مفهوم "الصعود السلمي" في سياسة الصين الخارجية

لا تزال سياسة "الصعود السلمي" هي المعتمدة في الصين والتي يشدد قادتهاعلى أنها الخيار الإستراتيجي لبلادهم، لكن مستقبل هذه السياسة سيحدده التوازن بين القوى داخل الطبقة السياسة والعسكرية والاقتصادية الحاكمة، والطريقة التي سيتعامل بها العالم مع الصعود الصيني.
21 أبريل 2011
1_1055586_1_34.jpg



 


 


 


 


 


 


 


 


 


علي حسين باكير


بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، برز في بداية التسعينيات نظام الأحادية القطبية الذي تمثله الولايات المتحدة كقوة عظمى (Super Power)، تسمو على غيرها من القوى وتبتعد عنهم بأشواط كثيرة. وقد كان من البدهي أن تحاول الدول التي تختلف مع واشنطن في التوجهات والرؤى أن تتفادى إظهار هذا الاختلاف على شكل مواجهة عسكرية، خاصة أن القوى العظمى عادة تتصرف من باب البحث عن أعداء إذا ما فقدت عدوها الأساسي كي تبقى مستنفرة لقدراتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية.

في تلك الفترة، ظهر العديد من التنظيرات في الداخل الأميركي، بعضها يقترح التحضير لمواجهة الخطر الأخضر (الإسلام)، وبعضها يقترح الاستعداد لمواجهة الخطر الأصفر (الصين). وقد كان من الطبيعي حينها ألا تثير الصين غضب الولايات المتحدة وأن تعمل على تهدئة مخاوفها وتطمينها، كي لا تقع في مصيدة التنظير الأميركي وتصبح الخطر الأول وتحل محل الاتحاد السوفياتي، فالصين غير قادرة على تحمل عبء مواجهة كهذه انطلاقا من توصيف يضعها في هذا الموقع.

مفهوم "الصعود السلمي" من التنظير إلى الإستراتيجية
العوامل المؤثرة في سياسة "الصعود السلمي"
الصعود السلمي للصين في الشرق الأوسط
مستقبل سياسة "الصعود السلمي" للصين



مفهوم الصعود السلمي من التنظير إلى الإستراتيجية


انشغلت القيادة الصينية طيلة فترة التسعينيات من القرن الماضي بالبحث عن وسيلة لتحييد نفسها عن الرادار الأميركي خاصة في الفترة بين حرب الخليج الثانية (1990-1991) وحرب يوغسلافيا (1999). وتوصل الصينيون فيما بعد إثر الحرب التي شنتها أميركا على أفغانستان (2001) والعراق (2003) إلى مفهوم الصعود السلمي.




ظهرت نظرية الصعود السلمي "للصين" في العام 2003، وصاغها آنذاك الإستراتيجي الصيني المستشار السياسي "زينغ بيجيان" الذي ورد اسمه في المرتبة 44 في قائمة أفضل 100 مفكر عالمي التي أصدرتها مجلة "فورين بوليسي" في ديسمبر/كانون الأول 2010
ظهرت نظرية الصعود السلمي "للصين" في العام 2003، وصاغها آنذاك الإستراتيجي الصيني المستشار السياسي "زينغ بيجيان" الذي ورد اسمه في المرتبة 44 في قائمة أفضل 100 مفكر عالمي التي أصدرتها مجلة "فورين بوليسي" في ديسمبر/كانون الأول 2010.

حاول "زينغ بيجان" من خلال طرحه لهذا المفهوم تطمين المجتمع الدولي إلى أن عودة الصين إلى الساحة العالمية لاعبا أساسيا لن تغير من هيكل النظام الدولي أو تهدد أمنه واستقراره كما يحصل في العادة عند بروز قوى دولية جديدة أو عودة قوى قديمة.

ثم جرى إعادة استخدام للمصطلح نفسه والمفهوم نفسه من قبل كل من الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني "هو جينتاو" ونائبه رئيس الوزراء "وين جياباو" في العام 2004، مقترحين أن يكون مفهوم "الصعود السلمي" مكونا رسميا من مكونات سياسة الصين الخارجية، وذلك في عدة مناسبات، لعل أبرزها دورة المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني في مارس/آذار من العام 2004، حيث اقترح أن يتضمن مفهوم "الصعود السلمي" الإشارة إلى خمسة عناصر رئيسية، هي:
• أن تستفيد الصين من السلام العالمي لتعزيز التنمية في البلاد، في مقابل أن تساعد هي على تحصين السلام العالمي من خلال ما تحققه من تنمية.
• الاعتماد على قدرات الصين الذاتية فقط وعلى الجهد الكبير والمستقل المبذول من قبلها.
• الاستمرار في سياسة الانفتاح والقواعد الفاعلة للتجارة الدولية والتبادل التجاري كضمان لتحقيق هذا الهدف.
• الأخذ بعين الاعتبار أن تحقيق هذا المفهوم "الصعود السلمي" سيتطلب أجيالا متعددة وسنين عديدة.
• أثناء السعي لتحقيق هذا الهدف، لن يتم الوقوف بطريق أي دولة أو تعريض أي دولة أخرى للخطر كما لن ينجز على حساب أي أمة.

النقاش الداخلي حول المفهوم
فتحت هذه النظرية نقاشا واسعا داخل الصين، إذ عارضت بعض الفئات استخدامها، فيما تحفظت أخرى عليها، ولا سيما تيار الرئيس "يانغ زيمين" أو ما يعرف بالتيار القومي البراغماتي، وذلك لأسباب عديدة أبرزها أن المفهوم يتضمن مصطلح "الصعود"، والإشارة إلى "الصعود الصيني" أمر قد يثير مخاوف الآخرين بحد ذاته بغض النظر عما إذا ما طرح من باب كونه سلميا أم لا.

واقترح هذا التيار في المقابل استبدال مفهوم "الصعود السلمي" بمفهوم "السلام والتنمية" الذي يعود في جذوره إلى الإستراتيجي الصيني "دينغ سياوبينغ" مهندس سياسة الانفتاح والتحديث الثقافي والاجتماعي والاقتصادي للصين المعاصرة منذ العام 1978، وهي السياسة الأولى التي دفعت الصين إلى المسرح العالمي ولا سيما من الناحية الاقتصادية.

من أقوال "دينغ" المأثورة "علينا أن نراقبَ بروية وأن نحصن موقعنا ونتعامل مع الأحداث بهدوء، وأن نخفي طاقتنا وننتظر وقتنا ونكون جيدين في المحافظة على البقاء بعيدا عن الأضواء، وألا ندعي القيادة مطلقا". ومن هذا المنطلق رأى التيار القومي البراغماتي أن توجه "دينغ" لا يزال يشكل أساسا متينا يجب الاعتماد عليه.

في المقابل أصر التيار القومي الواقعي أي تيار "هو جينتاو" على أنه لا داعي لإخفاء طموح الصين في الصعود على الساحة العالمية قوة كبرى، فالمهم ليس الحديث عن صعود الصين أو عدمه، لأن الجميع يستطيع أن يرى أن الصين تصعد اليوم في النظام العالمي وإن لم يكتمل سياق صعودها كليا بعد، لكن الأهم أن يتم إقناع القوى الرئيسية في النظام العالمي بأن الصعود الصيني لن يهدد موقعهم على الساحة العالمية أو مصالحهم القائمة.

ورغم ذلك، لم يقتنع البراغماتيون بمنطق الواقعيين، فاستبعد مفهوم "الصعود السلمي" لصالح المفهوم المقترح "السلام والتنمية" في النقاش الدائر في الأوساط الرسمية.

تحول مفهوم "الصعود السلمي" إلى سياسة رسمية
لكن مع خروج "يانغ زيمين" نهائيا من السلطة نهاية العام 2004، استتب الأمر لـ"هو جينتاو" وفريقه بشكل كامل، وسرعان ما عاد مفهوم "الصعود السلمي" إلى الواجهة، في إشارة واضحة إلى انتصار فريق الرئيس الجديد في النقاش الإستراتيجي حول المفهوم. تولى "زينغ" فيما بعد التسويق للمفهوم ومضمونه على المستوى الدولي، وقام بشرح وجهة النظر الصينية للعالم الغربي، خصوصا في مقال له نشر في مجلة "فورين أفيرز"  في سبتمبر/أيلول 2005، وحدد فيه  ثلاثة تحديات رئيسة ستواجه بكين في المستقبل، وهي:
• النقص في الموارد الأولية الوطنية اللازمة لإشباع حاجات البلاد في طريقها للصعود العالمي.
• الموازنة بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية بما لا يؤدي إلى فجوة تدفع الصين إلى الانهيار.
• التحدي البيئي الذي يشكل عقبة أساسية في وجه تحقيق التنمية الصينية المستدامة.
واعتبر "زينغ" أن مواجهة هذه التحديات لا يمكن أن تتم إلا من خلال:
• تجاوز النموذج القديم للتصنيع والعمل على تقديم نموذج صناعي حديث.
• تجاوز نماذج السيطرة الاجتماعية القديمة والعمل على بناء مجتمع متناغم.
• والأهم من ذلك كله تجاوز الطرق التقليدية لصعود القوى على المسرح العالمي واستبعاد عقلية "الحرب الباردة" التي أدت إلى تعريف العلاقات الدولية على أسس أيديولوجية، وهنا تأتي سياسة الصعود السلمي لتخدم هذا الغرض.

وقد قامت القيادة الصينية بعدها بالفعل باستخدام المفهوم رسميا لأول مرة في منتدى آسيا والمحيط الهادئ (APEC) الذي عقد في كوريا الجنوبية نهاية 2005، حيث شدد المسؤولون على أهمية الصعود السلمي في سياسة الصين وعلى أنها لا تزال دولة نامية تحتاج إلى الكثير لتتحول إلى قوة عالمية.






العوامل المؤثرة في سياسة "الصعود السلمي"


عندما تمت صياغة مفهوم "الصعود السلمي" كان الصينيون يعتقدون أنهم يحتاجون إلى 45 عاما على الأقل أي حتى العام 2050 حتى يصلوا إلى أن يكونوا دولة كبرى في النظام الدولي. لكن الانتقال السريع للقوة (Power Shift) من الغرب إلى الشرق في الثروة وفي النفوذ في السنوات القليلة الماضية أدى إلى حرق سريع للمراحل بما بدأ يؤثر على معادلة "الصعود السلمي"، ولا سيما فيما يتعلق بـ:
1- التسارع في انحدار القوة الأميركية بوتيرة أكبر مما كان متوقعا أيضا: فقد شهدت الولايات المتحدة منذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، تراجعا مهولا في قوتها على الصعيد العالمي، وقد كان من الواضح مع نهاية عهد بوش الإبن أواخر العام 2008 أن حروب أفغانستان (2001) والعراق (2003) قد اختبرت حدود القوة الأميركية، فقضت على ما بقي من الهيمنة الأميركية المباشرة وقوضت نهائيا مفاعيل القوة العسكرية التقليدية.





كانت الصين أثناء فترة الهبوط الأميركي تصعد بشكل متسارع وتحرق العديد من المراحل، مما خلق انطباعا بأن التحول ليس تدريجيا وأنه قد يؤدي إلى صدمة على الصعيد الدولي، وهو ما ترجمه البعض بالحديث عن "الخطر الصيني".

ونتيجة للخسائر العسكرية والمالية، حيث كلفت حرب العراق وحدها الولايات المتحدة أكثر من 3 تريليونات دولار استنادا إلى دراسة أجراها كل من "جوزيف ستيغلتز" من جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل للاقتصاد و"ليندا بلميز" من جامعة هارفرد، وقعت واشنطن في مأزق اقتصادي تبعته عاصفة الأزمة المالية العالمية التي أكملت على ما تبقى من قوة وسمعة للاقتصاد الأميركي ولمبادئ السوق الحرة والليبرالية الاقتصادية. وتبع الزلزال الاقتصادي هذا هزة دبلوماسية ضربت السياسة الخارجية الأميركية في الصميم (ويكيليكس)، ومن المتوقع لها أن تترك آثارا على الدبلوماسية الأميركية في العالم أقله على المدى القصير.

2- التسارع في الصعود الصيني بوتيرة أسرع مما كان متوقعا: فقد كانت الصين أثناء فترة الهبوط الأميركي تصعد بشكل متسارع وتحرق العديد من المراحل، مما خلق انطباعا بأن التحول ليس تدريجيا وأنه قد يؤدي إلى صدمة على الصعيد الدولي، وهو ما ترجمه البعض بالحديث عن "الخطر الصيني".

فعلى الصعيد الاقتصادي، تعد الصين صاحبة أعلى معدل للنمو في العالم خلال الـ30 سنة الماضية. وقد استطاعت بكين في الفترة الممتدة فقط من العام 2004 إلى 2010 تجاوز كل من الاقتصاد الفرنسي والإنكليزي والألماني لتحتل مكان اليابان في منتصف العام 2010 كثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية.
وقد نما إجمالي حجم الاقتصاد الصيني في هذه الفترة من 1.9 تريليون دولار إلى 5.4 تريليونات دولار، علما بأنه كان يبلع 309 ملايين دولار فقط عام 1980. وتعد الصين اليوم أكبر دولة مصدرة وأكبر دولة تجارية وثاني أكبر مستورد في العالم. وهي الدولة الأولى في العالم اليوم في تحقيق فائض تجاري، وفي تحقيق أكبر احتياطي نقدي، حيث نما من 167 مليون دولار العام 1978 إلى أكثر من 2 تريليون دولار نهاية العام 2009.

أما على الصعيد العسكري، فيلاحظ أن الصين قامت بتطوير جيشها ببطء، لكن بثبات، وقد ساعدت الفوائض المالية والقوة الاقتصادية للبلاد على تطوير الجيش وتحديثه بكفاءة عالية وإدخال الثورة في الشؤون العسكرية (RMA) في صلب العقيدة العسكرية، وتطوير جميع البرامج العسكرية، ومنها البرامج الصاروخية والفضائية والنووية، الدفاعية والهجومية على حد سواء، بالإضافة إلى تبني الإستراتيجيات اللاتناظرية (Asymmetric) وتطوير قدرات حرب الإنترنت والشبكات (Cyber War).

نشوة الصعود الصيني وإغراء القوة
هذا التسارع في الحالتين، الصعود الصيني السريع والانحدار الأميركي السريع بشكل أكبر من المتوقع لدى الطرفين، خلق نوعا من الثقة الزائدة لدى بعض الشرائح الصينية مصحوبة بالغرور، وأشعل في المقابل المخاوف لدى بعض الشرائح الغربية من خطورة الصعود الصيني والتهديد الذي ينطوي عليه.

وقد عزز من هذه المخاوف الأحداث اللاحقة التي شهدها العام 2010، واستعرضت بكين خلالها بعض مظاهر قوتها العسكرية والاقتصادية في قضايا شائكة شديدة الحساسية، لعل أبرزها:
- انزعاج جيران الصين لا سيما في منطقة بحر الصين الجنوبي وجنوب شرقي آسيا من سلوكها الذي يتضمن توظيف قوتها العسكرية في انتزاع الجزر والمناطق المتنازع عليها وتلك التي تضم الكثير من احتياطيات النفط والغاز.
- التصعيد الصيني مع اليابان العام الماضي، وردت فيه بكين على قيام طوكيو بتوقيف أحد بحارتها لاصطدامه بسفينة تابعة لخفر السواحل الياباني قرب جزر متنازع عليها بتصعيد الموقف والتهديد باتخاذ إجراءات تصعيدية ما لم يفرج عن القبطان، وهو ما حصل فعلا وجعل الكثير من اليابانيين يتهمون حكومتهم بالرضوخ للصين تحت التهديد والضغط.
- التوتر الدائم في العلاقات الصينية-الهندية على خلفية مناطق حدودية متنازع عليها بين البلدين، الذي أخذ بعدا آخر العام الماضي إثر رفض الصين إعطاء تأشيرة مرور لجنرال هندي، وهو ما فسره الهنود على أنه ازدراء لهم يعكس الغطرسة الصينية بما يهدد الوضع القائم ويثير المخاوف من القوة العسكرية الصينية واتجاهات استخدامها.
- تصاعد النزاع الأميركي-الصيني بشأن رفض الأخيرة رفع قيمة عملتها، علما بأن التوتر بين الطرفين يتصاعد دوما إذا ما دخلت قضية تايوان على الخط، ناهيك عن المخاوف الأميركية من تنامي القدرات الصينية الاقتصادية والعسكرية وانعكاساتها على وضعها العالمي.
- توفير غطاء سياسي ودبلوماسي غير مباشر لكوريا الشمالية في الاعتداء الذي تم أواخر العام الماضي، إذ إن بكين هي الطرف الوحيد الذي رفض إدانة بيونغ يانغ إثر قيامها بقصف مناطق تابعة لكوريا الجنوبية.





تشير الوقائع إلى أن أبرز المتأثرين بالنشوة وشعور القوة في الصين هم طبقة القوميين التقليديين أو الصقور ولا سيما العسكريين منهم، إذ سبق أن دعا العقيد في الجيش الصيني "ليو مينغفو" في كتابه الذي صدر في العام 2010 تحت عنوان "الحلم الصيني" إلى أن تتخلى الصين عن تواضعها فيما يتعلق بأهدافها على الساحة العالمية

نظرة صقور التيار القومي الصيني

تشير الوقائع إلى أن أبرز المتأثرين بالنشوة وشعور القوة في الصين هم طبقة القوميين التقليديين أو الصقور ولا سيما العسكريين منهم، إذ سبق أن دعا العقيد في الجيش الصيني "ليو مينغفو" في كتابه الذي صدر في العام 2010 تحت عنوان "الحلم الصيني" ويقع في 303 صفحات إلى أن تتخلى الصين عن تواضعها فيما يتعلق بأهدافها على الساحة العالمية وأن تتحدى الولايات المتحدة على الزعامة العالمية.

وقد حمل الكتاب نبرة قوية ومتشددة عكست الطموحات القومية المتصاعدة، إذ يتحدث العقيد، وهو أستاذ في الكلية العسكرية أيضا، بشكل مكشوف عن هدف الصين الكبير في القرن الحادي والعشرين في أن تصبح القوة رقم واحد في العالم، وأن الوقت الآن مناسب جدا لتحقيق هذا الهدف، على اعتبار أنه "إذا لم تتمكن الصين في القرن الحادي والعشرين من أن تكون رقم واحد في العالم وأن تكون القوة العظمى فإنها ستصبح حتما مهمشة"، وأن "التنافس بين البلدين إنما هو في حقيقة الأمر صراع حول من يسقط ومن يصعد للهيمنة على العالم، وأن ذلك سيحصل حتى لو تحولت الصين إلى دولة أكثر رأسمالية من الولايات المتحدة نفسها، حيث ستسعى الأخيرة دوما إلى احتواء الأولى".

والحقيقة أن هذه الدعوة ليست جديدة على الساحة الصينية، خاصة فيما يتعلق بضرورة تحديث القدرات العسكرية للصين والسيطرة أقله على منطقة شرق آسيا. ولا يعبر العقيد في كتابه هذا أو دعوته تلك عن نفسه فقط، إذ من الواضح أن هذه الطبقة تكتسب نفوذا يوما بعد يوم داخل الصين في سياق دأب البعض على المطالبة به كلما ظهرت قدرات الصين بشكل أكبر.

إذ تعد دعوة العقيد الصيني في هذا السياق امتدادا لدعوة مماثلة كان أطلقها أيضا عسكريان متقاعدان في الجيش الصيني في التسعينيات عبر كتاب يحمل عنوان "الحرب غير المقيدة" بعدما كان الانتصار الأميركي الساحق في حرب الخليج الثانية بمنزلة الإنذار للكثير من الدول التي ليس باستطاعتها مواجهة القوة العسكرية الأميركية بشكل مباشر، والدافع إلى إيجاد طرق وبدائل مختلفة للمواجهة، وهو ما أدى بدوره إلى ولادة القدرات اللاتناظرية للصين (Asymmetric Capabilities).






الصعود السلمي للصين في الشرق الأوسط


الحقيقة أن معظم النقاش الذي يدور بشأن مخاطر الصعود الصيني إنما يرتبط بشكل أساسي ورئيسي بمنطقة شرق آسيا، وبالعلاقة مع واشنطن. في المقابل، ليس هناك إلى الآن ما يوحي بانعكاسات سلبية للصعود الصيني أو تجليات "لخطر الصعود الصيني" على منطقة الشرق الأوسط على سبيل المثال، مع ملاحظة أن دور الصين في منطقة الشرق الأوسط آخذ في الاتساع، لا سيما بعد الأزمة المالية العالمية.




معظم النقاش الذي يدور بشأن مخاطر الصعود الصيني إنما يرتبط بشكل أساسي ورئيسي بمنطقة شرق آسيا، وبالعلاقة مع واشنطن. في المقابل، ليس هناك إلى الآن ما يوحي بانعكاسات سلبية للصعود الصيني أو تجليات "لخطر الصعود الصيني" على منطقة الشرق الأوسط على سبيل المثال
وتنظر دول المنطقة في مجملها إلى الصعود الصيني في المرحلة الحالية من زاوية إيجابية ترتبط بإعادة هيكلة النظام العالمي بما يعيد تحقيق التوازن في العلاقات الدولية ويتيح لدول المنطقة الانفتاح على المزيد من اللاعبين الدوليين، بالإضافة إلى كونها تنظر إلى الصين أيضا كسوق حالي ومستقبلي كبير لمنتجاتها، سواء من النفط ومشتقاته أو كملجأ آمن لرؤوس الأموال والاستثمارات.

تخطت الصين في العام 2009 مركز الولايات المتحدة كأكبر مصدر لمنطقة الشرق الأوسط، كما ارتفع حجم التبادل التجاري بين الصين ودول المنطقة من 62 مليارا عام 2005 إلى 118 مليار دولار عام 2009، أي أنه تضاعف تقريبا في أربع سنوات فقط. ورغم أن هذا التوسع الصيني في الشرق الأوسط إنما يرتبط بالأساس بحاجات بكين من النفط والموارد الأساسية من أجل الحفاظ على معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادي الذي هو الركيزة الأولى والأساسية في صعودها على المسرح العالمي، بدأ مؤخرا يتعدى ذلك إلى ميادين أخرى اقتصادية وسياسية بل وحتى عسكرية.

أولا: سياسيا
عززت الصين من تعاونها مع التجمعات الإقليمية، ولا سيما من خلال اللقاءات السنوية مع الجامعة العربية (المنتدى العربي-الصيني) ومع مجلس التعاون الخليجي (لقاء الحوار الإستراتيجي الخليجي-الصيني). ولم تكتف بكين بعلاقات مميزة مع الدول الصديقة تقليديا كإيران والجزائر، وإنما عملت جاهدة على تحسين علاقاتها مع مختلف القوى الإقليمية، وفي مقدمتها الدول الحليفة لأميركا كمصر والسعودية وتركيا، فوقعت معها جميعا اتفاقيات شراكة وتعاون إستراتيجي سنة 2006 و2009 و2010 على التوالي.

وبدا واضحا من خلال هذا التحرك أن الصين تهدف إلى:
• تأمين الإمدادات النفطية في منطقة الخليج التي تضم حوالي 50% من حجم الاحتياطيات العالمية من النفط، والانفتاح على علاقات متوازنة بين إيران والسعودية للتمكن من المساعدة على تحقيق الاستقرار في المنطقة.
• الانفتاح على العرب وعلى القضايا العربية بشكل أكبر بما لمصر من مكانة ودور أيضا في عملية السلام والنزاع العربي الإسرائيلي.
• التعاون مع قوة إقليمية صاعدة بوزن عالمي (تركيا) قادرة على تسهيل آفاق الصين في وسط آسيا وفي المنطقة العربية وفي أوروبا.
لكن أكثر هذه العلاقات جدلا كان الانفتاح الصيني على إسرائيل بهدف الحصول على التكنولوجيا المتطورة في مجال الصناعة والزراعة وفي المجال العسكري على وجه الخصوص. وقد أدت هذه العلاقة وبيع تل أبيب تكنولوجيا عسكرية أميركية متطورة إلى بكين إلى توتر في العلاقات الإسرائيلية-الأميركية خاصة في العام 2005.
ولعل الدول العربية شعرت بمدى التقدم في العلاقات الصينية-الإسرائيلية عندما رفضت بكين التوقيع في العام 2010 على وثيقة مشتركة تعد القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المقبلة، وذلك في أعمال الدورة الرابعة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون العربي الصيني.

ثانيا: عسكريا
تعد مبيعات الأسلحة الصينية لدول المنطقة الأقل مقارنة بأميركا وروسيا وفرنسا وبريطانيا، كما أن الوجود العسكري والأمني الصيني في المنطقة يكاد يكون معدوما، لكن بدا واضحا في الآونة الأخيرة أن الصين تعمل جاهدة لتعزيز التعاون العسكري والتواجد الأمني لها في دول المنطقة، بما يتناسب مع صعودها العالمي ونفوذها الاقتصادي، إذ قامت بكين بتمويل بناء قاعدة بحرية في ميناء غوادر الباكستاني المطل على بحر العرب والقريب من مدخل الخليج العربي ومضيق هرمز لاستخدامه في مراقبة وتأمين الملاحة خاصة الواردات النفطية، كما أعلنت في نهاية العام 2009 عن نيتها دراسة إمكانية إقامة قاعدة بحرية دائمة لها في خليج عدن بما يسهل عملية مكافحة القرصنة في المنطقة، كما عللت.

وفي أواخر 2010، أعلنت بكين عن إرسالها موفدين عسكريين لزيادة التعاون العسكري ومبيعات الأسلحة لكل من الأردن وسوريا والإمارات، خاصة بعد نجاح بعثات مماثلة إلى كل من تونس وقطر والكويت وعمان، والأهم زيادة التعاون العسكري مع مصر والسعودية. ورغم أن الصين تتحرك في منطقة نفوذ أميركية، فإنها تعي تمام كما يبدو مدى أهمية الاستقرار في مناطق تدفق النفط والدور الأميركي في تأمين ما يلزم من أجل ذلك. كما أن الولايات المتحدة لا تعارض دورا صينيا أكبر بما يخدم أهدافها من حيث المشاركة في تحمل الأعباء المالية والأمنية، حيث يلزم ذلك، دون أن يعني غض الطرف وإنما المراقبة عن كثب.






مستقبل سياسة "الصعود السلمي" للصين


رغم الحالات التي أشرنا إليها سابق ولا سيما فيما يتعلق بمنطقة شرق آسيا، لا تزال سياسة "الصعود السلمي" هي السياسة الرسمية المعتمدة في الصين والتي يشدد القادة الصينيون دوما على أنها الخيار الإستراتيجي لبلادهم. عمليا، المسألة أكثر تعقيدا من ذلك ولا سيما مع مرور الوقت في ظل التقدم الصيني والتراجع الأميركي.

هناك احتمال أن تغري القوة الصين لكسر حلقة الصعود السلمي، وبالتالي فرض مواجهة على النفط مع الولايات المتحدة أو القوى الأخرى في مناطق التماس، كشرق آسيا، وهي الدول الحليفة لأميركا، أو في وسط آسيا وجنوبها أو في الشرق الأوسط. وهناك احتمال أيضا بأن تجاري الصين النظام العالمي القائم فلا تحاول أن تغير فيه من موقع القوي وإنما تتأقلم مع القوى الأخرى للتعامل معه بما يتناسب مع انتقال القوة من الشرق إلى الغرب دون صدام. ولكن كلا الاحتمالين يعتمدان على عاملين أساسيين:
الأول: يتعلق بتوازن القوى داخل الطبقة السياسة والعسكرية والاقتصادية الصينية الحاكمة، ولا سيما العلاقة بين السياسيين والعسكريين، فمؤسسة الجيش كانت ولا زالت لاعبا أساسيا في صنع السياسة الخارجية الصينية والتأثير عليها، ومن الواضح أنه مع ازدياد قوة الصين وارتفاع مخصصات الموازنة الدفاعية سنويا، هناك نزعة لدى بعض الشرائح القيادية في الجيش للخروج عن الحدود التي رسمتها سياسة الصعود السلمي بوصفها تحد من قدراته، فيما لا يزال السياسيون متمسكين بها خيارا إستراتيجيا.

أما الثاني: فهو يرتبط بالطريقة التي سيتعامل بها العالم ولا سيما الأميركيون مع هذا الصعود الصيني، وهو ما قد يدفع إلى الاحتواء والاستيعاب أو إلى المواجهة والصدام، إذ يبدو جليا أن هناك تيارات داخل واشنطن لا تزال تفضل أن تتعامل مع الصين على أساس أنها "العدو القادم" أو "المنافس الخصم الذي ينتظر اللحظة المناسبة للانقلاب" على أفضل تقدير، فيما يدعو آخرون إلى التعامل معها شريكا من الممكن أن يساعد بشكل فاعل على حل المشاكل في النظام الدولي بشكل أفضل مستقبلا.
_______________
باحث في العلاقات الدولية





نبذة عن الكاتب