من الإرباك في المشهد الإعلامي، ولاسيما أن الصحافة الإلكترونية بدأت تواجه تحديات مختلفة قد تهدد وجودها. فضلًا عن ذلك، تسهم هذه الدراسة في إثراء الدرس الأكاديمي من خلال منظور إيكولوجيا الإعلام الذي يُقدِّم، كما تلاحظ الدكتورة فاطمة الزهراء السيد، تفسيرات للتحولات والتغييرات الديناميكية التي تطرأ على طبيعة العلاقات بين الكائنات/المتغيرات التي تعمل معًا في نطاق حيوي/إنساني معين. 

ويسعى هذا الملف إلى تحقيق عدد من الأهداف، أهمها: 

- التأصيل المعرفي لنشأة الصحافة الإلكترونية العربية وسياقات تطورها.

- تحديد سياقات التنظيم القانوني للصحافة الإلكترونية وموجبات الشرط السياسي والتكنولوجي.

- إبراز دور الصحافة الإلكترونية في تشكيل أو إعادة تشكيل المجال العام. 

- تحديد البعد الإيكولوجي لاقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية. 

- إبراز سياقات حرية الصحافة الإلكترونية العربية من خلال دراسة الحالة الأردنية. 

- التعرف على تحديات الصحافة الإلكترونية العربية مهنيًّا وتكوينيًّا وتكنولوجيًّا. 

- تحديد مظاهر الحالة التنافسية بين الصحافة الإلكترونية العربية ومنصات الإعلام الاجتماعي والمسارات المستقبلية. 

انطلاقًا من هذه الأهداف، يتناول الملف عددًا من المحاور بمشاركة باحثين وأكاديميين مختصين في الصحافة الإلكترونية؛ وقد تم توزيعها على النحو الآتي:

أولًا: الصحافة الإلكترونية في العالم العربي: سياقات النشأة وتحديات التطور 

تُؤَصِّل الدراسة لسياق نشأة الصحافة الإلكترونية في المجال العربي كاشفةً مسارات تطورها وانتقالاتها وأبعاد هويتها المهنية، وأدوار الأيديولوجيا والسياسة وجاذبية التكنولوجيا في سياقات هذه النشأة والتطور، وتبحث العناصر البيئية "الإيكولوجية" ومساهمتها في صياغة التأثيرات المتبادلة سواء في الأبعاد السياسية أو الاقتصادية أو المجتمعية. كما ترصد الدراسة التي أعدَّها الدكتور باسم الطويسي مشكلات ومحددات الصحافة العربية التقليدية التي حملتها الصحافة الإلكترونية العربية بل وجاءت بإشكاليات جديدة، وتحديات غير مألوفة بعضها يرتبط بظاهرة الإعلام الرقمي العالمية، وأخرى ترتبط بالخصوصيات الثقافية والسياسية العربية.

ثانيًا: التنظيم القانوني للصحافة الإلكترونية العربية وموجبات الشرط السياسي والتكنولوجي 

ترصد الدراسة تطور التنظيم القانوني للصحافة الإلكترونية العربية، وتحاول فهم حقيقة قواعده وأهدافه ومقاصده ليس في متن النص القانوني بل في محيطه السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ويرى الأكاديمي علي كريمي أن مقاربة الإطار القانوني للصحافة الإلكترونية تقتضي استقصاء الحقل الاستفهامي الآتي: كيف تعاملت القوانين الخاصة بالإعلام والاتصال مع تكنولوجيات الإعلام؟ وما اللحظة التي بدأ فيها تقنين هذه التكنولوجيات؟ وما علاقة الإطار القانوني لصحافة الإلكترونية بالصحافة التقليدية؟ وهل ما ينطبق على الصحافة الورقية والسمعية البصرية من ضوابط ينطبق على الصحافة الإلكترونية أم أن لهذه الأخيرة نظامًا قانونيًّا خاصًّا بها؟

ثالثًا: البعد الإيكولوجي لاقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية: الواقع والنموذج

ينطلق البحث للنظر في الجوانب الإيكولوجية للاقتصاديات المُؤَسِّسَة للنشاط الإعلامي وهو يمر بمنعطف يكاد يُحْدِث قطيعة مع الماضي من حيث مفاهيم الإنتاج والاستهلاك والبيع، ويُقدِّم موقع الويب بديلًا للكتاب والصحيفة والمجلة والمذياع والتلفاز، مُسْتَغْنِيًا عن الورق والأثير والأقمار الاصطناعية، ومُعَزَّزًا بصداقته للبيئة واستثماره الأقصى للموارد المالية والبشرية. وتنظر الدراسة للدكتور محمد الأمين موسى في إمكانية إيجاد نموذج عملي لاقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية قابل للتطبيق ضمن بيئة تواصلية تهيمن فيها وسائل التواصل الاجتماعي على اهتمامات المتواصلين وتسعى لتمكينهم من الحصول على الرسائل التواصلية الإعلامية بتكلفة تقترب من الصفر.

رابعًا: الصحافة الإلكترونية العربية والمجال العام: فضاءات مشتركة للاستقطاب والمشهدية

تُراجع الدراسة دور الصحافة الإلكترونية العربية في تشكيل أو إعادة تشكيل المجال العام من خلال مجموعة من الافتراضات التي ترصد انزياحها إلى التجييش والتعبئة والإقصاء ونزوعها إلى شَخْصَنَة الأخبار والإعلام بشكل أكبر؛ فتُقدِّم من الأخبار والتعليقات ما يتناغم مع أفكار القارئ المسبقة والجاهزة وتُبْعِدُه عن مواجهة الأفكار المعارضة أو المخالفة فتشجع الاستقطاب بدل الانفتاح على الحوار والتداول. وتبحث الدراسة التي أعدَّها الأكاديمي نصر الدين لعياضي مسألة التفاعلية في الصحافة الإلكترونية العربية التي توحي بعرض صورة عن الرأي العام السائد في المجتمع، بينما لا تعمل سوى على تسخيرها لاصطناع رأي عام قد يكون غير موجود في الواقع.

خامسًا: حرية الصحافة الإلكترونية في الأردن ومؤشرات البيئة الصديقة والكابحة للحريات

تبحث الدراسة حالة حرية الصحافة الإلكترونية في الأردن ضمن سياقاتها القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتستقصي العوامل والمؤشرات الصديقة للحريات الإعلامية والأدوات الكابحة لها التي تؤثر في اتجاهاتها ومساراتها. وتفترض الدراسة، التي أنجزها الدكتور محمد الراجي، وجود علاقة تبادلية بين مظاهر البيئة الإعلامية للصحافة الإلكترونية والسياق السياسي العام؛ إذ ينعكس هذا التفاعلُ بين بيئة العمل الإعلامي الإلكتروني والسياقات المختلفة في حالة الممارسة الإعلامية ونسق تغطيتها ومعالجتها للقضايا التي تهمُّ الرأي العام، والإطار الوظيفي للعمل الصحفي الإلكتروني، ويؤثر أيضًا في جوهر حرية الصحافة الإلكترونية وحدودها وطبيعة أبعادها، وكذلك في المنظومة القانونية التي تؤطِّر الممارسة المهنية، وعلاقة الصحافة بالسلطة والنظام السياسي عمومًا.

سادسًا: أخلاقيات الصحافة الإلكترونية العربية: رؤية جديدة للممارسة المهنية 

تناقش الدراسة الضوابط المهنية للعمل الصحفي الإلكتروني التي قد تكون هُمِّشت في ظل الهوس بالمعايير التقنيـة التـي أصبـحت تحتل الجانب الأكبر من اهتمامات المشتغلين بالصحافة الإلكترونية العربية، واللهاث وراء السبق الصحفي على حساب المعايير المهنية مما أفسح المجال واسعًا أمام الشائعات. وتحاول الدراسة التي أعدَّها الدكتور المعز بن مسعود طرح رؤية جديدة لأخلاقيات الصحافة الإلكترونية العربية ترقى -مهنيًّا، وقانونيًّا، ومدنيًّا- إلى إيجاد معايير محددة في البيئة العربية الإلكترونية، يمكن من خلالها تقييم مدى احترام المضامين الإعلامية المنشورة رقميًّا وإلكترونيًّا لأخلاقيات المهنة؛ مما يساعد على الرقي بالقيمة الاحترافية للمؤسسات الإعلامية العربية العاملة في هذا المجال.

سابعًا: ميكانيزمات التعايش والتنافس بين الصحافة الإلكترونية ومنصات الإعلام الاجتماعي 

تتناول الدراسة واقع الصحافة الإلكترونية في عالم اليوم بصفة عامة وفي منطقتنا العربية بشكل خاص، وهو يشير إلى وجود العديد من الإشكاليات والتحديات التي فرضها بالأساس ظهور وتطور وسائل التواصل الاجتماعي بشبكاتها وتطبيقاتها المتعددة. وتسعى الدراسة للأكاديمية، فاطمة الزهراء السيد، إلى رصد وتحليل الدراسات التي اهتمت بهذه الإشكالية بهدف بلورة أهم الاتجاهات النظرية في هذا الشأن وتقديم بعض التفسيرات التي قد تسهم في الإحاطة بالمتغيرات الحاكمة لهذا الواقع وتطوراته المرتقبة مستقبلًا وذلك من خلال الإجابة على التساؤلات التالية: ما مظاهر الحالة التنافسية التي تعيشها الصحافة الإلكترونية العربية؟ ما طبيعة التحديات التي تواجهها؟ وما مدى تأثيرها على الأداء المهني؟ ما أشكال التعايش الممكنة بين الصحافة الإلكترونية العربية ومنصات التواصل الاجتماعي؟ إلى أين تتجه المسارات المستقبلية للعلاقة بين النمطين الإعلاميين؟