الأحزاب السياسية في الصومال: تجليات الواقع ورهانات المستقبل

تناول هذا التقرير الأحزاب السياسية في الصومال وأهميتها في المشهد السياسي العام كما تناول الكاتب مستقبلها حيث أصبحت مهددة بالتفكك والتلاشي إذا لم تأخذ دورها السياسي وتؤثِّر في المشهد السياسي وذلك بإنتاج خطاب معتمد على المبادئ الوطنية أكثر من المطامع الآنيَّة.
372ae85be2914a43a5d6640ffa068b1a_18.jpg
الصومال وحمى تأسيس الأحزاب السياسية (الجزيرة)

في ظرف سياسي بالغ الأهمية تتشكل الأحزاب السياسية في الصومال بعد انتخابات عام 2012، لتواكب المشهد السياسي ومجاراة الواقع، وذلك بعد طول غياب دام لأكثر من خمسة وعشرين عامًا، نتيجة الظروف الأمنية والسياسية التي خيمت على المشهدين السياسي والأمني في الصومال. وقد عرف الصومال نشأة هذه الأحزاب والتشكيلات السياسية غداة الحصول على استقلاله من الاستعمارين البريطاني والإيطالي حيت اتجهت البلاد نحو دولة موحدة. وقد لعبت تلك الأحزاب دورًا رئيسًا في خلق مناخ ودٍّ وتلاحم لم يُعرَف له مثيل قبل أن يحلها نظام الرئيس الأسبق، سياد بري، ويجهض بذلك تلك التجربة السياسية التي لم تُعمَّر سوى ثماني سنوات شهد الصومال خلال تداولًا سلميًّا للسلطة، وكانت أصوات الناخبين الفيصل في نظام الحكم في دولة فتيَّة تواجه تحديات داخلية وإقليمية وتسعى إلى أن تحقق لنفسها أكثر من فرصة للبقاء موحدة في هيكل واحد، ضمن سياق إقليمي معادٍ ويسعى إلى تفتيت الصومال وتمزيقه.

تزامن تشكُّل الأحزاب السياسية حاليًّا مع ظرف سياسي حرج؛ حيث تم القضاء على النموذج الفيدرالي الذي كانت القوى السياسية الصومالية قد اتفقت عليه، ولم يبقَ من الصومال الكبير سوى إقليمين فقط. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة في ضوء هذه المعطيات السياسية والأمنية والاقتصادية: هل الأحزاب السياسية قادرة على توحيد الصومال من جديد؟ وهل لديها أجندة سياسية وقضايا مشتركة تهدف إلى توحيد الصومال سياسيًّا وإيصاله إلى بَرِّ الأمان، خصوصًا أن البلاد عرفت فترات من الحرب الأهلية متجددة لا تنتهي إحداها حتى تبدأ أخرى، بالإضافة إلى جوار إقليمي لعب دورًا أساسيًّا في الحرب الأهلية الصومالية. هذا فضلًا عن اقتصاد أنهكه الفساد الإداري والمالي؛ وهو ما أدَّى إلى اندلاع مجاعات قاتلة وحروب لا تزال نارها مشتعلة في أجزاء من الأقاليم الصومالية؟

يُراد من الأحزاب السياسية الراهنة الولوجُ إلى المؤسساتية، والعمل على إصلاح بنية المجتمع الصومالي، ورسم معالم خريطة سياسة واضحة المعالم تكون بديلة عن مصالح القبيلة أو الفئة والحركة، لكن بين هذه الرغبة الجامحة التي يتطلع إليها المجتمع ثمة عوازل وتحديات قد تحول بين هذه الأحزاب السياسية وبين ما يصبو إليه المجتمع الصومالي.

لم يعرف الصومال في تاريخه الحديث شكلًا أو نمطًا من الأحزاب السياسية ذات التأثير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فكانت الأحزاب السياسية التي ولَّدها العنف في التسعينات من القرن الماضي، وما قبلها من أشكال حزبية عبارة عن بداية التشكل، وقد أُجهضت قبل أن ترى النور، فلم تكن للبلاد قائمة كما لم يكن ثمة نظام سياسي أو دولة صومالية أعطت للسياسيين الصوماليين، فرصة لتأسيس الأحزاب، فكانت البلاد في مرحلة من الانقلابات السياسية والحكومات الانتقالية المتعاقبة منذ سقوط الدولة المركزية وصولًا إلى الحكومة الفيدرالية الراهنة. 

ورغم أن هذه الفترة (1991-2011) التي اتسمت بالفوضى السياسية، كانت قد عرفت بعض المحاولات لتشكيل أحزاب سياسية، إلا أنها ما لبثت أن أصبحت فيما بعد شكلًا بلا مضمون، فنرى تلك الأحزاب تتبدد في خضمِّ موجات السياسة المتلاطمة التي تعصف بسفينة الدولة الصومالية. 

في هذه الورقة نحاول رصد واقع الأحزاب السياسية في الصومال مع ما عرفته من تشكل منذ عام 2011، ومن ثم سنستشرف موقعها من العملية السياسية الراهنة وننهي المقال بنظرة عن آفاق مستقبلها. ومع هذا وذاك نلاحظ بدءًا كون القبيلة في الصومال تتمتع بحيز كبير في المشهد السياسي، وباتت العنصرَ الطاغيَ في رسم خارطة مؤسسات الدولة الصومالية التنفيذية والتشريعية بحكم المحاصصة القبلية. 

الأحزاب السياسية: خلفية تاريخية 

تنوعت أشكال الأحزاب السياسية وتغيرت أجنداتها السياسية نتيجة غياب النظام السياسي في البلاد، بالإضافة إلى أن الأحزاب جاءت كموروث للتغيرات التي كانت تطرأ على الساحة الصومالية، فمن بينها أحزاب لا تتمتع بمعايير الحزبية السياسية بقدر ما كانت واجهة لفئة معينة تجمعها مصالح شخصية وتتفرق عندما يتعلق الأمر بالقضايا العامة والأيديولوجيات السياسية. 

يمكن تصنيف تاريخ تأسيس الأحزاب السياسية في الصومال إلى ما يلي:

أولًا: مرحلة ما قبل الاستقلال السياسي: كان حزب الشباب الصومالي المعروف اختصارًا (SYL) واحدًا من أعرق الأحزاب السياسية في القرن الإفريقي، كما كان أول منظمة صومالية جمعت في حضنها نوعًا من التنوع القبلي في الصومال؛ إذ تَشَكَّل عام 1947، وفي عهدة الاستعمار الغربي الذي قسَّم البلاد، إلى شمال مستعمَر من طرف بريطانيا وإلى جنوب مستعمَر من طرف إيطاليا. 

لم يكن هذا الحزب هو الوحيد الذي مثَّل الواجهة السياسية للصومال في الفترة التي سبقت الاستقلال، فكانت هناك جمعيات وجبهات سياسية، فبعضها كان الاستعمار الغربي يقف خلفها، ويدير دفَّتها من وراء الكواليس، كما أن تلك الواجهات السياسية مقسَّمة بين تيارين سياسيين، يجد كلٌّ منهما دعمًا وتأييدًا إمَّا من المستعمر البريطاني أو الإيطالي(1). 

وقد أسهمت تلك الأحزاب بشكل أو بآخر في عملية الانتقال من أحضان المستعمر الغربي إلى الاستقلال وتوحيد شطري البلاد (الشمال والجنوب) في عام 1960، كما كان يؤخذ على تلك الأحزاب السياسية والشخصيات التي مثَّلت الوجه السياسي المفاوِض للمستعمِر مواقف كثيرة، لسنا بصدد الحديث عنها في هذه العجالة. 

وبحسب الخبراء يمكن حصر الدور السياسي الذي لعبته تلك الأحزاب والجبهات السياسية في البلاد ضمن المحورين الآتيين:

  • المحور الأول: ارتبطت سياسة الأحزاب قبل الاستقلال، بمجابهة المستعمر الغربي (البريطاني والإيطالي)، وكانت الأحزاب في مواجهة مفتوحة مع هذا المستعمر، حتى دخلت الصومال في عهدة الوصاية عام 1950، وكانت الأحزاب حينها تلعب دورها الريادي والمحوري في إخراج البلاد من قبضة المستعمر التي دامت نحو أكثر من نصف قرن من الزمن.
  • المحور الثاني: ارتبط الحراك السياسي للأحزاب بعد أن نال الصومال استقلاله عام 1960 بالسعي نحو توحيد شطري البلاد، وعدم العبث بالتجربة السياسية الوليدة التي جعلت الصومال في صدارة الدول الإفريقية التي نالت استقلالها من المستعمر الغربي الذي جَثَمَ على شعوب القارة لفترة طويلة. 

شهد الصومال في الفترة ما بين 1964 إلى 1968، تجربة التعددية الحزبية والنظام السلس لتبادل لنظام الحكم قبل أن يكشِّر الانقلاب عن أنيابه للتجربة السياسية الحزبية الوليدة في القرن الإفريقي. 

ثانيًا: مرحلة الحكومة المركزية العسكرية: عقب الانقلاب العسكري عام 1969 انتهت فترة التعددية الحزبية السياسية التي كان لها الدور الأبرز في عملية التسلسل الديمقراطي، وَحَلَّ النظام العسكري كافة الأحزاب وأخرجها من المشهد السياسي، وأصبح الحزب الحاكم هو المسيطر على مجريات السياسة، وحصدت الدولة جميع أرصدة الأحزاب الأخرى الشعبية والسياسية؛ فكان حزب الجنرال الأوحد والمؤثِّر في البلاد، والذي قاد البلاد إلى نظام شمولي عسكري كمَّم الأفواه ونال من الحرية والاستقلال السياسي للأحزاب. 

ثالثًا: مرحلة انهيار الدولة العسكرية: وفور سقوط الدولة المركزية عاودت الجبهات والأحزاب السياسية ذات الصبغة القبلية أو الفردية نشاطها، وتحولت إلى أدوات يستخدمها البعض لإبراز مواقف معينة محضة لا ترتبط بصلة بالقضايا الوطنية، وإنما استجابة لمصالح قبيلة أو فئة معينة. 

وظل واقع الحال للأحزاب والجبهات السياسية في البلاد بين المدِّ والجزر ليعكس واقع الحال الأمني والسياسي في البلاد، فتارة تخبو نيران الحرب الأهلية وتارة أخرى تؤجِّجها وتعيد تشكيلها مجددًا، ولم يكن لتلك الأحزاب تأثير سياسي مثلما كانت القبيلة تتغلغل في المشهد السياسي. 

الأحزاب السياسية: الرؤية والاستراتيجية 

يعد تأثير الأحزاب السياسية ككلٍّ في القارة الإفريقية محدودًا وذا تاريخ حافل بالفشل على كافة الأصعدة، وربما كان لا يُكتب لها النجاح في مجاراة الواقع السياسي، نتيجة تهميش أو إقصاء سياسي فُرِض عليها من قِبَل الأنظمة الحاكمة، وفي ضوء ذلك لم يكن للأحزاب السياسية الصومالية أثر كبير في الحياة السياسية منذ ما يقارب نصف قرن من الزمن، رغم أنها كانت تزداد عددًا كالفِطْر في الفترة الأخيرة وخاصة بعد عام 2012. إلا أن الظروف الأمنية والسياسية في البلاد كان لها النصيب الأكبر في تقليل حجمها وتأثيرها على الساحتين المحلية والإقليمية، نظرًا لعدم مشروعية التعددية الحزبية في البلاد. 

ويرى الكثير من المحلِّلين أن الأحزاب السياسية حاليًّا في الصومال هي بمثابة أحزاب لا تستند إلى قاعدة جماهيرية بقدر ما هي أحزاب فردية تعبِّر عن مصلحة شخص أو فئة معينة، بغرض الوصول إلى سُدَّة الحكم، أو الحصول على بعض من فتات الحكومة الصومالية، كما أنها أحزاب لا تتمتع بالقدر الكافي من الأيديولوجية الحزبية ذات الأهداف الوطنية والقضايا الجوهرية، والأحزاب التي تعلن تشكيلها في العاصمة مقديشو بين الحين والآخر لا تمت بصلة للقضايا الوطنية. 

ويرجِّح البعض أن الأحزاب تفتقر إلى الرؤية الوطنية والاستراتيجية السياسية البنَّاءة، كما أنها لا تزال غير فاعلة في المشهدين السياسي والاجتماعي؛ بحيث إنها لم تتغلغل في العمق الاجتماعي الصومالي، من حيث خلق بيئة اجتماعية يتألَّف منها هياكل الحزب الإدارية، وقياداته وشعبيته الجماهيرية، بدلًا عن شخصيات سياسية تمثل واجهة الحزب، تعقد اجتماعات ومؤتمرات في الفنادق، ومن ثم تنتهي جهودها بعد مضي فترة من الزمن من دون إدراك لأسباب الفشل التي أودت بحياة الكثير من الأحزاب السياسية في مهدها دون أن يشتد عودها(2). 

وفي خطوة جديرة بالاهتمام، دعا الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، في مؤتمر صحفي عقده بالقصر الرئاسي، في 4 من سبتمبر/أيلول 2016، الأحزاب السياسية إلى تبني أفق سياسي واستراتيجية بنَّاءة؛ وذلك خلال مصادقته على قانون الأحزاب السياسية في البلاد، ليصبح أول رئيس صومالي بعد ربع قرن من الزمن، يفتح الباب أمام تعددية حزبية سياسية بعد أن أبادها العسكر وقضت عليها الحرب الأهلية. 

موقع الأحزاب من العملية السياسية والانتخابية 

رغم أن البرلمان الصومالي أقرَّ قانون الأحزاب السياسية في الصومال، إلا أن الحكومة الفيدرالية استبعدت الأحزاب السياسية من المشاركة في العملية السياسية والانتخابية المزمع عقدها في غضون الشهرين المقبلين، كما أن أعضاءها لا يحق لهم المشاركة في العملية الانتخابية والسياسية بصفتهم الحزبية، لكن تم تأجيل مقترح مشاركتهم في الانتخابات الرئاسية المقبلة إلى عام 2020، ويحق لممثليها الترشح للمجلس النيابي عن طريق قبائلهم في الانتخابات المرتقبة(3). 

ومن أجل التأثير على المشهد السياسي كوَّنت مجموعة من الأحزاب منتدى يجمع في طياته أبرز وجوه الأحزاب السياسية الموجودة في البلاد، غير أن تأثيرهم لم يرتق بعد إلى المستوى المطلوب بسبب عدم مجاراته مع رغبة شعبية استوعبت مفهوم التعددية الحزبية، فضلًا عن عدم وجود شعبية لتلك الأحزاب تؤثِّر على مجريات الساحة السياسية. 

وفي مقابل ذلك، يقلِّل البعض من أهمية وقدرة هذه الأحزاب الجديدة على أن تلعب دورًا سياسيًّا فاعلًا في الوضع الراهن لإيصال البلاد إلى بر الأمان، بسبب أن معظمها تأسس نتيجة عصف ذهني سريع، بينما يرى البعض تشكيلها أمرًا عبثيًّا سابقًا لأوانه(4). 

كما أن الأحزاب التي تم تكوينها مؤخرًا "غير قادرة على تغيير النمط السياسي السائد، على الأقل في الأعوام القليلة القادمة"، بسبب تجذر القبلية في قلوب الصوماليين، وتعذر توسيع نشاطها وفتح فروع لها في كل المناطق، غير أنها تشكِّل بالنسبة للسياسيين مجالًا يمارسون فيه العمل الحزبي(5). 

إذن، يبقى تأثير الأحزاب السياسية محدودًا جدًّا لغاية بروز أحزاب سياسية أخرى وبوجه مختلف تمامًا عن التشكيلات السياسية التي تفتقر إلى الأبجدية الحزبية بمفهومها العريض. 

ورغم محدودية الدور والتأثير للأحزاب السياسية في البلاد التي تمر في طورها الأول، فإنه من المحتمل أن يكون دورهًا فاعلًا إذا ما أُتيحت لها الأيديولوجية الحزبية لتصبح قادرة على التأثير في الرأي العام، وتستطيع إمساك زمام الأمور، كونها الفريق الثالث بين الحكومة والشعب. 

ويبدو أن الرهان حاليًّا على دور الأحزاب السياسية في المرحلة المقبلة سلبًا أو إيجابًا مستبعد، وذلك لسببين أولهما: عدم فاعلية تلك الأحزاب سياسيًّا، إلى جانب وجود أدوار مختلفة داخل الحزب الواحد، ناهيك عن غياب التنظيمية الحزبية المؤطَّرة والأيديولوجية والاستراتيجية، وثانيهما: فرض الأمر الواقع الذي تمليه القبيلة على كل شيء في الساحة؛ إذ أصبحت البديل عن النظم الشرعية والقانونية والدستورية باعتبارها أساس تقاسم السلطة ومناصب الدولة وتشكيل البرلمان بغرفتيه (مجلس الأعيان والشعب ) وبحكم ممثليها سينتخبون الرئيس(6). 

الأحزاب السياسية: هل تصبح بديلًا عن القبيلة؟ 

السؤال الذي بات ملحًّا الإجابة عليه وتلوكه الألسنة في محافل السياسة، هو: هل تصبح الأحزاب السياسية بديلًا عن كتلة القبيلة الفاعلة والمؤثِّرة في المشهدين السياسي والانتخابي في البلاد، رغم أن القبيلة في المجتمعات العربية تلعب أحيانًا دورًا محوريًّا وإيجابيًّا على عكس ما تمثِّله القبيلة في الصومال، من حيث الإقصاء والتهميش لبعض القبائل، وتوزيع السلطة حسب مكانة القبيلة وقوتها داخل المجتمع ومدى اصطفافها وراء نظام الحكم؟ 

كما أن الأحزاب السياسية الحاضرة حاليًّا، لا يغيب عنها تأثير القبيلة مهما قلَّلت حجمها في داخلها؛ إذ إن مؤسسي الأحزاب السياسية ينتمون إلى القبائل الصومالية، ولا يحملون أجندة وطنية أو استراتيجية تحل محل منطق القبلية، سوى السعي نحو خوض الانتخابات الرئاسية في أسماء حزبية تصبح أثرًا بعد عين في فترة قصيرة بعد إطلاقها. 

ومن هنا، يتداخل دور الأحزاب السياسية والدور السياسي للقبيلة معًا، ويبدو أن التعقيدات المفرطة ترخي بظلالها على الأجندات السياسية والدور المأمول من تلك الأحزاب الصومالية، وهي أن تحل محل القبيلة بدورها السياسي في البلاد. 

ويعتقد المحللون أن تأثير الأحزاب السياسية على القبيلة أو التقليل من حجمها صعب المنال في الوضع الراهن، وأن ما تمر به الأحزاب الصومالية حاليًّا لا يعدو في نظر الكثير من المتابعين كونه مرحلة أولية تمهد الطريق أمام مرحلة أخرى ربما يكون للأحزاب السياسية فيها أثر بالغ على مجريات السياسة ونظام الحكم في البلاد. 

ولعل ما يزيد الأمر تعقيدًا في الصومال هو أن القبيلة متجذرة في التراث وفي أدبيات المجتمع الصومالي، وأن شعور الانتماء إلى القبيلة يعد بمثابة المسلَّمات الرئيسية لدى المجتمع، وأن نسبة المثقفين المنتمين للأحزاب السياسية أو الذين يحترقون من أجل المصالح الوطنية أقل بكثير من أقرانهم الذين يشكِّلون معًا تركيبة الأحزاب السياسية، فتوجهاتهم قبلية بحتة من دون ولاءات أخرى دينية أو قومية. 

ويُراد من الأحزاب السياسية، رغم تعقيدات الوضع السياسي القائم في البلاد، ومدى الدور السياسي للقبيلة، الإتيان بالشجاعة السياسية لخلق مجتمع قادر على مواكبة الواقع، وتعديل مسار البلاد سياسيًّا واقتصاديًّا من سلطة القبيلة، ودفع المجتمع بمثقفيه وشبابه نحو الانتماء إلى الأحزاب السياسية والمشاركة في تصويب البوصلة السياسية للبلاد، وأن يكون دور القبيلة مساهمًا فقط في مجريات وحيثيات التوجه الجديد نحو التعددية الحزبية السياسية والتي ربما ستكون بديلًا عن التعددية القبلية -إن صح التعبير- إذا أتيحت لها الرغبة في التغيير سياسيًّا واجتماعيًّا. 

آفاق المستقبل 

يبدو أن الغموض ما زال يلف دور الأحزاب السياسية في المشهد السياسي في البلاد كما أن مستقبلها لا يتمتع بمؤشرات النجاح، وبصيغة أخرى: إننا لا نتجرأ على القول بأن مستقبل الأحزاب السياسية في هذا القُطر العربي له ما يؤهله من مؤشرات النجاح السياسي أكثر من خيارات الفشل المتاحة حاليًّا. 

ومما يعطي أملًا للتجربة الحزبية في الصومال، ما صرَّح به منتدى الزعماء الصوماليين في أغسطس/آب الجاري: "إن أعضاء البرلمان الصومالي الجديد الذين سيُجرى انتخابهم هذا العام سيكون عليهم الانضمام لحزب سياسي في غضون عامين أو التنحي"، وذلك في إطار جهود حثيثة لإبعاد الصومال عن السياسة القائمة على الولاء السياسي للقبيلة(7). 

هذا القرار الذي اتخذه هذا المنتدى كان له تأثيرات سياسية على واقع الأحزاب السياسية في البلاد، وهو ما يرشح لها أن تستقطب البرلمانيين، في خطوة لحصد نصيب القبيلة ودورها السياسي، ما يمهد الطريق لتعددية حزبية، ربما ستكون مختلفة تمامًا عن الأحزاب التي يطلق عليها "أكشاك حزبية" التي تفتح أبوابها أيام الاستحقاق الانتخابي وتُغلَق على عجل بعدها، وهذا يخلق الكثير من الإحباط والتشاؤم لمستقبل ومصير تلك الأحزاب السياسية في البلاد. 

إن التوجه الجديد الذي يندفع المشهد السياسي نحوه، لن يكون بديلًا عن الدور السياسي للقبيلة، فالولاء لها سيظل قويًّا ومهيمنًا على مجريات السياسة، حتى تحل محلها أحزاب سياسية تستوعب الكوادر المثقفة وشريحة الشباب التي ملَّت من غطرسة القبيلة اجتماعيًّا وسياسيًّا، فتجربة الأحزاب السياسية التي تنطلق من مفهوم التغيير السياسي للبلاد، يمكن أن تنجح في عملية صنع القرار السياسي مستقبلًا، لكن ذلك الأمر لن يأتي إلا من خلال بذل مجهود سياسي وتضحيات أكبر وقرارات شجاعة، للحؤول دون إعاقة هذه التجربة وتشويهها. 

ولكن اللافت للانتباه هو غياب الأحزاب التي كان من المفروض أن تمثِّل فسيفساء الإسلام السياسي في البلاد، رغم تنوع هذه الطبقة وانغماسها في حياة المجتمع، أكثر من الأحزاب الموجودة التي شكَّلها سياسيون مغتربون أو تلك التي أُسِّست على مطامع شخصية للوصول إلى سُلطة الحكم، فإذا حضرت أحزاب "الإسلاميين" وبرزت إلى الساحة ربما ستتغير المعادلة السياسية من حيث لاعبوها وصنَّاع القرار، فالطبقة الأيديولوجية يكون لها دومًا في الصومال الرصيد الأكبر بسبب قربها من المجتمع باعتبارها الوعاء الذي يحفظ مسلَّمات المجتمع من حيث قيمه الدينية وتراثه وعاداته، وتجربة المحاكم الإسلامية عام 2006 خير شاهد على ذلك، إلا أنها لم تعش طويلًا بسبب الغزو الإثيوبي للصومال. 

وعلى الرغم من تأسيس أحزاب كان يتصدرها عدد من قيادات الحركة الإسلامية في الصومال، إلى جانب أحزاب أخرى ضمَّت أفرادًا من تيارات الإسلامي السياسي، إلا أن تأثيرهم كان محدودًا بسبب عدم وجود كتلة متماسكة تنطلق من مفاهيم مشتركة تقودهم إلى توجه سياسي أو هدف منشود؛ ما جعل تلك الأحزاب لا تتمتع بفرص أكبر في البقاء على الساحة مستقبلًا، ومما عجل بنهايتها قبل أن تضمحل الأحزاب الأخرى التي أسهم المغتربون الصوماليون في تأسيسها ومحاولة دمجها في حياة المجتمع. 

إذن، يبدو مستقبل الأحزاب السياسية في الصومال، يسير على مفترق طرق، فإما أن تنهار كليًّا مثل أعواد القمح الفارغة، أو أن تتشجع في إبراز دورها السياسي، وتؤثِّر على الساحتين المحلية والإقليمية، وإن الرهان على نقل البلاد إلى تجربة سياسية جديدة يبدو مواتيًا؛ إذا استعصمت الأحزاب السياسية بمبادئ سياسية واضحة المعالم، وأهداف بعيدة لا تمتُّ بصلة لاستحقاق انتخابي أو غيره، ربما سيكون لهم بعد ذلك تأثير مستقبلي ومصير مبشِّر، وعندها ربما ستتغير مقولة: إن الأحزاب السياسية ليس لها مبادئ وطنية وقضايا سياسية أكثر من حمل مطامع آنيَّة.

_______________________________

الشافعي أبتدون - باحث صومالي مهتم بقضايا القرن الإفريقي.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1 - "الأحزاب السياسية الصومالية.. التاريخ والواقع والدور المأمول"، (تاريخ التصفح: 20 أغسطس/آب 2016).

http://mogadishucenter.com/2014/11/15/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%B2%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D9%88/

2 - مقابلة مع الباحث الصومالي محمد الأمين محمد الهادي حول الاستحقاق الانتخابي ودور الأحزاب السياسية في الصومال في العملية السياسية في البلاد.

3 - الصومال-2016-صراع-الأجندات-المحلية-والأجنبية، (تم التصفح بتاريخ: 23 أغسطس/آب 2016):

http://aawsat.com/home/article/690556/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D9%85%D8%A7%D9%84-2016-%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AC%D9%86%D8%AF%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AC%D9%86%D8%A8%D9%8A%D8%A9

4 - تزايد إنشاء الأحزاب السياسية في مقديشو، (تم التصفح بتاريخ: 25 أغسطس/آب 2016):

 http://arabic.alshahid.net/news/119343

5 - الصومال تصيبه حمى تأسيس الأحزاب السياسية، (تم التصفح بتاريخ: 25 أغسطس/آب 2016): إضغط هنا.

6 - مقابلة مع محمد الأمين.

7 - الصومال يتجه نحو الحزبية بديلًا للعشائرية، (تم التصفح بتاريخ: 23 أغسطس/آب 2016):

 http://www.albayan.ae/one-world/arabs/2016-08-11-1.2694812