مستقبل الديمقراطية في بلدان الربيع العربي: حالة (تونس ومصر)

لم تكن بداية الثورات العربية من أجل الديمقراطية في الأساس، ولكنها كانت من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ففي الحالة التونسية نجد أنها عانت كثيرًا، لكنها أوجدت في النهاية مسارًا ديمقراطيًا، بعيدًا عن تدخل الجيش الذي انقلب على الديمقراطية في الحالة المصرية.
201451362441189734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
الربيع العربي جاء كرد فعل ونتيجة منطقية لتراكم جبال من معاناة الشعوب وقهرها واستبدادها، من قِبل الحكام المستبدين، وكانت الشرارة الأولى من تونس بتوقيع محمد بوعزيزي الذي أحرق نفسه نتيجة ضيق العيش والمعاناة المستمرة؛ فاندفع الشعب التونسي للخروج في ثورة ضد زين العابدين بن علي.

وفي مصر قامت ثورة عارمة ضد نظام مبارك، بدأها الشباب، وانضم إليها غالبية الشعب المصري، نتيجة للقهر السياسي، والفساد الاجتماعي لأصحاب المصالح، ومنظومة الفساد التي تغلغلت في كل مؤسسات الدولة.

فلم تكن بداية الثورات العربية من أجل البحث عن الديمقراطية في الأساس، ولكنها كانت من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

وتجربة التحوّل نحو الديمقراطية في تونس، تظل أنجح التجارب في دول الربيع العربي، لأنها التجربة الوحيدة التي نجحت إلى الآن في تحقيق مراحل مهمة من تشكيل هيئات تضمن الوصول في نهاية المطاف إلى حكومة ديمقراطية مُنتخَبة، بعيدًا عن تدخل الجيش في العملية السياسية.

وفي الحالة المصرية لا يستطيع أحد التكهن بما سيحدث في المستقبل القريب؛ لأن المشهد شديد التعقيد، وهناك إصرار منذ اللحظة الأولى للانقلاب على استبعاد واستئصال كل القوى المناهضة للانقلاب من المشهد السياسي بالإقصاء أو الاعتقال أو القتل المباشر، وخصوصًا مع التواطؤ الواضح للغرب والولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص.

 مقدمة

الديمقراطية نظام سياسي واجتماعي حيث الشعب هو مصدر السيادة والسلطة، فهو يحكم نفسه عن طريق ممثلين عنه(1).

ولا شك أن كلمة الديمقراطية من أكثر المفاهيم غموضًا وشيوعًا في عالمنا الحالي، فكما قال عالم السياسة برنارد كريك: "إن الديمقراطية هي أكثر الكلمات اضطرابًا وغموضًا؛ فهي مصطلح قد يعني شيئًا بالنسبة لكل شخص، بحيث تكون هناك خطورة بأن تصبح الديمقراطية كلمة بدون معنى". وقد تعددت مفاهيم وتفسيرات الديمقراطية، ومن أشهرها المفهوم اليوناني لهذه الكلمة والذي عرَّف الديمقراطية بأنها كلمة مركبة من مقطعين: الأول: DEMOS، وتعني: عامة الناس، والثاني: KRATIA، وتعني: حكم، وبذلك يكون المعنى الكامل حسبما جاء في الأدبيات الإغريقية القديمة "حكم الشعب" أو "حكم الشعب لنفسه"، وبهذا تكون الديمقراطية شكلاً من أشكال الحكم السياسي القائم على التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثرية(2).

هذه الديمقراطية التي ازدهرت في الغرب غابت عن شمس العرب، لتأخر العالم العربي في الأخذ بهذا النموذج في الحياة السياسية، نتيجة للاستعمار الذي جثم على المنطقة العربية لفترات متباينة، وكان له تأثير سلبي على تلك الدول، كذلك الثورات التي قامت على الاستعمار لم تعتمد النموذج الديمقراطي في الحكم، بل استبدت بالأمر، واعتمدت الديكتاتورية في ممارسة السلطة، وهذا بطبيعة الحال أدى إلى التأخر الملحوظ في اللحاق بركب الديمقراطية.

والربيع العربي جاء كرد فعل ونتيجة منطقية لتراكم جبال من معاناة الشعوب وقهرها واستبدادها، من قِبل الحكام المستبدين، فقد تمادوا في قمع شعوبهم وإقصاء كل المخالفين لسياساتهم، فتفجر الغليان الشعبي الواسع في انتفاضات جماهيرية، تطالب بالحرية والديمقراطية، والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية، والانعتاق من القيود والأغلال.

وكانت الشرارة الأولى من تونس بتوقيع محمد بوعزيزي الذي أحرق نفسه نتيجة ضيق العيش والمعاناة المستمرة؛ فاندفع الشعب التونسي للخروج في ثورة ضد زين العابدين بن علي.

وما مارسه مبارك في مصر كان شبيهًا بممارسات بن علي، بل فاقه وسبقه في قهره واستبداده؛ فانتهى الأمر إلى ثورة عارمة بدأها الشباب، وانضم إليها غالبية الشعب المصري، نتيجة للقهر السياسي، والفساد الاجتماعي بعيدًا عن أصحاب المصالح، ومنظومة الفساد التي تغلغلت في كل مؤسسات الدولة.

إذن، لم تكن بداية الثورات العربية من أجل البحث عن الديمقراطية في الأساس، ولكنها كانت من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

وبالنظر في الحالة التونسية نجد أنها عانت كثيرًا، ولكنها أوجدت في النهاية مسارًا ديمقراطيًا، بعيدًا عن تدخل الجيش الذي انقلب على الديمقراطية في الحالة المصرية، التي ما زالت تراوح مكانها، وما زال هناك تدافع بين الثورة والثورة المضادة من أجل استعادة المسار الديمقراطي مرة أخرى.

الحالة التونسية

رغم كل الصِّعاب التي ما زالت قائمة، فإن تجربة التحوّل نحو الديمقراطية في تونس، تظل أنجح التجارب في دول الربيع العربي، لأنها التجربة الوحيدة التي نجحت إلى الآن في تحقيق مراحل مهمة من تشكيل هيئات تضمن الوصول في نهاية المطاف إلى حكومة ديمقراطية مُنتخَبة، بعيدًا عن تدخل الجيش في العملية السياسية.

"وقد جرى انتخاب المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وبناءً على نتائجه تشكَّل حِلفٌ ثلاثيٌّ عُرف باسم الترويكا لإدارة المرحلة الانتقالية وعملية صَوْغ الدستور، وضمَّ المجلس كلًّا من "حركة النهضة" ذات التوجه الإسلامي المعتدل التي ترأّست الحكومة، وحزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" المنتمي إلى التيَّار الوسطي العلماني الذي أسَّسه منصف المرزوقي وأصبح رئيسًا للجمهورية، وحزب "التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريات" ذي التوجهّات الاجتماعية الديمقراطية بقيادة مصطفى بن جعفر الذي تولى رئاسة المجلس التأسيسي"(3).

ومن الصعوبات التي مثّلت تحديًا واضحًا لمستقبل الممارسة الديمقراطية في تونس، اغتيال النائب اليساري محمد البراهمي، في يوليو/تموز 2013؛ الأمر الذي أثار أزمة سياسية في تونس هي الأكبر منذ الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي عام 2011؛ فما يقرب من ثلث أعضاء الجمعية التأسيسية قد حمّلوا الحكومة التي يترأسها الإسلاميون المسؤولية الأخلاقية عن جريمة القتل -التي جاءت بعد فترة ليست طويلة من حادث اغتيال سياسي آخر- لشخصية تتمتع بمكانة عالية في فبراير/شباط، ودخل هؤلاء الأعضاء في إضراب مفتوح، ونصبوا مخيمات أمام مبنى البرلمان لمدة تقارب ثلاثة أشهر.

ولم يؤدِّ ذلك الاعتصام إلى وقف اعتماد الدستور الجديد للبلاد فحسب، بل إلى ارتفاع حدة التوتر أيضًا بين "جبهة الإنقاذ الوطني" الممثلة للكتلة العلمانية وائتلاف السلطة الثلاثية المشتركة (الترويكا) الحاكم، الذي يضم "حزب النهضة" واثنين من حلفائه غير الإسلاميين، هما: "التكتل" و"حزب المؤتمر من أجل الجمهورية". هذا وقد رفض أنصار المعارضة -الذين ينظر إليهم أنصار الترويكا على أنهم مجموعة من الانقلابيين المحتملين الذين رفضوا التحول الديمقراطي في البلاد- أي نوع من الحوار مع الحكومة. وردًا على ذلك، شنّ مدنيون موالون للإسلاميين حملة على المحتجين في الأيام الأولى للاعتصام، كما قامت قوات الشرطة بضرب عضو برلمان من يسار الوسط.

الحل السلمي طريق فاعل للممارسة الديمقراطية في تونس
في النهاية، سادت فكرة السعي لإيجاد حل سلمي بين جميع الأطراف، ولكن لم تكتمل معالمه بشكل كامل، وبعد حدوث ضغط من قبل أربع جهات فاعلة رئيسة في المجتمع المدني، هي: "الاتحاد العام التونسي للشغل"، و"الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية" (جمعية لأرباب الأعمال)، و"نقابة المحامين التونسيين"، و"رابطة حقوق الإنسان"، اضطر ائتلاف الترويكا والمعارضة إلى المشاركة في "الحوار الوطني". هذا وقد سهّلت دول ومنظمات دولية شريكة بشكل أكبر قيام ذلك الحوار من خلال تجميد جهودها المالية الرامية إلى دعم عملية التحول الديمقراطي البطيئة وغير المنتظمة في تونس. ومن خلال قيام مفاوضات شاقة برئاسة اللجنة الرباعية المشكّلة من المجتمع المدني، اتفق الطرفان أخيرًا على خارطة طريق تتضمن اعتماد دستور توافقي وتعيين حكومة تصريف أعمال محايدة في يناير/كانون الثاني. ومنذ ذلك الحين تم تكليف الحكومة بقيادة رئيس الوزراء مهدي جمعة بالتحضير للانتخابات الرئاسية والتشريعية قبل نهاية العام.

"لقد اتبع ائتلاف الترويكا الإجراء الفعّال برفضه تسليم السلطة إلى حكومة غير منتخبة وإصراره على بقاء الجمعية التأسيسية كما هي، ومثابرته المستمرة قد فتحت الباب أمام "الحوار الوطني"، وبالتالي أدت إلى الحفاظ على الديمقراطية التونسية"(4).

وكان لموقف النهضة التونسية في تقديم التوافق مع القوى السياسية التونسية على مصلحة الحركة، دور كبير في تجنيب تونس ويلات الانشقاقات والاحتراب الأهلي، وهذا بطبيعة الحال يعزز المسار الديمقراطي الذي تم اعتماده منذ البداية.

ومع السعي إلى اعتماد دستور جديد يؤسس لدولة ديمقراطية حديثة، "يُتوقع أن تكون هذه المرحلة الأخيرة من مسيرة الانتقال الديمقراطي، التي ظلت صاعدة هابطة على مدى سنتين، مرحلة وفاق وأمن اجتماعيين؛ ونجاح الحكومة الجديدة -حكومة الكفاءات الوطنية- مرهون بالتزام هدنة اجتماعية من طرف منظمات المجتمع المدني وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، وكذلك بالعمل على تدارك ما أُهدر من وقت وجهد ومال في سياق صراعات محمومة على بقايا تمرة مذمومة"(5).

وبذلك يمكن القول: إن المؤشرات الأولية الصادرة عن القوى والأحزاب السياسية في تونس، توحي بأن عملية إقامة نظام ديمقراطي مستقر قطعت أشواطًا مهمة، تمثل أرضية لمزيد من الخطوات في هذا السبيل في المستقبل القريب.

ويمكن القول بأن حل المعضلة السياسية في تونس وتحقيق هذا الانفراج الكبير سيخفف بدرجة كبيرة من الاحتقان الذي كان سائدًا لكنه لا يكفي لوحده إذا لم يتم التوجه لمعالجة الوضع الأمني والاقتصادي والاجتماعي الذي ما فتئ يتدهور طوال السنوات الثلاث الماضية.

الحالة المصرية

من الناحية النظرية تعد مصر دولة عريقة في الممارسة الديمقراطية؛ فقد عرفت البرلمان في مرحلة مبكرة (1866) فكانت رابع ديمقراطية في العالم الحديث، كما عرفت أول تجربة حزبية حديثة في المنطقة العربية (منذ 1907)، وأول دستور عربي (1923) بما انبنى عليه من تجربة برلمانية، ونفس العراقة بالنسبة للتنظيم المحلي والنقابي والأهلي فيها، الذي عُرفت بداياته منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر(6)، إلا أنه بسبب غياب التراث الديمقراطي من ناحية وللتدخل المباشر من السلطة الحاكمة على مدار العصور السابقة، التي لم تتح الفرصة للممارسة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة من ناحية أخرى، استمرت حالة الاحتقان في الشارع المصري، ولم يكن حكم العسكر بعد ثورة يوليو/تموز 52 مختلفًا عن فترات التضييق على الممارسة السياسية التعددية والحرة.

ومن ثمّ بدأ الشعب المصري في التململ والتحرك، وشهد المجتمع المصري في السنوات الأخيرة تحركات جماهيرية من فئات وقطاعات عديدة كالعمال والفلاحين والموظفين والمهندسين والأطباء والمحامين والطلاب، وبمتابعة تطور الاحتجاجات العمالية من تجمهر واعتصام وإضراب وتظاهر خلال الفترة 1998-2006، يتضح وجود اتجاه عام لتزايد الاحتجاجات بأنواعها وإن كانت السنوات الخمس الأخيرة (2004-2008) قد شهدت طفرة في استخدام سلاحي الاعتصام والإضراب.

وقد شملت التحركات الجماهيرية خلال هذه الفترة إضافة إلى العمال والمهنيين، أساتذة الجامعات والقضاة(7)، وكانت الفترة الأخيرة (أكتوبر/تشرين الأول 2008- فبراير/شباط 2009) فترة مهمة من مراحل تشكل وبلورة الحركة المطلبية الاحتجاجية لفئات عديدة، فقد تأسست نقابة مستقلة لعمال الضرائب العقارية، كما تأسس اتحاد أصحاب المعاشات، وفي ذات الاتجاه سعى إداريو وموظفو التربية والتعليم إلى تأسيس نقابة مستقلة عن نقابة المعلمين، وشملت التحركات العمالية تحركات في قطاعات حساسة كقطاع النقل (عمال المترو-السكة الحديد-الأوتوبيس-الشاحنات-الميكروباصات).

وإضافة لما سبق، فقد نشطت مؤسسات غير حكومية للدفاع عن حقوق المرأة والطفل والعمال والفلاحين، وعن الحق في التعليم، وعن حقوق الإنسان، وعن حقوق الأقليات(8).

ثورة يناير وتحديات الممارسة الديمقراطية

بعد أن قامت الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني في العام 2011 لتحقيق العدالة الاجتماعية والعيش الكريم والكرامة الإنسانية للمواطن المصري، والتي مثّلت نموذجًا فريدًا لوحدة الصف الوطني في مواجهة حكم الإقصاء والتسلط الذي مارسه نظام مبارك لأكثر من ثلاثين عامًا، إلا أنه لم تتحق أهداف الثوار بتحقيق آمالهم وطموحاتهم، بسبب ممارسات المجلس العسكري الذي استحوذ على مقاليد الأمور بعد أن حصل على الثقة الكافية من فصائل سياسية مختلفة.

وبعد اختيار الدكتور محمد مرسي لرئاسة الجمهورية بشكل ديمقراطي،لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر الحديث، إلا أنه لم يحافظ على التوافق مع القوى السياسية التي ساندته في مرحلة الإعادة من جانب، ولم يكن صريحًا مع الشعب المصري في شرح أبعاد التحديات التي تواجهه من جانب آخر، ناهيك عن عداء كل مؤسسات الدولة له وعرقلة حركته في الإصلاح والتغيير.

لم يُكْمل الرئيس مرسي مدته الانتخابية التي من المفترض أن تنتهي في العام 2016، نتيجة للمحاولات المستمرة من جانب المعارضة في عرقلته، ولسياساته البطيئة في تحقيق العدالة الانتقالية من جانب آخر؛ فسعى معارضوه للتواطؤ مع المجلس العسكري وبذلوا كل السبل لإزاحته من منصبه وتحقق لهم ذلك بالحشود التي دعوا إليها في 30 من يونيو/حزيران 2013، وتبع ذلك بيان الانقلاب العسكري في 3 من يوليو/تموز الذي نصّ صراحة على إبعاد الرئيس المنتخب، ووضع خارطة طريق يتم بموجبها: "تعطيل العمل بالدستور بشكل مؤقت، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة على أن يتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا إدارة شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية لحين انتخاب رئيس جديد، وتشكيل حكومة كفاءات وطنية قوية وقادرة تتمتع بجميع الصلاحيات لإدارة المرحلة الحالية، وتشكيل لجنة تضم كافة الأطياف والخبرات لمراجعة التعديلات الدستورية المقترحة على الدستور الذى تم تعطيله مؤقتًا، ووضع ميثاق شرف إعلامى يكفل حرية الإعلام ويحقق القواعد المهنية والمصداقية والحيدة وإعلاء المصلحة العليا للوطن، وتشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية من شخصيات تتمتع بمصداقية وقبول لدى جميع النخب الوطنية وتمثل مختلف التوجهات"(9).

ولم يتحقق من خارطة الطريق تلك سوى تعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيسًا مؤقتًا للبلاد، وتغيير كبير في دستور 2012 بدلاً من تعديله، وترشح قائد الانقلاب لرئاسة الجمهورية، وتهيئة قطاع كبير من الشعب المصري للتصويت له، من خلال الترويج في وسائل الإعلام المختلفة بأنه المخلِّص الوحيد لمصر والمنقذ من سيطرة الإخوان على مقاليد الأمور، ومن ثمّ تم التعامل مع المعارضين للانقلاب بشكل أمني فجّ واعتقال أعداد كبيرة منهم.

وتم تعميق الانقسام المجتمعي بين أفراد الشعب المصري وخصوصًا بعد المجازر المتتالية التي قامت بها السلطة الحاكمة في الحرس الجمهوري، والمنصة، ورابعة العدوية، والنهضة.. وغيرها، التي راح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة حتى الآن، وأكثر من عشرين ألف معتقل، وآلاف المفقودين.

والجدول التالي يبين توزيع القتلى على المحافظات حتى نهاية يناير/كانون الثاني 2014 (10)

 

كل ذلك أجهض الممارسة الديمقراطية الناشئة التي أتت برئيس مدني لأول مرة في تاريخ مصر. ومن المؤكد أن كل الممارسات التي تمارسها السلطة الانتقالية تدفع إلى العودة لحكم العسكر مرة أخرى.

ومن المؤشرات المهمة التي ظهرت بعد الانقلاب العسكري عودة رجال مبارك إلى المشهد السياسي مرة أخرى، والكثير منهم يدعم ترشّح السيسي لرئاسة الجمهورية، للحفاظ على مصالحهم. ومن ثمّ يمكن أن نقول: "إن شعب مصر بعد أن قام بثورته المجيدة قد استرد كثيرًا من حريته وكرامته وشرفه ولكن سرعان ما ديست هذه الثورة تحت أقدام المتآمرين الخائنين حتى عاد الشعب إلى سيرته الأولى بلا حرية أو ديمقراطية. وأصبح مصير هذه الأمة معلقًا في الهواء تعبث به الريح كما تعبث بالريشة تطيح بها شمالا أو يمينًا أو تهوي به الريح فى مكان سحيق فلا يعبأ به أحد ولا يحرك ساكنًا عند أحد لأن الناس لا تحترم إلا القوىّ صاحب النفوذ، والضعيف لا حول له ولا قوة وما له من أشياع؛ فنحن نعيش فى عالم الغابة حيث يسود منطق القوة وسياسة المخالب الجاهزة والأنياب البارزة!"(11).

والأسئلة المهمة في هذا السياق:
هل يمكن أن يرى الشعب المصري الديمقراطية وينعم بممارستها مرة أخرى، بعد كل هذه التضحيات التي قدّمها، وما زال مستمرًا في تحركه السلمي، أم أن ظهور رموز نظام مبارك في الواجهة سيمنع من ذلك، وتعود الأمور إلى ما قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني؟

وهل سيقوم السيسي بالقضاء على البقية الباقية من معارضيه وخصوصًا الإخوان، باستخدام وتطويع القضاء الذي وصل به الأمر للحكم بالإعدام على المئات من المعارضين للانقلاب، وقيام الإعلام بتشويه كل المخالفين للسلطة الحاكمة، وقلب الحقائق، أم أنه سيتيح الفرصة لهم للعمل بشكل ديمقراطي ويُقدّم مصالحة تشمل الجميع؟

هل الانتخابات المقبلة: الرئاسية والبرلمانية ستشهد مشاركة شعبية ديمقراطية أم أن الأمر لاستكمال الصورة التي أرادها السيسي فقط، وخصوصًا مع مقاطعة التحالف الداعم للشرعية لتلك الانتخابات وكذلك العديد من القوى الثورية؟

وهل للأحزاب والقوى السياسية الداعمة للانقلاب دور في المرحلة القادمة بعد أن خارت قواها، وخاب أمل الديمقراطية فيها، واختارت الحل العسكري في مواجهة شعبية الإخوان المسلمين؟

وهل سيعتمد السيسي على رجال مبارك فقط أم يكون له مؤيدون من تكتلات أخرى، أم أنه سيجمع بينهما لتحقيق مآربه من جانب، ومصالحهم من جانب آخر؟

وهل الثوار ومن معهم سيعكّرون على الرئيس القادم تحقيق ما يصبو إليه، لعدم اعترافهم بما يحدث الآن وتوصيفهم له بأنه انقلاب صريح على الديمقراطية؟

لا يستطيع أحد التكهن بما سيحدث في المستقبل القريب؛ لأن المشهد شديد التعقيد، وهناك إصرار منذ اللحظة الأولى للانقلاب على استبعاد واستئصال كل القوى المناهضة للانقلاب من المشهد السياسي بالإقصاء أو الاعتقال أو القتل المباشر، وخصوصًا مع التواطؤ الواضح للغرب والولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص.

هل هناك أمل في الحراك الطلابي؟
كان الطلاب في عدد من المحطات وقودًا للثورة، والنظم الحاكمة دائمًا ما تخاف من رد الطلاب لأنهم يحركون الجماهير ويشعلون الشارع، ظهر ذلك جليًا في المظاهرات الطلابية في كل الجامعات المصرية، وخصوصًا في جامعة الأزهر.

ونظرًا لما يمثله الحراك الطلابي من خطر على السلطة القمعية، سعت سلطة الانقلاب إلى السيطرة على الجامعات، ومطاردة الطلاب، وقمعهم واعتقال العديد منهم، وفصل المئات منهم من الدراسة.

وفي حقيقة الأمر يمكن أن يكون مفتاح كسر الانقلاب من خلال الشباب بشكل عام والطلاب على وجه الخصوص.

وقد أثبت تجربة 25 يناير/كانون الثاني أن الشباب تمكّن من جمع مختلف فئات الشعب المصري على مطلب الحرية والكرامة، وقد يمكنه استعادة هذه الروح مرة ثانية؛ "فروافد الثورة تتجمع وتتوحد لتحفر نهر التغيير الذي نتطلع إليه، ومن رحم هذه الحركات المطلبية الصغيرة تتشكل صورة المجتمع الذي نصبو إليه، يبقى أن تتآلف وتتجمع قواعد هذه الحركات المطلبية وقيادتها كحبات عقد مترابطة ومنتظمة في جبهة سياسية موحدة تغزل رؤيتنا للتغيير الذي ننشده وتنحت ملامح البرنامج الذي يحققه وترسم وسائل إنجازه، وأعتقد أن في الأفق لمحًا من هذا الحلم الذي طال انتظار تحققه لكن يبدو أنه يدنو ويقترب حتى كدنا نلمحه ونحسه ونتحسسه، فكلما اشتدت الأزمات دنا الانفراج، وكلما حلك الظلام اقترب نور الفجر"(12).
________________________________
د. جمال نصار - باحث أول بمركز الجزيرة للدراسات

المراجع
1- أسس وركائز وتطبيق الديمقراطية، نويل مبيض
http://pages.videotron.com/moubayed/chap1.html
2- الحوار المتمدن، العدد: 3566، خليل أيوب، مفهوم الديمقراطية من الليبرالية إلى الماركسية
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=286015
3- تونس تبدأ عهد جمهوريتها الثانية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات   http://www.dohainstitute.org/release/79478abf-97a0-4054-97bc-e297f00cd6a6
4- حبيب السايح، التحول الديمقراطي في تونس: من الخلاف إلى التوافق؟
http://www.afrigatenews.net/content/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%A7%D9%81%D9%82%D8%9F
5- فتحي الجراي، الدستور التونسي الجديد ومستقبل الانتقال الديمقراطي، مركز الجزيرة للدراسات
http://studies.aljazeera.net/reports/2014/01/2014128113142737878.htm
6- محمد منير مجاهد، مستقبل الديمقراطية في مصر، الحوار المتمدن-العدد: 2697
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=177070
7- محمد منير مجاهد السابق.
8- محمد منير مجاهد نفسه.
9- نص بيان القوات المسلحة لخارطة الطريق
http://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=03072013&id=81a805f4-49eb-4b63-b7b3-56d4a4f12a6f
10- موقع ويكي ثورة.
http://wikithawra.wordpress.com/2013/11/12/sisicasualities/
11- السعيد الخميسي، مستقبل الديمقراطية في مصر، موقع المصريون
http://almesryoon.com/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%B6%D8%A9/53-%D9%88%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D9%86%D8%B8%D8%B1/371561-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%89-%D9%85%D8%B5%D8%B1
12- محمد منير مجاهد، مستقبل الديمقراطية في مصر، مرجع سابق.

نبذة عن الكاتب