في 20 أغسطس/آب 2012، أعلن التلفزيون الحكومي الإثيوبي وفاة ملس زيناوي، بعد أن استمر في السلطة فترة من أطول الفترات التي يقضيها رئيس وزراء في الحكم في إفريقيا. وخلفت وفاته عواقب كبيرة على المستويين الوطني والإقليمي، فخلال الإحدى والعشرين سنة التي أمضاها في السلطة كان يحكم بقبضة من حديد، وتمكن بشكل فعال جدا من الاستحواذ على كل منافذ السلطة عن طريق وضع ضوابط مشددة على الاقتصاد، وقمع الحريات السياسية والاجتماعية والعرقية والدينية. وأدى نهجه الموسوم بالاستبداد إلى زرع بذور عدم الاستقرار في النظامين السياسي والاجتماعي، وبتكميمه لأفواه المعارضة السياسية فتح زيناوي الباب أمام تنامي المظالم العرقية مما يهدد بتقسيم البلاد، وبما أن المعارضة السياسية، التي تم نفي جل عناصرها خارج البلاد من قبل زيناوي، لا تزال ضعيفة ومنقسمة فإن حزب جبهة تحرير شعب تيغري سيظل يتمسك بزمام انتقال السلطة وسوف يعتمد بشكل متزايد على القمع للحفاظ على السلطة في ظل تنامي مطالب الفئات العرقية والدينية بالمزيد من السلطة السياسية.
مع وفاة زيناوي، توقعت المعارضة أن تكون فرصة التغيير السياسي قد أزفت، إلا أن احتمال حدوث ذلك في أي وقت قريب ضئيل للغاية, كما أن ثمة إلحاحا في أوساط الشعب الإثيوبي في وجود قيادة قوية تضمن السلام والاستقرار للبلد، ويعتقد على نطاق واسع أن إثيوبيا منقسمة لدرجة أن أي تغيير سياسي كبير لن يتم دون المخاطرة بجر البلاد إلى اضطرابات كبيرة، وعلى الرغم من سجله المروع في مجال حقوق الإنسان فإن الدول الغربية ظلت تنظر لزيناوي بوصفه أحد ركائز جهودها لمكافحة الإرهاب في منطقة القرن الإفريقي؛ و بالتالي هذا ما جعل إثيوبيا تصبح أكبر متلق للمساعدات الغربية في إفريقيا. لكن يبدو أن الدعم الغربي للنظام الإثيوبي بدأ يأخذ منحا جديدا بعد أن اختارت هذه الدول محاربة الإرهاب في عقر داره من خلال تقديم المساعدة المالية والعسكرية مباشرة لحكومات مثل الحكومة الصومالية.
ومع تزايد الاضطرابات السياسية والعرقية في البلاد، فمن المحتمل أن تقوم إثيوبيا بتحريك قواتها من الصومال والسودان لقمع المعارضة في الداخل. وفي الوقت الذي أدى فيه خبر وفاة زيناوي في البداية إلى خلط الأوراق السياسية في القرن الإفريقي، يبدو أن حراكا سياسيا محموما بدأ ينشط وبخطى متسارعة لملء الفراغ الذي خلفه ذلك الغياب، بل ثمة من يذهب لحد الادعاء بأن السياسة في القرن الإفريقي بدأت تستقر نتيجة موت زيناوي.
جبهة تحرير شعب تيغري وزوال زيناوي
تبين في الأسابيع التي سبقت وفاة زيناوي وانتشار الشائعات عن حالته الصحية المتدهورة أنه كان مركز كل السلطات، وظلت السلطات الإثيوبية مترددة في توضيح حالته الصحية الحقيقية, واكتفت بتقديم معلومات شحيحة ومتناقضة أحيانا, لكن الشائعات أصبحت أقوى بعد تخلف رئيس الوزراء عن سلسلة من الأحداث العامة، كان أبرزها مناقشة البرلمان للميزانية في الثامن من يوليو/تموز 2012، وكذلك مؤتمر قمة الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا في منتصف نفس الشهر. وبينما بدأ زيناوي في التواري عن أنظار الجمهور تزايدت التكهنات بشأن المستقبل السياسي للبلد في حال وفاته، إذ كان يهيمن على جبهة تحرير شعب تيغري، وهي الحركة التي جعلت حدا لسبعة عشر عاما من حكم منغستو هيلي مريم والتي تعتبر الطرف الأهم في ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية الحاكم. وقد أحاط زيناوي نفسه بشخصيات قوية وذكية توحدها أيديولوجية ماركسية راديكالية، وهو ما مكنه في البداية من خوض غمار ملحمة جبهة تحرير شعب تيغري وفي وقت لاحق السياسة الإثيوبية. كما انتهج سياسة قص أجنحة القادة القلائل الذين كانت لديهم قاعدة سياسية صلبة والترويج فقط لأولئك الذين تأكد من ولائهم الراسخ والذي لا يتزعزع لشخصه والذين يعتمدون كليا في بقائهم في الواجهة على حسن نيته هو، ومن تلك الشخصيات هيلي ماريام ديسالين الذي حل محل زيناوي رئيسا للوزراء وزعيما لجبهة تحرير شعب تيغري.
كان زيناوي يحتكر جهاز الدولة بأكمله باستثناء الجيش والأجهزة الأمنية التي تعمل وكأنها دولة داخل الدولة، شبه مستقلة تماما عن الحكومة. ومنعت القبضة الحديدية التي كان زيناوي يمسك بها تلابيب الدولة الإثيوبية من ظهور أي منافس سياسي ذي مصداقية وبرزت العواقب الوخيمة لذلك بشكل جلي بعد انتشار شائعات سوء حالة زيناوي الصحية. وأصرت السلطات الإثيوبية على التلكؤ في الكشف عن سوء حالة رئيس الوزراء الصحية أولا لأنه لا وجود لآلية مؤسسية تفتح الباب أمام تسليم صلاحيات زيناوي التنفيذية لطرف آخر بعينه، كما أنه لا توجد أي خطوط اتصال واضحة بين الحكومة والشعب.
وقد تمكن زيناوي بفضل ضعف المعارضة وتشتتها من ترسيخ نظام الحزب الواحد وجعل نفسه بؤرة التركيز في هذا الحزب. وظهرت التصدعات في حكمه المطلق في العام 2001 عندما تحدى مسؤولون كبار وقدامى محاربين حكمه بعد حرب 1998-2000 مع إريتيريا متهمين إياه بالتساهل مع الأريتيريين. وتفاقم السخط الداخلي مرة أخرى خلال الانتخابات العامة التي جرت في العام 2005 عندما تعرضت هيمنة حزب جبهة تحرير التيغري لتحد خطير من جانب المعارضة التي اتحدت لمواجهة الحزب الحاكم. وتزامن ذلك مع محاولة الحزب الحاكم إظهار احترامه للقيم الديمقراطية لاسترضاء المانحين الغربيين، تلك المحاولة التي تجلت في فتح الفضاء السياسي والتخفيف من وحشية القمع الذي كان يمارس على الجماعات المعارضة. ولأن زيناوي وأعضاء حزبه كانوا مقتنعين بأنهم سيفوزون بأغلبية الأصوات في أي انتخابات بحجة أن الناس إما خائفون من الانتقام أو طامعون في الاستفادة من المساعدات التنموية الحكومية، فقد دعوا لانتخابات عامة، لكن تبين أنهم أساؤوا التقدير بشكل كبير، إذ صوتت أغلبية ساحقة من الإثيوبيين ضد النظام في تلك الانتخابات.
استغل زيناوي سيطرته على الدولة لقمع المظاهرات التي اندلعت في الوقت الذي كان يعلن فيه انتصارات حزبه في الانتخابات العامة، وبعد كشف جماعات المعارضة عن نفسها كثف رئيس الوزراء حملته لتكميم أفواه عناصرها عن طريق إعطاء الأوامر بالسجن لفترات طويلة لعدد من المنشقين والصحفيين، وقوميي جبهة أورومو والناشطين الإسلاميين واصفا الجميع بأنهم إرهابيون.
وعلى أثر انتخابات عام 2010 خفف زيناوي من قمعه للمعارضة محاولا إسباغ نظرة على نظامه أكثر ديمقراطية من ذي قبل، على الأقل علنا، فوعد عدة مرات بالتنحي وأجرى تعديلا على مجلسه التنفيذي تمثل في السماح لغير التغريين مثل رئيس الوزراء الحالي هيلي مريم، بتولي مناصب مهمة في الحكومة، والواقع أن زيناوي خلق حاشية ممتنة له ولبطانته واحتكر مع ذلك لنفسه سلطات صنع القرار وبما أنه لم يعين خليفة له بشكل واضح أو يسمح لأحد أن يبرز بشكل طبيعي فإن موجة من الحيرة والارتباك سادت حزبه بعد وفاته. وكان يعتقد أن اختيار هيلي مريم، وهو من أصل غير تيغيري وينحدر من المناطق الجنوبية ويعرف بأنه شخصية غير خلافية، سيمثل اللبنة الأولى لنظام ديمقراطي في مجتمع متعدد الأعراق.
لكن يبدو أن تعيين هيلي مريم لم يمثل سوى امتدادٍ لإرث زيناوي بدلا من أن يكون تحركا نحو حكم أكثر ديمقراطية. وعلى الرغم من أن المعارضة لا تزال ضعيفة وغير منظمة، فإن هيلي مريم سيظل يعتمد على الجيش الذي يسيطر عليه حزب جبهة تحرير التيغري للحفاظ على احتكار السلطة. وسيستمر التنافس الداخلي، وخاصة بين كبار أعضاء الحزب، بل ويتعمق في ظل ما يشاع، على نطاق واسع، من افتقار هيلي ماريام إلى الكاريزما والذكاء اللذين كان زيناوي يتمتع بهما للمحافظة على تماسك الحزب، وهذا هو الذي يدفع إلى الاعتقاد بأن احتمال تلاشي هيمنة جبهة تحرير شعب تيغري على السياسة الإثيوبية والدولة لن يكون إلا نتيجة الانقسامات الداخلية في الجبهة وليس من معارضة ذات مصداقية.
موت زيناوي والسياسة الإثيوبية
لقد هزت الوفاة المفاجئة لزيناوي كل إثيوبيا إذ أنها فتحت بابا أمام مستقبل مجهول ومخيف. فقد تمكن زيناوي من خلال مزيج من الهيبة الشخصية، والذكاء السياسي والترهيب المرعب من خلق نظام سياسي يتمحور كليا حول ذاته، فبعد انتخابات عام 2010 أعلن عن الخطة التنموية الخمسية الطموحة التي أراد لها أن تكون بمثابة لوحة تكتونية تقوم عليها الدولة التنموية لتي تصور أنها ستنتشل إثيوبيا من براثن الفقر.
ولجذب الاستثمار الأجنبي المباشر قام بتأجير أكثر من أربعة ملايين هكتار من الأراضي الخصبة بأسعار منخفضة للشركات العالمية وانتعشت التنمية الاقتصادية للبلاد إلى مستوى جعل السلطات تتحدث عن نسبة نمو من رقمين, وادعى زيناوي أن السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي انتهجها تمخضت عن التنمية الداخلية والازدهار. والواقع، أن غالبية المستفيدين من هذه السياسة كانت النخبة السياسية والبطانة الخاصة لزيناوي بدلا من الشعب الإثيوبي.
وانتشرت السرقة في الشركات المملوكة للدولة كما ازدهرت السوق السوداء نتيجة الفساد في هرم السلطة، وعلاوة على ذلك، استمرت الزيادات في أسعار الغذاء والوقود المستورد والاستمرار في طباعة الأوراق المالية أدى إلى تخفيض كبير في قيمة العملة الإثيوبية، "بر" مما نتج عنه ارتفاع معدلات التضخم في السنوات الأخيرة. وتفاقمت هذه المشاكل بسبب العجز المالي الحكومي الكبير والغياب شبه التام لأي سياسات ترمي لإشاعة الاستقرار المالي والنقدي، مما نجمت عنه دوامة الهبوط الاقتصادي. وكان النظام بأكمله متمحورا حول شخص زيناوي والآن مع غيابه من مقعد القيادة يتوقع أن تكون الآثار المباشرة هي التدهور الاجتماعي، ضف إلى ذلك تنامي الفجوة بين الأغنياء والفقراء بسرعة ووصول التضخم لأكثر من 30? مما قلص الطبقة المتوسطة الضعيفة وأنهك الفقراء. وعلى الرغم من عودة إثيوبيي الشتات ووجود شركات دولية فإن الاستثمارات لا تزال بطيئة لأن الأسلوب التنموي الذي خلقه زيناوي لا يشجع على وجود بيئة مواتية للاستثمار.
والمشكلة الأخرى المحرجة في مرحلة ما بعد إثيوبيا زيناوي هو هذا الجيش القوي. لقد تمكن الجيش الإثيوبي خلال حكم زيناوي من بلوغ مستويات غير مسبوقة من القوة وأصبح له نفوذ كبير وسيطرة على قطاعات اقتصادية رئيسية في إثيوبيا. وتسعى الحكومة إلى تبديد هذا النفوذ وحصر دور الجيش بشكل صارم في المجال العسكري البحت.
ويعتمد دور الجيش بشكل كبير على الخلافات الإقليمية للبلاد مع جيرانها. لقد أحكم زيناوي قبضته على إمبراطورته من خلال القمع والحرب والتدخل عبر حدود الجيران، وعلى الرغم، من أن الدستور -على الأقل من الناحية النظرية- يحمي حقوق وتطلعات المناطق فإن الحكم الديكتاتوري لزيناوي قوض بشكل كبير الحكم الذاتي الإقليمي، وقد أثار ذلك استياء كبيرا في أوساط مختلف الفئات بما في ذلك الطبقة الحاكمة السابقة من المجموعة الأثنية الأمهرية والمعارضة الإسلامية المتنامية والتي يعتقد أنها تمثل التحدي الأهم للنظام منذ العام 1991، فأكثر من 35? من سكان إثيوبيا مسلمون حسب الإحصاءات الرسمية يضاف إليهم ما يقرب نصف أهالي أورومو الذين يتطلعون بقوة إلى الحصول على الحكم الذاتي.
وتنشأ مشكلة أخرى من عدم استدامة تدفق تمويل المشاريع التنموية لخطة زيناوي الطموحة، فالحكومة غير قادرة على استثمار ما يكفي للحفاظ على النمو في نفس مستويات السنوات السابقة دون طبع المزيد من النقود، وهو ما من شأنه أن يذكي التضخم ويفاقم أزمة العملة الأجنبية في البلاد.
وكل مستقبل الدولة التنموية التي اعتمدها زيناوي يتوقف على حل "المسألة القومية"، فقد بدأت المناطق بالمطالبة بتطبيق أكثر واقعية للنظام الاتحادي، فالجبهة الوطنية لتحرير أوغادين تواصل الكفاح المسلح من أجل الحكم الذاتي في حين أن جبهة أورومو (جبهة تحرير أورومو)، وإن كانت منهكة عسكريا، إلا أنها ما تزال تتمتع بتأييد واسع، وبعد أكثر من عقدين من محاولة الاحتواء لا يزال الإحساس بالظلم والضيم لدى بعض الفئات العرقية والدينية يتجذر، أما الدولة التنموية فإنها في شكلها الحالي لا تتماشى تماما مع تطلعات الفيدرالية، وإعادة تشكيل أي من الفيدرالية أو الدولة التنموية يهدد جوهر السلطة في إثيوبيا، وهو ما يستلزم الاستمرار في فرض القبضة الحديدية على المجتمع ككل. وقد أدى موت زيناوي إلى تفتيت مراكز القوى التي هي في الأصل ضعيفة البنية ويلغي كل منها الآخر. على سبيل المثال، لم يجرؤ أحد لمدة أسابيع من إجبار عازب مسفين، أرملة زيناوي، على الخروج من القصر الرئاسي.
وهكذا، يبدو أن السياسة الإثيوبية بعد زيناوي أصبحت تدار من طرف عدد من الأقطاب المهيمنة كحزب جبهة تحرير شعب تيغري وأجهزته الأمنية وعلاقاته الوثيقة مع بعض أفراد الجبهة، والجيش الذي يتقاطع بشكل وثيق مع جبهة تحرير شعب تيغري وأخيرا رئيس الوزراء المعين حديثا.
وتنظر الغالبية العظمى من المسؤولين الحكوميين لديسالين باعتباره رئيسَ وزراء انتقاليا ستنتهي ولايته فور اختيار جبهة تحرير شعب تيغري خلفا حقيقيا لزيناوي. وعلى الرغم من أن ديسالين يبدو نسخة طبق الأصل من زيناوي من حيث السياسة التي ينتهجها، فإن مستقبله كرئيس للوزراء يبدو قاتما شيئا ما، إذ أنه لا ينتمي إلى أي من المجموعات العرقية الثلاث الكبرى كما أنه بروتستانتي، ولم يعرف التاريخ أي زعيم إثيوبي تمكن من الوصول إلى هذا المنصب في ظل وجود هذين المعوقين. غير أنه سيستفيد لا محالة من الاحترام التقليدي للتسلسل الهرمي الذي يعتبر بعدا ضارب الجذور في الثقافة الإثيوبية، وسيستفيد كذلك من '"إرث القائد العظيم" الذي تستمد منه قيادة جبهة تحرير شعب تيغري شرعيتها للحفاظ على مواقعها. وعلاوة على ذلك، وبما أن القوى المناهضة له محرومة أصلا ومفككة، فيستفيد ديسالين من كونه يقف في مركز قوة البنى التحتية للسلطة المطلقة التي ورثها عن سلفه.
القرن الإفريقي وزوال زيناوي استمدت إثيوبيا هيمنتها في القرن الإفريقي من قوة جيشها، ومن الدعم الذي تقدمه لها الولايات المتحدة الأميركية، ناهيك عن الطبيعة الكاريزمية لزيناوي. فإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تعتبر زيناوي حليفا حيويا في الحرب على الإرهاب في المنطقة، فتلك الإدارة المترددة في إرسال قواتها الخاصة بها إلى هذه المنطقة من العالم تعتمد على حلفاء إقليميين أقوياء من أمثال زيناوي في إثيوبيا، وفي أوغندا موسيفيني، وكذلك الرئيس الرواندي بول كاغامي، فهم يساعدونها على تحقيق الاستقرار في مناطق مثل دارفور والصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وبالنسبة للولايات المتحدة، تشكل إثيوبيا جسرا عسكريا يمكنها من احتواء تسلل عناصر تنظيم القاعدة في الصومال وبقية دول القرن الإفريقي، بل حتى عبر البحر الأحمر في اليمن، ولا يرجح بعد موت زيناوي أن يتوقف ذلك الدعم الأميركي. ومع ذلك، فإن تفاقم التوترات العرقية والدينية في داخل إثيوبيا قد يجعل آديس أبابا تتردد في مواصلة لعب هذا الدور الذي يخدم واشنطن، لأن النظام الإثيوبي يعتمد بشكل كبير على القمع الشديد للحفاظ على السلطة المطلقة. ومن الواضح أن إثيوبيا بدأت الآن سحب قواتها أولا من منطقتي باكول وباي في الصومال حيث كان جيشها في طليعة الحرب ضد شباب المجاهدين المرتبط بتنظيم القاعدة.
وبتحول توجهات النفوذ السياسي على أثر وفاة زيناوي، ثمة دول وخصوصا كينيا وأوغندا ستحاول الاستفادة من الفراغ الناجم عن غياب زيناوي لتصبح القوة الإقليمية الأكثر تأثيرا، ومن المرجح أن يستمر هذا في ظل تركيز النظام الإثيوبي أكثر فأكثر على التحدي الداخلي، ومن المتوقع أن يؤدي ضعف إثيوبيا إلى زعزعة الاستقرار بشكل خطير في المنطقة بأسرها، خصوصا إذا تحول السخط الديني المعشش إلى تطرف إسلامي في مجتمعات أورومو وأوغادين (هما أول وثالث أكبر المجموعات الإثنية في البلاد). وقد تقوم مثل هذه المجموعات بنسج علاقات مع حركات مماثلة في المنطقة مثل ما فعلت جبهة تحرير أوغادين عندما ربطت علاقات مع المتطرفين الإسلاميين في الصومال. وعليه فإن معالجة حزب جبهة تحرير تيغري الحاكم للمظالم الاجتماعية والدينية –وبشكل خاص عبر توفير مساحة سياسية لاستيعاب مختلف المجموعات في البلاد- أمر حيوي للحفاظ على الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي بعد وفاة زيناوي.
الخاتمة
ظل زيناوي لمدة واحدا وعشرين عاما يدير جهاز الدولة الإثيوبية بقبضة من حديد عبر تركيز السلطة في حزبه (جبهة تحرير تيغري) وعبر القمع الوحشي لكل من يعارضه، وبوفاته يكون هذا النظام قد فقد محركه المركزي ولا يزال يكافح للعثور على بديل مناسب يمتلك قدرات مماثلة.
ولا شك أن تعيين هيلي ماريام ديسالين يعني أن سلطة حزب (جبهة تحرير تيغري TFPL) لا تزال سليمة ومتماسكة في مقابل معارضة مفككة لدرجة تجعلها لا تمثل تحديا ذا مصداقية للنظام. وبصرف النظر عن المظالم العرقية والدينية التي تنتج عن القمع الوحشي للمعارضة فإن زيناوي خلف وراءه أيضا سلسلة من المشاكل الاقتصادية التي تنذر بإسقاط البلد في أتون حرب أهلية، لقد آمن زيناوي إيمانا راسخا بأن التنمية الاقتصادية هي الطريق الأمثل للسيطرة السياسية ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية ارتدت عليه في ظل الفساد المزمن وعدم المساواة الذي اتسعت رقعته مما ولد مزيدا من الإحباط الاجتماعي وهو ما من شأنه أن يصب الزيت على نار الصراعات المسلحة.
لقد أيد المجتمع الدولي، إلى حد ما، الحكم الاستبدادي لزيناوي من خلال غض الطرف عن انتهاكاته لحقوق الإنسان والتركيز على الأمن على المدى القصير بدلا من الاستقرار على المدى الطويل. ومع عدم وجود شخصية قوية مثل زيناوي في إثيوبيا، يحتاج المجتمع الدولي للضغط من أجل المزيد من الحرية السياسية، قبل أن يؤدي التوتر العرقي والديني إلى حرب أهلية شاملة لن تؤدي إلا إلى زعزعة استقرار لمنطقة القرن الإفريقي برمتها إذ ستذكي الولاءات العابرة للحدود. لكن هذا لا يزال مستبعدا جدا على الأقل في المستقبل المنظور؛ حيث إن النظام السياسي الذي بناه زيناوي ما زال يحكم سيطرته على مقاليد السلطة بشكل كبير والواقع أن زيناوي لم يعد موجودا بجسمه لكن يبدو أنه لا يزال يدير الأمور من قبره.
____________________________________
عبد الرحمن يوسف علي - رئيس معهد التراث للدراسات السياسية في مقديشو
ترجمة: سيدي أحمد ولد محمد، الجزيرة نت