الولايات المتّحدة والقوى الصاعدة

تقرير يقدم رؤية تتناول مسألة انحدار القوّة الأمريكية وموقعها الحالي، وصعود عدد من القوى الناهضة على الساحة الدولية، والتي ستكون شريكاً في تطوير النظام الدولي مع تدهور القوّة الأمريكية، والتحديات العالمية الجديدة التي سيكون على المجتمع الدولي والقوى الصاعدة مواجهتها في المرحلة المقبلة.








مايكل شيفر


عرض علي حسين باكير


نشرت مؤسسة "ستانلي"(*) مؤخرا تقريرا على درجة عالية من الأهمية أعدّه الخبير "مايكل شيفر" الذي سبق له أن عمل كزميل في مجلس العلاقات الخارجية والشؤون الدولية في اليابان منذ العام 1995 وحتى العام 2004، وشغل عدّة مناصب من بينها مستشار في شؤون الأمن القومي، ومدير برنامج الأمن الدولي في مركز الحرب والسلام والإعلام في جامعة نيويورك.





يعتبر التقرير أنّ القرن الواحد والعشرين يشهد مزيدا من التنافس الدولي على القوّة والموارد
يحمل التقرير الذي أعدّه "شيفر" عنوان "الولايات المتّحدة الأمريكية والقوى الصاعدة"، ويأتي في سياق العديد من الدراسات والتقارير التي بدأت في الآونة الأخيرة تتناول مسألة انحدار القوّة الأمريكية وموقع الولايات المتّحدة في النظام الدولي كـ "super power"، وصعود عدد آخر من القوى الناهضة على الساحة الدولية، لعلّ أبرزها ما يمكن تسميته بمجموعة الـ "BRIC" التي تضم كل من البرازيل وروسيا والهند والصين.

ويعتبر التقرير أنّ القرن الواحد والعشرين يشهد مزيدا من التنافس الدولي على القوّة والموارد، ويحاول ضمن هذه المعطيات أن يقدّم رؤية تتناول:



  • تحديد عناصر "القوّة" في العصر الماضي والحديث.
  • تسمية القوى الصاعدة والناهضة التي ستكون شريكاً في تطوير النظام الدولي الذي سيتخطى نظام الأحادية القطبية مع تدهور القوّة الأمريكية.
  • التحديات العالمية الجديدة التي سيكون على المجتمع الدولي والقوى الصاعدة مواجهتها في المرحلة المقبلة.
  • موقع الولايات المتّحدة في الحقبة الحالية والخيارات القائمة أمامها للتعامل مع القوى الصاعدة على المستوى الدولي.

وفي ما يلي أبرز النقاط المهمة الواردة في التقرير:


القوى العالمية الصاعدة
عناصر القوّة
القوّة التقليدية
التحوّل إلى النووي
قوّة البترول
شرعية القوّة
القوّة في العصر الحديث
التحدّيات العالمية الجديدة
نظام عالمي جديد؟


القوى العالمية الصاعدة


تبدأ الورقة باقتباس مقطع من تقرير مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي للعام 2007، يقول: "قد يغيّر الصعود المحتمل للصين والهند كلاعبين عالميين رئيسين جديدين المشهد الجيو-سياسي العالمي كما فعلت ألمانيا في القرن التاسع عشر والولايات المتّحدة في القرن العشرين، وسيكون لذلك تأثيرات دراماتيكية كالتي حصلت في القرنين الماضيين".


وتشير النظرية الكلاسيكية في العلاقات الدولية إلى أنّه وخلال فترات "انتقال القوّة" بين الأمم، يحصل سياق جديد لتوزيع القوى يؤدي إلى مخاطر عديدة من بينها سوء الفهم والتوقعات والانطباعات بين هذه الأمم مما من شانه أن يدفع باتجاه أزمات ونزاعات خطيرة في النظام الدولي.


وإذا ما عدنا إلى القرن التاسع عشر، سنجد أنّ القوى الدولية آنذاك كانت تعني حكماً الإشارة إلى القوى الأوروبية العظمى، أمّا اليابان والولايات المتّحدة فقد كانت استثناءً لهذه القاعدة.





إذا ما عدنا إلى القرن التاسع عشر، سنجد أنّ القوى الدولية آنذاك كانت تعني حكماً الإشارة إلى القوى الأوروبية العظمى، أمّا اليابان والولايات المتّحدة فقد كانت استثناءً لهذه القاعدة.
ومع دخول العالم القرن الواحد والعشرين، بدأ المشهد العالمي بالتغيّر، فكما أنّه ليس باستطاعة القليل من المراقبين التشكيك بفكرة أنّ الولايات المتّحدة الأمريكية، أوروبا واليابان تبقى في قائمة القوى الرئيسية اليوم، كذلك لا يمكن التشكيك بفكرة أنّ الصين والهند قد نهضت بالفعل وقامتا بتحويل تأثير صعودهما إلى مستوى "القوّة الرئيسية"، في حين يبقى الواقع الديمغرافي لروسيا عائقا أمامها لضمان موقعها كقوّة رئيسية في المستقبل على الرغم ممّا تمتلكه من عوامل قوّة كمصارد الطاقة والترسانة النووية.

وبعيدا عن هذه القوى الست، يبقى النقاش قائما حول الكيفية التي يمكن بها قياس القوّة النسبية والتأثير الذي تتركه قوى صاعدة أخرى مثل البرازيل وكوريا الجنوبية التي تمتلك بلا شك العناصر التي تخوّلها أن تكون قوّة رئيسية لكن ليس بالقدر الكافي مقارنة بالآخرين.


تركيا أيضا تعد من الدول المؤهلة لان تكون قوّة رئيسية، ويعود الفضل في ذلك في جزء كبير منه إلى موقعها الإستراتيجي بين آسيا وأوروبا والشرق الأوسط. وتؤمّن الجغرافيا التركيّة تأثيرها الإستراتيجي في المسائل الحسّاسة مثل الطاقة، كما أنّها تقدّم نموذجا سياسيا مهماً للإسلام المدني العلماني.


وسيكون لتركيا في المستقبل بدون أي شك تأثير معتبر بل وحاسم على بعض المواضيع الحسّاسة الرئيسية التي تواجه المجتمع الدولي في العقود القادمة. ولذلك نستطيع أن نقول إنّ تركيا تمتلك من هذه الزاوية ما يؤهلها أن تكون قوّة صاعدة رئيسية لها تأثيرها الإقليمي الواضح والمهم، لكنّ وضعها الاقتصادي والعسكري يحول إلى الآن دون تحوّلها إلى قوّة رئيسية ذات طابع عالمي.


وبغض النظر عن الكيفية التي باستطاعة المرء الاختيار من خلالها من يدخل ومن يخرج من تعريف القوّة الرئيسية، من المهم الرجوع إلى ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة "كونداليزا رايس" في خطاب لها في العام 2006 تقول فيه "في القرن الواحد والعشرين، تعيد قوى ودول ناهضة مثل الصين والهند والبرازيل ومصر وإندونيسيا وأفريقيا الجنوبية تشكيل مسار التاريخ بشكل متزايد".


عناصر القوّة 


يعد تعريف العناصر المؤسسة للقوى الرئيسية في أي حقبة من المهام الصعبة، لكنّ وضع "القوّة الرئيسية" عادة ما يتضمّن مجموعة من العناصر والقدرات المندمجة مع بعضها البعض، كالثروة والقدرة على التأثير في قرارات الآخرين وأفعالهم، وعلى الرغم من أنّ كثيرين يرون تعريف القوّة من خلال المنظار العسكري فقط، إلاّ أنّ البعد العسكري يشكّل بعدا واحدا فقط من أبعاد القوّة ولا يمكن اختصارها فيه.


إذ يرى الخبير السياسي "كينيث فالتز" أنّ هناك خمسة معايير مختلفة لقياس وتقييم قوّة الدولة:



  1. عدد السكان والامتداد الجغرافي.
  2. الموارد الطبيعية التي تضّمها.
  3. وضعها الاقتصادي.
  4. استقرار النظام السياسي.
  5. قوّتها العسكريّة.

بينما يري المؤرّخ البريطاني "بول كينيدي" أّن عوامل القوّة في القرن العشرين تكمن في:



  • حجم السكّان.
  • مستوى التمدّن.
  • المستوى الصناعي.
  • استهلاك الطاقة.
  • حجم الناتج الصناعي.
  • القوّة العسكرية.

القوّة التقليدية 








استطاع الاقتصاد الصيني النمو بنسبة 10% سنويا على مدى أكثر من عقد من الزمن، وبحلول العام 2050 من المتوقّع ينمو الاقتصاد الصيني بواقع 50 ضعفا ليتجاوز الاقتصاد الأمريكي كأكبر اقتصاد في العالم على الرغم من أنّ الولايات المتّحدة ستبقى الأغنى إذا ما قيس الناتج المحليّ الإجمالي إلى عدد السكّان.

وفيما يتعلّق بالاقتصاد الهندي، فقد نما هو الآخر بمعدّل 8% سنويا خلال العقد الأخير، وإذا ما استمر في نفس السياق، فإنه سيكون واحداً من أكبر ثلاث اقتصاديات في العالم في منتصف القرن.


ونظرا للنمو الاقتصادي الهائل للبلدين، شهد العالم نقلة في السيطرة الاقتصادية من الهيمنة العالمية على الاقتصاد من قبل الولايات المتّحدة وأوروبا إلى آسيا والمحيط الهادئ. ومع تغيّر التوجهات الاقتصادية والمسارات التجارية لاسيما بين الصين وأوروبا والصين والولايات المتّحدة، من المتوقع أن تحصل تغييرات مواكبة لذلك في الأفكار والسياسات والدبلوماسية وتدفّق المعلومات والتكنولوجيا، وسيكون للآسيويين كما يقول الباحث السنغافوري كيشور ماحبوباني دور في مشاركة الغرب في صياغة المؤسسات الاقتصادية العالمية من صندوق النقد الدولي إلى البنك الدولي.








وعلى الرغم من أنّ النمو الاقتصادي لفت انتباه الكثيرين، إلاّ أنّ القوّة العسكرية تبقى المعيار الذهبي لقياس وضع أي قوّة رئيسية، وتبذل الصين مجهودا كبيرا في هذا المجال أيضا، ونستطيع أن نرى ذلك في تطويرها لقدراتها البحرية لاسيما العمل على بناء أسطول الغواصات والمدمرات والسفن الحربية وتحديث العقيدة العسكرية البحرية للتأكيد على قدرتها في العمل ضمن منطقة بحار الصين الجنوبية والشرقية وما وراءها. وتشهد الصين بالفعل نقلة سريعة جدا في المجال العسكري يمكن تلخيصها كما ذكر تقرير للبنتاغون مؤخرا أن "الصين تمتلك القدرة الأكبر على منافسة الولايات المتّحدة عسكريا " ضمن معيار عالمي.

التحوّل إلى النووي 


يعدّ تطوير أو حيازة أسلحة نووية معيارا آخر من معايير القوّة العسكريّة في العصر الحديث، وكذلك الأمر في الانتماء إلى النادي النووي الشرعي الذي يضم الولايات المتّحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا.


أما الهند فقد تمّ عزلها لفترة طويلة إلى أن جاء التعاون النووي الأمريكي مؤخرا ليشكّل عند البعض مادة للاعتراف بالهند كقوة نووية شرعية.


وقامت العديد من الدول في فترة من الفترات كالبرازيل وجنوب أفريقيا بتطوير برامج نووية لكن سرعان ما تخلّت عنها، وتعد اليابان في هذا المجال قوّة نووية من الناحية النظرية لامتلاكها التكنولوجيا والمؤهلات التي تخوّلها التحول إلى قوّة نووية خلال فترة قصيرة حال وجود قرار سياسي بذلك، علما أنّ دستورها الذي يركّز على السلام يمنع ذلك إلى الآن.


ويبقى التساؤل الجدلي في هذا الإطار يدور حول معيار القوّة والتحوّل إلى امتلاك السلاح النووي، إذ من الممكن أن تمتلك سلاحا نوويا وتكون قوّة عظمى، لكن هل من الممكن أن تكون قوّة عظمى من دون سلاح نووي؟


قوّة البترول 


وتعتبر الطاقة والمصادر الطبيعية بعدا آخر من أبعاد القوّة في العصر الحالي والماضي أيضا، ومن المرجّح أن يبقى الأمر كذلك في المستقبل أيضا. وللدلالة على مدى أهمية هذا البعد، نستطيع أن نلاحظ أنّ صعود روسيا من جديد على الساحة العالمية إنما جاء نظرا للطلب العالمي العالي على النفط والارتفاع الكبير في أسعار هذه السلعة إضافة إلى الغاز الطبيعي.





تعتبر الطاقة والمصادر الطبيعية بعدا آخر من أبعاد القوّة في العصر الحالي والماضي أيضا، ومن المرجّح أن يبقى الأمر كذلك في المستقبل أيضا.
كما أنّ هناك العديد من الدول من بينها البرازيل على سبيل المثال، تبدو مؤهلة لاستغلال بعض الطاقات البديلة كرافعة لدورها ومركزها العالمي من خلال ما يعرف بالوقود الحيوي ("بيو-فيول" أو "بيو-ديزل")، أو كاليابان التي تعمل على تطوير تكنولوجيا جديدة تعمل على رفع كفاءة الطاقة التقليدية أو البديلة والمتجددة.

وبالإضافة إلى البعد الاقتصادي أو العسكري للقوّة، هناك أيضا نطاق لعدد آخر من العوامل التي تشكّل جزءاً من الحساب التقليدي لميزان القوّة الرئيسي مثل الديموغرافيا، والتي تشكّل عنصرا أساسيا في صعود الصين والهند على المستوى العالمي على اعتبار أنّهما الدولتان الأكثر تعدادا للسكّان في العالم مع ما يعني ذلك من قدرة على توفير قدر لا حدود له من القوى العاملة للطرفين، ويمنحهما قدرا من التأثير على المسرح العالمي في هذا المجال.


شرعية القوّة 


ويعتبر هذا العامل الذي يكمن في اعتراف الآخرين بموقع الدولة في النظام الدولي من عوامل تعريف القوّة أيضا. والبرازيل على سبيل المثال تخضع لهذا المعيار في صعودها العالمي، وهي منذ العام 2003 تحتل موقع المراقب في مجموعة الدول الـ8 الصناعية الكبرى في العالم، وهناك توجّه في السنوات الماضية في الإشارة إلى البرازيل إلى أنّها شريك دولي وقوّة إقليمية صاعدة في أمريكا اللاتينية. كما يلعب الاعتراف الدولي للقوى الكبرى بالقوى الصاعدة دورا مهمّا في تحديد شرعيّة القوّة، وتاريخيا كانت الدول الكبرى تؤدي هذا الدور خلال اجتماعاتها كما حصل بعد الحروب النابليونية (1814-1815)، أو إبان مؤتمر باريس للسلام العام 1919.


وفي حالتنا اليوم، يعتبر مجلس الأمن المكان الذي باستطاعته تعريف شرعيّة القوى الصاعدة، ويميل كثيرون إلى أنّ التوزيع الحالي للقوى والذي يشمل الولايات المتّحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين لا يعكس التوزيع الحقيقي للقوى في العالم لاسيما في ظل وجود اليابان، وألمانيا، والهند والبرازيل ودول أخرى.


القوّة في العصر الحديث 


وإذا ما نظرنا خلف العناصر الأساسية التقليدية التي تعرّف القوّة والتي تتضمّن الثروة والقوّة العسكرية والديمغرافيا، فلا بد لهذه العناصر من أن تواكب أيضا وقائع العصر الحديث.


فالمفهوم التقليدي لأهمية الموقع الجيوسياسي للحيّز المكاني على سبيل المثال، والذي جرى التشديد عليه من قبل المحللين خلال القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، أصبح أقل أهميّة في عصر تكنولوجيا الصواريخ البالستيّة.


وعلى الرغم من أنّ عددا من عناصر القوّة التقليدية تبقى ذات أهميّة كبرى، فإن حقيقة وواقع العالم الرقمي والمعولم للقرن الـ21، أدخلت بُعدا جديدا للقوّة، ومن هذه العناصر المعرّفة لهذا البعد الجديد للقوّة: طبيعة القوّة الناعمة ومستوى العولمة والابتكار.



  1. بالنسبة إلى مفهوم "القوّة الناعمة": فقد تمّ تطوير هذا المفهوم المستحدث من قبل عميد كليّة هارفرد "جوزيف ناي" والذي يلخّص فكرة ومفهوم "القوّة  الناعمة" على أنّها "القدرة على صياغة خيارات الآخرين...وأن تكون نموذجا يحتذي به الآخرون، يجذبهم ويدفعهم إلى أن يفعلوا ما تريد". ويمكن تطبيق جاذبية الإقناع هذه من خلال الثقافة الشعبية أو من خلال الدبلوماسية العامّة وقوّة الأفكار والنماذج الوطنيّة. وعلى سبيل المثال، قد كان للقوّة الناعمة الأمريكية مفعولها إبّان الحرب الباردة، أمّا اليوم فيشير الكثير من المحلّلين إلى القوّة الناعمة الصينية التي تستمدّ قوّتها من مبدأ عدم التدخّل واحترام السيادة الوطنية للدول. كذلك الأمر بالنسبة إلى دول أخرى كالبرازيل على سبيل المثال، التي تستمد قوّتها من موقعها الثقافي "الموسيقى والشواطئ والكرنفالات" الذي يواكب نهوضها الاقتصادي والدبلوماسي ليجعل منها قوّة إقليمية.





  2. يتمثل أحد عناصر البعد الجديد للقوّة في العصر الحديث في قدرة الدولة على الاختراع والابتكار وإنتاج التكنولوجيا العلمية والتي بدورها ستدعم من قوّة الاقتصاد ومستوى معيشة الناس ومن القوّة العسكرية للبلاد.
    مستوى العولمة:
    فقد حوّل تداخل الاقتصاد المحلي بالعالمي ومستوى وحجم التجارة أيضا المعايير التقليدية لقياس قوة الاقتصاد المحلي وتراكم حجم الثروة ومستوى الدخل عما كان عليه الأمر قبل حوالي قرن من الزمان. كما وأدى نشوء هيكل اقتصادي ومالي جديد تستخدم فيه العديد من الأدوات المالية المستحدثة إلى تغيير معايير القوة الاقتصادية، فأصبحت الفوائض الناجمة عن تراكم أرباح التجارة الخارجية أداة من أدوات تعزيز قوّة الدولة خاصة في ظل إمكانية تحويل هذه الفوائض إلى قوّة عسكرية. فعلى سبيل المثال، تمتلك الصين حوالي 600 مليار دولار من الديون الأمريكية، كما أنّها نجحت في مراكمة أكثر من 1.9 تريليون دولار بحلول أكتوبر/تشرين أول من العام 2008 كاحتياطي عملات خارجية، ولا شك أنّ لهذه الأرقام القياسية معناها في تعريف القوّة.


  3. القدرة البشرية: وهو عنصر ثالث من عناصر البعد الجديد للقوّة في العصر الحديث ويتمثّل في قدرة الدولة على الاختراع والابتكار وإنتاج التكنولوجيا العلمية والتي بدورها ستدعم من قوّة الاقتصاد ومستوى معيشة الناس ومن القوّة العسكرية للبلاد. صحيح أنّ الصين والهند تخرّج عددا كبيرا من المهندسين سنويا وبشكل تصاعدي، ولكن لو نظرنا إلى عدد براءات الاختراع الدولية، فنسجد أن الولايات المتّحدة متقدّمة على الآخرين بفارق كبير بحوالي 53 ألف براءة اختراع في العام 2007 مقابل 28 ألف لليابان و5 آلاف فقط للصين. ولأن الإبداع والابتكار يفتح المجال واسعا أمام بروز عدد من القوى الجديدة على المسرح العالمي، فإن عددا من الدول تحاول التخصص في مجال معيّن لتصدّره على الصعيد العالمي، ولذلك نجد أنّ كوريا الجنوبية على سبيل المثال تصدّر القيادة العالمية للتكنولوجيا الصاعدة في مجالات الاستنساخ والإلكترونيات والتكنولوجيا الحيوية (بيو-تيكنولوجي).

التحدّيات العالمية الجديدة 


وتساعد القدرة الكامنة في القوى الكبرى الحالية والصاعدة على الولوج من خلال التحدّيات العالمية مع بعضهم البعض أو بشكل منفرد على تعريف القرن الواحد والعشرين، ويمكن إجمال هذه التحدّيات العالمية بخمسة تحدّيات كبرى هي:



  1. تحدّي الطاقة والموارد الطبيعية: إذ تضع القوى الصاعدة ضغوطا كبيرة على الموارد الطبيعية العالمية وعلى السلع أيضا، وفي طليعتها الطاقة والغذاء والماء، وهو ما يطرح تساؤلا حول إمكانية أن يشهد القرن الواحد والعشرين عودة المنافسة الجيو-سياسية والاقتصاد التجاري. وفي هذا الإطار يشير المحلل في مجال الدفاع مايكل كلير بانّ القوّة العظمى الأمريكية الأحادية تتهاوى حاليا أمام التأثير المتزايد لقوى البترول مثل روسيا و"تشينديا" (أي الصين والهند) وهو يحذّر من مخاطر حرب باردة جديدة تنشأ عن التنافس على موارد الطاقة، مما يوجب على الولايات المتّحدة بناء علاقة تنسيق وتعاون مع الصين لتطوير مصادر بديلة للطاقة.


  2. التغير المناخي: وهو تحد ذو علاقة وثيقة أيضا بأمن الطاقة. فانبعاثات الغازات التي تحبس الحرارة في الغلاف الجوي تضاعفت خلال الثلاثين عاما الماضية مدفوعة بجزء كبير منها، وبشكل رئيسي بالنهوض والنمو الاقتصادي لقوى صاعدة مثل الصين والهند. على المجتمع الدولي أن يعمل على تخفيض الانبعاثات بشكل دراماتيكي خلال العقود القادمة لتجنّب العواقب الأسوأ للتغيّر المناخي القادم، وهو ما يعني بالنسبة للقوى الصاعدة أنّ عليها وضع فرامل لنموها الاقتصادي الأمر الذي سيكون له توابع سياسية غير مقبولة على الإطلاق وستؤدي إلى اضطرابات اجتماعية.





  3. الجماعات الإرهابية التي تتمركز في حيّز مكاني معيّن أصبحت قادرة على العمل على صعيد دولي من خلال تقنيات المعلومات والتكنولوجيا الحديثة، مدعومة بسوق الأسلحة السوداء وتجارة المخدّرات التي تؤمّن المصادر المالية.
    منع الانتشار النووي:
    لقد تعهّدت الدول الموقّعة على معاهدة منع الانتشار النووي بعدم السعي إلى امتلاك الأسلحة النووية، بينما اتّفقت الدول الخمس المنضوية تحت راية النادي النووي الشرعي على العمل على اتخاذ قرارات للتقليل من ترسانتهم النووية مع الأمل من أن يتم التخلي عنها في النهاية. وقد صمدت معاهدة منع الانتشار النووي لمدة 39 عاما ولكن سرعان ما تعرّضت لتحديات كبيرة لاسيما في العقدين التاليين للحرب الباردة منها قيام بعض البلدان ككوريا الشمالية وإيران على متابعة برنامج تسلّح نووي مع البقاء ضمن إطار الاتفاقية في وقت واحد، وفشل المجتمع الدولي في معالجة حالة بعض البلدان التي لم توقّع على الاتفاقية مثل إسرائيل والهند وباكستان، وفشلت الدول النووية في تخفيض ترسانتها النووية بشكل ملحوظ، فهذه كلّها تحديات مشتركة تواجه نظام منع الانتشار النووي العالمي وتهدد النظام الدولي.


  4. صعود الإرهاب: الإرهاب والفاعلون غير الحكوميين من التحدّيات الكبرى التي يواجهها العصر الحديث، فالجماعات الإرهابية التي تتمركز في حيّز مكاني معيّن أصبحت قادرة على العمل على صعيد دولي من خلال تقنيات المعلومات والتكنولوجيا الحديثة، مدعومة بسوق الأسلحة السوداء وتجارة المخدّرات التي تؤمّن المصادر المالية.


  5. تنافس أجندات متعددة: إذ يثور السؤال في هذا المجال عن مدى قدرة العوامل الدولية والداخلية والثقافية في القوى الكبرى على قيادة عالم يكون التنافس فيه بين برامج وإيديولوجيات متعددة لكل منها مجموعة من القواعد والتفسيرات والتطبيقات، فبعض الخبراء في العلوم السياسية تنبأ سابقا بإمكانية اندلاع صراع حضارات وآخر بصراع أيديولوجيات وثالث بين القوى المتقدمة والرجعية.

نظام عالمي جديد؟ 


ويكمن التحدي في هذا الإطار في إمكانية بزوغ نظام عالمي جديد وهيكلية عالمية جديدة حاكمة، ومؤسسات دولية عصرية تعكس الحقائق والوقائع والتطورات التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية وتقدر على مواجهة التحديات العالمية الجديدة المنبثقة، فالدول الخمس الدائمة العضوية (باستثناء الصين) في مجلس الأمن مثّلت المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها لم تعد اليوم وبعد حوالي أكثر من 60 عاما من ذلك الوقت اللاعب الوحيد الأكثر قوّة أو الأكثر أهمية على الساحة العالمية.


نهاية الأحادية القطبية؟
تساؤل عمّقته الأزمة المالية العالمية التي تعتبر من معالم الحقبة الحديثة التي نمر بها. فبعد أكثر من نصف قرن على تحكّم الولايات المتّحدة ووضعها القواعد والقوانين الناظمة لعمل المؤسسات الدولية، فانّ عددا من القوى الأخرى تقوم الآن بفرض رؤيتها في ظل تراجع القوّة الأمريكية، الأمر الذي يجبرها على تقبّل مشاركة الآخرين لها في هذه اللعبة.


في نهاية الأمر فالنظم الإقليمية والدولية هي مجرد أدوات أو آليات تسمح للدول للمشاركة في عمل جماعي مؤطّر، والتحدي الذي يكمن هنا هو الكيفية التي سيتم بها إعادة هيكلة المنظمات المتعددة الأطراف لتعكس الحقيقة الجديدة لديناميّات القوى الحديثة والصاعدة.


الدور الأمريكي في حقبة التعددية القطبية؟
طرحت العديد من المدارس الفكرية النقاش حول الكيفية التي يجب على الولايات المتّحدة أن تتصرف بها إزاء تغيّر الظروف الدولية. فركّزت مدرسة فكرية على خطورة وطبيعة العالم المضطرب والهائج والعنيف، فشددت على أهمية وأولوية تكريس الولايات المتّحدة الأمريكية لقدراتها العسكرية لحماية مصالحها بشكل يمنع قيام منافسين.





نظرة الولايات المتّحدة إلى القوى الصاعدة ستعكس نظرة القوى الصاعدة إلى السياسة الأمريكية نحو الأفضل أو الأسوأ.
أمّا المدرسة الفكرية الأخرى، فركّزت على حتمية الصراع وعدم إمكانية تجّّنبه بين الدول الكبرى، فيما ذهبت مدرسة فكرية أخيرة إلى الاعتراف بواقع ما يمكن تسميته "ما بعد الحقبة الأمريكية" أو "ما بعد العصر الأمريكي" ولكنها تختلف حول طبيعة الرد المناسب على ذلك، مع دعوة البعض إلى التأقلم مع عالم متعدد الأقطاب ودعوة البعض الآخر إلى اتباع سياسة التراجع والانعزال للعودة لاحقا، مع العلم أنّ الرهان الأفضل للولايات المتّحدة يكمن في استغلال الواقع العالمي الجديد والعمل مع القوى العالمية الجديدة والصاعدة من منطق الشراكة والتعاون في حل المشاكل العالمية وليس من منطق رؤيتهم كمنافسين محتملين.

التعاون والاعتراف
على الولايات المتّحدة أن تتعامل مع القوى الجديدة والصاعدة وفق:



  1. تقدير البعد المتعدد لنهوض القوى الرئيسية الأخرى. والتحدي الأساسي للولايات المتّحدة الأمريكية بالنسبة للصين والهند لا يكمن في البعد العسكري ولكن في بعد آخر للقوّة (اقتصادي، سياسي، دبلوماسي).
  2. على الولايات المتّحدة أن تقدّر الواقع الذي يقول أنّ القوّة نسبية وأنّ التغيّر في ميزان القوى في عالم اليوم إنما يعود إلى تآكل القوّة الأمريكية بمختلف عناصرها كالقوّة الناعمة خصوصا.
  3. بينما تقوم القوى الرئيسية بالسعي إلى الانخراط في المؤسسات الدولية والى بناء علاقات ايجابية ليس مع الولايات المتّحدة الأمريكية فقط وإنما مع بعضها البعض، سيكون من الصعب بل من المستحيل على الولايات المتّحدة إنشاء اصطفافات من شانها أن تعزل الآخرين ناهيك عن كل القوى الرئيسية.
  4. طالما هناك نوع من عدم الوضوح حول الإستراتيجية والهدف الواضح لدى القوى الرئيسية الصاعدة في العالم، فانّ الولايات المتّحدة لن تكون في موقع الصديق أو العدو لهذه الدول الصاعدة، ولذلك تستطيع الولايات المتّحدة بل ويجب عليها استغلال هذا الموقف لفرض تعاون حول المسائل والمواضيع التي تشكل مساحة مشتركة للمصالح المتبادلة، وبذلك يمكن تفادي الاصطدام، لكن الشفافية الإستراتيجية ستكون مطلوبة إذا كان لا بد للولايات المتّحدة من أن تذهب باتجاه علاقات ايجابية.
  5. سيكون على السياسة الأمريكية أن تركز على هدف لا يكمن في منع القوى الأخرى من النهوض وإنما في تقوية الآليات التي تستطيع تدوير التأثيرات الناجمة عن إعادة توزيع القوى في العالم. وعلى الولايات المتّحدة الانخراط مع القوى الناهضة لجعلها شريكا في تحمّل المسؤولية العالمية وفي توسيع نطاق التعاون الدولي، وباستطاعة الولايات المتّحدة في ذات الوقت أن تعمل على تقوية قدرتها التنافسية من خلال إعادة ترتيب وضعها الداخلي والاقتصادي والاجتماعي.

وأخيرا، يجب على الولايات المتّحدة أن تدرك أنّ نظرتها الخاصة إلى العالم ستكون حرجة فيما يتعلّق بتعريف الحقبة الجديدة أو العصر الجديد. وبغض النظر عمّا إذا كانت الولايات المتّحدة تنظر إلى التحدّيات والمسائل العالقة نظرة "صفريّة" تخضع لمبدأ الربح والخسارة أو إذا كانت "غير صفرية"، فإن نظرة الولايات المتّحدة إلى القوى الصاعدة ستعكس نظرة القوى الصاعدة إلى السياسة الأمريكية نحو الأفضل أو الأسوأ.


ليس باستطاعة الولايات المتّحدة أن تحدد أو تقرّر مستقبل أو خيارات القوى الرئيسية الأخرى، لأن هذه المهمّة تعدو لهم، لكن وعبر العمل مع القوى الكبرى على تجاوز التحدّيات العالمية المشتركة، سيكون للولايات المتّحدة الفرصة على إعادة تشكيل وصياغة البيئة التي تتّخذ هذه القوى خياراتها ضمنها.









______________
مسؤول برنامج تحليل السياسات والحوار في مؤسسة "ستانلي"، كما يتولى مسؤولية "برامج آسيا" وعدد من المواضيع المتعلّقة بالأمن القومي الأمريكي والعالمي.


هامش
(*) نشرت الدراسة على الموقع الإلكتروني لـ "مؤسسة ستانلي" البحثية الأمريكية، وللدخول إلى صفحة التقرير إضغط هنا، ولقراءة النص الأصلي للتقرير على شكل PDF إضغط هنا.