كينيا على مفترق طرق محليًا ودوليًا

تشهد كينيا منذ بعض الوقت صراعا مع بعض دول الغرب ممن كانت تجمعها بها علاقات ودية وتبعية ثقافية فضلا عن وجود مشكلات كينية داخلية، فهل كينيا في طريقها إلى انفجار يؤدي إلى انهيار؟ وهل ستشهد كينيا حالات أشبه بحالات الربيع العربي؟
201491595413427734_20.jpg
(الجزيرة)
ملخص
الصراع في كينيا صراع مركّب، فمن جهة هناك انقسام داخلي سبّبه صراع حول السلطة والثروة بين الحكومة والمعارضة وكلٌ يستند إلى إثنيات وأقاليم، وهو صراع حول "العدالة والمساواة أمام القانون وتداول السلطة". ومن جهة أخرى هناك صراع دولي يوازي الصراع الداخلي سببه محاولة كينيا الاتجاه نحو الصين ويصطدم برفض غربي، وهو صراع حول "لمن تكون كينيا؟". وهناك صراع ثالث، وهو شخصي، بين الرئيس الكيني ونائبه من جهة ومحكمة الجنايات الدولية من جهة أخرى، ولكنه في الوقت نفسه يمس سيادة كينيا، وهو صراع حول "سيادة واستقلال كينيا (خطاب الحكومة)، وحول معاقبة المجرمين وإنصاف المظلومين وأخذ العدالة مجراها واحترام القانون الدولي وعدم التستر بالسيادة الوطنية (خطاب المجتمع الدولي-الغرب)". فالحكومة تدعي أن الغرب يحرض المعارضة لإحداث فوضى في البلد من أجل مصالحه، ولكن المعارضة تتهم الحكومة بمحاولة قتل الدستور والرجوع إلى عهد الديكتاتوريات، ومطالبها مشروعة. وهذه الصراعات لا محالة تضر بكينيا وخاصة الصراع المحلي. أما أثر الصراع الدولي فإن تأثيره متوقف على مدى تماسك الجبهة الداخلية. ويبدو أن كينيا لن تنزلق إلى انهيار، وذلك لحرص جميع المتصارعين -محليين ودوليين- على الفوز بها سالمة.

كينيا دولة تقع في شرق إفريقيا ومن الدول الحديثة إذ كان المستعمر البريطاني جزءًا كبيرًا من تكوينها السياسي والجغرافي، ومثّلت هي وأوغندا وتنزانيا ما عُرف بمجموعة شرق إفريقيا. استقلت كينيا من الاستعمار البريطاني الذي احتلها لمدة ثمانين سنة في عام 1963، سبقتها فترة انتداب لم تتجاوز ستة أشهر.

والنظام السياسي في فترة ما قبل الاستقلال اتسم بالاتساق وإعداد مؤسسات البلد للاستقلال. وفي فترة الحرب الباردة كانت كينيا مع المعسكر الغربي، وفي شؤونها المحلية نعمت كينيا باستقرار لم تحظ به الدول المجاورة لها باستثناء قتل محدود وتهجير مجموعات إثنية من بعض المناطق والولايات بسبب الخلاف السياسي وذلك في انتخابات عام 2007؛ وذلك الخلاف تداركه الكينيون ومعهم المجتمع الدولي حتى لا تنهار الدولة الكينية. وقال الغرب في حينها: إن كينيا لا ينبغي أن تُترك لحفنة من السياسيين ليدمروها. ولكن كينيا, وبعد مرور ثماني سنوات على تلك الأحداث تواجه مشكلات بعضها محلية وأخرى دولية؛ إذ إن كينيا في صراع مع من كانوا معها طيلة نصف قرن مضى. والسؤال, وبعد خمسين عامًا من العلاقات الودية والتبعية الثقافية للغرب ومع وجود مشكلات داخلية: هل كينيا في طريقها إلى انفجار يؤدي إلى انهيار؟ وهل ستشهد كينيا حالات أشبه بحالات الربيع العربي؟ هذه الورقة محاولة لقراءة الأوضاع الكينية الدولية والمحلية والعلاقة بينهما ومآلات المستقبل.

أولاً: كينيا والغرب

1- محكمة الجرائم الدولية
تأزُّم العلاقات مع الغرب له أسباب باطنة وأخرى ظاهرة؛ فأمّا الظاهرة فهي مسألة محلية اتخذت مظهرًا دوليًا وهي محكمة الجرائم الدولية. وكانت بداية تلك المشكلة القتل والتهجير الإثني الذي سبّبته انتخابات الرئاسة المتنازع عليها في عام 2007 والتي كادت تعصف بكينيا, وهُرع المجتمع الدولي إلى حماية كينيا من نفسها، وحتى لا يحدث فيها ما حدث في دول أخرى. وقد فاز أهورو كينياتا وووليم روتو المتهمان الأساسيان في الجرائم التي ارتكبت في عام 2007 بمنصبي الرئيس ونائبه في انتخابات عام 2013، في تحالف بدا وكأنه تحد للإرادة الدولية. ولم يقتصر التحذير الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة وبريطانيا في الترشح لهذه المناصب على المتهمين بجرائم الحرب، بل حذّر الغرب الشعب الكيني برمته بعدم انتخاب المتهمين.

وفي أثناء سعي الكينيين إلى الانتخابات أصدرت جميع البعثات الدبلوماسية الغربية في نيروبي تحذيرًا بأن انتخاب المتهمين ليس لصالح كينيا، وأن أميركا أشارت إلى أنها لن تتعاون مع متهمين بجرائم حرب دولية. بل إن نائب الخارجية الأميركية للشؤون الإفريقية كان صريحًا حيث قال: "الاختيار له عواقب وخيمة". وانقسم الشعب الكيني بين معارض للتصرفات الغربية، ويرى أنها تدخل سافر في الشؤون الكينية الخاصة، وتساءل البعض: وكأن الكينيين ليسوا أحرارًا في اختيار من يحكمهم. وفي المقابل كان هناك قطاع آخر لا يقل عن الآخرين، كانوا يرون أن لا يُنتخَب المتهمان حتى لا تواجه كينيا دول الغرب الصديقة. وفي استطلاع للآراء كان غالبية الكينيين يرون أن تتولى محكمة الجرائم الدولية قضية محاكمة المتهمين وذلك لعدم الثقة بالقضاء الكيني المتهم بعدم النزاهة. وبعد انتخاب الرجلين المتهمين بدءا يستخدمان منصبيهما للتقليل من شأن محكمة الجرائم الدولية بحكم موقعهما، وطالبوا بالحصانة كرئيس منتخب ونائبه، ولكن الغرب لم يغير موقفه حيال المتهمين.

2- رد الفعل الكيني
تجلى رد فعل الحكومة الكينية في عدة محاور، من أهمها:

  1. محاولة تقويض محكمة الجرائم الدولية: سعت كينيا إلى تقويض محكمة الجرائم الدولية في روما، وحشدت الاتحاد الإفريقي للانسحاب الجماعي من المحكمة وتعريضها للانهيار لأن معظم الدول الإفريقية من الموقعين عليها، وتصوير المحكمة بأنها محكمة عنصرية مقامة فقط لمحاكمة المتهمين الأفارقة. ولكن الاتحاد الإفريقي لم يلبِّ مطالب كينيا، بل أكّد على موقف سابق للاتحاد الإفريقي وهو عدم محاكمة رئيس إفريقي في سُدّة الحكم. 
  2. الاتجاه إلى الصين: وهو أمر بدأه الرئيس السابق، وهو جزء من توجه إفريقي لاعتقاد النخب الإفريقية الحاكمة بأن الصين بديل عن الغرب في التنمية وفي الشراكة التجارية إلا أن الاتجاه إلى الصين اتخذ وتيرة أسرع وبطريقة ناقمة على الغرب. قام الرئيس الكيني المنتخب بأول زياراته إلى الصين ثم روسيا وأثار مع الأخيرة شراء أسلحة منها؛ وكان هذا غريبًا من رئيس كيني؛ فالصين حظيت بعقود مشاريع عملاقة ببلايين الدولارات، وبدأت الشركات الصينية تنافس بل تكاد تغلب الشركات الغربية التي كانت تعتقد أن كينيا حديقة خلفية لها. وخطب الرئيس الكيني أمام مجمع الاتحاد الإفريقي الجديد الذي بنته الصين في مقر الاتحاد بأديس أبابا في الاحتفال بمرور خمسين عامًا على الاتحاد، وكان خطابًا شديد اللهجة مُدينًا للغرب وتعامله مع القارة، وفي المقابل أشاد بالصين ووصفها بالشريك. ومع أن العلاقات الصينية-الكينية ليست مبرأة من العيوب -وهو أمر عام في العلاقات الصينية-الإفريقية- فإن تظاهر الصين ببناء شبكة طرق مواصلات، والمشاريع الزراعية والصناعية، والشراكة التجارية، وإعفاء إفريقيا من الديون، جعل رجل الشارع الإفريقي ينظر إلى الصين نظرة على الأقل مختلفة عن نظرته للغرب المستغل الذي استعمر القارة لمدة ثمانين سنة ثم أغرقها في الديون والتخلف ومنعها من التنمية لعقود.

هذه بعض مظاهر الموقف الكيني من الغرب وتتلخص في سعي كينيا إلى تقويض وجود محكمة الجرائم الدولية وتأليب الأفارقة عليها، ومحاولة الانحياز إلى الصين، وإظهار إمكانية استغناء كينيا عن الغرب، هي العوامل الخفية للأزمة مع الغرب. مع ملاحظة أن محاولة التحرر الكيني من الغرب هي العامل الأشد. إن الولايات المتحدة وبريطانيا تريان أن كينيا، بحكم موقعها وأهميتها الاسترتيجية كحلقة وصل بين شرق وقرن إفريقيا من جهة ووسط إفريقيا من جهة أخرى، وبكفاءة قوتها العاملة وبمينائها العملاق الذي يخدم بضع دول إفريقية، ليست هي الوحيدة المتجهة إلى الصين بل تجذب مجموعة دول شرق إفريقيا وإثيوبيا وجنوب السودان إلى الفلَك الصيني. والمثال على ذلك أن الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء الصيني إلى إفريقيا في مايو/أيار عام 2014، والتي كانت كينيا إحدى محطاتها، وما صاحب من حضور رؤساء المنطقة إلى نيروبي لمقابلة المسؤول الصيني لَدليل على الدور الكيني، وما وقع من المشاريع، كل هذه الأشياء مجتمعة فجرت أزمة مع الغرب الذي يحاول فيها أن يُرِي كينيا أنها ليست بالقوة التي يمكنها أن تخرج بسهولة من الفلك؛ فقامت الدول الغربية بالآتي لتأديب كينيا:

  1. إصدار الغرب تحذيرات متكررة لمواطنيه بعدم السفر إلى كينيا لأنها ليست آمنة، وخاصة في المناطق السياحية في الساحل الكيني. وهذا الفعل أضرّ بالاقتصاد الكيني الذي يعاني أصلاً من مشكلات متعددة. هذه التحذيرات تصدر بحجة أن كينيا ليست آمنة بسبب تنفيذ حركة الشباب الصومالية تفجيرات، أهمها تدمير مركز "وست غيت" في أحد أرقى أحياء نيروبي، وصرّحت الحركة أخيرًا بأنها نقلت أعمالها إلى كينيا ولن تترك الكينيين حتى تسحب الحكومة الكينية قواتها المسلحة من جنوب الصومال.
  2. لم تكتفِ بريطانيا والولايات المتحدة بإصدار تحذيرات بل أمرت بريطانيا السياح البريطانيين بالخروج فورًا من الفنادق في منطقة الساحل، ولتدليلها على خطر وشيك استأجرت الحكومة البريطانية طائرات على نفقتها، ورحّلت رعاياها إلى زنجبار بصورة سريعة. ونتج عن هذا إلغاء آلاف الحجوزات في فنادق كينيا السياحية، وإلغاء سياح آخرين من أوروبا قضاء إجازاتهم في كينيا؛ ومن ثم انعدام الثقة بكينيا في كونها قبلة للسياح الغربيين.
  3. وفي مجال الدبلوماسية أغلقت بريطانيا قنصليتها في ممباسا. وأمرٌ آخر أسوأ منه وهو أن الحكومة البريطانية قررت غلْق قسم التأشيرات في سفارتها في نيروبي مع بداية العام القادم 2015، وأن إجراءات التأشيرات للكينيين تجري في بريتوريا في جنوب إفريقيا. وهو فعل استغربه كثير من الكينيين وإن قالت السفارة البريطانية: إن هذا إجراء له علاقة بشأن بريطاني داخلي يرمي إلى تقليل النفقات في البعثات الخارجية ولا علاقة له بالخلافات الغربية-الكينية. أما الولايات المتحدة التي بنت ثالث أكبر سفارة لها في العالم في نيروبي فقررت تقليل الموظفين غير المهمين إلى أقصى حد لها، ورحّلت السفارة الأميركية بعض موظفيها إلى دولة مجاورة، وأعلنت أن قوات من المارينز الأميركية ستتمركز في السفارة تحسبًا لأية مفاجآت. وكذلك هولندا أغلقت قنصليتها في ممباسا.
  4. أمرت حكومة الولايات المتحدة بعض منظماتها الإنسانية، مثل: "العون الانساني" بتقليل أو إيقاف بعض أعمالها ورفع الدعم عن بعض القطاعات وتحويل بعض أعمالها إلى دول إفريقية أخرى.

هذه التصرفات الغربية والتي تُظهر أن كينيا في حالة حرب أو على الأقل تصوّر أن هناك انفلاتًا كاملاً للأمن، هذه التصرفات كانت توازيها تحركات محلية، وهي:

  1. مطالب المعارضة والتي دعت إلى مسيرات وتظاهرات في جميع أنحاء البلد تُوّجت بمليونية في ساحة "الحرية " بنيروبي كان الحضور فيها قويًا ومرت بسلام. وكانت الحكومة الكينية متخوفة من أن تتحول تلك المليونية إلى مواجهات بين أتباع المعارضة وأتباع الحكومة أو على الأقل أن يندس في المليونية بعض المخربين، ولهذا فإن الحكومة أعدت حوالى خمسة عشر ألفًا من رجال الأمن على الموقع. في "ساحة الحرية" بنيروبي، وقد طالبت المعارضة الحكومة بثلاثة عشر بندًا كلها قضايا داخلية معظمها تنفيذ الدستور الجديد الذي أصبح ساري المفعول عقب انتخابات 2013. ومنها توزيع الثروة والمناصب الحكومية بصورة عادلة، وعدم تمييع الدستور الناشئ الذي هو في حاجة إلى حسن نية في تنفيذه، ومحاربة الفساد الذي يبدو أنه صار عصيًا على كل من تسول له نفسه محاربته أو كبح جماحه على الأقل. وطالبت المعارضة من بين تلك البنود بالعمل على مصالحة وطنية تجمع الشعب الكيني الموزع على أسس طائفية وعرقية تغذيها مظالم تراكمت لمدة نصف قرن والتي يخاف البعض أن تكون سببًا في هلاك كينيا، وأولى تلك المظالم مسألة الأرض في بعض المناطق مثل الساحل الكيني. وترى المعارضة الكينية أن هذه المطالب يمكن اختصارها في القيام باستفتاء شعبي من أهم بنوده زيادة الحصة المالية المخصصة للمناطق السبع والأربعين من 15% إلى 45%؛ مما يأخذ من الحكومة المركزية ثروة كانت تتصرف بها. وكذلك إعطاء جزء من صلاحية الأمن للحكام المنتخبين للمناطق، وهذا بدوره يساهم في تقليل صلاحيات مكتب الرئاسة الذي دائمًا ما تمتع بحيازة الملف الأمني بيده. وترى الحكومة أنه ما قُصد بهذا إلا تقويض صلاحية الرئيس المنتخب ونائبه. والحكومة الآن تحاول ألا يحدث استفتاء لأن المعارضة وإن كانت أقلية في المجلسين إلا أنها أغلبية في حكام المناطق المنتخبين، وهناك هامش في الدستور يسمح للمعارضة بالفوز بإقامة الاستفتاء؛ وهو أمر تجاهد الحكومة لعرقلته. 
  2. من بين مطالب المعارضة سحب القوات المسلحة الكينية الموجودة في جنوب الصومال وهو البند الوحيد الذي له خيط خارجي، وحُجّة المعارضة هي أن الهجمات والتفجيرات من حركة الشباب زادت بعد تحرير مدينة كسمايو حاضرة الجنوب الصومالي. وسبب دخول القوات المسلحة الكينية إلى جنوب الصومال كان تأمين كينيا من خطر حركة الشباب. وتقول المعارضة: إن وجود قواتنا المسلحة في الصومال لم يُعطِ أمنًا لكينيا كما كان مأمولاً، بل زادت الهجمات وأعطت تبريرًا لحركة الشباب. وتطالب المعارضة بإعادة القوات إلى بلدها لتكون على الحدود بين البلدين، والدفاع عن المدن الكينية، مثل: نيروبي وممباسا وقاريسا. ولكن الحكومة الكينية رفضت هذا المطلب وقالت: إن الانسحاب ليس حلاً، وسيبدو الانسحاب فرارًا، بل إن هذا سيعطي حركة الشباب تشجيعًا بإظهار فشل القوات الكينية. وأضافت الحكومة الكينية: إن حركة الشباب لن تترك كينيا حتى وإن سحبت قواتها.

ومما يجدر ذكره في هذا المقام أنه، وقُبيْل مطالبات المعارضة وأثناءها، كانت تحدث في كينيا تفجيرات في بعض المدن مثل نيروبي وممباسا وقاريسا، وكانت تشاع معلومات من آن لآخر بإبطال مفعول قنبلة هنا وهناك، وكانت حركة الشباب تدّعي بعضها، وما لا تدعيه فهي متهمة به. هذا الوضع وإن لم يشكّل خطرًا على الدولة إلا أنه كان كافيًا للنيل من الحكومة الحالية في عجزها عن ضبط الأمن وإيجاد نوع من البلبلة. والحكومة الكينية الحالية تخاف من المعارضة من أن تنقلب عليها مستغلة الأوضاع الحالية، وتصرفات الحكومات الغربية المبالغة في المشكلة الأمنية تكون عونًا للمعارضة.

صراع القوى الدولية والمحلية في كينيا

في هذه الجزئية من البحث تنظر إلى تقاطع المصالح ورغبات كل فريق ونقاط قوته ومواطن ضعفه، ويكون الحديث عن الحكومة وعن القوى الغربية (بريطانيا والولايات المتحدة) والمعارضة ودورها.

تريد الحكومة من المعارضة أن تقبل الواقع وهو أن المعارضة هُزمت في الانتخابات، وأن لا تحاول الحصول على ما فقدته بالصندوق عن طريق الحشود والمظاهرات، واتهمت الحكومة المعارضة بأن الغرب وراءها؛ والدليل على ذلك بدء مطالب المعارضة بقوة بعد رجوع قائدها رايلا أودينغا من رحلة إلى الولايات المتحدة دامت قرابة ثلاثة أشهر، كان فيها مستمعًا ومحاضرًا في مؤسسات وجامعات أميركية عريقة. وتجادل الحكومة بأنها تحتاج لأن تعطى فرصة لتنفيذ برامجها، وألا تُشغَل في صراعات جانيبة لا علاقة لها بمصلحة البلد ولا بتنميته. والحكومة الكينية تدّعي أنها جادة بالعمل بالدستور، ومعنية بتنمية حديثة.

وتطلب الحكومة من المجتمع الدولي احترام السيادة الكينية، وأن تتنازل محكمة الجرائم عن مقاضاتها لشخصين اختارهما الشعب الكيني، وهما الرئيس ونائبه. والحكومة في خطابها للغرب تُشعره بأن هناك خيارات أخرى لكينيا، وأنها لا يمكن أن تكون رهينة له. ولذا بدأت كينيا تقترض من الخزينة الصينية حيث رأت المضايقات من الجهات المانحة الدولية وخاصة البنك الدولي. وطالما أشارت كينيا إلى المصالح المشتركة، وأن كينيا لن تكون الخاسرة في الصراع الدائر، بل الغرب سيفقد مصالح كثيرة. فبالإضافة إلى مركزية كينيا وعاصمتها للمنطقة وأهميتها للعالم، فإن هناك قاعدتين عسكريتين بريطانيتين في كينيا بموجب اتفاقية بين البلدين، إحدى القاعدتين قريبة من نيروبي ومهمتها المساعدة في استقرار المنطقة، والأخرى في شمال كينيا ومهمتها تدريب القوات البريطانية التي تُعد لتحارب في مناطق صحراوية وشبه صحراوية. وتتدرب القوات البريطانية في مساحة أراض تساوي أربعة أضعاف ما يستخدمه الجيش البريطاني في بلده بأسلحة وذخيرة حية تحاكي حالة حرب حقيقية. وتذكر تقارير إعلامية أن وحدة من الجيش البريطاني التي حاربت في أفغانستان تدربت في هذه القاعدة. وذكّر الإعلام البريطاني، وكذلك الصحافة الكينية، أن سوء التفاهم بين البلدين بدأ يؤثر على وجود هذه القواعد في كينيا. وأخّرت كينيا تمديد الاتفاقية مما أخّر حضور قوات بريطانية لتقيم تدريبات في تلك القواعد. وهناك قاعدة أو شبه قاعدة أميركية في منطقة الساحل على بقعة تبعد عن الحدود الصومالية نحو ستين كيلو مترًا. يقول الأميركيون: إنها فقط مقر لدعم جهود قوات حفظ السلام الإفريقية الدولية في الصومال، ولكن التقارير تقول: إن القاعدة يمكن أن تستوعب طائرات سي130 العسكرية العملاقة. والحكومة الكينية لا تحبّذ تسمية الموقع بقاعدة، وإنما هي ثكنة مؤقتة لتدريب وتموين القوات الإفريقية لحفظ السلام في الصومال.

وإذا كانت تلك نقاط القوة للنظام الحاكم فإن هناك مواطن ضعف يمكن للغرب أن يضربها مما يسبب أضرارًا لكينيا؛ وأولاها، وربما أهمها، أن كينيا منقسمة على نفسها سياسة وشعبًا. وهذا الانقسام جعل نصف المواطنين أو أكثرهم يرون أن هذه الحكومة تسيطر على مفاصلها إثنيات من مناطق معينة، وأن تلك المجموعات تستأثر بالثروة والسلطة. هذه المجموعات ترى أن العلاقات القوية مع الصين -وإن كان فيها شيء جديد- فهي في الوقت نفسه استقواء بالصين لتثبيت هذا الواقع والتهرب من الإصلاحات السياسية والاقتصادية. هذه القوى المحلية التي أولها المعارضة يصطف وراءها معظم المجتمع المدني وجمعية القانونيين الكينيين. هؤلاء ليسوا مع الغرب في توجهاته بالإضرار بكينيا وفي تصفية حسابات دولية، بل البحث عن صيغة مثلى لحكم كينيا يتساوى فيه الجميع. وعلى كل حال فإن المعارضة قد تستقوي بالغرب بحثًا عن سند لها.

وأما الغرب، وخاصة بريطانيا، فإن له علاقات ثقافية مع كينيا، هذه الثقافة أوجدت نخبًا مرتبطة بالغرب. فهناك الساسة والمحامون ورجال القضاء والأساتذة الجامعيين ورجال الإعلام، وهناك الكتّاب الذين يكتبون بالإنجليزية والذين اكتسبوا العالمية من هذه الثقافة والذين هم الزبائن للإنتاج الثقافي الإنجليزي. وهناك الكنيسة والتي وإن بدا أنها تعمل في أوساط البسطاء فهي في الأخير تصب في تكثير سواد النخب الثقافية المتجهة إلى الغرب.

ومن نقاط الغرب الأخرى أن كينيا مركز دولي، وتستضيف نيروبي المقرين الرئيسين لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة وبرنامج الأمم المتحدة للإسكان، بينما البرامج الأخرى على مستوى التمثيل الاقليمي. فهل سيقرر الغرب محاولة نقل هذه المؤسسات عقابًا لكينيا أو بحجة أنها ليست آمنة مع وجود دول غربية تطمح إلى استضافة هذه المؤسسات ونقلها من إفريقيا.

وحقيقة الصراع تتجاوز تشدق الغرب بالديمقراطية وحماية حقوق الإنسان؛ ففي المعلومات التي كشفتها شبكة ويكيليكس فإن السفير الأميركي في نيروبي أرسل إلى واشنطن في شهر فبراير /شباط 2010 رسالة بعنوان "أجندة الصين في كينيا". وتحدثت الرسالة عن مشاريع كثيرة في التنمية وفي البنية التحتية، ولكن في الوقت نفسه أشارت إلى علاقات متقدمة بين جهاز الأمن الوطني الكيني ونظيره الصيني، وأن فنيي المخابرات الصينية أقاموا مشروعًا تحت مبنى مقر جهاز الأمن الوطني الكيني. وأضاف السفير: إن هذا يسبّب لنا بعض القلق. وذكرت الرسالة أيضًا أن الصين توفر أسلحة للحكومة الكينية وأجهزة اتصالات وكمبيوترات للجهاز الأمني الوطني الكيني وذلك دعمًا لكينيا في سياستها تجاه الصومال. هذا الخبر يفسر -وهو مذكور في شبكة ويكيليكس أيضًا- أن كينيا حاولت أن تقنع أكثر من مسؤول أميركي بدعم كينيا للتدخل في الصومال، لكن الأميركان رفضوا ونصحوا كينيا بعدم التدخل لاعتبارات كثيرة، منها أن "حركة الشباب" لا تشكّل خطرًا على كينيا. وقال جوني كارسون نائب الخارجية للشؤون الإفريقية آنذاك للكينيين: وماذا ستكون العواقب إذا لم تنجحوا في مهمتكم في جنوب الصومال؟ وكيف ستكون آثارها على داخل كينيا؟ هذا التدخل الكيني تحفظت عليه أيضًا دول إقليمية، مثل: أوغندا وجيبوتي التي كانت قواتها في الصومال. ولكن كينيا تدخلت بحجة أن سياحتها في خطر من حركة "الشباب". ويمكن القول بأن الولايات المتحدة تستشف من هذا أن التجرؤ الكيني على المضي في هذه المغامرة تم بدعم صيني. يؤيد هذا ما نقلته صحيفة "الغارديان" البريطانية عن شبكة ويكيليكس في 8 ديسمبر/كانون الأول 2010، من أنه يُتوقع أن تزداد شراكة الصين الاستراتيجية مع كينيا إذا اكتُشف الغاز والنفط فيها، ومن المحتمل أن ينمو هذا الارتباط بشكل سريع؛ وقد يغري هذا القادة الكينيين بالاقتراب أكثر للصين في محاولة منهم للتهرب من الغرب وخاصة من ضغوط أميركا للقيام بإصلاحات. وتتساءل الشبكة محذّرة -حسب ما نقلته "الغارديان"-: هل تطور الصين قوة بحرية لها؟ هل وقّعوا اتفاقية لقاعدة عسكرية؟ هل طوروا عمليات أمنية؟ وحين يبدأ التطور في هذه المجالات حينها يبدأ قلق الولايات المتحدة.

يضاف إلى هذا أن الولايات المتحدة متخوفة من أن الصين بسبب مساعداتها لإفريقيا وإعفائها من الديون وإقامة مشاريع في البنية التحتية ومن ثم الحصول على امتيازات النفط والغاز والمعادن، تحاول الصين التحكم في الأصوات الإفريقية في الأمم المتحدة مما يحرم الغرب أهم سلاح استخدمه بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا للتحكم في العالم طيلة سبعين سنة الماضية وهو عمر منظمة الأمم المتحدة القائمة الآن.

يُقرأ من هذا أن كينيا تمثل أحد مداخل إفريقيا، وأنها بوابة شرق ووسط إفريقيا، وأن الصين تحاول أن تفوز بكينيا، والغرب يحاول أن لا تفلت منه.

والسؤال هو: هل بريطانيا والولايات المتحدة نفد صبرهما واستنفدتا الوسائل الأخرى الناعمة لكبح جماح كينيا نحو الصين؟ الجواب قد يكون: نعم. لأن الغرب ضغط على كينيا من أجل إجازة الدستور الذي كانت تقول عنه: إن كينيا بدون إصلاحات قد تنزلق إلى فوضى. وبعد إجازة الدستور عوّل الغرب على المعارضة لتفوز بانتخابات الرئاسة، وكان الغرب يرجح أن المعارضة في حال نجاحها ما كانت لتقترب إلى الصين بهذا المستوى. ثم إن الغرب كان يحرّك أتباعه من حين لآخر. ومعضلة الغرب هي أن هؤلاء الذين ذهبوا إلى الصين كانوا هم أتباع الغرب، والغرب هو الذي فوّت الفرصة على المعارضة في انتخابات 2007. ويقال: إن المعارضة في تلك الفترة لم تكن مع الغرب، والذين ساعدتهم في تلك الانتخابات بدءوا الاتصال بالصين بعد تلك الانتخابات مباشرة. وعرف الغرب أنه في ورطة في التعامل مع السياسة الكينية. إن اتصالات ويكيليكس بدأت تكشف عن علاقات صينية متطورة تتضمن الأمن والجيش، وذكرت الشبكة عدم تعاون الصين في صندوق التنمية الزراعية لكينيا والذي تجتمع فيه الدول المانحة. وفي تقرير لجهاز الأمن الوطني الكيني لعام 2013 إدانة كبيرة للصين. والأجزاء التي سربها الإعلام المحلي لم تُشر إلى العلاقات العسكرية والأمنية بل أشارت إلى قضايا أهمها خطورة ربط عجلة الاقتصاد الكيني بالصين، وأن الصين هي السبب في إثارة ظاهرة التكالب الدولي على موارد القارة الإفريقية والذي تشارك فيه الولايات المتحدة واليابان. والسؤال: هل أميركا كانت على اتصال ببعض جهاز الأمن الكيني ليعد هذا التقرير والذي لا يبدو اتساقه مع خط الحكومة العام نحو الصين، أم أن الأمن الكيني المحترف كان يتلاعب بالغرب وخاصة أميركا؟ وعلى العموم، فالغرب لديه أوراق أخرى يمكن أن يلعب بها. وفي المقابل، هل استعجل الكينيون في مواجهتهم للغرب أم أنهم يعوّلون على الصين في حالة مواجهة مشكلات داخلية أو حتى في مواجهات مع الغرب في المنظمات الدولية؟ وهل الصين يمكن أن تضحي بمصالحها وخاصة مع أكبر شركائها التجاريين: أميركا، من أجل كينيا أو من أجل دولة إفريقية أخرى؟

ولكن هل سيلجأ الغرب في حالة انهزامه في اللعبة السياسية إلى أساليب أخرى تدميرية أو تسّبب الفوضى، فهذا ما لم يمكن الإجابة عنه في الوقت الراهن. والأقرب أن النخب الحاكمة في كينيا قد تخفّف من وتيرتها لتطمين الغرب.

وفيما يتعلق بموقف الحكومة الكينية من أحداث مصر، فإن الرئيس الكيني من أوائل الذي أدانوا تنحية الرئيس المصري محمد مرسي، وأدان مواقف الغرب الساكتة عن الانقلاب أو المشجعة لها. وأثارت الصحافة الكينية خوفها من محاولة استنساخ نموذج مصر فيها وإن كان معظم الشروط لم تتوفر فيها.

هل سيحدث في كينيا شيء أشبه بالربيع العربي؟ والجواب: لا، والوضع ليس مرشحًا لهذا؛ وذلك للسببين الآتيين:

  1. إن كينيا نجحت في تعديل دستورها، وهو أحسن دستور إفريقي حسب تصريحات المتخصصين بل قيل: إنه يشبه الدساتير الأوربية، من حيث احترامه للحريات والحقوق وفصل السلطات. وإن كان يحتاج إلى جهة تنفيذية مخلصة. والمعارضة الآن تسعى لتحصين ذلك الدستور من التلاعب به، وعمل تعديلات تحسينية عليه.
  2. إن كينيا منقسمة على نفسها، ولا يمكن لحركة في الشارع أن تُسقط الحكومة الحالية، وإن أية محاولة من هذا النوع قد لا يُحمد عقباها، والطبقة الوسطى ليست قوية بالصورة التي تمكّنها من التأثير في مجريات السياسة، والجيش الكيني يأخذ الأوامر من المدنيين الحاكمين. فالحكومة والمعارضة وحتى الغرب نفسه لا يحبذ ثورة الشارع التي قد تذهب بكينيا، وكل الذي نراه في كينيا هي لعبة سياسية محسوبة الخطوات. 

والخلاصة أن الصراع في كينيا صراع مركّب، فمن جهة هناك انقسام داخلي سبّبه صراع حول السلطة والثروة بين الحكومة والمعارضة وكلٌ يستند إلى إثنيات وأقاليم، وهو صراع حول "العدالة والمساواة أمام القانون وتداول السلطة". ومن جهة أخرى فهناك صراع دولي يوازي الصراع الداخلي سببه محاولة كينيا الاتجاه نحو الصين ويصطدم برفض غربي، وهو صراع حول "لمن تكون كينيا؟". وهناك صراع ثالث، وهو شخصي، بين الرئيس الكيني ونائبه من جهة ومحكمة الجنايات الدولية من جهة أخرى، ولكنه في الوقت نفسه يمس سيادة كينيا، وهو صراع حول "سيادة واستقلال كينيا (خطاب الحكومة)، وحول معاقبة المجرمين وإنصاف المظلومين وأخذ العدالة مجراها واحترام القانون الدولي وعدم التستر بالسيادة الوطنية (خطاب المجتمع الدولي-الغرب)". فالحكومة تدعي أن الغرب يحرض المعارضة لإحداث فوضى في البلد من أجل مصالحه، ولكن المعارضة تتهم الحكومة بمحاولة قتل الدستور والرجوع إلى عهد الديكتاتوريات، ومطالبها مشروعة. والصين تبحث عن مصالحها وتتعامل مع الحكومة وتقيم مشاريع ضخمة في البلد، والغرب يرى أنه أحق بكينيا من هذا الوافد الجديد. فبدت الصورة -وإن كانت ليست صحيحة مائة في المائة- أن الصين مع النظام، والمعارضة مع الغرب. وهناك "حركة الشباب" التي تطل برأسها من حين لآخر محتجة بالتدخل الكيني في جنوب الصومال، ومستفيدة من التهميش الذي عانى منه بعض مناطق المسلمين في كينيا. والصين والغرب في صراع حول ثروة كينيا وموقعها الاستراتيجي.

ولكن هذه الصراعات لا محالة تضر بكينيا وخاصة الصراع المحلي. أما أثر الصراع الدولي فإن تاثيره متوقف على مدى تماسك الجبهة الداخلية. ويبدو أن كينيا لن تنزلق إلى انهيار، وذلك لحرص جميع المتصارعين -محليين ودوليين- على الفوز بها سالمة.
________________________________
عبد القادر محمد - باحث وأستاذ في جامعة نيروبي

نبذة عن الكاتب