المسلمون الهنود هم ثاني أكبر تجمع للمسلمين في العالم بعد إندونيسيا، وهم أحد أهم جسور الهند إلى العالمية، ورغم هذا لا تلقى تطلعاتهم ترحيبًا كافيًا للعب دور فاعل في صنع مستقبلهم من قبل قيادتهم الاجتماعية والدينية ومؤسسات الدولة. في حين تسعى الجماعات القومية المتشددة إلى الاستمرار في تحميلهم مسؤولية تقسيم الهند إلى دولتين (باكستان والهند)، وتركهم رهينة لإرث تلك الحقبة بما فيها من اضطرابات وطعن بوطنية المسلمين الهنود، وكذلك لإثبات أن المسلمين عاجزون عن تنمية مجتمعهم وترقيته، خاصة وأن تعريف علاقتهم بالدولة والمجتمع وسياسة بلادهم لا يزال يحددها نضالهم وما سيسفر عنه من تحقيق لطموحاتهم وليس ما تقدمه الدولة فحسب.
مقدمة
كثيرًا ما اتُّهِمَ المسلمون الهنود في وطنيتهم بعد التقسيم المأسوي للهند في عام 1947 في أعقاب "نظرية الأُمَّتين" -والتي تقول بعدم قدرة المسلمين والهندوس على التعايش معًا، وكان من ثمرتها انفصال باكستان عن الهند- والتي لم تُلقِ بظلالها على شرعية الخطاب الدستوري فقط ولكن تركت أيضًا المسلمين أسرى شعور دائم بالذنب. فقد ألقى سردار فالاباي باتل -أول وزير داخلية للهند المستقلة- اللوم على المسلمين في الجمعية التأسيسية، قائلًا: "حصلتم على ما تريدون، حصلتم على دولة مستقلة وتذكَّروا: أنتم كنتم مسؤولين عن ذلك، وليس أولئك الذين ما زالوا في باكستان". ولا يزال هذا الخطاب يتردَّد في السياسة الهندية(1).
ربما لا يزال هذا الخطاب الشعبوي ساريًا لدى قطاع كبير في السياسة الهندية؛ حيث يرى هؤلاء أن وجود الحماية الدستورية للأقليات دون بقية الفئات الاجتماعية التي يتشكَّل منها المجتمع ستكون مدعاة لانقسامه.
يصل تعداد المجتمع المسلم في الهند إلى 170 مليون نسمة ويشكِّل 14% من سكان الهند، ويمتد على مساحة لغوية وعِرقية وثقافية ودينية واسعة ومتنوعة؛ بسبب تعايش مكوناته مع جيرانهم غير المسلمين خلال الـ 800 سنة الماضية، لكنه أيضًا، لا يزال بطريقة ما رهين إرث تقسيم فرضه المسلمون على أنفسهم كما فرضه الخارج عليهم (منهم الاستعمار البريطاني).
وهناك كثيرون ممن يريدون إخراج المسلمين من هذا الإرث، من هؤلاء رفيق زكريا، الداعية الإسلامي البارز ومؤلِّف كتاب "المسلمون الهنود: أين أخطؤوا؟"، وتحقيقًا لتلك السبيل دعاهم للاندماج في التيار الرئيسي في الهند. والحديث عن الاندماج هنا ليس على المستوى الاجتماعي-الاقتصادي وحده، بل المقصود "تكييف أنفسهم مع الحياة والفكر والفلسفة" الهندية(2)، و"التخلي عن العقلية الحالية الغريبة التي تهيمن عليهم، والاندماج في تيار حياتنا الوطنية المشترك"، وذلك وفقًا لما يقوله المفكِّر القومي غولواكر (Madhav Sadashiv Golwalkar)(3).
تعد صورة المسلمين الهنود كأحفاد "الغزاة الأجانب" مثل بابُر (ظهير الدين محمد بابر، مؤسس سلطنة المغول الهندية المسلمة)، وأورنغزيب (من أعظم أباطرة المغول المسلمين الذين حكموا الهند التاريخية)، وغزنوي (محمود الغزنوي فاتح الهند)، وتغلق (غياث الدين تغلق مؤسس الدولة التغلقية وحاكم دلهي)، وأنصار باكستان. وهي عناصر أساسية لتشكيل خطاب "قومي متطرف"؛ يحدِّد الهند كدولة أيديولوجية أكثر منها دستورية. وبطبيعة الحال، هناك تنافس شديد بين وجهتي النظر الدستورية والأيديولوجية عن المسلمين الهنود، ووجهة النظر الدستورية هي المرجع الرئيسي؛ فالهند من الدول الموقِّعة على مواثيق الأمم المتحدة فيما يتعلق بالأقليات، والتي توصي بأن "على الدول أن تتخذ، متى دعت الحال، تدابير تضمن أن يتسنَّى للأشخاص المنتمين إلى أقليات ممارسة جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية الخاصة بهم ممارسة تامة وفعالة، دون أي تمييز وفي مساواة تامة أمام القانون. على الدول اتخاذ تدابير لتهيئة الظروف المواتية لتمكين الأشخاص المنتمين إلى أقليات من التعبير عن خصائصهم ومن تطوير ثقافتهم ولغتهم ودينهم وتقاليدهم وعاداتهم.."(4). ففي عام 2005، قرر المجلس الاقتصادي والاجتماعي لمنظمة الأمم المتحدة تعيين خبير مستقل معني بقضايا الأقليات لدراسة تطبيق إعلانها من قبل دولها الأعضاء(5).
وفي عام 2005، عيَّنت الحكومة الهندية أيضًا لجنة -برئاسة رئيس المحكمة العليا السابق في نيودلهي راجيندر كومار ساشار- لإعداد تقرير عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية للمسلمين الهنود(6). قدَّمت اللجنة -المعروفة باسم لجنة ساشار- نتائجها التي أكدت رسميًّا أن تخلف المسلمين حقيقة واقعة، وأنه يتطلب جهودًا خاصةً، وأثبت التقرير أن استبعاد المسلمين في الهند عن التنمية المتكاملة بنيوي وبعض مشاكله تتصل بالنظام نفسه؛ ما يتطلب اتخاذ تدابير فعالة بهذا الخصوص.
ويمكن تحديد الحالة الراهنة للمسلمين في الهند بالإجمال في نقطتين اثنتين، هما: الضعف والافتقار للإصلاح الاجتماعي. هذا وكثيرًا ما ناقش الساسة والناشطون والأكاديميون في الهند، ولا يزالون، التدابير التي يمكن اعتمادها لتمكين المسلمين سياسيًّا واقتصاديًّا، ويبدو أن مستقبل المسلمين بحياة أفضل يعتمد على ما ستُفضي إليه هذه النقاشات وما سينتج عنها من تدابير سياسية بهذا الشأن، وكذلك على ما سيبديه المسلمون في الهند من استعداد لإجراء إصلاحات اجتماعية جريئة.
مظاهر الضعف
يمكن تعريف "الضعف" بعدم قدرة المسلمين على الوصول إلى النظام وما يقدمه بطريقة متساوية مع مواطنيهم من غير المسلمين. هناك العديد من الدراسات الحكومية -تقرير لجنة ساشار وتقرير العدالة لرانغاناثا ميشرا- التي شدَّدت على أن ضعف المسلمين في الهند بنيوي وليس عارضًا. وللإشارة إلى مشاكل مماثلة تمت معالجتها، يُلاحَظ أنه عندما صادق الدستور على وجوب وجود حصة 15? لفئات اجتماعية محددة و7.5? لقبائل مسجَّلة، من المناصب الحكومية، والتعليم الجامعي، ومن الدوائر الانتخابية، فقد حققت هذه المجتمعات نموًّا مطَّردًا في جميع مناحي الحياة.
أما بالنسبة للمسلمين، حيث تغيب أية حصة واجبة لهم من هذا القبيل، لاحظ تقرير لجنة ساشار وغيره من التقارير أن مشاركتهم في الوظائف الحكومية في انخفاض منذ الاستقلال. على سبيل المثال، في وظائف الخدمة المدنية في الهند، وخاصة في الخدمات الإدارية والخارجية ودوائر الشرطة، هناك 3? فقط من المسلمين في الجهاز الإداري (IAS)، و1.8? في الخارجية الهندية (IFS)، و4? في جهاز الشرطة (IPS)، و4.5? في السكك الحديدية، و6.5? في التعليم، و7.3? في الشؤون الداخلية. ويُحمل تقرير لجنة ساشار غطرسة قوات الأمن في التعامل مع المسلمين مسؤولية خلق شعور عدم الأمان والخوف بين المسلمين، ما يجعلهم يلجؤون للعيش في أحياء الأقليات(7). ويذكر أن نصيب المسلمين في الأجهزة الأمنية يصل لـ 3.6? في المستويات والدرجات العليا منها، و4.6? في المستويات والدرجات الدنيا(8).
ومن حيث نسبة الإنفاق المالي، فإن المسلمين الهنود من بين الفئات الأكثر فقرًا في البلاد، فبحسب استطلاع محلي يبلغ متوسط إنفاق المسلمين في الهند 32.7 روبية (0.52 دولار) في اليوم الواحد للفرد، والسيخ 55.3 روبية، والمسيحيين 51.4 روبية، والهندوس 37.5 روبية(9). والسبب في ذلك يعود إلى تدني نسبة العمالة بينهم؛ إذ تبلغ نسبتها 33% من إجمالي عدد المسلمين العاملين مقارنةً بـ 41% من الهندوس، و41.9% من المسيحيين(10). ومن المرجح أن يتغير الوضع ولكن ببطء شديد حيث تعمل غالبية المسلمين أي (60%) كعمال غير نظاميين؛ ومنهم فقط 28% عمال نظاميون؛ وهو ما يعني أنهم يعملون بأجر راتب. السبب في أن الغالبية العظمى من القوى العاملة من المسلمين يعملون لحسابهم الخاص؛ هو أن عدد المسلمين المستفيدين من التعليم العالي أو التدريب المهني أقل بكثير من المعدل الوطني؛ إذ يقول "مكتب عينة المسح الوطني" (NSSO) الذي يتبع لوزارة الإحصاءات في الهند: إن 22.3% من المسلمين بين سنِّ 17-29 عامًا لا يعرفون القراءة والكتابة، وهي النسبة الأعلى بين جميع فئات المجتمع، والمعدل الوطني هو 17%. أما المسلمون المتعلمون في هذه الفئة العمرية، فمن بينهم: 64? يحملون الشهادة الثانوية أو أقل من التعليم الثانوي، و 9.8? ما بعد الثانوي، وفقط 4.1? من الخريجين أو ممن تقدموا لدرجة أعلى، وهذان الأخيران هما أدنى من متوسط المعدل الوطني والذي يبلغ 15.5 و 9.2? على التوالي(11).
بالطبع يجب على المؤسسات السياسية والبرلمان ومجالس الولايات وكذلك الهيئات المحلية أن تكون مشغولة بهذه القضايا وأن تكون سريعة الاستجابة لما تطرحه من تحديات، أما على صعيد الخطاب السياسي الشعبوي، فمن المتوقع أن يربح المسلمون من النظام السياسي؛ لأن الأحزاب السياسية تعتقد أنهم يشكِّلون خزانًا انتخابيًّا ويعملون على استرضائهم. ولكن تقرير ساشار أثبت أيضًا أن هذه الصورة خاطئة. على سبيل المثال، هناك ست عشرة دائرة انتخابية في الإقليم الهندي الأكبر، أوتار براديش، حيث السكان المسلمون أكثر من 20%، ولم يتمكن أي مسلم من الفوز بمقعد في انتخابات عام 2014(12)، كما لا يوجد سوى 22 مسلم منتَخَبٍ في البرلمان من بين 543 عضوًا في انتخابات عام 2014، وهي النسبة التي تشكِّل فقط 4.05%؛ وهي أقل بكثير من نسبتهم السكانية الـ14%.
ومن بين أسباب نقص تمثيل المسلمين الكثيرة، أشار تقرير ساشار إلى أن "لجنة ترسيم الحدود" أعلنت عن حجز عدد من الدوائر الانتخابية ذات الكثافة الإسلامية كحصص ولكن لغير المسلمين، وبالتالي منعت المسلمين من التمثل الصحيح فيها(13). على سبيل المثال، تحوي دوائر مجالس ساغارديغي، وكاليغانج، وخارغرام، وكيتوغرام، وراجارهات وبسنتي في غرب البنغال أكثر من 40% من السكان المسلمين، ولكن هذه المقاعد محجوزة لـمرشحي القبائل والفئات الاجتماعية المسجلة على الرغم من أن تعدادهم السكاني في هذه الدوائر أقل من 25%. وبالعكس تُرِكَت دوائر بأغلبية سكانية من الفئات والقبائل المسجلة غير محجوزة لها، في مناطق مثل هالديباري، وسيتاي، وكالياغانج، وجالبايغورى، وتوفانغانج في البنغال الغربية. واشتمل تقرير ساشار أيضًا على توصية لمعالجة هذه الحالات الغريبة وبالتالي السماح بتمثيل سياسي عادل للمسلمين الهنود(14). ولم تقتصر التوصية على هذه الحالات فقط؛ ولكن شملت كل المشهد الانتخابي بدءًا من "البانشيات" (دوائر قبلية محلية) وصولًا إلى الدوائر الانتخابية البرلمانية.
قد لا يمكن للعديد من السياسيين المسلمين مقاومة إغراء إنشاء حزب سياسي خاص بهم من أجل التصدي لضعف تمثيلهم في الحياة السياسية، ولكن بالنظر إلى أن السكان المسلمين ينتشرون في جميع أنحاء البلاد وإلى أن السياسة الهندية تمارس هندسة اجتماعية لمصلحة الجميع، لم يتمكن أي حزب سياسي إسلامي من تحقيق أي نجاح مهم. ففي انتخابات عام 2012 في أوتار براديش، تنافست أربع أحزاب سياسية إسلامية على 333 مقعدًا لكنها فازت فقط بـ7 مقاعد(15)، في حين فاز 58 مرشحًا مسلمًا من أحزاب سياسية أخرى غير مسلمة. وجد المحللون أن فكرة "أصوات الناخبين المسلمين" التي يمكن الاستفادة منها إلى حدٍّ كبير من أجل تمثيل المسلمين هي مجرد خرافة(16)، بل إن المسلمين ميَّالون لأن ينتخبوا عبر تحالفات مع مجموعات أخرى مثل طائفة المهمشين المسجلة (الداليت) أو حتى الطبقات الهندوسية العليا. هذا وبرزت في أعقاب انتخابات عام 2014 العامة الحاجة المتزايدة لضرورة إدخال نظام "الحصص في التمثيل" لتمكين الأقلية المسلمة من الوصول إلى مراكز منتخبة(17).
المجتمع المسلم مغلق
يأتي جزء من مشاكل المسلمين الهنود من انغلاقهم الاجتماعي والثقافي؛ وغالبًا باسم الدين والهوية الطائفية. هذا وانتقد نائب الرئيس، حميد أنصاري، المسلمين الهنود؛ لأنهم "يدورون في حلقة مفرغة وفي موقف دفاعي في الجانب الثقافي الذي يَحُول دون نهوضهم ذاتيًّا". ويرى أنهم يتشددون للحفاظ على التقاليد والنتيجة أنهم يتيهون عن الهدف الذي من أجله نشأت هذه التقاليد وبرزت الحاجة إليها(18). وبسبب تجاهل الديناميات الداخلية الفاعلة في المجتمع الهندي المسلم، يحسبهم الآخرون مجتمعًا متجانسًا، بينما حقيقة الأمر خلاف ذلك. وهذه النظرة الخاطئة تتجاهل دور النساء المسلمات، اللواتي تختلف تطلعاتهن عن تطلعات القيادة الدينية التقليدية.
في الأشهر الأخيرة، شهدت السياسة الهندية نقاشات ساخنة بشأن انتشار "الطلاق لثلاث مرات" (الطلاق من غير رجعة) داخل المجتمع الإسلامي، وضرورة تغيير قانون الأحوال الشخصية أو إدخال القانون المدني المشترك. وبينما تدافع القيادة الدينية بشدة عن طلاق الثلاث، ينتقدها كثيرون من المجتمع المسلم ويتهمونها بإساءة استخدام أحكام الشريعة الإسلامية. ويبدو أن النساء المسلمات؛ وبشكل خاص الجيل الجديد الحديث المتعلم، محبط كونه يبدو أمام جيرانه من غير المسلمين بمظهر المتخلف والمعادي للمرأة.
أيضًا، لا تعكس معظم المؤسسات الإسلامية والمدارس والجامعات والأوقاف والمنظمات غير الحكومية أو حتى الحركات الاجتماعية والدينية وأنشطتها تطلعات المسلمين العاديين؛ حيث تتم إدارتها بمفاهيم دينية محلية وضيقة الأفق، وتفتقر للشفافية والانفتاح. كما أن الجماعات الدينية الإسلامية بما في ذلك جمعية علماء الهند، وجماعة إسلام الهند، وجماعة التبليغ والبريلوية، إما أعطت النساء والشباب المسلم مساحة ضيقة أو لم تعطهم شيئًا على الإطلاق في منظماتها؛ حيث تهيمن عائلات محددة على الهيئات القيادية وصنع القرار؛ ما أدى بالمجموعات المسلمة المهمشة إلى اتهام هذه الجماعات بخدمة الطبقات العليا من المسلمين فقط دون سواهم(19).
وفي السنوات الأخيرة، كثَّف كل من النساء المسلمات والشباب والناشطون المسلمون ومجموعات أخرى من نشاطهم ضد القيادة الإسلامية التقليدية؛ لأن معظم الزعماء التقليديين والمدارس الدينية والمعاهد الدينية الإسلامية لم يتخذوا أية إجراءات تُذكَر لتوعية الجماهير المسلمة بالقضايا المتصلة بالبطالة أو الأمية أو الفقر أو المشاكل الصحية أو غيرها من قضايا التنمية. ولا تزال آلاف المدارس الدينية تحافظ على مناهج عمرها قرون وليس لها أي حظ من التجديد أو من التشريع الإسلامي الحديث، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن تقرير ساشار كان قد ضغط على هذه الجماعات لهذه الغاية لكنها لم تستجب بشكل كاف.
القوة الناعمة للمسلمين
على الرغم من أوضاع المسلمين السياسية والاقتصادية الضعيفة، يتمتع الفنانون والكُتَّاب والمطربون والممثلون والأكاديميون والصوفيون والزعماء الرُّوحيون المسلمون بقدر كبير من الشعبية عند الجمهور الهندي. وهذه الحالة على نقيض ما يشهده المسلمون في أميركا وبريطانيا وفرنسا وما يعانونه من ضعف تفاعل اجتماعي وثقافي مع المجتمعات المضيفة لهم منذ قرن من الزمان، فمسلمو الهند لديهم تجربة مختلفة تمامًا تقوم على التفاعل الاجتماعي الإيجابي مع جوارهم غير المسلم، فلا يمكن لأي هندي مثلًا أن يتوقف عن سماع أغاني القوال والغزل (من تراث الهنود المسلمين وتلقى شعبية) أو مشاهدة الأفلام؛ فقط لأن من ينتجها ويقدمها هم فنانون مسلمون.
فالمسلمون منذ وصولهم إلى الهند، أعاروا اهتمامًا خاصًّا للمعرفة الدينية والعلمية والموسيقى في هذا البلد، وأمضوا وقتهم وبذلوا طاقتهم في التعلم ونشر الخبرات الهندية في جميع أنحاء العالم، وكانت أول تراجم لملاحم هندوسية تُنجَز على يدهم، مثل مهاباراتا (Mahabharata)، ورامايانا (Ramayana)، وغيرها من النصوص التي تعود ترجمتها إلى القرن الحادي عشر. وأبدى الإمبراطور أكبر (جلال الدين محمد أكبر أحد سلاطين المغول)، وحاكم كشمير زين العابدين (غياث الدين زين العابدين السلطان الثامن لكشمير) اهتمامًا خاصًا لترجمة هذه الملاحم التي تُعرف الآن باسم "رزم نامه". وأنجز طاهر محمد سبزواري في عهد أكبر، ترجمات نثرية مختصرة لـ باغافاتا بورانا (Bhagavata Purana)(20). ووفقًا للبروفيسور الفارسي الهندي، شريف حسين قاسمي، هناك 2517 مخطوطة فارسية تمت ترجمتها من اللغة السنسكريتية(21). وتم إنشاء النسخ الأولى المصورة المعروفة بـ "رامايان" عبر فنانين خاصين بتكليف من الحكام المغول آنذاك(22)؛ حيث ازدهرت التقاليد الصوفية والروحية وأثَّرت على التقاليد الدينية المتنوعة في الهند.
وعلاوة على ذلك، تطورت المعرفة الدينية بشكل كبير عند المسلمين الهنود داخل البلاد؛ لأن المئات من علماء الدين الإسلامي ألَّفوا مجلدات في التأويل القرآني والحديث والفقه الإسلامي والتاريخ والعلوم الإسلامية الأخرى، التي أثَّرت على العلماء المسلمين في مصر والسعودية وإيران وتركيا وبلدان أخرى. لكن إلى حدٍّ ما لم تلقَ التقدير تلك المساهمة الفكرية لدار العلوم، ديوبند، كمركز إسلامي في جنوب آسيا. ونشط المسلمون أيضًا في مرحلة ما بعد الاستقلال، وكان أداؤهم في التعليم الحديث جيدًا، حتى إنهم في السنوات الأخيرة حلوا محل بعض العمالة الباكستانية والمصرية في دول الخليج العربي.
إن مساهمات المسلمين الثقافية والعلمية هي أحد الأسباب الرئيسية التي تربط المسلمين الهنود بعمق داخل المجتمع والثقافة الهندية. وتبقى التفاعلات بين الأديان والعلاقات بين المسلمين والهندوس قوية ومتداخلة اجتماعيًّا وسياسيًّا على الرغم من كل الخلافات السياسية. وربما كثيرون في العالم الإسلامي لا يدركون العلاقة القوية التي نجح المسلمون الهنود في توطيدها مع جوارهم غير المسلم، وهم لا ينزعون بسهولة إلى الأيديولوجيات المتشددة بسبب وجود آليات للتظلم وتحصيل الحقوق، وعلى الرغم من أن هذا الأمر يتطلب وقتًا طويلًا وتسويات سياسية واجتماعية.
إن كل ما سبق له أهميته اليوم عند الحديث عن الانقسام الطائفي في العالم الإسلامي وما تشهده المنطقة من تنافس سياسي سعودي-إيراني إقليمي؛ إذ لا يرى المسلمون الهنود في المملكة العربية السعودية أو إيران مرجعية دينية، ولا يؤيدون غالبًا ما يقوله رجال الدين السعوديون ولا الإيرانيون ضد بعضهم البعض. والمخيب للأمل بشكل أكبر هو أن الدول الإسلامية ومنظمة التعاون الإسلامي لم تجد أي قناة مؤسساتية لإقامة علاقات مع المسلمين الهنود على مبدأ المصالح المشتركة والاحترام المتبادل؛ ومن الصعب للغاية أن نتفهم وجود منظمة مثل هذه ليس فيها تمثيل لـ170 مليون مسلم في الهند.
خاتمة
على أية حال، ليس الضعف والافتقار للإصلاح الاجتماعي مشكلة خاصة بالمسلمين فحسب، إلا أنها سمة غالبة على المسلمين بسبب ما يعانونه من حرمان اجتماعي واقتصادي. هذا وتشتغل السياسة الهندية عبر عمليات متعددة ومعقدة من التسويات الطائفية والفئوية واللغوية والعِرقية والثقافية والطبقية؛ حيث يمكن أن نرى المسلمين الهنود منخرطين في هذه التسويات عبر أدوارهم المجتمعية أو السياسية أو حتى على الصعيد الشخصي. لذلك بقدر عمق مشاركتهم مع جميع قطاعات المجتمع، تكون شراكتهم في النظام والدولة قوية بنفس القدر.
هذا، وفي خضمِّ تغير صورة الهند سياسيًّا واقتصاديًّا ومشاركتها في العالم على الصعيد العالمي، أصبح المسلمون الهنود، وخاصة الشباب، طموحين ويطالبون بحقوقهم ودورهم في صنع مستقبلهم المشترك، وينافس الجيل الشاب الحالي الجيل القديم، وحدَّد دورًا جديدًا له، وكما يقول حسن سرور في كتابه بعنوان "ربيع المسلمين في الهند":
"بعد عقد من الزمان، هناك تغيير جذري، وذلك بفضل ظهور جيل جديد من المسلمين أقل انفعالًا وأكثر حكمة، إنهم المسلمون الذين تعلموا من حماقات أسلافهم، وهم بالتأكيد أكثر استيعابًا لموقعهم في هند ذات أغلبية هندوسية".
_________________________________
عمير أنس: دكتوراه في دراسات غرب آسيا، من جامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي. وهو زميل باحث في المجلس الهندي للشؤون العالمية (ICWA)، نيودلهي. ومتخصص في سياسة غرب آسيا، والمسلمين الهنود المعاصرين.
ملاحظة: النص أُعِدَّ لمركز الجزيرة للدراسات باللغة الإنكليزية وأُعيد تحريره بعد أن ترجمه محمود العِبِّي إلى العربية.
(1) Makkhan Lal (2012) “Reservation Based on Religion is Anti-Constitution”, Vivekanand International Foundation, 12 June, http://www.vifindia.org/article/2012/june/12/reservation-based-on-religion-is-anti-constitution (accessed 10 November 2016).
(2) Rakesh Sinha (2014) Shri Guruji and Indian Muslims, Chapter Two, http://www.archivesofrss.org/encyc/2014/1/21/23_07_02_19_muslim.pdf (accessed 10 November 2016).
(3) M. S. Golwalkar (2015) Bunch of Thoughts, http://www.rss.org/Encyc/2015/4/7/334_03_46_30_Bunch_of_Thoughts.pdf (accessed 12 November 2016), p. 112.
(4) (1992) “Declaration on the Rights of Persons Belonging to National or Ethnic, Religious and Linguistic Minorities”, United Nations General Assembly, http://www.un.org/documents/ga/res/47/a47r135.htm (accessed 5 November 2016).
(5) (2005) “Special Rapporteur on minority issues”, The Office of the United Nations High Commissioner for Human Rights (OHCHR), click here (accessed 5 November 2016).
(6) (2006) “Social, Economic and Educational Status of the Muslim Community of India”, Ministry of Human Resource Development, Government of India, http://mhrd.gov.in/sites/upload_files/mhrd/files/sachar_comm.pdf (accessed 6 November 2016).
(9) (2013) “Muslims poorest among religious groups, says NSSO survey”, The Hindu, 20 August http://www.thehindu.com/news/national/muslims-poorest-among-religious-groups-says-nsso-survey/article5042032.ece (accessed 11 November 2016).
(10) (2016) “Muslim working proportion lowest among communities”, The Indian Express, 26 February, http://indianexpress.com/article/india/india-news-india/muslim-working-proportion-lowest-among-communities/ (accessed 11 November 2016).
(11) Humanyun Kabir (2016) From School to Work: Muslim Youths” Education and Employment Strategies in a Community in Uttar Pradesh, Institute of Developing Economies Discussion Paper, 572 http://www.ide.go.jp/English/Publish/Download/Dp/pdf/572.pdf [Accessed on 25 November 2016] p. 38
(12) Sai Krishna K (2014)”Modi wave sweeps away Muslim representation in Lok Sabha”, Scroll.in, 19 May, http://scroll.in/article/664779/modi-wave-sweeps-away-muslim-representation-in-lok-sabha (accessed 11 November 2016).
(13) (2006) 'Social, Economic and Educational Status of the Muslim Community of India,' Ministry of Human Resource Development, Government of India, http://mhrd.gov.in/sites/upload_files/mhrd/files/sachar_comm.pdf (accessed 6 November 2016), p.25.
(14) Mumtaz Alam Falahi (2011) ‘Why Muslim-dominated seats are reserved for SCs?’, TwoCircles.net, 19 April, click here (accessed 12 November 2016).
(15) Abhishek M. Chaudhari (2012) ‘Rise of Muslim Political Parties’, Public Policy Research Centre, click here (accessed 12 November 2016).
(16) Shreyas Sardesai (2014) ‘Lok Sabha 2014 - A further marginalisation of Muslims?’, The Hindu, 10 June, click here (accessed 13 November 2016).
(17) Dr. Zafarul Islam (2014) ‘Indian Muslims and Parliamentary elections’, The Milli Gazette, 29 May, http://www.milligazette.com/news/10436-indian-muslims-and-parliamentary-elections (accessed 13 November 2016).
(18) Hamid Ansari (2015) “Vice President Inaugural Speech at the Golden Jubilee Session of ‘All India Muslim Majlis-e- Mushawarat’, Press Information Bureau – Government of India, 31 August, http://pib.nic.in/newsite/PrintRelease.aspx?relid=126472.
(19) Kaleem Kawaja (2011) ‘Why are we indifferent to Pasmanda Muslims?’, The Milli Gazette, 7 February, http://www.milligazette.com/news/411-why-are-we-indifferent-to-pasmanda-muslims-india (accessed 14 November 2016).
(20) Carl W. Ernst (2003) ‘Muslim Studies of Hinduism? A Reconsideration of Arabic and Persian Translations from Indian Languages’, Iranian Studies, Vol. 36, No. 2, pp. 173-195.
(21) (2014) ‘Persian Translations Of Sanskrit Texts Show Respect’, Outlook India, 1 December, http://www.outlookindia.com/magazine/story/persian-translations-of-sanskrit-texts-show-respect/292627 (accessed 15 November 2016).
(22) Navina Najat Haidar (2015) ‘Ramayana, with a Mughal brush’, The Hindu, 31, http://www.thehindu.com/features/magazine/ramayana-with-a-mughal-brush/article7823296.ece (accessed 15 November 2016).