حزب الله ومعركة عرسال: إعادة التحصن في المركز اللبناني

معركة جرود عرسال ليست من المعارك الكبرى لكنها تحمل مؤشرات تختلف عن سواها مما خاضه حزب الله؛ فهي تأتي في سياق التخفف من الشأن السوري مرحليًّا بعد تمددٍ بلغ أقصاه، لمواجهة تطورات إقليمية ودولية تستهدفه، كما كشفت عن تضاعف هيمنته على السلطة اللبنانية.
7 أغسطس 2017
b1eae40e4d6d4ecfb01e6380b6015f5b_18.jpg
معركة جرود عرسال أنهت جيبا للمسلحين يحاذي الخط الممتد من دمشق إلى حلب وهذا الأخير يخضع لسيطرة الحكومة السورية (الجزيرة)

أطلق حزب الله معركة عرسال في 21 يوليو/تموز 2017(1) ودفع إليها حوالي ثلاثة آلاف مقاتل(2)، منهم قوات نخبة كما نقلت وسائل إعلام لبنانية(3)، في مقابل العشرات من مقاتلي هيئة تحرير الشام(4)، انتهت باتفاقية لتبادل القتلى والأسرى (7 رجال ونساء بينهم لبناني للهيئة و8 لحزب الله)(5) بين الطرفين وجلاء مقاتلي الهيئة (120 مقاتلًا) ومن يريد من اللاجئين أن يخرج معهم من عرسال وجرودها إلى منطقة إدلب السورية برعاية من الأمن العام اللبناني، وهو ما تم. وكان قد سبق المعركة أيضًا مفاوضات مع سرايا أهل الشام التي لم تدخل المعركة، وتضم ما يقرب من 200(6) مقاتل انتهت إلى اتفاق بإجلائهم مع لاجئين آخرين أيضًا نحو القلمون الشرقي. 

وبهذا يخلو كامل القلمون الغربي من أية قوة مسلحة للمعارضة السورية، ما خلا تنظيم الدولة الإسلامية، والذي ينتشر بحوالي 700 مقاتل على مساحة، بحسب تقدير أمنيين لبنانيين، حوالي 200 كلم مربع، تمتد من جرود قارة السورية إلى جرود القاع برأس بعلبك اللبنانية(7). 

ظروف انطلاق المعركة لبنانيًّا 

سبق المعركة تأجيج متصاعد لمشاعر "وطنية" اتخذت طابعًا شوفينيًّا ضد اللاجئين السوريين في كثير من الأراضي اللبنانية(8)، كما سبقها مداهمات نفذها الجيش اللبناني في مخيمات عرسال للاجئين السوريين، 14 يوليو/تموز 2017، لاسيما مخيما النور وقارة، وقال الجيش إنه واجه فيها بعض المسلحين وأسفرت عن مقتل أربعة سوريين، من بينهما انتحاريان فجَّرا نفسيهما. واعتقل الجيش العشرات لتسفر هذه الحملة عن موت أربعة من الموقوفين السوريين، انتهت تحقيقات الجيش اللبناني إلى أن وفاتهم كانت طبيعية، في حين أن جمعيات حقوقية تشكِّك بالرواية اللبنانية -وأضافت أن معتقلًا خامسًا مات أيضًا- لاسيما أن السلطة اللبنانية منعت أي تحقيق مستقل(9). 

وفي بداية التحضيرات لمعركة عرسال كان من المفترض أن يشارك الجيش اللبناني في المعركة بالدرجة الأولى لاسيما وأنه كان أعلن عزمه القيام بعملية عسكرية هناك، مع دعوات من معارضي حزب الله وخصومه بحصر هذه المهمة بالجيش اللبناني ودون التنسيق مع النظام السوري. ولكن اتضح لاحقًا أن المعركة هي لحزب الله حصرًا وتستهدف فقط مسلحي هيئة تحرير الشام دون تنظيم الدولة، وبدأها من جرود فليطة السورية بالتنسيق مع الجانب السوري الذي قام طيرانه -حتى قبل إعلان الحزب الرسمي لبداية المعركة- بقصف مواقع مسلحي الهيئة، وأيضًا بالتنسيق مع الجيش اللبناني الذي التزم الجهة اللبنانية للحؤول دون دخول أي عناصر من "المسلحين" إلى الأراضي اللبنانية. 

معركة عرسال والمسألة السورية 

تقع معركة عرسال في صلب المسألة السورية من حيث إن المعركة تسير في نفس سياق الاستراتيجية الكبرى التي اعتمدها المحور الإيراني-السوري؛ فهي تقوم على:

  1. عزل المقاتلين عن التجمعات السكانية ما استطاعت إلى ذلك، من خلال الفصل الحقيقي بينهما، أو باعتماد الهدن واتفاقيات تكبِّلهم وتُفقدهم المبادرة وتجعلهم عالة على المدنيين أو تجعل من المدنيين عالة عليهم، ليصبحوا غنيمة مؤجلة إلى أن تحين ظروف معركة مناسبة للانتصار.
  2. التغيير الديمغرافي أو التطهير الطائفي وتدمير المدن الكبرى، لاسيما أن الربيع العربي أثبت أن التغيير الفعلي يأتي من التكتلات السكانية الكبرى في المدن، وهذه المرحلة بدأت بعمليات ترحيل وقتل جماعي مروع، ويبدو أنها في مرحلتها التالية، وتهدف إلى استعادة السكان ولكن بشروط ضمان خضوعهم للسلطة وتقلِّل من أعداد الأكثرية السُّنيَّة. وهو ما جرى في حمص وحلب، لا بل في الخط الممتد من دمشق إلى حلب وتحاذيه جرود عرسال وفليطة. وهذا الإجراء شكَّل أهمية لحزب الله في المناطق الحدودية لأن التجمعات المحاذية في الجانب السوري لها نفس التأثير بالنسبة له لاسيما في المعادلة الطائفية. 

وهاتان المسألتان حاضرتان في نتائج معركة عرسال ولكن في سياق لبناني، فبالنسبة للأولى، اختار حزب الله المعركة الأكثر إلحاحًا، مع هيئة تحرير الشام لأنها على تماس مع مخيمات اللاجئين وهي على تفاعل معهم فكانت بمثابة خزان للهيئة، في حين أن تنظيم الدولة الإسلامية يتمركز في منطقة معزولة جغرافيًّا عن السكان ولا صلة قوية لهم مع اللاجئين في مخيمات الجوار، أضف إلى ذلك أن منطقة نفوذهم تمتد إلى جرود قرى مسيحية (القاع ورأس بعلبك)؛ لهذا تراجع الحزب ليتقدم الجيش اللبناني ليتعامل مع هذا التحدي، خاصة وأنه لا يزال للجيش اللبناني مخطوفون لدى تنظيم الدولة منذ العام 2014 ومصيرهم مجهول(10) 

أما الثانية وترتبط بالتغيير الديمغرافي، فقد كانت حاضرة أيضًا في التهجير الثاني للاجئين الذي نتج عن الاتفاق، فهيئة تحرير الشام في الجرود كانت تؤكد على أن هدفها إعادة اللاجئين إلى أرضهم وخاصة سكان الحدود مع لبنان(11)، وبغضِّ النظر عن واقعية هذا الهدف إلا أنه كان أحد أهم أسباب ثباتهم في لبنان، وبانكسار الهيئة وجلائها أدرك السكان صعوبة العودة لا بل ربما استحالتها ما أجبرهم على قبول التهجير الثاني من عرسال وجرودها إلى إدلب(12). 

وهناك أيضًا خطوات استراتيجية خاصة بحزب الله يعتمدها في الحرب السورية كانت حاضرة في معركة عرسال أو حتميتها، وقد يقال: إن بعضها مما اكتسبه من حربه مع إسرائيل، وبعضها له صلة بالتجربة اللبنانية، ويمكن تمييزها بوضوح:

  1. اعتماد النسبة والتناسب في أية حرب يخوضها؛ فهو يختار المعارك التي يعتقد أنه يملك وسائل الانتصار فيها، ولها جدوى إعلامية وسياسية؛ حيث إن أعداد المسلحين كانت قليلة ومعزولة بخلاف الدعاية الواسعة التي اعتمدها وتقول إنهم بالآلاف؛ إذ لم يكن ينقص المعركة إلا التوقيت المناسب.
  2. استحداث منطقة عازلة على الحدود اللبنانية السورية -وهي تكاد تتم- كما فعلت إسرائيل مع جنوب لبنان. لتكون مناطق خالية من السكان بذريعة حماية القرى اللبنانية، كما تفصل السنية السياسية السورية عن اللبنانية. وهو ما يلقى استحسانًا دوليًّا لأن لا أحد يريد للاضطرابات أن تمتد من سوريا إلى لبنان.
  3. أن تخضع كل الحدود اللبنانية السورية لهيمنة محور حزب الله أو لأجهزة الدولة اللبنانية بما يطمئنه، وكذلك لاستمرار التواصل البري ما استطاع مع حلفائه في سوريا والعراق وإيران.
  4. إضفاء أخلاقية إعلامية على كل معركة يخوضها في سورية تفاديًا لأي ردٍّ عليه في لبنان، متكئًا على التنوع اللبناني في رفض الإرهاب، وعلى امتيازات طوائف الأقلية اللبنانية بالمنطقة في مقابل الأغلبية العربية السنية. وهي عملية ممكنة دائمًا لبنانيًّا في ظل وجود شبح "حلف الأقليات" والذي قام مع قيامة الكيان اللبناني، باعتباره دولة أقليات. وتصبح هذه العملية أسهل في سياق اللحظة السياسية الراهنة التي عانى فيها عموم اللبنانيين من "هجمات إرهابية" مصدرها مجموعات سورية أو مجموعات متشددة من سوريا لتأكيد هذا الخطاب محليًّا ودوليًّا، بغضِّ النظر عن وجود هجمات مماثلة من أطراف أخرى مرتبطة بأزمات الوضع اللبناني مثل تفجيري مسجد التقوى والسلام في طرابلس في يوليو/تموز 2013(13) 

عرسال وإعادة التموضع في المنطقة 

لا تسير معركة عرسال فقط في نفس سياق الاستراتيجية الكبرى التي يعتمدها المحور السوري-الإيراني في المسألة السورية فحسب، لكنها أيضًا تأكيد على استمرار سير حزب الله في سياق الأولوية الأميركية والدولية بمحاربة الإرهاب لأنها تحقق أهدافًا مشتركة في المنطقة، وهو النهج الذي تسلكه إيران في العراق؛ حيث يتقدم الحشد الشعبي المدعوم من إيران والحكومة العراقية تحت غطاء جوي وناري أميركي ودولي وبمساعدة خبراء من الولايات المتحدة الأميركية. 

ولا يمكن الانخراط في مثل هذه المعارك دون وجود سقف دولي يحد من التصعيد العسكري بين حزب الله وإسرائيل؛ إذ الحرب على "الإرهاب" بقدر ما تحقق أهداف كل الأطراف فإنها تضمن عدم وقوع أي تصعيد على الجبهة الإسرائيلية، وهو ما يفسِّر سبب الاطمئنان الإسرائيلي إلى هدوء الحدود اللبنانية على الرغم من أن تصعيدها استهدف المسجد الأقصى نفسه؛ حيث كان حزب الله منخرطًا بمعركة عرسال حينها. وهو ما يفسر أيضًا عدم الاعتراض الجدي الإقليمي والدولي على خطوة حزب الله العسكرية هذه، رغم أنها تعزز من قوة حزب الله العسكرية ومن تسلُّحها وهو ما يرفضه المجتمع الدولي بطبيعة الحال. 

ولكن اللافت في معركة عرسال، أنها تسير باتجاه التخفف من الانخراط في الحرب السورية ولو مرحليًّا -بخلاف المعارك الحدودية الأخرى التي استهدفت المزيد من التدخل في الحرب السورية، مثل معركة القصير(14)- بسبب تطورات دولية تسارعت في الفترة الأخيرة، وبعضها موجه ضد دور حزب الله الإقليمي وحتى المحلي داخل لبنان. 

ومن أهم هذه التطورات، تراجع فرص المعارك الكبرى في سوريا نسبيًّا بعد سيطرة المحور السوري-الإيراني على حلب، وبعد أن استقرت المعادلة الدولية الجديدة بتفاهم أميركي-روسي، في أعقاب اللقاء الشهير بين الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في هامبورغ، في يوليو/تموز 2017، على استحداث مناطق خفض توتر وإعطاء الأولوية لمحاربة الإرهاب في سوريا والعراق المتمثل بتنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة. ويبدو أن أكثرها نجاحًا هي المنطقة الجنوبية تلك المحاذية لحدود إسرائيل، والتي سيكون من نتائجها كبح المسلحين السوريين في تلك المنطقة (محافظتي درعا والقنيطرة) بما يحفظ أمن حدود إسرائيل، كما تقطع الطريق على آمال حزب الله بأية إمكانية للتمركز هناك ولو على المستوى الرمزي، ما لذلك من أهمية أيديولوجية وعسكرية، لاسيما أنها تنسجم مع تعريفه لنفسه كمقاومة وأن دوافعه ليست طائفية. وليس من المتوقع أن ينهار هذا الاتفاق تحديدًا في هذه المنطقة، فهو يملك القدرة على الصمود حتى لو ساءت العلاقة الروسية-الأميركية لسبب ما؛ لأن الاتفاق حولها يرتبط بعلاقة روسيا مع إسرائيل من جهة، ومع الأردن من جهة أخرى، وحتى مع بعض دول ما يسمى بالمحور العربي. 

وعلى صعيد آخر، فقد أصبحت بعض ملامح خارطة التدخل الأميركي في سوريا أكثر وضوحًا من ذي قبل؛ إذ يريد ترامب قطع الطريق البري من أن يمتد من طهران إلى بيروت ولو بتدخل عسكري مباشر من واشنطن (وهو ما حصل في التنف على سبيل المثال)(15)، بغضِّ النظر عن نجاحه أم لا، كما يريد تحجيم دور إيران ونفوذ ميليشياتها ومنها حزب الله في الأزمة السورية، وأن تلعب روسيا دورًا رئيسيًّا على هذا الصعيد. وبالفعل حظي مؤخرًا الحديث عن دور روسي في "سحب التشكيلات الأجنبية من سوريا للتقليص من حدة التناقضات الطائفية" باهتمام أكثر من ذي قبل، لا بل طُرح في مشاورات الآستانة، التي عُقدت في 14-15 مارس/آذار 2017، مسألة "مراقبة انسحاب التشكيلات الشيعية التي تحارب إلى جانب بشار الأسد من العديد من المناطق"، كما طُرحت "إمكانية تخصيص منطقة محددة لـ"حزب الله" تكون تحت سيطرته في سوريا، ويتبع ذلك انسحاب تدريجي لوحداته من المناطق الأخرى، وقبل كل شيء من شمال البلاد"(16). وهذا المسار سواء التزمت به روسيا قليلًا أو كثيرًا، والراجح أنها ترغب بتحجيم دور حزب الله السياسي(17)، فإنه يؤشِّر بكل الأحوال لجدية هذا التوجه السياسي الأميركي. 

هذا، وتعمل الولايات المتحدة الأميركية تصاعديًّا على محاصرة حزب الله بعقوبات مالية وسياسية في داخل لبنان نفسه، حتى إنه في الوقت الذي كان الحزب يخوض معركة عرسال "ضد الإرهابيين" كما يراها، كان الرئيس ترامب بمؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، يصف حزب الله بـ"الإرهابي"(18). في حين سبق للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرس، أن حذَّر في التقرير الدوري الذي أصدره عن تنفيذ القرار 1701 -المتصل بالحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006- من أن "احتفاظ حزب الله وغيره من الجماعات بالأسلحة يقوِّض سلطة الدولة ويتعارض مع واجبات البلاد"، في مؤشِّر على عودة المطالبات الدولية بالحد من دور حزب الله في الداخل اللبناني(19) وهدفها الضغط على حزب الله لأن نزع سلاحه مسألة معقدة ومؤجَّلة. وهذه الضغوط أيضًا دفعت بالإعلام المؤيد لحزب الله وسواه إلى استحضار توقعات بحرب إسرائيلية مقبلة على حزب الله، وتوالي تصريحات وتسريبات وتحليلات عن تخفيض الحزب لوجوده في سوريا(20) تحسبًا لأية حرب مقبلة، وكان نصر الله قد أعلن، في يونيو/حزيران 2017، عن انسحاب مسلَّحيه من سلسلة جبال لبنان الشرقية وتسليمها للجيش اللبناني، وهذا قبل أن يعود مقاتلوه لخوض معركة عرسال. 

وهكذا، نجد أن السياسات الدولية الراهنة تفرض تقليصًا لدور حزب الله في سوريا، وهو لا يعني الانفصال عن الأزمة السورية أو الخروج منها، لا بل حماية دوره في لبنان بمفاعيلها، والتحصن في البيئة اللبنانية على الأقل إلى حين اتضاح الصورة، حتى إن نصر الله هدَّد في خطاب له، في 23 يونيو/حزيران 2017، بأنه إذا ما شُنَّت على لبنان حرب إسرائيلية "فمن غير المعلوم أن القتال سيبقى لبنانيًّا-إسرائيليًّا أو سوريًّا-إسرائيليًّا"، وأن "الأجواء قد تُفتح لعشرات آلاف بل مئات آلاف المجاهدين والمقاتلين من كل أنحاء العالم العربي والإسلامي ليكونوا شركاء في هذه المعركة من العراق ومن اليمن ومن كل مكان آخر ومن إيران وأفغانستان ومن باكستان"(21). وعلى الرغم من أن هذا التهديد موجه لإسرائيل، إلا أنه استباقي ومعني بالتطورات الأخيرة التي قد تجعل من واشنطن لاعبًا عسكريًّا أساسيًّا في الحرب السورية. 

عرسال في السياق اللبناني 

كشفت معركة عرسال بظروفها ونتائجها عمق النفوذ الذي بلغه حزب الله في بنية السلطة اللبنانية بأجهزتها السياسية والعسكرية والأمنية وسواها، لاسيما أن كل التطورات المحلية والإقليمية جاءت لصالح تعزيز حضوره المحلي على الرغم من تورطه في الحرب السورية، ولم تساعد خصومه المحليين. 

فتراجُع أولوية الشأن اللبناني على الأجندة السعودية وتراجع الدعم السعودي لسعد الحريري، وغيابه لثلاث سنوات عن لبنان وخروجه من السلطة اللبنانية أكثر من 5 سنوات (2016-2011) (22) أضعف تيار المستقبل، الغريم الأساسي لحزب الله، ماديًّا وسياسيًّا، واضطر الحريري للعودة إلى الحكومة (نوفمبر/تشرين الأول 2016) بشروط سياسية تقوم على فكرة التسليم بهيمنة حزب الله النسبية على الدولة اللبنانية وأن "سلاح هذا الأخير ودوره" قضية إقليمية لا يملك أي طرف لبناني القدرة على التعامل معها. ثم جاءت الأزمة الخليجية ما بين قطر ودول الحصار، السعودية والإمارات والبحرين إضافة إلى مصر (5 يونيو/حزيران 2017)، لينقسم ما كان يشبه المحور أي ما سُمِّي لفترة: "المحور السني" الداعم للثورة، ليزيد من إرباك القوى اللبنانية المناهضة للمحور السوري-الإيراني التي افتقدت لاستراتيجية إقليمية يمكن أن تساعدها في مواجهة التطورات المتصلة بالأزمة السورية، ومنها معركة عرسال. 

وبدا الأثر العميق لذلك جليًّا في تداعيات معركة عرسال حتى على المستوى الشعبي؛ إذ حازت المعركة إجماع جمهور الثنائية الشيعية بتأييد رئيس مجلس النواب نبيه بري لها، وحازت تأييد التيار الوطني الحر الذي يتزعمه سياسيًّا رئيس الجمهورية، ميشال عون، فضلًا عن بقية الحلفاء المسيحيين لحزب الله وبل وربما بعض من الأغلبية اللبنانية الصامتة. وبالمقابل، لم يُظهر تيار المستقبل ولا القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع وبقية حلفائهما اعتراضًا حقيقيًّا على خطوة حزب الله، وتمسكوا بموقف "ورقي" بتفضيلهم أن يقوم الجيش اللبناني بهذه العملية. 

وبعبارة أخرى، إن هذا التيه الإقليمي انعكس على كل جمهور قوى 14 آذار عمومًا المناهضة لحزب الله، وخاصة "الجمهور السني" الذي يُعتبر ولو افتراضًا، المضيف والسند الأساسي للاجئين السوريين، فلم يُظهر اعتراضًا حقيقيًّا لا على المعركة ولا على نتائجها، بل لم يتدخل كفاية حتى بقواه الاجتماعية لطمأنة اللاجئين أو تقديم ضماناتٍ ما لهم، ما زاد من عدد أسماء اللاجئين السوريين المسجلين -اللاجئون المسجلون حوالي  7777 ولكن الذين خرجوا أكثر من 5000 شخص(23)- للانتقال إلى إدلب، وهذا رغم الشروط الصعبة والمستقبل المجهول الذي ينتظرهم هناك؛ حيث إن إدلب تواجه اتهامات بأنها معقل "للتطرف" ورغم هذا يتم تهجير لاجئين إليها. 

وأظهرت هذه المعركة تنسيقًا أكثر من أي وقت مضى، بين الجيش اللبناني وحزب الله، ويتجاوز الذي كان بين الطرفين إبَّان معركة صيدا ضد الشيخ أحمد الأسير؛ إذ هو أشبه بتنسيق بين قيادة جيشين على أرض واحدة. وهذا الانسجام العسكري هو انعكاس للتغيرات الأخيرة الذي عرفتها الساحة السياسية اللبنانية؛ إذ باختيار الجنرال، ميشال عون، رئيسًا للجمهورية تعززت علاقة حزب الله مع القوى العسكرية والأمنية؛ حيث إن قائد الجيش الماروني تاريخيًّا وواقعيًّا مرتبط برئاسة الجمهورية، وترافق مع هذا توقف المساعدة السعودية للجيش اللبناني والتي كانت تبلغ 3 مليارات دولار(24)، فضلًا عن تراجع علاقة الجيش اللبناني نسبيًّا مع القوى الغربية، ويبدو أن هذا هو ما يحاول ترامب أن يستدركه، كما بدا من لقائه الأخير مع الحريري بتعزيز التعاون العسكري(25). 

وهنا، تجدر الإشارة إلى أن التنسيق الغربي الأمني في محاربة الإرهاب وثيق الصلة بالقصر الجمهوري، بل كانت التحديات الأمنية في المنطقة باعثًا مهمًّا لحسم اختيار رئيس للجمهورية وملء الفراغ ولو برجل حليف لحزب الله، أي الجنرال ميشال عون، باعتبار أن الأولوية الأميركية والغربية في المنطقة هي لمحاربة الإرهاب حتى قبل محاربة حزب الله. لذا، لم تنتقد واشنطن التعاون بين الجيش اللبناني وحزب الله ولم يلق منها معارضة فعلية. 

والحال هذه، عاد الترويج لما يسمى معادلة الثلاثية الذهبية "الجيش والشعب المقاومة" التي كان يحرص حزب الله على ترسيخها سياسيًّا وحكوميًّا لتبرير استمرار "سلاحه"، وتراجعت قوة حضورها في العام 2008 في أعقاب سيطرة مسلحي حزب الله على بيروت واستعمال السلاح في الداخل اللبناني بعد تصاعد رفضها من قبل 14 آذار وجمهورها وبعض من الأغلبية اللبنانية الصامتة، لكنها عادت بشدة بعد عرسال حتى وصف بري هذه الثلاثية بالماسية، بما يعكس مدى تطور العلاقة بين الجيش وحزب الله، والتي أصبحت أمرًا واقعًا بتحالف حزب الله مع رئيس الجمهورية ولا تحتاج لإدراجها في أية وثيقة أو بيان حكومي، وبما يؤكد على قبول الفريق المسيحي لهذه المعادلة وبالتحديد دور حزب الله في حماية الحدود مع سوريا كما يقوم بهذا الدور على الحدود مع إسرائيل، لاسيما لوجود مناطق مسيحية مجاورة لمخيمات اللجوء وللمسلحين السوريين خاصة تنظيم الدولة، أي في جرود القاع ورأس بعلبك. 

وهذه المعادلة (الثلاثية) سمحت لحزب الله في زمن قوتها بسحب اعتراف شرعي من الحكومة اللبنانية وأجهزتها العسكرية به، وبعد أن اشتدت مرة أخرى بعد معركة عرسال، فحتمًا سيعمل حزب الله على توسيع انتشاره المسلح في تلك المنطقة حتى لو سلَّم المواقع للجيش اللبناني، وسيحتفظ بقواعد مسلحة أو مربعات أمنية له هناك، خاصة في القرى والبيئة الشيعية المجاورة، لأن دوره في حماية الحدود مع سوريا قد تعزز. 

خاتمة 

إن حزب الله دفع ثمنًا كبيرًا قياسًا إلى حجم المعركة، 29 قتيلًا(26) ، وقام بعملية تبادل للأسرى كشفت عن إذعان الدولة اللبنانية لمطالبه بإطلاق "إرهابيين مفترضين"، من السجون اللبنانية للمبادلة بهم، ومنهم موقوفون صدرت بحقهم أحكام قضائية وأحدهم لبناني الجنسية، فضلًا عن مساهمة الحكومة اللبنانية نفسها في المفاوضات وما آلت إليه من نتائج، ما يؤشر إلى أن قوة حزب الله في بنية السلطة اللبنانية قد بلغت مرحلة متقدمة، ما يعني أن القوى الإقليمية والدولية ستعود مرة في تقديرها لقوته وكيفية التعامل معه، وذلك بعد أن استقر دوره كأحد العاملين في محاربة الإرهاب ولو من خارج الشرعية الدولية. 

ولكن بالمقابل، فإن القوى اللبنانية المناوئة لسلاح حزب الله ليس من المتوقع أن تدخل في مواجهة سياسية حادة معه كما كانت الحال في السابق في أعقاب اغتيال رفيق الحريري عام 2005، ما لم تتبدل الظروف الدولية والإقليمية بالدرجة الأولى، فلا يزال لبنان في أدنى الأولوية الدولية والإقليمية، والحرب على الإرهاب لا تزال لها الأولوية على مواجهة إيران، وتفضِّل انتظار ما ستؤول إليه الأزمة السورية بعد أن أصبحت محل نشاط دولي، وما ستؤول إليه استراتيجية ترامب التي لم تتضح فعليًّا، وكذلك ما سيؤول إليه الوضع الخليجي المتأزم وهو الأخطر من حيث انعكاساته على الشأن اللبناني. 

ويمكن القول: إن كل الطوائف اللبنانية تراهن على قدرة "السُّنَّة" في لبنان على التحمل وإعطاء الفرصة لقيادتها، وخاصة تيار المستقبل، على سياستها بما يمنعها من الانخراط في أتون الحرب الطائفية الجارية وأن تتجاوز دور حزب الله المسلح على الحدود وفي سوريا أو حتى في العمق اللبناني، لاسيما أن لبنان لا يزال إحدى البيئات القليلة أو ربما الوحيدة التي لا تزال تتعايش مع السيطرة الإيرانية دون اللجوء إلى المواجهة المسلحة كما يحصل في سوريا والعراق واليمن. 

ويمكن القول أيضًا: إن كل الأطراف اللبنانية تتعايش على طريقتها مع الوصاية الإيرانية كما تعايشت مع الوصاية السورية، في حين أن طهران لم تستنفد حاجتها من دور حزب الله الإقليمي، كما أن الحزب لم يصل لنقطة النهاية لتدخله في سوريا ولا لبداية انحسار تغوله في داخل السلطة اللبنانية، ولكن الحرب السورية استنفدت كثيرًا من أسبابها، وأصبحت اللعبة أكبر من حزب الله بسبب التدخل الدولي؛ لذا عليه العودة والتحصن في الواقع اللبناني، وهو ما تؤكد عليه هذه الورقة.

______________________________________

شفيق شقير - باحث في مركز الجزيرة للدراسات متخصص في المشرق العربي والحركات الإسلامية.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1-  "حزب الله يهاجم عرسال دون الجيش اللبناني"، الجزيرة نت، 21 يوليو/تموز 2017، (تاريخ الدخول 27 يوليو/تموز 2017):

https://goo.gl/G56iaA

2-  إسماعيل، وسام، "3000 مقاتل من "حزب الله" في معركة عرسال... الحسم لن يكون قبل أسبوع!"، النهار ، 21 يوليو/تموز 2017:

https://goo.gl/unjCLT

3- علوش، محمد، "حزب الله حشد فرقتين من النخبة لمعركة الجرود: هذه هي استراتيجية الهجوم"، موقع النشرة الإلكتروني، 18 يوليو/تموز 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017.):

https://goo.gl/QfAurW

4-  قانصوة، وفيق، "الجيش يتجهّز للحسم و"داعش" يخطّط لعمليات انتحارية: 5000 نازح يستعدون للرحيل مع مسلحي "النصرة"، صحيفة الأخبار اللبنانية المؤيدة لحزب الله، 29 يوليو/تموز 2017، (تاريخ الدخول 6 أغسطس/آب 2016):

http://www.al-akhbar.com/node/280990

5- بحسب مدير مكتب الجزيرة في بيروت، مازن إبراهيم، اتصال هاتفي في 3 يوليو/تموز 2017.

6- المصدر السابق.

7- المصدر السابق.

8- إن الأفعال العنصرية في لبنان ضد اللاجئين حالة مستمرة، ولكن التصعيد الذي سبق معركة عرسال بدا وكأنه حملة منظمة ربما بسبب الضخ الإعلامي الذي كان يهيئ للمعركة ونتائجها.

9- " وفاة 10 لاجئين سوريين معتقلين لدى الجيش اللبناني"، الجزيرة نت، 5 يوليو/تموز 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

https://goo.gl/THxMcV

انظر تقرير هيومن رايتس ووتش حول "مزاعم تعذيب تعرض لها الموقوفون لدى الجيش اللبناني: وفيات وادعاءات تعذيب سوريين في عهدة الجيش اللبناني"، هيومن رايتس ووتش، 20 يوليو/تموز 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

https://www.hrw.org/ar/news/2017/07/20/306896

10- لدى  داعش 9 معتقلين من الجيش اللبناني، ويُعتقد احتفاظه بجثتين (عباس مدلج ويحيى خضر)، وتعود قضية العسكريين المخطوفين إلى أغسطس/آب 2014.

11- أمير هيئة "تحرير الشام" بالقلمون يوجه رسالة لـ "حزب الله"، أورينت نت، 20 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول 6 أغسطس/آب 2016):

https://goo.gl/AQimwq

12- لاسيما سكان المناطق التي يسيطر عليها حزب الله كأهل القصير فقد كانوا في طليعة المهجرين من الجرود، لأن بلدتهم قاعدة أساسية لحزب الله على خط دمشق-حمص، وهم يعتقدون أن إيران تصر على تهجير دائم لهم أو تحويلهم إلى أقلية مطلقة، فتمسكوا بخيار السلاح، ويبدو أنهم فقدوا الأمل بعد هذه المعركة.

13- "النص الحرفي للقرار الاتهامي في تفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس"، النهار اللبنانية، 2 سبتمبر/أيلول 2016، تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

https://goo.gl/22JpbW

14- شقير، شفيق، "معركة القصير السورية: تبعات تدخل حزب الله اللبنانية والإقليمية"، مركز الجزيرة للدراسات، 8 مايو/أيار 2013، تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017:

http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2013/05/20135711716642298.html

15- انظر: "واشنطن تؤكد الغارة: التنف خط أحمر على النظام وإيران"، صحيفة المدن الإلكترونية، 19 مايو/أيار 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

https://goo.gl/2hY6CX

عودة، نبيل، "الدور الأردني في سوريا: المناطق الآمنة ومستقبل الأزمة"، مركز الجزيرة للدراسات، 15 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2017/06/170615101809190.html

16- " العسكريون الروس يضعون "حزب الله" تحت المراقبة"، روسيا اليوم نقلًا عن صحيفة إيزفيستيا الروسية، 19 مارس/آذار 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

https://goo.gl/1YzsWx

17- خليفة، سامي، "روسيا تريد حزب الله خارج سوريا، صحيفة المدن الإلكترونية"، 19 يوليو/تموز 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

https://goo.gl/qeyviN

18- "ترامب: الأسد لن يفلت من جرائمه و"حزب الله" إرهابي... الحريري: ملتزمون بالقرارات الدولية"، النهار، 25 يوليو/تموز 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

 https://goo.gl/Uq3qEi

19- " الأمم المتحدة وعون: الاستراتيجية لنزع السلاح"، النهار، 10 مارس/آذار 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

https://goo.gl/ymrV2N

20- انظر: شقير، وليد، "حزب الله يعيد تموضعه في سورية لأن ترامب وضعه في سلة واحدة مع الإرهاب؟"، الحياة، 14 مايو/أيار 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

https://goo.gl/e4Vivd

21- "نصر الله: أي حرب مع إسرائيل قد تجذب مقاتلين من إيران والعراق وأماكن أخرى"، رويترز، 23 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

http://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKBN19E1WQ

22- "سعد الحريري في بيروت بعد غياب ثلاث سنوات"، الشرق الأوسط، 9 أغسطس/آب 2014، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

https://aawsat.com/home/article/155391

23- بحسب مدير مكتب الجزيرة في بيروت، مازن إبراهيم، اتصال هاتفي في 3 يوليو/تموز 2017.

24- " السعودية توقف مساعداتها للجيش اللبناني"، الجزيرة نت، 19 فبراير/شباط 2016، تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017:

https://goo.gl/s8kGW3

25- "ترامب: المساعدات الأمريكية تضمن أن الجيش اللبناني هو القوة الوحيدة في لبنان"، بي بي سي العربي، 26 يوليو/تموز 2017:

http://www.bbc.com/arabic/media-40727296

26- بحسب مدير مكتب الجزيرة في بيروت، مازن إبراهيم، اتصال هاتفي في 3 يوليو/تموز 2017.