المغرب: تحولات مكونات المشهد السياسي الحزبي

بين أغلبية حكومية يجمعها "زواج الضرورة" ومعارضة متباعدة، سيتأثر المشهد السياسي بهاجس الانتخابات البرلمانية المقبلة، ويتوقع أن يحرص الائتلاف الحكومي على إكمال الإصلاحات الكبرى؛ بينما تتجه المعارضة لتقوية أوضاعها الداخلية، وتستمر الملكية في رسم التوجهات الاستراتيجية، ومراقبة العملية السياسية.
2014619812865734_20.jpg
بين أغلبية حكومية يجمعها "زواج الضرورة" ومعارضة غير منسجمة، سيتأثر المشهد السياسي بهاجس الانتخابات البرلمانية المقبلة (الأوروبية)

ملخص
تمكَّن الائتلاف الحكومي من إدارة أزمة خروج شريكه حزب الاستقلال دون كلفة سياسية كبيرة، ونجح بتفهُّم ملكي ودعمه في ترميم أغلبيته؛ وذلك بإقناع حزب التجمُّع الوطني للأحرار بالالتحاق بصفِّه، ولم يمر الحدث دون توجيه رسائل سياسية إلى حزب العدالة والتنمية تحديدًا، ومكونات المعارضة أيضًا.

وتبدو العلاقة بين الملكية والحكومة علاقة أصل بفرع، وليست علاقة طرفين نِدَّيْنِ في السياسة، وروح الوثيقة الدستورية تُؤَكِّد هذا الاستنتاج.

وهنالك أغلبية حكومية يجمعها "زواج الضرورة" ومعارضة متباعدة، تكتفي بالنقد والاعتراض، وسيتأثر المشهد السياسي على الأقل حتى حدود نهاية الولاية التشريعية الحالية 2016 بهذا الاستحقاق نفسه؛ أي أفق الانتخابات البرلمانية المقبلة؛ فمن جانب الأغلبية يُتوقَّع أن يحرص الائتلاف الحكومي على استكمال الإصلاحات الكبرى، ومن زاوية المعارضة على تباعُد مكوناتها وتشتُّت أوصالها، يُنتظر منها أن تشدَّ صفوفها، وتقوِّي أوضاعها الداخلية، وترفع من منسوب علاقاتها البينية؛ لولوج حَلبة التنافس الانتخابي المقبل بأقل الخسائر. وبين طرفي هذه المعادلة ستستمر الملكية محافظة على دورها القيادي في ضمان الاستقرار، ورسم التوجهات الاستراتيجية، ومراقبة سير العملية السياسية.

يطرح المشهد السياسي الحزبي المغربي الكثير من الأسئلة؛ وذلك بعد مرور أكثر من سنتين على تنصيب الحكومة التي يترأسَّها السيد عبد الإله بنكيران، في أعقاب فوز حزبه في انتخابات مجلس النواب يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وهي في عمومها أسئلة تهم حال المشهد السياسي أولاً، ومكوناته ثانيًا، وموقع الملكية فيه ثالثًا، وآفاق تطوُّره مستقبلاً رابعًا.

 حال المشهد السياسي المغربي

يبدو المشهد السياسي المغربي بعد سنتين ونصف من تنظيم الانتخابات التشريعية هادئًا، مستقرًّا، وسائرًا على الإيقاع نفسه الذي ميَّزه منذ تشكيل الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية في يناير/كانون الثاني 2012، ولئن شهدت الأغلبية الحكومية رجَّةً بخروج وزراء حزب الاستقلال، ودخول نظرائهم في حزب "التجمع الوطني للأحرار" في 14 من أكتوبر/تشرين الأول 2013، وسعي مجموعة من أحزاب اليسار إلى لمِّ الشمل، وتكوين أقطاب سياسية؛ فقد ظلَّ المشهد الحزبي -ومعه المجال السياسي- ثابتًا في جوهره، لا يُوحي بحصول تحوُّلات ذات دلالة من شأنها التأثير الفعَّال في مُجريات الحياة السياسية المغربية.

إن أبرز حدث في مسيرة الحكومة -التي يقودها حزب العدالة والتنمية- منذ تشكيلها في أعقاب انتخاب مجلس النواب يوم 25 من نوفمبر/تشرين الثاني 2011(1)، يتجلَّى في الاستقالة الجماعية لخمسة وزراء من حزب الاستقلال(2)، الشريك الأساسي في الائتلاف الحكومي(3)؛ ومهما تباينت التقديرات حول أثر انسحاب حزب الاستقلال من الائتلاف؛ فقد تعرَّضت الحكومة لاهتزاز عرَّض أداءها إلى سيل من النقد، وفتح عليها بابَ المساءلة والمطالبة بالمحاسبة(4).

وإذا كان الائتلاف الحكومي قد تمكَّن من إدارة أزمة خروج وزراء الاستقلال دون كُلفة سياسية كبيرة، ونجح بتفهم ملكي ودعمه(5) في ترميم أغلبيته؛ بإقناع حزب التجمُّع الوطني للأحرار بالالتحاق بصفِّه(6)، والانطلاق من جديد في إتمام تنفيذ برنامجه إلى حين انتهاء الولاية التشريعية الحالية(2011- 2016)، فإن الحدث لم يمر دون توجيه رسائل سياسية إلى حزب العدالة والتنمية تحديدًا، ومكونات المعارضة أيضًا.

فمن زاوية الأغلبية الحكومية، ثمة شعور متنامٍ بأن حصيلة أداء الحكومة بعد مرور سنتين ونصف على تعيينها لم تكن في مستوى الإنجازات التي وعدت بها في برنامجها العام، والتصريحات التي ما انفكَّت تُرَدِّدها قيادتها في أكثر من مناسبة(7)؛ أما على صعيد مكوِّنات المعارضة؛ فقد أحدثت استقالة وزراء الاستقلال ما يُشبه الرّجَّة داخل الأحزاب وعلى مستوى علاقاتها البينية؛ لاسيما بالنسبة إلى الأحزاب الأكثر تقاربًا؛ من حيث المسار التاريخي، والتقاربات الأيديولوجية والفكرية، كما هو حال حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وقطب اليسار عمومًا؛ وإلى حدٍّ ما أحزاب "الوسط"، أو المحسوبَة عليه (الاتحاد الدستوري، حزب الأصالة والمعاصرة..).

مكونات المشهد السياسي الحزبي وتحولاتها

ينطوي المشهد السياسي الحزبي المغربي على مفارقة لافِتة للانتباه؛ فمن جهة ثمة حركية ساخنة من المناقشات متأرجحة بين الحوار والجدية أحيانًا، وردود الفعل و"الملاسَنة" طورًا آخر؛ لذلك لا يغيب عن المتابع لحال هذا المشهد أن تأرجحًا من هذه الطبيعة يعكس بكل المقاييس وجود قدر من الارتباك والتذبذب في المجال السياسي، وأنه ينمُّ عن الكثير من الافتعال والذاتية، وضعف الصراع والتنافس المؤسَّسَيْنِ على الأفكار والبرامج والاستراتيجيات؛ وبسبب ذلك لم تُفرز الممارسة السياسية الحزبية -على الرغم من الإمكانات الدستورية المهمَّة التي أتاحتها وثيقة دستور 2011- شُرُوطًا تُشَكِّل "أغلبية" و"معارضة" مكتملتين، ومكتسبتين ثقافة التعامل بمنطق الأغلبية وعقلية المعارضة.

اعتبر حزب العدالة والتنمية حلَّ أزمة خروج حزب الاستقلال وإعادة ترميم الأغلبية الحكومية بدخول حزب التجمع الوطني للأحرار )14من أكتوبر/تشرين الأول 2013) دفعةً جديدة لاستعادة الائتلاف الحكومي انسجامَهُ؛ ومن ثمة استئناف الحكومة الإصلاحات الهيكلية الكبرى التي تعثرت، إن لم نَقُلْ: توقفت منذ الإعلان عن التصدُّع الذي امتدَّ إلى علاقة حزب الاستقلال بالعدالة والتنمية (8 من مايو/أيار 2013)(8).

لم يتم التحاق حزب التجمع الوطني للأحرار بالائتلاف الحكومي دون تعليقات وردود فعل سياسية من أحزاب المعارضة تحديدًا؛ فالحزب الذي وسمه رئيس الحكومة بأقرب الأحزاب إلى الأوساط الاقتصادية والمالية وعالم التجارة والاستثمار، لم يُوافق على البرنامج الحكومي في نسخته الأولى (يناير/كانون الثاني 2012)، ولم يكن ضمن الأغلبية الحكومية؛ وبالتالي لم يُشارك في صياغة ميثاقها؛ لذلك بعد التوافق حول الحقائب الوزارية المسندة إليه، وهي في عمومها ذات صلة بالاقتصاد والمال والتجارة والخارجية، أجَّل قضيتي: النظر في البرنامج الحكومي، وميثاق الأغلبية إلى حين إعادة انطلاق العمل الحكومي، وتشكيل لجان لفحص هذين الملفَّيْنِ والتراضي حولهما(9).

إن ما ميَّز النسخة الثانية من الحكومة أن تشكيلتها -التي ارتفعت من 32 وزيرًا ووزيرَ دولة ووزيرًا منتدبًا وكاتبَ دولة(10) إلى 39 حقيبة وزارية- ضمَّت في عضويتها ثمانية وزراء غير حزبيين(11)، وهو معطًى لافِت في التركيبة الحكومية الجديدة، وإذا كان رئيس الحكومة لا يرى ما يمنع من تلقيح حكومته بكفاءات تقنوقراطية، ذات قدرة على تقوية أداء الحكومة؛ لاسيما في القطاعات الوازنة والاستراتيجية، فإن الحدث فتح الباب لسيل من الملاحظات وردود الفعل من قِبَل المعارضة، ومنظمات المجتمع المدني؛ حيث ذهب بعضُها إلى القول: إن ثمة عودةً إلى زمن التحكُّم السياسي، الذي مارسته الدولة من قَبلُ، بواسطة ما كان يُسَمَّى "الوزراء المستقلُّون"، أو "التقنوقراط".

لا توحي قراءةُ مكونات المشهد السياسي الحزبي المغربي بوجود أي تغيُّر جوهري في الأداء الحكومي ما بعد تعيين حكومة 14 من أكتوبر/تشرين الأول 2013؛ فهكذا ظلَّت الاستمرارية السمةَ البارزة، وإن طغت على علاقات الفاعلين السياسيين والاجتماعيين قضايا خلافية؛ وذلك من قبيل إقرار نظام المقايسة في تحديد أسعار المحروقات(12)، ومشروع إصلاح نظام المقاصة(13)، وأنظمة التقاعد، وإنهاء إصلاح منظومة العدالة، علاوة على ترسانة القوانين التنظيمية والعادية التي ألزم الفصل السادس والثمانون بإعدادها والمصادقة عليها خلال الولاية التشريعية الجارية (2011-2016)(14).

فبالإجمال تبدو الحكومة سائرةً في إنجاز ما اعتبرته أفضليات ذات أولوية خاصة؛ منها ما تفرضه التوازنات الاقتصادية والمالية، واشتراطات المؤسسات المالية الدولية(15)، وأخرى تتطلَّبها انتظارات المواطنين وتطلعاتهم؛ ومع ذلك إذا استثنينا إخضاع أسعار المحروقات لنظام المقايسة، ما زالت مجمل الملفات الحساسة مفتوحة على الإصلاح، ولم تنطلق بشكل فعلي بعدُ؛ على الرغم من تصدُّرها قائمة انشغالات الحكومة منذ طبعتها الأولى، وتضخُّم الحديث عنها من قِبَل الفاعلين السياسيين، ومنها على وجه التحديد "نظام المقاصة أو الدعم"، و"أنظمة التقاعد"، ومشروع قانون الإضراب، ومصفوفة القوانين التنظيمية والعادية المتبقية، ومؤسسات الحكامة الجيدة، والديمقراطية التشاركية المنصوص عليها حديثًا في الدستور الجديد(16).

ومقابل سمة الاستمرارية التي ميَّزت العمل الحكومي، ومكَّنت الأغلبية من ترميم تماسكها بعد الرجَّة التي تعرَّضت لها جرَّاء استقالة وزراء حزب الاستقلال، تبدو المعارضة بمختلف مكوناتها، غير منسجمة ولا متوافقة على الحدِّ الأدنى من التنسيق والتعاون واستثمار الإمكانات المهمة؛ التي منحها إياها الدستور الجديد(17).

فمن جهة الأحزاب الاشتراكية، وعائلة اليسار عمومًا، لم تُجدِ المحاولات المتقطِّعة التي سعت إلى لمِّ شتات هذه الأحزاب، والدَّفع بها إلى تشكيل قطب سياسي حزبي يساري(18)؛ بل أظهرت الوقائع عُمق الأزمة البنيوية (الأيديولوجية والفكرية)، التي تنخر جسم هذه العائلة السياسية منذ سنوات، التي يُجسِّدها واقع حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوَّات الشعبية"، باعتباره مرشحًا أكثر من غيره لقيادة هذا القطب؛ والحقيقة أن مشروع إعادة بناء وحدة اليسار المغربي، واستثمار مؤهِّلاته التاريخية والتنظيمية والفكرية، يحتاج إلى تغيير عميق في ثقافة مكوِّنات هذا القطب، أكثر من مجرَّد ترتيبات تنظيمية؛ لذلك لا يُتوقَّع أن يُسفر اندماج الحزب العمالي والحزب الاشتراكي -في "الاتحاد الاشتراكي للقوَّات الشعبية" في مايو/أيار 2013- عن نتائج ملموسة من شأنها تأسيس قطب اليسار المنتظر، ولا حتى "فيدرالية اليسار"، كما أصبح متداولاً في خطابات مكونات اليسار عمومًا.

والمؤشر الدَّال على هذا الاستنتاج، أن قاطرة قيادة مشروع توحيد اليسار؛ أي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، يشكو من عِلل شتى؛ أبرزها التآكل التدريجي لأرصدة قوَّته في المجتمع، والتضاؤل الواضح لشرعية قيادته وأداء مؤسَّسَاته.

أما من جهة أحزاب الوسط ومَنْ ينتسب إلى دائرتها، فلا يبدو أن ثمة مؤشرات مُقنِعة على وجود علاقات بينية منتظمة وذات آثار مُجدية؛ سواء في صيغة تكتُّل برلماني مُهيكَل ودائم، أو على صعيد التفكير في بلورة استراتيجية عمل جماعي فعال ومؤثَّر للمعارضة، ولا أدلَّ على هذا الأمر من فشل المبادرات السابقة التي جمعت مكونات ما يمكن تسميته "أحزاب الوسط"؛ سواء منها "تجمع الثمانية" G8، الذي مات مبكرًا، أو "تجمع الأربعة" G4 بقيادة "حزب الأصالة والمعاصرة"(19).

وإذا كان سعي حزب الأصالة والمعاصرة يروم التحوُّل إلى بديل حزبي وازِن في الساحة السياسية المغربية منذ تأسيسه عام 2008 لاعتبارات عديدة؛ أبرزها قرب زعيمه فؤاد علي الهمة من مصادر القرار، ونوعية الأعضاء المنتسبين إليه، وإلى حدٍّ ما المرجعية الفكرية التي ينهل منها(20)، فإن فورة تصاعده لم تنفك أن تراجعت، بفعل الضربات التي وُجِّهت إلى رموزه إبَّان انطلاق الحراك العربي؛ الذي شمل المغرب بظهور "حركة 20 من فبراير/شباط"؛ لذلك فَقَدَ الحزب قوَّته التي حصل عليها في انتخاب البلديات عام 2009(21)، وشهد سيلاً من الانسحابات والتمزُّقات الداخلية، واتجه منذ انتخاب أمينه العام الجديد(22) إلى إعادة ترميم بيته الداخلي، وتحوير أولوياته كي يستعيد قوَّته، والتهيُّؤ لاقتراع عام 2016.

نحن إذن أمام حالة من الاستمرارية الموسومة بوجود "أغلبية حكومية" يجمعها "زواج الضرورة" ومعارضة متباعدة، إن لم نَقُلْ: منقسمة على نفسها، تكتفي بالنقد والاعتراض، وفي أحيان كثيرة لا يجمعها بالأغلبية أدنى حدٍّ من الحوار؛ علمًا أن الديمقراطية تتعمَّق وتنضج ويتوسع مفعولها على المجتمع بتحاور الأغلبية والمعارضة، وتعايشهما، وتنافسهما على ما يخدُم الناس، ويُرضي تطلعاتهم جميعًا.

 موقع الملكية في المشهد السياسي

من تحصيل الحاصل إعادة التأكيد على مكانة الملكية في الحياة السياسية المغربية؛ فهي بكل المقاييس رقمٌ محوريٌّ ومُعطى صعبٌ في معادلة السياسة في المغرب؛ لذلك ظلَّ المشهد السياسي الحزبي المغربي مطبوعًا بتأثير المؤسسة الملكية، مبادرةً وتوجيهًا، وتخطيطًا وإشرافًا، ولئن سعَت الوثيقة الدستورية الجديدة لعام 2011 إلى توسيع مجالات تدخُّل المؤسسات الدستورية الثلاث (البرلمان، الحكومة، القضاء)؛ فقد استمرَّت البنية العميقة لتوزيع السلطة ثابتةً على صعيد مكانة الملكية الدينية والدستورية؛ لذلك يسمح الدستور للملك بأدوار استراتيجية في قيادة البلاد وضمان استمرارها، والمحافظة على استقرارها، وممارسة دور الحَكَم بين الفاعلين السياسيين والحزبيين، والمعبِّر الأسمى عن الشرعية الدينية. والملكية مُثْبَتَة باسم الدستور وعلى أساسه، في كل مفاصل الدولة، ومالِكة أهم مفاتيح السلطة.

وتبدو العلاقة بين الملكية والحكومة -والحال هنا الحكومة التي أفرزها اقتراع 25 من نوفمبر/تشرين الثاني 2011- علاقةَ أصل بفرع، وليست علاقة طرفين نِدَّيْنِ في السياسة، والحقيقة أن روح الوثيقة الدستورية نفسها تؤكِّد رجاحة هذا الاستنتاج؛ فلو أخذنا الفصل الثاني والأربعين وحده(23) لاستخرجنا أكثر من اختصاص استراتيجي للملك؛ ناهيك عن مكانته الدينية والدستورية في علاقته بالبرلمان والحكومة والقضاء، وباقي مؤسَّسات الحكامة، وهيئات الديمقراطية التشاركية.

لذلك تكتسي الملكية في المشهد السياسي الراهن طابع الموجِّه الاستراتيجي؛ أي الفاعل المبادِر في رسم الاختيارات الكبرى، والموجِّه للعمل الحكومي ضمن حدود هذه التوجُّهات؛ سواء على صعيد التشريع أو على مستوى التنفيذ، وللتدليل على ذلك نُشير -على سبيل المثال- إلى أن الملك يرأس المجلس الوزاري، بمقتضى الفصل الثامن والأربعين(24)، الذي يتداول -بحسب الفصل الموالي له (التاسع والأربعين)- قضايا ونصوصًا بالغة الأهمية(25).

وانطلاقًا من عدم وجود نِدِّيَّة بين الملكية والحكومة المُعيَّنة دستوريًّا من قِبَلِهَا، لم يكن وارِدًا تصوُّر وجود استقلالية مكتملة للحكومة المنبثقة من نتائج اقتراع مجلس النواب؛ ففي التقدير ما زال مطلب إقامة حكومة ذات شخصية مستقلة مشروعًا مفتوحًا على المستقبل، أو أفقًا بعيد المنال في الزمن السياسي المنظور؛ لذلك -وعلى الرغم من موجات النقد التي وُجِّهت لحكومة السيد "عبد الإله بنكيران" منذ تشكيلها، باسم عدم شجاعتها، وضعف المبادرة لديها، وعجزها عن الاندفاع بعيدًا في ممارسة الاختصاصات التي منحها الدستور الجديد- لم يَجِدْ خطاب النقد هذا صدًى لدى رئيس الحكومة، ولا المكونات المتحالفة معه؛ بل بالعكس ظلَّت المقولة المُعادة على لسان رئيس الحكومة تُرَدّد: "لا نجاح إلا مع الملك، ولن ننخرط في منطق التنازع مع الملك". وهي في واقع الأمر مقولة تُلَخِّص بمنتهى الوضوح منهجية حزب العدالة والتنمية، وجوهر رؤيته لتدبير الشأن العام في بيئة سياسية مركَّبة، كما هو حال النسق السياسي المغربي.

إن الحزب يصف نفسه بأنه "حزب سياسي وطني يسعى -انطلاقًا من المرجعية الإسلامية، وفي إطار الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين- إلى الإسهام في بناء مغرب حديث وديمقراطي". وفي هذا السياق نخلُص -علاوة على الموقع المحوري للملكية في المشهد السياسي والحزبي المغربي- إلى أن الهاجس المركزي لحزب العدالة والتنمية، بوصفه قائدًا للعمل الحكومي، ظلَّ مرتهنًا بالرغبة المتجدِّدَة في بناء الثقة مع الملكية وترسيخها في الممارسة، والخروج تاليًا من دائرة الغموض والاحتراز، وأحيانًا التشكيك في الانتساب النهائي لعالَمِ السياسة المعترف بقواعده من قبل كل مكونات المشهد الحزبي المغربي. ألَمْ يتعرَّض حزب العدالة والتنمية إلى سيل من التساؤلات حين ضربت عاصمة المغرب الاقتصادية (الدار البيضاء) موجة إرهابية في 16 من مايو/أيار 2003، خلَّفت ضحايا أبرياء من المدنيين؟

آفاق المشهد السياسي المغربي

لا يختلف اثنان في أن المشهد السياسي المغربي سيتأثَّر -على الأقل حتى حدود نهاية الولاية التشريعية الحالية (2016)- بهذا الاستحقاق نفسه؛ أي أفق الانتخابات البرلمانية المقبلة؛ فمن جانب الأغلبية يُتوقَّع أن يحرص الائتلاف الحكومي على استكمال الإصلاحات الكبرى، والإعداد النهائي لمشاريع القوانين التنظيمية والمصادقة عليها، كما ألزمَ المشرِّع الدستوري بذلك في نصِّ الفصل السادس والثمانين. ومن زاوية المعارضة -على تباعُد مكوِّناتها وتشتُّت أوصالها- يُنتظر أن تشدَّ صفوفها، وتُقَوِّيَ أوضاعها الداخلية، وترفع من منسوب علاقاتها البينية، ولو في الحدود الدنيا؛ لولوج حَلبة التنافس الانتخابي المقبل بأقل الخسائر. وبين طرفي هذه المعادلة ستستمر الملكية محافِظةً على دورها القيادي في ضمان الاستقرار، ورسم التوجهات الاستراتيجية، ومراقِبةً سير العملية السياسية ضمن قواعد الشرعية وأحكامها.

الأغلبية الحكومية -وإن كان يجمعها ميثاق مشترك(26)- ستُحاول مكوِّنَاتُها منفردةً تقويةَ رصيدَها الشعبي، وهي تترقَّب قدوم الاستحقاقات الانتخابية القادمة، وفي هذا الصدد يهمُّنَا التركيز على حزب العدالة والتنمية أكثر من غيره من أحزاب الأغلبية؛ فالحزب معني أكثر من غيره بتثمين رصيده من قيادة العمل الحكومي خلال ما مرَّ من الولاية التشريعية وما تبقَّى منها؛ فمن جهة يعنيه كثيرًا تعميق بناء الثقة مع المؤسسة الملكية، والارتقاء بها إلى خطِّ اللاَّ رجعة، ومن جهة ثانية سيظلُّ يقظًا وهو يرى تجارب غيره من "الإسلاميين" تتهاوى، وتنتكس في أكثر من بلد عربي؛ لذلك لن تغيب عنه الدروس الممكن استخلاصها من هذه التجارب، وإن كانت البيئات الحاضنة مختلفة من قُطر إلى آخر؛ ومع ذلك لا نرى النجاح على مرمى الحجر؛ فالصعوبات -التي تحفُّ حزب العدالة والتنمية في بناء الثقة مع الملكية والظفر بجِلْدِه ممَّا حدث لنظرائه من الإسلاميين- كثيرة وموجودة في معطيات المحيط الملكي، والبيئة الإقليمية الدولية على حدٍّ سواء.

ويكمن مشكل المعارضة في كونها معارضات بالجَمْع، وليست معارضة بالمفرد؛ ومن هنا يكتسي سؤال صيرورتها مكوِّنًا فاعلاً في المشهد السياسي طابع الصعوبة والتعقيد؛ فمن جهة لا يجمع المعارضة قاسم أيديولوجي ولا فكري أو تاريخي مشترك، ومن جهة أخرى تشكو في مجملها إمَّا ضعفَ أرصدتها الشعبية، أو تمزُّقَ نسيجها التنظيمي، ووهنَ وحدتها الداخلية. وفي كل الأحوال تحتاج المعارضة إلى قدر يسير من الوقت والجهد؛ لكي تُوَفِّر شروط انسجامها الداخلي، وصلابة علاقاتها البينية.

وثمة تقدير يرى أن العلاقة بين حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال -وفي ضوء السياقات التي حكمت تجديد قيادة هذين الحزبين- قد تزداد قوَّة، وقد ترتقي إلى مستويات أعمق من التنسيق والتعاون، لاسيما أن الحزبين شرعَا في تأسيس هذا التقارب بعد التحاق الاستقلاليين بصفوف المعارضة؛ ويُضيف التقدير نفسه أن ضرورات السياسة قد تدفع الحزبان معًا إلى صياغة شكل ما من التقارب مع "حزب الأصالة والمعاصرة"؛ لتشكيل النواة الصلبة للتحالف المقبل الذي ستُفرزه نتائج اقتراع عام 2016، ولا يبدو هذا التقدير منطويًا على عناصر الإقناع؛ بيد أنه في السياسة وتحديدًا في نسق سياسي مركب، كما هو حال المغرب، كلُّ شيء محتمل وممكن.
_______________________________
امحمد مالكي - أستاذ العلوم السياسية، مدير مركز الدراسات الدستورية والسياسية - المغرب.

المصادر
1- تمثل الانتخابات التشريعية لـ 25 من نوفمبر/تشرين الثاني 2011 التاسعة منذ استقلال المغرب عام 1956. فقد شهد المغرب قبلها انتخابات سنوات: 1963، 1970، 1977، 1984، 1993، 1997، 2002، 2007.
2- يتعلَّق الأمر بالوزارات التالية: الاقتصاد والمالية، والطاقة والمعادن، والصناعة التقليدية، وشؤون الجالية المغربية في الخارج، والخارجية، وحده وزير التعليم لم ينضبط لقرار الحزب، فأمسك عن تقديم استقالته.
3- يُذكر أن حزب الاستقلال جاء في المرتبة الثانية في اقتراع 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 بـ 67 مقعدًا، وبذلك اعتبر مكوِّنًا أساسيًّا في تشكيل حكومة 3 من يناير/كانون الثاني 2011، علاوة على تجربته في الحكومات التي تعاقبت على السلطة منذ عام 2011. دون نسيان أنه الحكومة المشكلة في أعقاب انتخاب 7 سبتمبر/أيلول 2077، حين فاز بالرتبة الأولى في نتائجها.
4- نشير إلى أن الدستور الجديد لعام 2011 أقرَّ مجموعة من الآليات للقيام بمساءلة منتظمة للعمل الحكومي، منها على سبيل المثال ما ورد في الفصل 101، حين قضى بما يلي: يعرض رئيس الحكومة أمام البرلمان الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة، إما بمبادرة منه، أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس النواب، أو من أغلبية أعضاء مجلس المستشارين. تخصص جلسة سنوية من قبل البرلمان لمناقشة السياسات العمومية وتقييمها".. للاطلاع على النص الكامل للدستور المغربي لسنة 2011، انظر الجريدة الرسمية، عدد 5964، بتاريخ 30 من يوليو/تموز 2011، ص3600 وما بعدها.
5- يمكن قراءة الاستقبال المتأخِّر نسبيًّا للأمين العام لحزب الاستقلال من قبل الملك، والاستجابة الفورية لقرار الاستقالات الفردية، نوعًا من التفهم لأداء الحكومة بقيادة حزب العدالة والتنمية وقدرًا من الدعم لاستمرارها.
6- نشير إلى أن حزب التجمع الوطني للأحرار فاز بالرتبة الثالثة في انتخابات 25 من نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وسبق له أن اعترض على برنامج الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية حين تعيينها في يناير/كانون الثاني عام 2012، وصوت ضدها في البرلمان.
7- لاسيما في البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، وفي البرنامج الحكومي المقدم في أعقاب تعيينها في يناير/كانون الثاني 2012.
8- للإشارة قدم وزراء حزب الاستقلال استقالتهم في 8 من مايو/أيار 2013، وقبلها الملك في 22 من يوليو/تموز 2013، لينطلق ترميم الائتلاف الحكومي، وفي 10 من أكتوبر/تشرين الأول صدر بلاغ ملكي بتعيين الطبعة الثانية من الحكومة، ليصدر ظهيرها وينشر بتاريخ 14 من أكتوبر/تشرين الأول 2014.
9- وفعلاً أعيد النظر في ميثاق الأغلبية وتمّ الإعلان عن صيغته الجديدة، التي جاءت شبه مكررة لسابقتها، أما البرنامج الحكومي فقد شكلت لجنة وظيفية بخصوصه.
10- علمًا بأن الدستور الجديد لعام 2011 لم يُشر إلى ما يسمى "وزير دولة"، ولا "الوزير المنتدب"؛ فالفقرة الأولى من الفصل السابع والثمانين نصَّت على التالي: "تتألف الحكومة من رئيس الحكومة والوزراء، ويمكن أن تضم كتابًا للدولة".
11- منها وزارات الداخلية، والأوقاف والشؤون الإسلامية، وكتابة الدولة في الداخلية، والفلاحة، والأمانة العامة للحكومة، والدفاع والتعليم.
12- تمَّ اعتماد السعر الدولي للنفط قاعدة لتحديد سعر بيع المحروقات في السوق الداخلي صعودًا ونزولاً، في اليوم السادس عشر من كل شهر. وإذا تجاوز السعر الدولي لبرميل النفط سقف 120 دولارًا، فإن السلطة الحكومية لا تخضعه للمقايسة.
13- المقصود هنا صندوق دعم مواد الاستهلاك الأساسية التي يستفيد منها كل المواطنين دون تمييز.
14- ورد في الفصل 86 ما يلي: "تعرض مشاريع القوانين التنظيمية المنصوص عليها في هذا الدستور وجوبًا قصد المصادقة عليها من قبل البرلمان، في أجل لا يتعدَّى مدَّة الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذ هذا الدستور".
15- نُشير على وجه التحديد إلى التزامات المغرب حيال اشتراطات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
16- منها على سبيل المثال: "الهيئة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز"، "المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة"، و"المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي".
17- منح الدستور الجديد لعام 2011 -لأول مرَّة في تاريخ الدساتير المغربية- مكانة خاصة للمعارضة ودورها في العمل البرلماني، وفي علاقتها بالأغلبية الحكومية؛ لذلك، ورد في فصله العاشر أحد عشر بندًا خاصًّا تضمَّنت مجموعة من الحقوق، تمكنها من لعب دور فعال إلى جانب الأغلبية، وفي الحياة البرلمانية والسياسية عمومًا.
18- يُذكر أن الأمين العام الجديد للاتحاد الاشتراكي للقوات الاشتراكي "إدريس لشكر"، ما انفك يدعو في تصريحاته إلى توحيد عائلة اليسار، وإن شهد الحزب منذ نهاية العقد التاسع من القرن الماضي التحاق مجموعات من "الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، المنشق عن "منظمة العمل الديمقراطي الشعبي". بل يمكن القول: إن رهان تكوين قطب سياسي لليسار كان حاضرًا باستمرار في برنامج حزب الاتحاد الاشتراكي وتصريحات قادته.
19- أسس حزب الأصالة والمعاصرة سنة 2008، وقبله ظهرت "حركة من أجل كل الديمقراطيين"، التي مهَّدت عمليًّا لميلاده لاحقًا.. أما تكوينه فيضم في عضويته خليطًا من كل الآفاق: اليساريون القدامى، والغاضبون على أحزابهم، والأعيان، والذين ضاقت بهم أوضاع أحزابهم فتوسلوا من هذا التنظيم الجديد أن يفتح لهم آفاقًا سياسية جديدة.
20- نشير بدرجة أساسية إلى تقرير الخمسينية، وتقرير هيئة الإنصاف والمصالحة.
21- حيث اكتسح نسبة 21 في المائة من المقاعد البلدية، وجمَّع أكبر فريق في مجلس المستشارين، ولم يكن قد مرَّ على تأسيسه أكثر من ستة أشهر.
22- نعني انتخاب أمينه العام "الباكوري" في فبراير/شباط 2012.
23- يتعلَّق الفصل الثاني والأربعون بـ الاختصاصات الدستورية العصرية المخولة للملك، ونجد نظيرًا لها لدى رؤساء الجمهوريات في الدساتير المعاصرة.
24- ينص الفصل الثامن والأربعين على أن "يرأس الملك المجلس الوزاري، الذي يتألف من رئيس الحكومة والوزراء...".
25- تضمن الفصل التاسع والأربعين على إحدى عشر قضية ونص تدخل في الصلاحيات التي يتداولها المجلس الوزاري.
26- نشير إلى أن الأغلبية الحكومية في طبعتها الأولى وقعت على ميثاق الأغلبية في 16 ديسمبر/كانون الأول 2011، وأعادت التوقيع عليه منقحًا مرة ثانية في 11 من إبريل/نيسان 2014، بعد انسحاب وزراء حزب الاستقلال ودخول التجمع الوطني للأحرار.

نبذة عن الكاتب