قراءة كويتية للاتفاقية الأمنية الخليجية

تطلبت عملية إعادة النظر بالبيئة الأمنية الخليجية أن تتكفل دول مجلس التعاون الخليجي بالأمن الداخلي، فيما يبقى الاعتماد على الحليف الاستراتيجي؛ ليتكفل بالأمن في بُعده الدفاعي عبر ما تقدمه دول المجلس للمنظومة الغربية من تسهيلات وتعاون في مجالات التسليح والتدريب وتبادل المعلومات.
20143137290595734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
عُقد الاجتماع الأمني الأول بين دول مجلس التعاون الخليجي في العاصمة السعودية الرياض خلال الفترة 23- 24 فبراير/شباط 1982 للتنسيق والتعاون، فتشكلت لجان أمنية متخصصة نتج عن عملها منطلقات ومبادئ وأهداف التعاون الأمني بين دول المجلس، والتي أكدت على وحدة وترابط أمن تلك الدول ومبدأ الأمن الجماعي، معتبرةً أن التدخل من قِبل أية جهة كانت في الشؤون الداخلية لإحدى الدول الأعضاء هو تدخل في الشؤون الداخلية لجميع دول المجلس. وخلال العقود الماضية من عُمر المجلس، ظهر المحور الأمني كأقوى أوجه التعاون بعد المحور الدفاعي، متجاوزًا التعاون الاقتصادي والثقافي والاجتماعي. حيث تحققت إنجازات وخطوات عدة في مجال التعاون الأمني، منها الاستراتيجية الأمنية الشاملة التي أقرت في 15 فبراير/شباط 1987 في مسقط كإطار عام للتعاون الأمني. وقد تمت مراجعتها وتحديثها، واعتمدها المجلس الأعلى في ديسمبر/كانون الأول 2008، مع إقرار لجنة للتخطيط الاستراتيجي لرصد الإنجازات الأمنية.

لقد أراد صناع القرار في دول مجلس التعاون الخليجي أن تتكفل الاتفاقية الأمنية الخليجية بالتحديات الداخلية. واعتبر توقيع الاتفاقية الأمنية الخليجية بين دول المجلس خطوة مهمة من شأنها أن تسهم في تعزيز جهود دول المجلس؛ لتوسيع آفاق التعاون والترابط والتكامل فيما بينها في كافة المجالات الأمنية. وبناء على تفويض من المجلس الأعلى في دورته الرابعة عشرة المعقودة بالرياض في ديسمبر/كانون الأول 1993، تم التوقيع على الاتفاقية الأمنية الخليجية نهائيًّا في الرياض في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1994 بين خمس من دول مجلس التعاون باستثناء الكويت .ومرت الاتفاقية الأمنية قبل اعتماد صيغتها النهائية وتوقيعها من قِبل وزراء داخلية دول المجلس في ديسمبر/كانون الأول 2012 بمعوقات كحال اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك، وذلك نظرًا لإخلالها بمبدأ سيادة الدولة على أراضيها.

يخلص التقرير إلى أن الأطراف الضاغطة من أجل سرعة تفعيل الاتفاقية الأمنية الخليجية قد استعجلت في تقديراتها، في وقت لم يتهيأ لها الكثيرون في دول الخليج نفسها، ليس ذهنيًّا فحسب بل إجرائيًّا أيضًا. ولعل الإصرار على تفعيل الاتفاقية الأمنية الخليجية في الظروف الحالية وبشكلها الحالي والهرولة نحو الخروج بحلول لا يسندها ما يكفي من المسوغات، ما هو إلا قفز على أولويات خليجية أخرى.

مقدمة

في ظل التهديدات الإقليمية والدولية، عاش الخليجيون تحت خط الفقر الأمني بعد زوال العزلة المريحة التي وفرتها الحماية البريطانية قبل انسحابها من شرق السويس في عام 1971. ثم تأسس مجلس التعاون لدول الخليج العربية كمنظمة إقليمية في 25 مايو/أيار 1981 استجابة لظروف تطلبت سرعة العمل الجماعي؛ كمواجهة تهديدات إيران بتصدير ثورتها إلى دول الجوار، واقتراب الخطر الشيوعي من الخليج بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان، ثم تطايرت شرر الحرب العراقية الإيرانية على دول الخليج.

التعاون الأمني.. تاريخ كُتب ولم يقرأ

لقد تطلبت عملية إعادة النظر بالبيئة الأمنية في شموليتها أن تتكفل دول مجلس التعاون الخليجي بالأمن الداخلي على الأقل فيما يستمر الأمن المستعار أو الاعتماد على الحليف الاستراتيجي؛ ليتكفل بالأمن في بُعده الدفاعي عبر ما تقدمه دول المجلس للمنظومة الغربية من تسهيلات عسكرية وتعاون في مجالات التسليح والتدريب وتبادل المعلومات الاستخبارية. وقد عقد الاجتماع الأمني الأول بين دول المجلس في العاصمة السعودية الرياض خلال الفترة 23- 24 فبراير/شباط 1982 للتنسيق والتعاون، فتشكلت لجان أمنية متخصصة للتنسيق والتعاون نتج عن عملها منطلقات ومبادئ وأهداف التعاون الأمني بين دول المجلس، والتي أكدت على وحدة وترابط أمن تلك الدول ومبدأ الأمن الجماعي، معتبرةً أن التدخل من قِبل أية جهة كانت في الشؤون الداخلية لإحدى الدول الأعضاء هو تدخل في الشؤون الداخلية لجميع دول المجلس. وخلال العقود الماضية من عُمر المجلس، ظهر المحور الأمني كأقوى أوجه التعاون بعد المحور الدفاعي، متجاوزًا التعاون الاقتصادي والثقافي والاجتماعي. حيث تحققت إنجازات وخطوات عدة في مجال التعاون الأمني، منها الاستراتيجية الأمنية الشاملة التي أقرت في 15 فبراير/شباط 1987 في مسقط كإطار عام للتعاون الأمني، وكان لها أهداف ذات وسائل تنفيذ محددة. وقد تمت مراجعتها وتحديثها، واعتمدها المجلس الأعلى في ديسمبر/كانون الأول 2008، مع إقرار لجنة للتخطيط الاستراتيجي لرصد الإنجازات الأمنية.

وكان من أبرز أوجه التعاون في هذه الاستراتيجية الأمنية، مكافحة الإرهاب والمخدرات والمخاطر النووية والإشعاعية، إضافة إلى التعاون في مجالات الدفاع المدني والتحقيقات والمباحث الجنائية والمرور والمؤسسات العقابية والإصلاحية. ولأنَّ النمو والازدهار لا يمكن لهما أن يتطورا إلا في ظل بيئة آمنة، فقد تعاونت دول المجلس لتسهيل التنقل وانسياب السلع، وكذلك كان التعاون في مجال حرس الحدود وخفر السواحل مفعلاً.

لقد سار التعاون الأمني بين دول المجلس بوتيرة منتظمة عبر حلقات تعاون ذات تراتبية واضحة، تبدأ عادةً كل عام باجتماع اللجان الأمنية المختصة التي تسبق اجتماع الوزراء، يليها اجتماع للجنة التحضيرية المكونة من وكلاء وزارات الداخلية، ويتوج عملها الاجتماع السنوي لوزراء الداخلية. وقد يتخلل اجتماعات الوزراء اجتماعات استثنائية لمواضيع عاجلة، كما قد يتخللها لقاءات تشاورية بدون جدول أعمال محدد.

 التعامل مع أنماط الاستجابة الكويتية

تكفلت اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك الموقعة في المنامة في ديسمبر/كانون الأول 2000 بردع التحديات الخارجية عبر التحول من مرحلة التعاون العسكري لمرحلة الدفاع الخليجي المشترك، رغم ما اعترضها من معوقات، كان أبرزها عدم تحديد مصدر التهديد، ونقص القوى البشرية، والتمسك بمبدأ السيادة بدرجة مفرطة، وضعف صلاحيات درع الجزيرة. وعلى نفس النهج أراد صناع القرار في دول مجلس التعاون الخليجي أن تتكفل الاتفاقية الأمنية الخليجية بالتحديات الداخلية. واعتبر توقيع الاتفاقية الأمنية الخليجية بين دول المجلس خطوة مهمة من شأنها أن تسهم في تعزيز جهود دول المجلس؛ لتوسيع آفاق التعاون والترابط والتكامل فيما بينها في كافة المجالات الأمنية. وبناء على تفويض من المجلس الأعلى في دورته الرابعة عشرة المعقودة بالرياض في ديسمبر/كانون الأول 1993، تم التوقيع على الاتفاقية الأمنية الخليجية نهائيًّا في الرياض في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1994 بين خمس من دول مجلس التعاون باستثناء الكويت .

لقد مرت الاتفاقية الأمنية الخليجية قبل اعتماد صيغتها النهائية وتوقيعها من قِبل وزراء داخلية دول المجلس في ديسمبر/كانون الأول 2012 بمعوقات كحال اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك. فحين عرضت للمرة الأولى عام 1994 لم توافق عليها الكويت؛ لعدة أسباب أهمها إخلال تلك الاتفاقية بمبدأ سيادة الدولة على أراضيها، وعدم جواز تسليم المتهمين السياسيين لتعارض ذلك مع الدستور الكويتي، وأيضًا بسبب التعريف المغاير للجريمة السياسية بعيدًا عن المواثيق الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. كما أن بنود الاتفاقية لم تكن متوافقة مع المزاج الشعبي الكويتي الأقل تسامحًا مع حكومته بعد تحرير الدولة من الغزو العراقي.

ويبدو أن رفض الكويت للاتفاقية الأمنية الخليجية، وتعوُّد بقية أعضاء المجلس على أنماط الاستجابة الكويتية حيال ما يتعلق بقضايا السيادة والدستور، قد دفع بعض دول المجلس للمراهنة على التسليم للزمن بحقه في توضيح الرؤية للكويتيين، فأُعيد طرحها بعد 20 عامًا، وبعد إدخال بعض التعديلات عليها كمحاولة من محاولات المجلس التي لا تتوقف للتواؤم مع الظروف الجيوستراتيجية المتغيرة، خصوصًا وأن دولة الكويت قد رفضت أيضًا اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي عام 1983، واتفاقية مكافحة الإرهاب عام 2004؛ لتعارضهما مع الدستور الكويتي، ونيلهما من سيادة الدولة. وبصيغتها المعدَّلة في القمة التشاورية في الرياض بتاريخ 14 مايو/أيار 2012، صادقت عليها بشكل نهائي كل الدول إلا أنّ دولة الكويت التي وقعت على الاتفاقية ولم تصادق عليها بعد.

بواعث الدخول ومخاوف الإحجام

تنوعت بواعث الدول التي أقرت دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، كما تعددت مخاوف تلك التي لا تزال تمانع تطبيقها. ولعلّ من بواعث دخولها أن طرحها منذ زمن طويل دليل حاجة رجال الأمن لها. فهناك حاجة لتنظيم التعاون في مواجهة تجار المخدرات والتجسس والتسلل والتهريب والجرائم الاقتصادية والإلكترونية. كما أن طرحها ما هو إلاَّ فَهم خليجي للتغيرات المتأتية في الساحة الإقليمية. وقد أكدت الاتفاقية على بعض القضايا القائمة، كما أسست لأمور جديدة خطوطها العريضة هي الأمن الجماعي، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية. بينما أظهر إدراك بنودها خطورة تحديات داخلية، يتكون معظمها من انعكاسات إقليمية ذات جذور خارجية، والذي يعد بمثابة مثال على صدق نظرية الفوضى "Chaos Theory"، التي تتبنى فكرة أن ضربات أجنحة فراشة في تكساس قد تخلق الأعاصير في بحر الصين. وقد تعلمنا في منطقة الخليج منذ الحرب العراقية الإيرانية مرورًا بغزو الكويت والحرب على العراق ثم الأزمة في سوريا وتبعات ما يُعرف بثورات الربيع العربي، أن الفوضى في جوارنا الإقليمي تؤثر في الحالة الأمنية الداخلية لدولنا عاجلاً أو آجلاً. وما التحديات ا?منية الداخلية الحالية إلا امتداد لضربات أجنحة فراشة في جوارنا الإقليمي؛ فمملكة البحرين تمر بأزمة بدأت متأثرة بموجة الربيع العربي في بدايتها، ثم أصبحت تعبيرًا عن الحاجة إلى التغيير، مما استدعى تفعيل اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك من خلال تدخل قوات درع الجزيرة.

كما كان من بواعث حكومة الكويت لتوقيعها عدم الاستقرار السياسي؛ نتيجة المماحكات بين الحكومة والمعارضة بعد إصدار قانون الصوت الواحد، والمظاهرات والانتقادات الواسعة التي قوبل بها. وبالتزامن مع أحداث الربيع العربي، وجهت دولة الإمارات العربية المتحدة لمواطنين إماراتيين ينتمون فكريًّا لتنظيم الإخوان المسلمين تهم التورط في أعمال تهدد الأمن الوطني للبلاد، والارتباط بمنظمات إرهابية. وتنطبق بصمات ما تعانيه المملكة العربية السعودية في المنطقة الشرقية منها مع حيثيات ما هو متاح في الحالة البحرينية. كما تتطابق مخاوف الرياض ومخاوف أبو ظبي حيال جماعة الإخوان المسلمين، وذلك يمكن تشبيهه بتوجس الكويت من جماعات الإسلام الجهادي.

لقد كان من المؤمل أن تسهم الاتفاقية الأمنية الخليجية في التنسيق بين الأجهزة الشرطية الخليجية وتعزيز الجهد الأمني، وخدمة توجهات المملكة العربية السعودية الجديدة التي صدرت في 7 مارس/آذار 2014؛ للتعامل مع قائمة بالجماعات الإرهابية التي تضم حزب الله، داعش، جبهة النصرة، تنظيم الإخوان المسلمين، الحوثيين، تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، تنظيم القاعدة في اليمن، إضافة إلى تجريم المشاركة في أعمال قتالية خارج المملكة.

وبالرغم من أنَّ الأمانة العامة لدول مجلس التعاون تجزم بأن الاتفاقية الأمنية بصيغتها الحالية تختلف عن صيغتها السابقة، إلا أن الاتفاقية الأمنية بصيغتها المعدَّلة قوبلت بالرفض من قطاعات عريضة في دولة الكويت، وبالرفض ولكن بدرجة أقل في دول خليجية أخرى. وكما تباينت مواقف دول مجلس التعاون في تحديد مصدر التهديد بدرجة مربكة في التحديات الخارجية التي تواجهها، اختلفت أيضًا في تحديد التحديات الأمنية، لا لاختلاف البيئة الحاضنة لهذه التحديات، بل لاختلاف الرؤية تجاهها من دولة خليجية إلى أخرى. ومن تلك المخاوف، الموقف غير الموحَّد تجاه الإرهاب، نتيجة الخلط بين الجرائم السياسية والأعمال الإرهابية. كما تختلف درجة تعامل الدول الخليجية مع أقلياتها المذهبية من دولة إلى أخرى. كما أن تعريف الجريمة السياسية مختلَف عليه بين دول الخليج بشكل حاد. يُضاف إلى ذلك تحدي التركيبة السكانية في دول الخليج، حيث تعتبره بعض الدول بمثابة خلل، في حين ترى دول أخرى أن الوافدين يشكلون شريحة لابدَّ منها لعملية التنمية.

نقاط ضعف الاتفاقية

كباقي الاتفاقيات، لم تخل الاتفاقية الأمنية الخليجية من نقاط الضعف التي كانت سببًا لعدم قبولها، لا سيما في دولة الكويت. فقد أتت الاتفاقية الجديدة وهي -إلى حد كبير- ذات الاتفاقيات السابقة ولكن بعد إعادة صياغتها مع بعض الإضافات، فاستمدت كسابقاتها مفرداتها من قاموس أمني حاصر مفردة الحريات، وهي الإشكالية الرئيسة التي تنبع منها سائر الإشكاليات الأخرى، وإليها تعود مكبلة بشكل حاد. ففي المادة 3 من الاتفاقية، لم يتم تعريف الجريمة ولا تحديد نوعها، فنصت تلك المادة على أن "تعمل كل دولة طرف على اتخاذ الإجراءات القانونية فيما يعدّ جريمة، وفقًا للتشريعات النافذة لديها، عند تدخل مواطنيها أو المقيمين بها في الشؤون الداخلية لأيٍّ من الدول الأطراف الأخرى". كما أن المادة 6 منها تدعو لتوحيد الأنظمة والقوانين بعد إقرار الاتفاقية، ما يعني استحداث جرائم جديدة لتقليص الحريات. وتنص المادة 16 على تسليم المطلوبين الموجّه لهم التهم، ضاربة عرض الحائط مبدأ مفاده أن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، حيث جاء في نصها "تعمل الدول الأطراف وفقًا لما تقضي به التشريعات الوطنية والاتفاقيات التي تلتزم بها الدولة الطرف المطلوب منها التسليم على تسليم الأشخاص الموجودين في إقليمها الموجّه إليهم اتهام، أو المحكوم عليهم من السلطات المختصة لدى أيٍّ منها". كما أن المتهم سيحاكم استنادًا إلى قانون الدولة التي تطلب تسليمه إليها، وفي ذلك مخالفة للمواد 30، 31، 32، 33، 34، 35 من الدستور الكويتي. كما أن المادة 3 من الاتفاقية الأمنية المعدلة تتعارض مع المادتين 36 و37 من الدستور الكويتي بشأن حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة. وإضافة إلى ما ساقه أكثر من حقوقي وناشط سياسي كويتي من انتقاد لبنود تلك الاتفاقية التي تمس السيادة، فإنه لا يمكن تجاوز احتوائها على بنود غير واضحة وقابلة لتفسيرات وتاويلات متعددة، عدا عن عدم وجود آلية منضبطة لتحديد المعنى الدقيق لكل مصطلح ورد فيها.

لقد كانت الاتفاقية الأمنية ضحية سوء إدارتها، فكانت منبوذة منذ ولادتها، حيث سميت بالأمنية في زمن كره الحلول الأمنية. إن أي نوع من التعاون يستلزم إطارًا، ولا تخفي الحكومات الخليجية أن الاتفاقية الأمنية طُرحت كإطار عمل تنظيمي يدعم جهود التنسيق الأمني بالدرجة الأولى، مما يمنح شعورًا بأنها وضعت لتستفيد منها الحكومات أكثر من الشعوب. ورغم الذرائع التي سيقت، ورغم دوران المتوالية التبريرية من أطراف موالية لبعض الحكومات الخليجية لتسويغ الاتفاقية كإجراء ضروري لحفظ أمن وازدهار دول المجلس، إلا أن الاتفاقية فشلت في أن تشير إلى ذلك إلا بأسطر قليلة وردت في ديباجتها التي مهدت لباقي الفصول بالقول إن طرحها "هو إدراك منها بخطورة الجريمة وآثارها الضارة على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمع". ثم في الفصل الرابع بمادة وحيدة تناولت التعاون في مجال عمليات إنقاذ الأشخاص في حالات الحوادث. في حين ركزت العناوين الرئيسة لبقية الفصول على تعاون الحكومات؛ ففي الفصل الأول تصدرت عبارة "تتعاون الدول الأطراف في إطار هذه الاتفاقية في جميع مواد الفصل". وفي الفصل الثاني، اقتصر الحديث على مجالات التعاون والتنسيق الأمني. وفي الفصـل الثالث تعرضت لموضوع ضبط الحدود.

ومن المفارقات ذات الدلالات الكبيرة، تركيز الفصل الخامس عبر 11 مادة على تسليـم المتهمين والمحكومين وهم مواطنون خليجيون في الغالب؛ مما يفقد الاتفاقية توازن موادها بين ما هو لصالح المواطن الخليجي وما هو لصالح الحكومات.

إحياء منهج الدولة البوليسية

ولتتوافق مواد الاتفاقية الأمنية الخليجية ونصوص الدستور في بعض دول الخليج، يعتقد الكثير من الكويتيين مثلاً -رغم حساسية القضية- أن منهج الدولة البوليسية يتعدى إطاره الزمني، ويعيد إحياء نفسه مقتحمًا حاضر نظامهم الدستوري عبر هذه الاتفاقية. وحتى تقترب هذه الاتفاقية من الثوابت التي حددها الدستور، تحتاج لعملية تحديث مؤلمة هي أقرب لإعادة الهيكلة الجذرية.

لقد صيغت الاتفاقية بكلمات فضفاضة وردت فيها عبارة "الخارجين على القانون" لتُطلق دون تعريف واضح وصريح على كل مَن يتبنى أو يعبر عن آراء منافية أو مخالفة للمنظومة القيمية لواضعي الاتفاقية، ما يعني إدخال فئة عريضة من الأشخاص ضمن المطلوبين قانونيًّا. كما ألزمت الدول الموقعة عليها بتبادل المعلومات الأمنية الخاصة بمواطنيهم، في إخلال صارخ لمبدأ صون الحريات وهدر سرية بيانات الأفراد. كما أتت الاتفاقية مثقلة بمواد تتعارض مع السيادة، كتسليم المتهمين واجتياز الدوريات للحدود الدولية.

وأمام هذه المرجعية المستترة، يصبح من العسير توقع أن يكون هناك أي تعديل جوهري على الاتفاقية الأمنية لصالح مزيد من الحريات والسيادة، أو أن يتم تحويرها لتصبح مقبولة على المستوى الشعبي، وقد يكون مطروحًا أن تكون الدول مجبرة على أن تعيد إنتاج مشروعها الأمني بالكامل، ويتم إجراء تعديلات جوهرية على بنود دساتير الدول بدلًا من التعديل على بنود الاتفاقية الأمنية نفسها.

لقد نصت المادة 20 من الاتفاقية الأمنية الخليجية على أنها تدخل حيز النفاذ بعد مضي ثلاثين يومًا من تاريخ إيداع وثائق تصديق ثلثي الدول الموقعة، وقد تحقق شرط النفاذ. لكن الذين يحسنون قراءة ماضي المشهد الخليجي سريع التقلب، وهم الأجدر بقراءة المستقبل، يستطيعون استشراف مستقبل الاتفاقية بوضوح. فالأجهزة الأمنية في الدولة الخليجية الواحدة لا تتعاون فيما بينها أساسًا بالشكل المطلوب، فكيف ستتعاون مع أجهزة أمنية خارجية لتسليم أحد مواطنيها، وهو ما زال في مرحلة التهمة وليس الإدانة؟ وإنْ أُجبرت هذه الأجهزة على التعاون، فستكون في مستويات التعاون الدنيا، ولن تخلوا من التعاطف مع المطلوبين لدوافع وطنية وقبلية.

غياب الهوية الخليجية المتسامحة

لقد أدت المعادلة التي تضمنتها الاتفاقية الأمنية الراهنة، وعمادها التركيز الشديد على الحاضر -جرّاء دوافع أمنية عابرة- إلى إفراغ نظرة الاتفاقية إلى المستقبل من محتواها، ما سيؤدي إلى قصور نظرتها للمستقبل وإصابتها في مقتل؛ حيث لم تراع الاتفاقية أجيال خليجية شابة بيَّنت في أكثر من شارع خليجي قدرتها على إظهار عدم التسامح مع الإجراءات الحكومية التقليدية في معالجة قضايا عدة، مستعينةً بوسائل تواصل واحتجاج غير تقليدية. وفي الوقت نفسه أتت الاتفاقية مفرغة من شحنتها الحضارية التي تظهر هويتها الخليجية المتسامحة. كما أنه لا يتوقع أن تصادق الكويت عليها بعد أن جعلت موافقة مجلس الأمة شرطًا لذلك؛ فمجلس الأمة الكويتي الحالي جاء في ظرف عزوف شعبي كبير عن التصويت، والمجلس حاليًّا في أشد الحاجة لاتخاذ القرارات الشعبية، تلك القرارات التي لا تتواءم وبنود هذه الاتفاقية. بل إن رفض الكويت قد يكون دافعًا لدول خليجية أخرى للتراجع عنها، لاسيما أن الاتفاقية تكفل حق الانسحاب للدول الموقعة.

لقد سلطت أزمة سحب سفراء ثلاث دول خليجية من دولة قطر في 5 مارس/آذار 2014 الضوء على الاتفاقية، حيث أجمل البيان المشترك لحكومات الرياض والمنامة وأبو ظبي عدم التزام دولة قطر بالاتفاقية، وعدم النأي بنفسها عن التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين. ومن ذلك نرى أن الاتفاقية لم تراع التدرج في التطبيق، فأسست وحبرها لم يجفّ بعد، بذور لخصومات قد تتحول تدريجيًّا -إن لم يتم تداركها- إلى عداءات.

لقد استعجلت أطراف الأزمة جزئية عدم تطبيق الاتفاقية، في وقت لم يتهيأ لها الكثيرون في دول الخليج، ليس ذهنيًّا فحسب بل إجرائيًّا أيضًا. ولعل الإصرار على تفعيل الاتفاقية الأمنية الخليجية في الظروف الحالية وبشكلها الحالي والهرولة نحو الخروج بحلول لا يسندها ما يكفي من المسوغات، ما هو إلا قفز على أولويات خليجية أخرى؛ ومن ثَمَّ فالاستعجال في الوحدة الكونفدرالية في الجوانب السياسية والدفاعية والاقتصادية قد يكون له الأولوية قبل تطبيق اتفاقية أمنية تتطلب إعادة إنتاج مشروع أمني بالكامل.
_________________________________________
* د. ظافر محمد العجمي - المدير التنفيذي لمجموعة مراقبة الخليج-الكويت

نبذة عن الكاتب