أسس ومرتكزات سياسة أوباما الخارجية في ولايته الثانية (1-2)

ما هي حدود الاستمرارية والتغير في ولاية الرئيس الأميركي الثانية تجاه ملفات الشرق الأوسط الحساسة؟ وكيف ستؤثر الاستراتيجية الأميركية الجديدة بالتحول ناحية آسيا والباسيفيك في التوازنات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط؟ وما تداعيات التغيرات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة العربية على السياسة الخارجية الأميركية؟
201313175217704734_20.jpg
الرئيس الأميركي باراك أوباما يحيي الجمهور أثناء احتفالات فوزه بفترة رئاسية ثانية (الأوروبية)

في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، رسم الرئيس جورج بوش وفريقه الأمني مسارا جديدا للسياسة الخارجية حُددت معالمه للقضاء على التهديدات الصادرة عن أطراف دولية أو غير دولية تتحدى الدور الأميركي الرائد في النظام الدولي. على هذا النحو أبدت الولايات المتحدة استعدادها للمضي قدما في طريق دحر نوع جديد من الأعداء، لا يردعه تهديد الاعتقال ولا تكبله القيود الإنسانية العملية، واستعدت لشن حرب شاملة على كافة الأعداء، حقيقيين كانوا أو متخيلين.

لقد اعتمدت "أجندة بوش" على امتلاك أحادي للقوة الشاملة لحماية الأراضي الأميركية، وتدعيم هيمنة الولايات المتحدة عالميا، ورسم تغير اجتماعي وسياسي في الشرق الأوسط العربي. وبكلمات بوش فإن هذه الإستراتيجية "مثالية لأن الحرية هبة من الرب العظيم، وهي في ذات الوقت واقعية لأن الحرية هي أفضل طريقة عملية لحماية أمتنا في الأجل الطويل".

وقد حاول باراك أوباما رسم مسار جديد للسياسة الخارجية الأميركية، وذلك عقب سنوات عاصفة من إدارة بوش، تركت الولايات المتحدة على شفا انهيار مالي، ووسعت فجوة عدم الثقة والعداء بين الشعوب والمجتمعات الإسلامية والولايات المتحدة. ولفهم سياسة أوباما الخارجية تجاه العالم العربي والنظام الدولي بصفة عامة، حري بنا أن نفهم رؤيته العالمية، وكيف ينظر لدور بلاده في العالم. وبوسعنا من خلال إلقاء الضوء على هذه الرؤية أن ندرك منهجه تجاه الشؤون الخارجية.

لعل أهم المفاهيم التي يجب تلمسها في رؤية أوباما العالمية تكمن في أنه على عكس سلفه بوش، الذي اعتنق "أجندة الحريات"، قد أمسك عن طرح رؤية لسياسة خارجية توسعية، وفضل أن يلتزم بالاعتبارات العملية والظروف المتغيرة. فعندما سئل في نهاية فترة رئاسته الأولى في البيت الأبيض عن توصيف "مبدأ أوباما"، أجاب: "هو قيادة أميركية تعترف بنهضة دول مثل الصين والهند والبرازيل؛ أي قيادة للولايات المتحدة تدرك أبعاد حدودنا من حيث الموارد والقدرات".

ولا تعتمد طريقة أوباما الجديدة على القيم الأخلاقية المجردة، أو القوة العسكرية الغاشمة، بل على العلاقات والمصالح المشتركة مع الأمم الأخرى، وفي ذلك يقول أوباما: "لنتذكر أن الأجيال السابقة لم تسقط الفاشية والشيوعية بالصواريخ والدبابات فقط، بل بالتحالفات المتينة والقناعات البينية المستديمة، وأعداؤنا يفهمون أن قوتنا وحدها لا تستطيع حمايتنا، ولا تخول لنا القيام بما نريد". على هذا النحو فإن أوباما واقعي، لا مثالي، حين امتنع عن استخدام القوة والتدخل العسكري لدعم القيم الليبرالية الدولية.

وبعد مرور أربع سنوات الآن، حان الوقت للسؤال: هل نجحت واقعية أوباما في التغلب على الميراث المرير لعلاقة أميركا بالعالم العربي والشرق الأوسط؟

سياسة أوباما الخارجية: طريق واضح أم نهاية مميتة؟

ورغم تفوق أوباما في إلقاء خطابات آسرة، والنأي بنفسه عن نهج سلفه بوش، إلا أنه لم يطرح رؤيته الخاصة للسياسة الخارجية. ويرثي المحافظون نهج إدارة أوباما معتبرين إياه نهجا انهزاميا يقوم فقط على رد الفعل. بل إن نيال فيرجوسون، أحد نقاد المحافظين، اتهم الرئيس الأميركي بممارسة الازدواجية بعرضه سياسة خارجية في خطبه، وممارسة سياسة أخرى في أفعاله. علاوة على ما سبق، تبدو الأجواء ملبدة بغيوم خيبة أمل الليبراليين بسبب عدم قدرة أوباما على إنهاء حروب وجراح الحادي عشر من سبتمبر الموروثة من حقبة بوش، بما في ذلك إغلاق السجن الحربي الأميركي في خليج جوانتنامو، وإعادة آمنة للقوات الأميركية إلى البلاد. وكذلك وجه آخرون، أمثال روبرت كاجانو و زبيغنيو بريجنسكي، لومهم لأوباما لعدم تقديمه أية خطط واضحة للغد.

ويرد مساعدو أوباما في البيت الأبيض بأن نقاد اليسار واليمين يتجاهلون أن الرئيس الأميركي سياسي مناهض للأيديولوجية ويهتم في المقام الأول بالجوانب العملية. ويقول هؤلاء إن أوباما يدرك أن عالم ما بعد الحرب الباردة معقد، ويتطلب اتجاهات خاصة مصممة لكل موقف. كما يذهبون إلى أن أوباما، خلافا لسلفه، يركز على الفعالية البيروقراطية والاعتدال والتعقل، أكثر من تركيزه على الأيديولوجيا وتأكيد ما تتمتع به قوة الولايات المتحدة من قدرات استثنائية.

ضبط العلاقة مع العالم الإسلامي: خطاب القاهرة

كان أوباما طوال سنواته الأربع الأولى في الحكم يكرر التزامه بالتقارب مع المسلمين وتغيير مواقفهم السلبية تجاه الولايات المتحدة. وكان الرئيس الأميركي الجديد يكرر مرة بعد أخرى أن "الولايات المتحدة ليست، ولن تكون أبدا، في صراع مع الإسلام". وفي جهوده المبكرة للتقارب مع العرب والمسلمين عقب تنصيبه مباشرة، منح أوباما أول مقابلة تليفزيونية له لقناة "العربية".

وفي خطابه بجامعة القاهرة في يونيو/حزيران 2009 لمس أوباما التحديات الحرجة، وطرح طريقة جديدة لإدارة العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي. وعندما انطلق أوباما في فترته الرئاسية الأولى، كان عليه أن يصلح الدمار الذي ألحقته إدارة بوش بعلاقة الولايات المتحدة بالمسلمين على مستوى العالم. وحاول أوباما تغيير الصورة النمطية التي شكلتها زيارات متتابعة لرؤساء أميركيين إلى الشرق الأوسط، كانوا يأتون ليتكلموا، لا ليسمعوا، وكانوا ينظرون للإقليم دائما من منظور الحرب الباردة، والممارسات الجيوبوليتيكية، وإسرائيل، والحرب على الإرهاب لاحقا.

وقد أدرك أوباما أن هذا الإرث الذي أضعف وضع أميركا في المنطقة لا يمكن السكوت على استمراره، وحاول أن يستغل سلطة الوعظ الرئاسي لوقف الخسائر الأميركية وبداية إعادة القوات الأميركية للبلاد. لقد كان الرؤساء السابقون على أوباما يقعون في الخطأ الشائع حين أعرضوا عن التمييز بين الوجوه المختلفة للإسلام السياسي، معتنقين الاتجاه الاختزالي الأسهل بوضع كل الإسلاميين في سلة واحدة. لقد نظر هؤلاء الرؤساء إلى الإسلاميين المعتدلين والجهاديين من خلال منظور القاعدة فقط. وقد خدم هذا خطة بن لادن بتصوير كل أشكال الأصولية الإسلامية، بداية من حماس والإخوان المسلمين، على أنها مرادفة للجماعات الجهادية المسلحة التي تتبنى أيديولوجية هامشية شمولية عنيفة، مكرسة للتدمير العشوائي وإخضاع العالم وهزيمة الغرب.

وفي ظل هذا السياق المتقلب والمستقطب، كان مسار أوباما الجديد للتعامل والتعايش والتصالح بين المسلمين في الشرق والمسيحيين في الغرب، نقطة انطلاق كبيرة بعيدة عن إدارة بوش. حيث أثارت البلاغة الخطابية الجديدة للتواضع والشراكة في خطاب أوباما في القاهرة توقعات بأنه سيغير من سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط.

إستراتيجية الأمن القومي في 2010

رغم أن أوباما تحفظ على إعلان مبدأ سياسي باسمه، إلا أنه كان يستخدم إستراتيجيته للأمن القومي كما فعل بوش لصياغة إستراتيجية للسياسة الخارجية. ولقد نادت إستراتيجية أوباما بإعادة التوازن بين التزامات أميركا العالمية بعيدا عن الحروب في العراق وأفغانستان، والتي صرفت البلاد عن التحديات الأكثر إلحاحا للقرن الحادي والعشرين في آسيا والمحيط الهادئ.

ولقد فطن أوباما إلى أن العالم يشعر بالسخرية من تبشير أميركا بالديمقراطية، حيث قال بتواضع: "يجب علينا أن نعزز قيمنا بتوطينها في الداخل أولا وقبل كل شيء". ويُعرِّف أوباما تلك القيم الأميركية بأنها تلك "التي تشترك فيها جميع الشعوب، وتسعى إليها كافة جموع الإنسانية". وعلى عكس إستراتيجيات الأمن القومي لبوش في 2002 و2006، خصص أوباما جزءً هاما من إستراتيجيته لتقوية أميركا في الداخل.

أوباما وأزمة الشرق الأوسط

ميز أوباما نفسه عن العديد من رؤساء بلاده السابقين بالاستشهاد بالقرآن، والتحدث صراحة عن معاناة الشعب الفلسطيني، وهو أول رئيس أميركي يربط تأسيس الدولة الفلسطينية بالمصالح الإستراتيجية الأميركية. وبالرغم من أنه لم يقدم تفاصيل رؤيته لحل الدولتين حتى الآن، إلا أنه أظهر تماما أن الولايات المتحدة لن تقبل شرعية استمرار المستوطنات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلة.

وفي ذلك يقول أوباما "يجب على الإسرائيليين أن يعترفوا بأنه كما لا يمكن إنكار حق إسرائيل في الوجود، لا يمكن إنكار حق فلسطين أيضا". وهذه الكلمات القوية التي أطلقها رئيس أقوى دولة في العالم وأهم دولة راعية لإسرائيل يمكن أن يكون لها تأثير كبير إذا تبعتها أعمال ملموسة. ولكن اللوبي الموالي لإسرائيل، الذي له تأثير كبير على السياسة الأميركية، هاجم أوباما على التمادي في الضغط على الحكومة اليمينية بقيادة بنيامين نتنياهو، ونددت الأصوات المؤيدة لليكود، والمتشددون الموالون لإسرائيل في الولايات المتحدة بخطاب القاهرة باعتباره "تراجعا عن تحالف الولايات المتحدة الإستراتيجي مع إسرائيل".

وبالرغم من أن سياسة أوباما الخارجية كانت حذرة وتراكمية وليست تحولية، إلا أنها كانت تتمتع بإمكانات تحقيق نتائج نوعية، بالرغم من أن أوباما فشل في التعهد بالاهتمام الكامل بالمنطقة واستثمار رأس المال السياسي المحلي الثمين في ولايته الأولى. ولا عجب إذن في أن عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية كانت أكبر فشل سياسي لأوباما، إذ إن ظهور حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية القوية في انتخابات 2009 قد أوقف أية خطوات حقيقية نحو السلام. فنتنياهو وشركاؤه الأكثر تشددا في التحالف لا يعترفون بالحاجة إلى أية تسوية سلمية مع الفلسطينيين. وبالرغم من أن نتنياهو التقى أوباما عدة مرات في واشنطن، إلا أنه رفض الاستماع إلى الرئيس الأميركي أو إلى وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون عن ضرورة تجميد الاستيطان.

ولم يستغل أوباما سلطته الرئاسية الاستثنائية، ولم يستغل الأحداث الطارئة في الشرق الأوسط، لتحقيق الأمل والتغيير في تعامل الولايات المتحدة مع هذا الإقليم. ونظرا لإعاقة جماعات المصالح الخاصة الراسخة، والإرث المتراكم من فترة بوش الابن، لم يكن أوباما قادرا على تحويل وعوده إلى سياسات ملموسة. وبالرغم من أن الواقعيين لا يؤمنون بأن السياسة الداخلية تلعب دورا في نظرية العلاقات الدولية، إلا أن إسرائيل ومؤيديها في الولايات المتحدة مارسوا تأثيرا كبيرا على صناعة السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط.

مت رومني وانتقاد أوباما

بينما كانت حملة الانتخابات الرئاسية في 2012 تتقدم، كان المرشح الرئاسي الجمهوري مت رومني ينتقد السياسات الخارجية للرئيس أوباما بصورة متزايدة خاصة في الشرق الأوسط الكبير. فمثلا، أكد رومني أن إعادة انتخاب أوباما ستؤدي إلى امتلاك إيران للسلاح النووي، بالرغم من أنه لم يشرح كيفية حدوث ذلك ولم يقدم إستراتيجية مختلفة.

وبالنسبة لسوريا، انتقد رومني أوباما لعدم اتخاذ "خطوات أكثر جدية" للإطاحة بالرئيس بشار الأسد، مضيفا أنه ليس "مهتما باستخدام القوة العسكرية هناك". واتهم رومني أوباما أيضا بأنه كشف عن أوراقه دون مواربة حين أعلن جدولا زمنيا لسحب القوات الأميركية من أفغانستان.

وفي الواقع، لم يخرج أوباما عن الإجماع في السياسة الخارجية لواشنطن، إذ إن منهجه في السياسة الخارجية يتسق مع منهج الجمهوريين المعتدلين. وهو هنا مثله مثل وزراء الخارجية جيمس بيكر، هنري كيسنجر، وجورج شولتز، يفهم جيدا حدود القوة الأميركية، ويتخذ موقفا هو الأكثر وضوحا على الإطلاق في معارضته لتقديم التزامات عسكرية غير مشروطة في الخارج.

وطوال فترة رئاسته، كان أوباما يهدف إلى الحفاظ على الوضع القائم مع بعض التصويبات الصغرى القليلة. ورغم أنه عالج بعض أسوأ التجاوزات الأيديولوجية للسياسة الخارجية لإدارة جورج بوش، إلا أنه لم يتمكن في المسار التصحيحي إلا من إعادة الولايات المتحدة إلى موقع وسطي حذر.

وبالرغم من أن العلاقات بين الولايات المتحدة والعرب والمسلمين لم تعد مستقطبة ومسممة كما كانت دائما في حقبه سلفه بوش، إلا أن بنية العلاقة في عهد أوباما لم تتغير. فقد كانت إدارة أوباما غير راغبة وغير قادرة على تحقيق تغير جذري، خاصة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وهناك نقطة أخرى يجب التركيز عليها، وهي أن الشرق الأوسط لا يمثل أولوية في أجندة السياسة الخارجية لأوباما. فقد حولت هذه الإدارة سياستها الخارجية وأولوياتها الاقتصادية إلى منطقة المحيط الهادئ وآسيا، حيث يعتقد أوباما ومساعدوه أن مستقبل أميركا يكمن هناك.

والحقيقة أن إدارة أوباما خفضت من التزاماتها مع الدول العربية غير المنتجة للنفط، واعتمدت على حلفائها الإقليميين والأوروبيين لمشاركتها في حمل عبء ومسؤوليات الحفاظ على النفوذ الغربي. وبالرغم من أن البلاغة الخطابية لأوباما أعطت الانطباع بزيادة المشاركة والارتباط الأميركي بالإقليم، إلا أن أولويات سياسته الخارجية كانت تكمن في مكان آخر، حيث القوى الصاعدة في المحيط الهادئ. ولكن مع نهاية الفترة الأولى لأوباما في البيت الأبيض، شهد العالم العربي ثورات شعبية أرغمت باراك أوباما على أن يصبح أكثر اهتماما بالإقليم دون رغبة منه.
__________________________________
فوَّاز جرجس - أستاذ العلاقات الدولية ومدير مركز "الشرق الأوسط" في مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. من أحدث مؤلفاته "أوباما والشرق الأوسط: هل نحن بصدد نهاية اللحظة الأميركية؟".

نبذة عن الكاتب