قراءة في استعصاء مشروع الدولة في الصومال

هناك عوامل عديدة تتحكم في بناء الدولة الصومالية منها ما يتعلق بالتاريخ الاستعماري للبلد، ومنها ما هو عائد إلى العلاقات بدول الجوار، ومنها البُعد الداخلي وما يفرزه من صراع بين لاعبين كثيرين يتحدون في الهوية الإثنية لكنهم يختلفون في التوجهات السياسية والمصالح.
64cb68fdc7c340dfadee6f87c10a3cb1_18.jpg
هل تحل الانتخابات مشكل اللغز السياسي والاجتماعي في الصومالي (رويترز)

تبحث هذه الدراسة استعصاء مشروع الدولة في الصومال، وذلك من خلال قراءة للعوامل والسياقات التي صاحبت عملية بناء الدولة الصومالية بعد الاستقلال، مركِّزة على الميراث الاستعماري، بدءًا بالتقسيمات الحدودية، مرورًا بأزمة نخب دولة ما بعد الاستقلال، ووصولًا إلى مرحلة حكم العسكر وتأسيس الدولة الاستبدادية وما أنتجته من فقدان الثقة بين الجماعات الأهلية، وما تلا ذلك من حروب أهلية امتدت لأكثر من عقدين وذلك في وقفة أولى. أما في الوقفة الثانية، فتبحث الدراسة مسارات المصالحة الوطنية، والمآلات التي انتهت إليها عملية إعادة بناء الدولة، وواقع الفيدرالية الحالية وكيفية مقاربته في سبيل إعادة بناء دولة صومالية قوية. 

وأخيرًا، في وقفة ثالثة، تتطرق الدراسة لطبيعة الدور الأجنبي في المسألة الصومالية، وعلى عكس ما دأبت ملخصات الأخبار والأدبيات حول الصومال بمعالجة أزماته انطلاقًا من تأثيره على الأمن العالمي، واختزال مشكلة الصومال في ملفات الإرهاب والقرصنة، فإننا نرمي في هذه الدراسة إلى تجاوز ذلك عبر فتح مسار جديد أشمل وأعمق مما يجري تداوله حول الصومال، عبر التركيز على فشل الدولة القُطرية في الحالة الصومالية ورصد العوامل التي تتحكم بذلك، بما فيها العامل الأجنبي. 

ليس من قبيل المبالغة القول: إن ظاهرة فشل الدولة وانهيارها، من أكثر المواضيع راهنية في الوقت الحاضر في داخل العالم العربي وإفريقيا، خصوصًا بعد حراك الربيع العربي وما كشفه من عيوب مشروع الدولة الحديثة في دول العالم الثالث، ورغم ذلك، لم تتم دراسة اللغز الصومالي وأسباب تصدره الدائم للائحة الدول الفاشلة.

خلفية سوسيو-تاريخية 

كان الصوماليون منتشرين في مجال جغرافي معروف في القرن الإفريقي قبل الاستعمار، وكانت القبيلة الثابت السوسيولوجي ووحدة التنظيم الاجتماعي الأساسية منذ ما قبل الاستعمار وغياب فكرة الدولة وحتى اليوم. الصوماليون مجموعة بشرية ترتبط بالدم والنَّسَب وفكرة التحدر من جدٍّ مشترك، وتخضع لسيطرة مجلس من رؤساء البطون، كما أنها تمد الفرد بالهوية الاجتماعية وتلعب أيضًا دور الجهاز السياسي الذي يتولَّى إدارة العلاقات مع الخارج وإعلان الحرب وتقرير حركات الهجرة وحماية الفرد من خلال مؤسسة الثأر، فالقبيلة كانت إلى حدٍّ كبير تحل محل الدولة؛ إذ كان لكل قبيلة بيتها القيادي. 

كانت حالة الانقسام داخل بنية المجتمع القبلي متساوقة مع آلية الالتحام في وجه الأخطار الخارجية، والحروب والعداوات التاريخية مع الجارة إثيوبيا تحديدًا. كان الصوماليون يشكِّلون إلى حدٍّ بعيد أمة ثقافية تشترك في الدِّين واللغة والتقاليد، وتتقاسم الشعور بالانتماء إلى هويات إثنية قومية أوسع من قبائلها، إلى أن جاءت فترة الاستعمار. 

أولًا: أمة مفتَّتة 

التجزيئات الحدودية التي أقيمت في سياق التزاحم الاستعماري أحدثت حالة تشظٍّ للإثنية الصومالية المتمركزة في القرن الإفريقي في أربع دول. قامت كل من بريطانيا وإيطاليا وفرنسا باحتلال ما تم تسميته لاحقًا بـ"صومالي لاند البريطاني"، و"صومالي لاند الإيطالي"، وجيبوتي على التوالي. وقام الاحتلال البريطاني بإلحاق إقليم NFD بكينيا، وإقليم أوغادين بإثيوبيا. إقليم أنفدي (NFD) وهو اختصار لـ(Northern Frontier District) ومعناه "المحافظة الشمالية الحدودية". 

ما من شك في أن هذا التفتيت الذي خلقته الحدود الاستعمارية لجغرافيا الإثنية الصومالية أوجد خللًا في الترتيبات الاجتماعية والاقتصادية والحدودية، والتي لا تزال تثير نزاعات دائمة ومستمرة في منطقة القرن الإفريقي في سبيل لمِّ الشظايا الصومالية المتناثرة بين دول الجوار، وهو من الخطورة بمكان؛ إذ إنه ينجم عن تشظي الجماعة الإثنية ما يتجاوز تفكيك الروابط الاجتماعية والثقافية ليشمل النشاط الاقتصادي عبر إعاقة حركة الجماعات التي تعتمد في بقائها على نظم بيئية إقليمية، كما لاحظ البروفيسور عبدي سمتر(1). هذا التفتيت الذي لحق الصوماليين والتهديد الذي كانت تمثله إثيوبيا التي صرِّح مَلِكها وقتئذ، هايلا سيلاسي، بأحقيته في ضم الصوماليين إلى مملكته(2)، في الوقت الذي كان يسيطر فيه على إريتريا بشكل غير قانوني في عام 1961، بدعم من القوى الغربية، أدى بشكل مباشر إلى ردة فعلٍ تمثَّلت بالوحدة الطوباوية التي اعتنقتها نخب دولة الاستقلال ممثَّلة بأول حزب سياسي في الأراضي الصومالية (SYL) بدون وجود أساس عقلاني يؤدي لتأسيس كيان قُطري، وهي عوامل مثَّلت عقبة أساسية وخللًا بنيويًّا في عملية تأسيس كيان قُطري صومالي حديث، على نحو جعل الدولة الصومالية تحمل منذ ولادتها عوامل فشلها التي أدت أخيرًا إلى انهيارها المدمر، وهو عين ما يَصْعُب استعادته من جديد، وسنتناول هذه العوامل حسب أقدميتها. 

العامل الأول: دولة الاستقلال وطوباوية الوحدة

عانى الصومال منذ ظهوره على المسرح الدولي من أزمة سياسية مرتبطة بصميم كيانه القومي، ونزاع حاد على الأراضي مع جيرانه بسبب التقسيم الاستعماري للأراضي الصومالية على الجيران على شكل هِبَات، وتمرد الدولة الوطنية الصومالية على الحدود الاستعمارية "المقدسة"، وظل ذلك، المظهر البارز في أزمتها مع الجيران، والحروب التي شهدتها معهم، وكذلك وحدتها السابقة وجدل انفصالها الحالي لإقليمها الشمالي: صومالي لاند. 

برز أيضًا منذ لحظة تأسيس دولة الاستقلال إشكال تأسيسي لموضوعنا، وهو متعلق بتسمية الكيان الجديد أمة أم دولة. وكما أشرنا، أعرضت نخب الاستقلال عن أي فكر عقلاني بخصوص الدولة، فغداة استقلال صومالي لاند البريطانية كأول أراض صومالية تنال الاستقلال من الاستعمار، في 26 يونيو /حزيران 1960، نالت صومالي لاند الإيطالية استقلالها بعدها بأربعة أيام، وشرعتا في خوض وحدة مباشرة على الفور بدون قيد أو شرط، وتأسست بموجب هذه الوحدة ما عُرف بالجمهورية الصومالية، وكان في عَلَم الدولة الجديدة نجمة خماسية في الوسط تدل على المناطق الخمس التي يقيم فيها الشعب الصومالي، حيث تقع اثنتان من هذه المناطق في أراضي الجيران، وواحدة تحت الاستعمار الفرنسي. ولم يمض وقت طويل حتى دعمت هذه النزعة التحريرية التوحيدية حركات المقاومة الصومالية وساندتها في جيبوتي وأوغادين وإقليم NFD في كينيا(3). 

في سياق الوحدة، كان التحدي الأكثر أهمية وفورية توحيد صومالي لاند البريطانية والإيطالية لتشكيل جمهورية موحدة، والتحدي الأبرز كان يتمثل في وجود ميراث نظامين استعماريين متناقضين يتطلبان الإصلاح والتكامل، في بلد سكانه فقراء وتتجاوز فيه الأمية نسبة 90%(4). وعلى الرغم من الاحتفال العارم بالوحدة بين الجزئين إلا أنه ظهرت خلافات حادة تتعلق بتقسيم السلطة، وبالرغم من الاتفاق على أولوية تشكيل مجلس برلماني موحد من خلال الجمع بين برلماني الاقليمين، وذلك من خلال تشكيل غرفة موحدة مكونة من 123 عضوًا (33 من الشمال، و90 من الجنوب)، وكانت المهمة الرئيسة للبرلمان الجديد هي انتخاب قادته، ومن ثم تحولت الأنظار إلى اختيار الرئيس المؤقت للجمهورية، واختير عبد الله عثمان، في 5 يوليو/تموز 1960، دون أن يكون هناك منافس غيره بأصوات بلغت 107 من إجمالي الكيانين المتحدين(5). 

يطرح البروفيسور عبدي سمتر في كتابه (الديمقراطية الأولى في إفريقيا) أنه في الأربع سنوات الأولى من عمر الدولة، 1960-1964، حقَّق الصومال عدَّة إيجابيات من حيث الديمقراطية وهامشًا من العمل السياسي الحزبي وتجنب الوقوع في حكم الحزب الواحد أو الديكتاتورية (إفريقيا شهدت عشرين انقلابًا قبل 1969)(6). لكن كان هناك عامل بارز تمثل في إساءة استخدام المال العام، وإساءة استخدام مواقع السلطة، وانتشار عدم الكفاءة في المستويات العليا من الدولة، وتغول المال السياسي في العمل الحزبي كما ظهر في انتخابات عام 1963(7). ومثَّلت كل من الاستقالة الجماعية لممثلي الشمال في حكومة الاستقلال وقيام 11 من جنرالات الشمال بعملية انقلاب فاشلة لاستعادة استقلال الشمال في السنة الأولى من عمر الدولة، مثَّلت إشارة إلى نزعة مبكرة لتراجع صومالي لاند عن الوحدة، وهو ما يعطي إشارة بمدى وهن البناء الوطني وضعف الكيان الجديد. 

يركز بعض الباحثين على دور الزعيم الفردي في صنع الدول الإفريقية ما بعد الاستعمارية(8)، ويسلِّط عبدي سمتر الضوء في كتابه آنف الذكر في السياق الصومالي على الديناميكية التفاعلية بين القوى الداخلية والخارجية التي شكَّلت طبيعة السلطة السياسية في الدولة الصومالية، ويبين أن الحالة الصومالية توضح أن الديمقراطية في إفريقيا ما بعد الاستعمار واجهت قوى داخلية وخارجية على حدٍّ سواء عقَّدت البناء الوطني؛ حيث مارس الرئيس، عثمان، ورئيس الوزراء، حسين، مثالية ديمقراطية في ظروف كانت تتطلب جرعة من إدارة ميكيافيلية للسياسة، أضف إلى ذلك صلابة الروح البدوية الحرة في المجتمع الصومالي الذي رفض الاعتراف بأي شكل من الأشكال التقليدية لبناء كيان سياسي جديد تستفيد منه أطراف سياسية طموحة تخدم مصالحها(9). 

العامل الثاني: العمل السياسي الحزبي

من جانب آخر، ظلت بنية المجتمع الصومالي تقليدية إلى حدٍّ بعيد؛ الأمر الذي جعل الأحزاب السياسية تنتظم تبعًا لهويات بدائية مثل العشيرة التي تُترجَم بدورها إلى صراع وخصومة بين الأسر والعشائر التي تتنافس سياسيًّا بغية الحصول على موقع رسمي يتيح ريعًا ومناصب ترضي القاعدة الاجتماعية. يتولد هنا نوع من المحسوبية السياسية القائمة على توزيع مناصب الدولة ومواردها بوصفها ريعًا تحت سُلطة الحاكم، يهبها لمن يشاء وفق قواعد التدجين والابتزاز والاستغلال السياسي والمجتمعي. وهكذا، شهد الصومال في هذه الفترة طفرة في عدد الأحزاب السياسية حتى وصل عدد تلك التي شاركت في انتخابات مارس/آذار 1969 أكثر من ستين حزبًا سياسيًّا(10) دون وجود خطوط حزبية أو أيديولوجية على أساسها ينتظم العمل السياسي. 

يمكننا القول: إن العائق الموضوعي الذي ينضاف إلى عامل التقسيم الاستعماري هو عامل ثقافي تمثل في فشل نخب ما بعد الاستقلال في إيجاد الأسس الموضوعية الفعلية الثابتة لقيام ذاتية صومالية تتجاوز التمثيل العشائري، وتدفع إلى نشوء مشاعر تضامن محلي قومي، بغض النظر عن الأصول الاجتماعية أو العشائرية؛ إذ ظهر كيان الدولة كما لو أنه منظمة جديدة مضافة إلى المنظمات العشائرية الموجودة؛ ما يعني أن مشروع الدولة لحظة تأسيسه لم يكن مشروع دولة حديثة. وبالتالي؛ احتفظت الأمة بمنابع وأطر السلطة التقليدية العشائرية التي أصبحت هي بدورها أكثر عدوانية بنهبها اقتصاديات العصبويات الأخرى، وتفاقم الفساد السياسي في الانتخابات البرلمانية في عام 1969 وانتشار المظالم على نطاق واسع، على النحو الذي أدى إلى مقتل الرئيس الصومالي آنذاك، عبد الرشيد علي شرماركي. 

العامل الثالث: انقلاب العسكر ومرحلة الدولة الاستبدادية

بعد تسع سنوات فقط من عمر الدولة المدنية، سيطر العسكر على الحكم بانقلاب عسكري مستفيدًا من دعم الاتحاد السوفيتي(11)، ومن فراغ السلطة وهشاشة الإجماع الوطني التي كانت البلاد مرت بها بُعيد مقتل الرئيس شرماركي، في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1969، على يد أحد مقربيه أثناء زيارته للمناطق الشمالية؛ حيث كان متجهًا من مدينة هرجيسا إلى لاسعانود. ومثَّلت هذه فرصة سانحة لسياد بري للانقضاض على الحكم، فطرح نفسه بديلًا عن فشل النخب المدنية وفسادها، وأعلن في 21 من نفس الشهر، أكتوبر/تشرين الأول 1969، توليه مقاليد السلطة، وأن البلد دخل مرحلة ثورية جديدة، فحُلَّت الأحزاب والبرلمان بموجبها، واعتُقل القادة السياسيون وجميع أعضاء الحكومة السابقة، وأُغلقت مؤسسات الصحافة، وقام العسكر بتأميم الشركات والممتلكات الخاصة وتعيين مجلس أعلى للثورة مكون من خمسة وعشرين عضوًا عيَّنهم سياد بري شخصيًّا وترأَّسهم. تضمَّن بيان انقلاب سياد بري نقطتين رئيستين: إحداهما: أنه ستقام الانتخابات في الوقت المناسب، وثانيتهما: أنه سيشرع في استعادة الإقليمين الصوماليين من الجارتين، إثيوبيا وكينيا، بطريقة سلمية(12)، لكن ما حدث لاحقًا كان عكس ذلك. 

جاء العسكر تحت شعار "إنهاء الفساد وتقويم الاقتصاد المتداعي وإعادة وحدة البلاد"، وكان ذلك في مناخ من الاغتيالات المشبوهة التي راح ضحيتها ضُباط كُثر، ولم يتردد بري طوال عهده في تصفية كل من يساوره الشك بأنه يشكِّل تهديدًا عليه. وفي صعيد آخر، عاد بقوة حُلم الصومال الكبير، فبدأ بري بتقديم الدعم بسخاء للجبهات التحررية في إثيوبيا وجيبوتي، وفي وقت لاحق سيتطور الأمر إلى تخطيطه لغزو إثيوبيا. 

في عام 1977، قام سياد بري بمحاولة غزو الجارة، إثيوبيا، وكان يحاول الاستفادة من الاضطرابات التي اجتاحت إثيوبيا وقتئذ، والفجوة السياسية بين أميركا والنظام الذي جاء بعد الإطاحة بالملك، هايلَى سيلاسي، بانقلاب عسكري، والذي كان هو نفسه -أي الانقلاب- يواجه معارضة داخلية عنيفة، لكن هذه الحرب أنقذته وأعطته إجماعًا سياسيًّا داخليًّا كونه يحارب عدوًّا في الخارج. التحول الذي عرفته السياسة الخارجية الصومالية بين الشرق والغرب في النصف الثاني من عقد السبعينات لم يؤهل بري لكسب حليف بشكل قوي، وتخلَّص الاتحاد السوفيتي من الصومال لصالح إثيوبيا التي كانت لتوِّها أعلنت دخول الحلف الشرقي. وأقدم الاتحاد السوفيتي على إلحاق آثار مدمرة بالجيش الصومالي وأجبره على الانسحاب من إثيوبيا مستخدمًا حلفاءه في اليمن الجنوبي وكوبا. 

العامل الرابع: إسقاط النظام والانزلاق لحرب أهلية

غالبًا ما تلجأ الأنظمة المستبدة إلى صنع كبش فداء لنفسها بعد ارتكاب خسائر فظيعة حين يجدونه ضروريًّا لاستمرار اعتلائهم السلطة، وسياد بري هو أحد الزعماء الذين لجؤوا لهذه السياسات، فقام بإعدام خمسة جنرالات من الشمال في مدينة هرجيسا بعد الخسائر الكبيرة التي لحقت بالبلد إثر غزو إثيوبيا، ومثَّلت هذه الإعدامات الشرارة التي أشعلت الانقسامات الداخلية التي اكتسبت مزيدًا من التصاعد منذ تلك اللحظة. 

بعد عام من حرب القرن الإفريقي 1977-1978، قام جنرالات من الجيش بمحاولة انقلاب فاشلة ضد سياد بري، كان يتزعمهم الجنرال، عبد الله يوسف، ومحمد شيخ عثمان عرو. بعد فشل المحاولة، أعدم النظام عددًا من الجنرالات الذين قادوا الانقلاب، وفَرَّ عبد الله يوسف وثلاثة من رفقائه إلى كينيا، وبعدها إلى إثيوبيا حيث أسسوا هناك أول جبهة عسكرية لإسقاط النظام، وتوالى تأسيس الجبهات التي عملت على إسقاط النظام. وبدوره، واجه النظام العسكري الجبهات المتمردة بوحشية، واقترف جرائم حرب بحق المدنيين الذين كانوا يشكِّلون حاضنات للجبهات، فقصف بالطائرات الحربية مدينة هرجيسا، وسمَّم الآبار في شمال شرق البلاد. 

في يناير/كانون الثاني 1991، سقط نظام سياد بري على يد الجبهات العشائرية المسلحة مخلِّفًا وراءه خرابًا هائلًا، وأعلنت إحدى الجبهات القتالية في العاصمة مقديشو -وهي جبهة المؤتمر الصومالي الموحد- نفسها حكومة مؤقتة للبلاد، ودار خلاف بينها وبين الجبهة الشعبية الديمقراطية. وفي الشمال، أعلنت الحركة الوطنية انفصالها وعودتها إلى الحدود الاستعمارية، وقيام جمهورية صومالي لاند من جديد. 

ثانيًا: جهود إعادة بناء الدولة 

بعد انهيار نظام بري وسيطرة جبهة المؤتمر الصومالي الموحد على العاصمة على مقديشو، والتي خاضت حروبًا مع الجبهة الشعبية الديمقراطية في مناطق من البلاد، كانت تجري مساع لانعقاد مؤتمر للمصالحة في جيبوتي في نهايات 1991، واختير علي مهدي رئيسًا مؤقتًا للبلاد، لكن الجنرال عيديد الذي كان يطرح نفسه فارس قبيلته أثارت نتيجة المؤتمر حنقه، وأعلن الحرب على علي مهدي نفسه، واستمرت هذه الحروب وتُوِّجت بالتدخل الدولي الذي كانت تقوده أميركا، وعرف الصومال حينذاك واحدة من أعنف المجاعات في العالم(13)، ودارت رحى المعارك، وهُجِّر الآلاف من سكان مقديشو الذين لا ينتمون إلى قبيلة هوية، وطُردوا، وسرعان ما تشكَّلت ميليشيات من القبائل الأخرى. 

هنا الكل في حرب مع الكل، معارك تلو المعارك، قبائل تمزق نفسها في سبيل شيء غير محدد، لكل بيت عشائري بيته القيادي، وسلاحه ومقاتلوه، واستمرت البلاد غارقة في هذه الفوضى المدمرة. وفي أثناء ذلك، كانت تجري في العواصم المجاورة حركات وجهود للمصالحة التي تواصلت عقدين من الزمن دون أن تتمخض عنها دولة صومالية قوية. وتجسدت تلك التحركات في ثلاث وقفات: 

الوقفة الأولى: مؤتمرات للمصالحة

كان أول هذه المؤتمرات، مؤتمر جيبوتي الأول 1991؛ فبعد سقوط نظام سياد بري بادر الرئيس الجيبوتي السابق، حسن جوليد أبتدون، بتنظيم مؤتمر للمصالحة، وشُكِّلت لجنة مكونة من سياسيين سابقين يترأسهم الرئيس الأسبق، آدم عبد الله عثمان، ورئيس وزرائه، عبد الرزاق حاج حسين. وأبرز ما دعا إليه هذا المؤتمر بندان اثنان: وقف الأعمال الحربية، وتشكيل حكومة انتقالية، لكن لم يُنفَّذ أي من هذين القرارين، بسبب غياب بعض الفاعلين السياسيين والجبهات القتالية عن المؤتمر. وبعدها عُقد في نيويورك اتفاق لم يُنفَّذ أيضًا بين جبهتي علي مهدي وعيديد في تاريخ 15 فبراير/شباط 1992، لكن الواقع استمر على حاله، بل ازداد تفاقمًا بازدياد عدد أمراء الحرب. 

بعد سنوات من ذلك عُقد في القاهرة مؤتمر للمصالحة بتاريخ 1998، ولم ينجح هذا المؤتمر أيضًا بسبب انسحاب عبد الله يوسف، رئيس جبهة الخلاص الوطني، بعد اتهامه مصر بانحيازها لمنافسه، حسين، وكتب في مذكراته "أن هذا المؤتمر كان مؤامرة تستهدف إخراجه من المشهد السياسي، وأن مخرجات المؤتمر كانت مرسومة سلفًا بتعيين عيديد رئيسًا للبلاد مقابل ولائه السياسي لمصر"(14). 

في نهايات 1999، أُعلن عن انعقاد مؤتمر مصالحة وطنية في مدينة عرته، بجيبوتي، عُرف باسم (مؤتمر عرته) وأسفر هذا المؤتمر عن تعيين عبد القاسم صلاد رئيسًا للبلاد، ولكنه لم يملك القوة ولا الرؤية اللازمتين للسيطرة على العاصمة مقديشو، كما واجهه تحدي أمراء الحرب. 

بعد فشل تطبيق مخرجات مؤتمر عرته، شاركت فصائل معارضة له في تنظيم مؤتمر جديد عُرف (بمؤتمر إمبغاتي عام 2001)، واستمرت أعماله في كينيا لمدة ثلاث سنوات، واختير على إثره عبد الله يوسف رئيسًا جديدًا، لكنه بدوره لم يستطع دخول العاصمة، بيد أن الجديد في تلك الحكومة أن نص الميثاق الانتقالي الذي صادق عليه المؤتمر كان يعتمد الفيدرالية كنظام للحكم. لكن هذا الإعلان بقي مجرد إعلان سياسي، ولم تتبعه أي إجراءات أو تشريعات متعلقة بإدارة وتنظيم الأقاليم، واليوم بعد ثلاث عشرة سنة من اعتماد نظام الحكم الفيدرالي لا يزال يواجه جملة من الإشكالات والتحديات التي تتعلق بكيفية تطبيقه. 

الوقفة الثانية: فيدرالية بدون مركز ولا بديل

دأبت مؤتمرات المصالحة على تشكيل حكومات انتقالية ضعيفة خارجيًّا، لا تملك السيطرة على الواقع الميداني العسكري وأحيانًا السياسي، وقد شُكلت أربع حكومات سابقة في الخارج منذ سقوط نظام سياد بري. وفي عام 2012 أقيمت أول انتخابات رئاسية داخل الصومال، وشرعت الصومال في السير بخارطة الطريق التي وضعتها الأمم المتحدة والتي تضمنت صياغة دستور مؤقت واختيار برلمان جديد ينتخب بعد ذلك رئيسًا. وقد تمخضت هذه العملية عن فوز حسن شيخ محمود بالرئاسة عام 2012 في انتخاب غير مباشر. 

وعلى غرار انتخابات عام 2012، كانت انتخابات عام 2017 غير مباشرة أيضًا، ينتخب فيها أعضاء البرلمان المختارون عبر محاصصة قبلية تُعرف بـ4.5 يتم فيها توزيع المناصب بين القبائل بوصفها ريعًا. تشكيل الحكومات في الداخل في جوهره أصبح أمرًا لا يعدو كونه تغيرًا شكليًّا، وأكثر من ذلك، فقد رافقه تضخم كبير للمال السياسي، ووفقًا لتقرير نشرته فايننشيال تايمز، فقد تم دفع رشوة قدرها خمسة آلاف دولار لكل فرد من شيوخ العشائر لاختيار ممثليهم في البرلمان عند انتخاب الرئيس، حسن شيخ محمود، وهؤلاء الممثلون هم من يقومون باختيار أعضاء البرلمان، وقد وصلت بعض المقاعد في البرلمان لأكثر من مليون دولار للمقعد الواحد في الانتخابات الأخيرة حسب التقرير(15). 

في هذا الوضع الذي تمر به الدولة في الصومال التي تعاني أزمة استقرار منذ 27 عامًا؛ فإنه "لا يوجد حتى الآن جيش صومالي إلا على الورق رغم المساعدات التي بلغت مليارات الدولارات المخصصة له"، والحرب التي يجب أن يقوم بها هذا الجيش تقوم بها بدلًا عنه بعثة القوات الإفريقية (أميصوم)، وكذلك لا يوجد نظام قضائي أو نظام ضرائب رسمية، وقد سمح هذا الفراغ بازدهار القطاع الخاص، لكنه ترك الحكومة المركزية بلا سيطرة وبلا عوائد مالية؛ حيث بلغت ديونها خمسة مليارات دولار مقابل عائد سنوي من رسوم المطار فقط لا يزيد عن 230 مليون دولار(16). 

وعطفًا على ما سبق، فثمة عقبات كبيرة تتعلق بتنظيم الولايات الفيدرالية تحت الحكومة المركزية، فحتى الآن لا توجد قوانين تنظم صلاحيات ومهام الحكومة المركزية ومهام الولايات، وكل ولاية تنظم شؤونها على حِدَة وباستقلالية عن الحكومة المركزية، هذا فضلًا عن الفساد الذي يتخلل كل أجزاء وقطاعات الحكومة والمجتمع، والذي جعل الصومال يتصدر هذا العام مؤشر أكثر البلدان فسادًا للسنة العاشرة على التوالي في تصنيفات منظمة الشفافية الدولية(17). 

ربما كانت فكرة الفيدرالية حلًّا ملائمًا لتضييق الشرخ القائم بين القبائل، كما أنها تكتسب مزيدًا من القبول إذا نظرنا لواقع غياب البديل العملي لها في الوقت الراهن، وفي الجدل القائم حول الفيدرالية فإنه يتوجب أن نلاحظ بالأساس وجود الغموض الدائم إزاء الدولة ونُظمها وفلسفة الحكم في التصورات السائدة في العقل الصومالي. كثيرون ممن يؤيدون الفيدرالية حاليًّا يتصورونها استقلالًا لقبيلتهم عن القبائل الأخرى. أما القطاعات الشعبية الرافضة للفيدرالية فيحكمها المزاج المصاب بفوبيا التقسيم، وأن هناك أياديَ شريرةً تريد لنا التمزق والتهام كل إقليم على حِدة، ويعتقدون أن الفيدرالية تهدف إلى تقسيم البلد إلى كانتونات وإضعافه سياسيًّا وجغرافيًّا(18). ما هو غائب في كلتا الحالتين هو تصور عقلاني حديث للدولة، فمع مرور قرابة ستين عامًا على استقلال الصومال وظهورها كدولة قُطرية، لا يزال مشروع الدولة متعثرًا وغريبًا. 

الوقفة الثالثة: مسألة صومالي لاند

ترتبط مسألة صومالي لاند إلى حدٍّ بعيد بمأزق الحدود التي ورثتها الدولة القُطرية عن الاستعمار، وتتفق كل الآراء على أن هذا الكيان عرف نجاحًا في الاستقرار الأمني، ولكن ماذا عن الدولة؟ يشير الواقع السياسي إلى أنها لا تختلف كثيرًا عن الأقاليم غير الآمنة الأخرى في الصومال، ومع قدرتها على تنظيم انتخابات شعبية ناجحة بشكل نادر في شرق إفريقيا كلها، إلا أن ذلك لم يتحول إلى تأسيس دولة حديثة قائمة على العقد الاجتماعي العقلاني؛ حيث يشتبك في المشهد سلطة القبيلة وسلطة المال السياسي وحكم نخبة سياسية تحكم بذاكرة مقاومتها هجمة سياد بري الشرسة. 

فيما يتعلق بالانفصال، يرى كثيرون أنه هو أمر واقع نظريًّا على الأقل، ويفترضون أن انفصال صومالي لاند أسهل من حالات شبيهة شهدتها إفريقيا، فهي كانت مستعمرة بريطانية ونالت الاستقلال من بريطانيا ككيان مستقل، إلا أن الوحدة التي تشاركتها سريعًا مع الجنوب والتي امتدت ثلاثين عامًا قضت على هذه السردية، وبات العالم يعرف صومالًا واحدًا. وعمومًا، لا يوجد للغرب مصلحة مباشرة في الوقت الراهن تدفعه إلى الاعتراف بصومالي لاند كدولة، ويحول الأمر إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، التي تنظر بعين الشك إلى كل مشروع انفصالي نظرًا لتداعياته السلبية على الحالة الإفريقية عمومًا، ولاسيما أن ثمة دولًا إفريقية أخرى تعاني من وجود نزعات انفصالية حادة وإن اتخذت طابع السكون أحيانًا، ولعل أشهر أمثلة حركات التحرر الانفصالية: كانبدا في أنغولا، وكازامانس في السنغال، وزنجبار في تنزانيا، والصحراء الغربية في المغرب(19). 

وباستثناء الصحراء الغربية فإن معظم الحركات الانفصالية تعاني من الوهن والكمون، وهو ما يعني أن تغيير الحدود الموروثة عن العهد الاستعماري في إفريقيا لن يتحقق كُرهًا من دون إرادة دولية دافعة له (جنوب السودان وما حظي به من دعم أميركي وغربي مثال واضح يجسِّد ذلك المنطق)؛ لذلك تلجأ منظمة الاتحاد الإفريقي إلى اشتراط أن يبدأ الاعتراف من جانب الدولة الأم، وهي الحكومة الصومالية، كشرط تمهيدي لتوالي الاعتراف الإقليمي والدولي. وحتى الآن، تتمسك الحكومات الضعيفة المتلاحقة بتأكيد قدسية وحدة الأراضي الصومالية انطلاقًا من مخيال يخلط تاريخيًّا بين أمة الدولة وأمة الثقافة. 

ما هو جدير بالملاحظة، أن وحدة الأراضي التي قامت عليها الدولة الصومالية ويرمز إليها العلم الصومالي ذو النجوم الخمس، باتت ورقة مقصورة على الاستخدام أمام انفصال صومالي لاند، وغدا استرجاع الأقاليم الأخرى أمرًا ثانويًّا في الخطاب السياسي الصومالي. هذا الأمر قد يبدو مفهومًا بالنظر إلى ما يمر به الصومال من تفكك وتعثر في استعادة الدولة، لكن ما لا يبدو مفهومًا هو "التطبيع" مع وضع الأقاليم التي تخضع لسلطة الجيران، على سبيل المثال، قام الرئيس السابق للصومال بزيارة إلى الإقليم الخامس في إثيوبيا(20)، في خطوة هي الأولى من نوعها من رئيس صومالي، في الوقت الذي يؤكد فيه على قدسية وحدة الأراضي الصومالية. 

ثالثًا: التدخل الأجنبي 

كانت الحرب الباردة على قدم وساق عندما ظهرت الدولة الصومالية إلى الساحة العالمية، كدولة ذات سيادة، وكان الصومال يعاني ظروفًا سياسية واقتصادية جعلته عرضة بشكل استثنائي لمكايد التنافس بين القوى العظمى، وفي لحظة التأسيس كانت الدولة تعاني من صعوبات مالية وبحاجة إلى قدر كبير من المساعدات لدعم الميزانية العامة، وكانت الأمة الصومالية أيضًا مجزأة إلى أربعة تقسيمات استعمارية: بريطانية وإيطالية وإثيوبية وفرنسية: اثنين منها (أرض الصومال البريطاني والصومال الإيطالي) اكتسبا استقلالهما وشكَّلا الجمهورية الصومالية، في حين أن الصوماليين في الأقاليم الأخرى كانوا إما محرومين من حقوقهم كما كان الحاصل في الإقليم الصومالي بإثيوبيا، أو تم تهميشهم كما في المستعمرة البريطانية بكينيا. 

وعلى الصعيد الاقتصادي، أسهمت القوى الاستعمارية السابقة بمبلغ 138.7 مليون شلن على مدى ثلاث سنوات من الاستقلال وبلغت 31% من الميزانية الوطنية، ومن ثم تراجعت بشكل ملحوظ خلال عامي 1961 و1962 حين حاولت الحكومة القضاء عليه (على ماذا؟) بخفض التكاليف، وازدادت حاجة الحكومة لخفض عجز الميزانية عن طريق قطع المساعدات البريطانية؛ حيث قامت الدولة الصومالية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا عندما رفضت الأخيرة قبول نتائج الاستفتاء الذي أُجري في منطقة کوميا ذات السکان الصوماليين عام 1960. 

وكما يرى بروفيسور، سمتر، فإن الاقتصاد الصومالي كان يعتمد اعتمادًا كليًّا على حسن نية الآخرين في الاستثمار، وحصَّل الصومال أكبر نصيب للفرد من المساعدات الخارجية في إفريقيا خلال الستينات، لكنه سرعان ما اكتشف أن المساعدات الإنمائية من الشرق والغرب كانت كلها مشروطة. 

فيما يتعلق بالدولنة، يجادل مفكر أميركي، هو فوكوياما، بأن بناء الدولة وإيجاد مؤسسات حكومية جديدة وتقوية المؤسسات القائمة هي إحدى أهم قضايا المجتمع العالمي؛ لأن الدول الضعيفة والفاشلة تبقى -حسب قوله- مصدر العديد من أكثر مشاكل العالم خطورة، من الفقر إلى مرض الإيدز إلى المخدرات إلى الإرهاب(21)، ويكاد يكون هذا هو الخطاب الرسمي في دوائر السياسة الغربية، لكن ما يتغافله هذا الخطاب، هو السجل الحافل بالتناقض الذي يملكه المجتمع الدولي، في تعامله مع الدولة الفاشلة لإعادة البناء والاستقرار في فترة ما بعد النزاع المسلح. ففي كل من بنما وكوسوفا وتيمور الشرقية تمكَّن المجتمع الدولي من استنباط وسائل وآليات أفضل لتحقيق الانسجام الداخلي، بينما دول مثل الصومال وأفغانستان تعامل المجتمع الدولي عمومًا وأميركا خصوصًا بلا مبالاة شديدة في ما يتعلق ببناء الدولة. 

يصف بعض الباحثين تعامل الولايات المتحدة، والغرب عمومًا مع المسألة الصومالية، بأنه في جوهره غير مبالٍ بقضية استعادة الدولة، وكان بداية التدخل الأجنبي العسكري، هو قيام الولايات المتحدة بالتدخل أثناء فترة الجفاف، 1992/1993؛ حيث أعلنت أنها سوف تتدخل "إنسانيًّا" لمواجهة الجفاف والمجاعة، فقامت بإرسال قوة تعدادها 27 ألف جندي من قوات النظام الدولي الجديد في أعقاب النجاح الساحق في طرد العراق من الكويت عام 1991. وكان في ظن الجيش الأميركي أن عملية الصومال ستكون سهلة وسريعة بالمقارنة، وثبت في النهاية أنها كانت ورطة عسكرية(22). 

ولاحقًا، شكَّلت حوادث الاعتداء على سفارتي الولايات المتحدة الأميركية، في أغسطس/آب 1998، في كل من تنزانيا وكينيا، سببًا كافيًا لاعتماد الولايات المتحدة الخيار الأمني، واقتصر تفاعلها مع الملف الصومالي على محاربة "الإرهاب" بالأساس. وأسهمت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في تعزيز هذا الخيار، وكان التركيز حينها قد حال دون أن يصبح الصومال مكانًا يلوذ به زعماء القاعدة، ومع مجيء إدارة أوباما اعتُمدت سياسة القتل عن بُعد، ومع وعود أوباما الانتخابية بتحجيم تدخلات بلده الخارجية، إلا أن الأرقام تشير إلى تصاعد الهجمات التي تنفذها الولايات المتحدة الأميركية في فترة أوباما، وصادقت الإدارة الأميركية الجديدة على قانون يشدِّد على تكثيف الغارات التي تستهدف الصومال(23). 

تعاظم القلق الأميركي من أن يصبح الصومال ملاذًا لزعماء القاعدة، فأقام معسكر ليمونيير في جيبوتي بوصفه القاعدة الأميركية الوحيدة في القارة الإفريقية، وفي اتساق مع هذه العمليات أتى تشجيع الولايات المتحدة الغزو الإثيوبي للإطاحة باتحاد المحاكم الإسلامية وقدمت له الدعم الجوي عام 2006 لغرض التخلص من الإسلاميين المتشددين الذين سيطروا على الحكم آنذاك، كذلك مثلت قضية القراصنة تدخلًا واسعًا في الحدود البحرية الصومالية؛ إذ تحتشد سفن أميركية وغربية كثيرة بدعوى محاربة القراصنة، ومع تبني قرار إرسال قوات إقليمية لمساعدة الحكومات الصومالية الانتقالية الضعيفة، عادت إثيوبيا من جديد عام 2012 لتكون جزءًا من تلك القوات، والتي لا تزال تدور رحى الحرب بينها وبين حركة الشباب. 

خاتمة 

يعود كثير من العوامل التي عقَّدت عملية البناء الوطني الصومالي، إلى جذور ما قبل استعمارية واستعمارية راسخة، وتجزئة الحدود السياسية لمنتسبي الإثنية الصومالية، التي تتطلع دومًا إلى لَمِّ شظاياها المتناثرة عبر الحدود الاستعمارية "المقدسة"، وهو ما يجعل من قيام دولة صومالية تهديدًا للوضع الجيوسياسي للقرن الإفريقي؛ لذلك لا يلقى هذا الأمر رواجًا لدى القوى الإقليمية والنظام الدولي معًا. 

استبشر كثيرون بالقيادة الجديدة للصومال، وأشادوا بـ"التداول السلمي للسُّلطة"، لكن تبقى هناك تحديات حقيقية بالواقع، تستوجب مواجهة ملحَّة، ولا يبدو أن الرئيس الجديد، محمد عبد الله فرماجو، يملك تغيير المعادلة السياسية التي تأسَّس عليها النظام السياسي في الصومال، ويظهر ذلك في تشكيلة حكومته الجديدة التي تضمنت أكثر من 60 حقيبة وزارية(24)، في بلد تعتمد ميزانيته على المعونات الأجنبية، فإن ما نشاهده لا يعدو أن يكون استمرارًا للثقافة السياسية المبنية على أن المناصب ريع يتوجب تقسيمه على الجميع، بيد أنه لا مناص من أنه يجب كسر هذه الحلقة بواسطة قادة ينعمون بنظر ثاقب، على عكس الحالمين، حسب تعبير سمتر، الذين فشلوا في تأسيس دولة حديثة في فترة ما بعد الاستقلال، وتلكم النخبة هي من يفتقر إليها الصومال إلى حدٍّ كبير.

______________________________

صهيب عبد الرحمن-كاتب من أرض الصومال مهتم بقضايا الفكر

مراجع

1 – Samatar, A. I. and Machaka, W. Conflict and peace in the Horn of Africa: A regional approach, (Heinrcih foundation, regional office, east and horn of Africa, Nairobi, 2006), pp 26-55.

2 – Adan, A. M., DanjireQaybe Iyo Caalamka, ( Duale Bobe Abdirahman Yusuf Paperback, 2013), p 44.

3 – كيداني منغيست، تحديات البناء الوطني والصراعات في القرن الإفريقي، العرب والقرن الإفريقي: جدلية الجوار والانتماء، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2013)، ط 1، ص 4711.

4 - Samatar, A. I. Africa's First Democrats: Somalia's Aden A. Osman and Abdirazak H. Hussen, (Indiana University Press, 2016) p 111.

5 - Africa's First Democrats, Op. Cit.

6 - Africa's First Democrats, Op. Cit.

7 - Africa's First Democrats, Op. Cit.

8 - Robert Jackson and Carl Rosberg, Personal Rule in Black Africa (University of California Press, Berkeley, 1982).

9 - 5 - Africa's First Democrats, Op. Cit. p 222.

10 - Ducaale. X. C. Raad-Raaca Taariikhda Soomaaliyeed, (Cawil, 2014), P 91.

11 – Ingiriis. M. H. The Suicidal State in Somalia: The Rise and Fall of the Siad Barre Regime, 1969–1991. (University Press Of America, 2016), p 227

12 - Raad-Raaca Taariikhda Soomaaliyeed, Op. Cit.

13 – See: PERLEZ. J. Somalia 1992: Picking Up Pieces as Famine Subsides, in the New York Times, (Visited on 25 April 2017):

http://www.nytimes.com/1992/12/31/world/somalia-1992-picking-up-pieces-as-famine-subsides.html?pagewanted=all

14 - Axmed. A. Y. Halgan iyo Hagardaamo (Struggle & Conspiracy, Scansom, 2011), p 223,.

15 - Fueled by Bribes, Somalia’s Election Seen as Milestone of Corruption, the New York Times, (Visited on 25 April 2017):

https://www.nytimes.com/2017/02/07/world/africa/somalia-election-corruption.html?_r=0

16 – See: Somalia 1992: Picking Up Pieces as Famine Subsides, Op. Cit.

17 – See: Corruption Perceptions Index 2016, Transparency, in the Transparency site, (Visited on 25 April 2017):

http://www.transparency.org/news/feature/corruption_perceptions_index_2016

18 – انظر إلى دراسة الاستطلاع الذي أجراه مركز هيرتيج للدراسات، (تاريخ الدخول: 19 مايو/أيار 2017):

Federal Somalia: Not if but How

www.heritageinstitute.org/wp-content/uploads/2015/02/HIPS-Briefing-Federal-Somalia-ENG-3.pdf

19 – حمدي عبد الرحمن، انفصال جنوب السودان وتداعياته المحلية والإفريقية، انفصال جنوب السودان: المخاطر والفرص، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2012)، ط 1، ص 3133.

20 - Somalia president Hassan sheikh visits Somali region in Ethiopia, Diplomat, (Visited on 28 April 2017):

http://diplomat.so/2016/08/12/somalia-president-hassan-sheikh-visits-somali-region-in-ethiopia/

21 – فوكوياما، فرانسيس، بناء الدولة، ترجمة: مجاب إمام، (مكتبة العبيكان ط 1، 2007) ص 37.

22 – بيتر وودوارد، المنافسة الدولية في دول القرن الإفريقي، العرب والقرن الإفريقي: جدلية الجوار والانتماء، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2013)، ط 1، ص 201.

23 - Gaffey, C. Why Is Trump Sending More U.S. Troops to Somalia? Newsweek, (Visited on 28 April 2017):

 http://www.newsweek.com/us-troops-somalia-donald-trump-al-shabab-586004

24 - انظر التشكيلة الوزارية الجديدة في موقع "غوبجوغ" ، )تاريخ الدخول 28 أبريل/نيسان 2017):

https://goobjooge.com/akhriso-liiska-magacyada-golaha-wasiirada-cusub-oo-dhameystiran/