الأزمة الخليجية وتداعياتها على مستقبل مجلس التعاون

ترصد الورقة التداعيات الجيوسياسية للأزمة الخليجية على سياسات مجلس التعاون في المستقبل المنظور ومكاسب وخسائر بعض الفاعلين الإقليميين والدوليين، وتبحث أيضًا التأثيرات الاقتصادية للأزمة في حال استمرارها لمدة طويلة.
20b7bb564c2946c38c1431fd4f1cdadc_18.jpg
هل يصمد البيت الخليجي أمام تداعيات الأزمة؟ (رويترز)

تقترب الأزمة الخليجية من إكمال شهرها الثالث ولا يلوح في الأفق القريب ما يشير إلى أنها في طريقها إلى الحل أو حتى الحلحلة. صحيح أن خلافات سابقة قد عصفت بالعلاقات السياسية بين دول الخليج، إلا أن هذه الأزمة غير مسبوقة بإجراءاتها وتفاعلاتها منذ إنشاء مجلس التعاون الخليجي عام 1981. ويبدو أن قرار تكثيف الضغوط على قطر الذي أعلنته السعودية والإمارات والبحرين ومصر من أجل إحداث تغيير في سياسات قطر، ربما كان يستند إلى ثلاثة افتراضات أساسية:

  • الدعم الأميركي بقيادة الرئيس دونالد ترامب.
  • تأييد الرأي العام المحلي.
  • قدرة الضغوط القوية والمباغتة على تغيير سلوك الدوحة خلال فترة قصيرة. 

وإذا كانت هذه الافتراضات صحيحة، من المؤكد أنها أخطأت في قراءتها للأوضاع الإقليمية والدولية، أو ربما أساءت تقدير رد الفعل القطري على الأقل في المدى القصير. وبغضِّ النظر عن احتمالات حل الأزمة خلال الفترة القادمة، إلا أن التطورات الأخيرة تشي بتداعيات آنية ومستقبلية لا يستهان بها، بعضها بدأ يمس أساسات بناء مجلس التعاون الخليجي ذاته.  

التداعيات الجيوسياسية 

من المبكر الحديث عن الآثار الشاملة والمحتملة للأزمة الخليجية؛ لأن تفاعلاتها لا تزال مستمرة، ومع ذلك يمكن رصد بعض التداعيات الجيوسياسية التي من المؤكد أن تترك بصماتها على سياسات مجلس التعاون الخليجي في المستقبل المنظور:

1. تصدع الجبهة الخليجية: وجَّهت أزمة الخليج الحالية ضربة قوية لمفهوم الدفاع الخليجي المشترك. وبغضِّ النظر عن آفاق حل تلك الأزمة، من المنطقي الاستنتاج أن قطر من الآن فصاعدًا، لن تنظر إلى الدول الخليجية التي أعلنت عليها الحصار باعتبارها دولًا حليفة، بل جيرانًا يُشكِّلون تهديدًا لأمنها الوطني (1). ومن المؤكد أن مثل هذه الاعتبارات لن تغيب أبدًا عن أذهان صانعي القرار السياسي في دول خليجية أخرى مثل الكويت وسلطنة عُمان. ولعل أهم الخطوات التي أقدمت عليها دول مجلس التعاون الخليجي سابقًا في إطار السياسات الدفاعية، مثل قوات درع الجزيرة، أو نظام الدفاع الصاروخي في الخليج، باتت موضع شكٍّ وتطرح العديد من التساؤلات حول آفاقها المستقبلية. ومن المرجح أيضًا أن تثير الأزمة الحالية الشكوك حول العديد من المشاريع الوحدوية بين دول الخليج. وهنا، يمكن القول: إن دولة مثل قطر (في حال بقائها في إطار مجلس التعاون الخليجي)، بالإضافة إلى الكويت وسلطنة عُمان، من المتوقع أن تصبح أكثر تحفظًا أو تدقيقًا تجاه مشاريع التكامل الإقليمي الخليجي. 

2. نصر سياسي لإيران: الفوائد السياسية التي قد تجنيها طهران على الأقل في المدى القريب لا يمكن تجاهلها؛ حيث إن الأزمة الخليجية الحالية أدَّت إلى تشتيت الجهات الفاعلة الرئيسية وإعاقة جهود السعودية في تشكيل تحالف عريض للتصدي لما تعتبره تزايدًا في الخطر/النفوذ الإيراني. كما أن تصدع الجبهة الداخلية لمجلس التعاون الخليجي قد يُسرِّع من تراجع مكانة مجلس التعاون الاستراتيجية على المستوى العالمي، وربما يعيد حسابات العديد من الدول الآسيوية الصاعدة مثل الهند والصين؛ الأمر الذي قد يؤدي بالمحصلة إلى تزايد أهمية إيران في نظر تلك الدول. 

الأهم، أن دولًا خليجية مثل الكويت وسلطنة عُمان وقطر ستُبقي خطوطها السياسية والاقتصادية مفتوحة مع إيران تحسبًا لأية تطورات مستقبلية. وهنا، يمكن القول: إنه رغم المساعي الإيرانية لتسجيل المزيد من النقاط في الأزمة الخليجية لصالحها، فإن سياسة طهران تبدو إلى حدٍّ ما حذرة في استغلال الانقسامات الداخلية لدول مجلس التعاون الخليجي خوفًا، في حال تصاعدها، من أن تتطور إلى صراع إقليمي أوسع قد يكون له عواقب وخيمة على إيران وحلفائها في المنطقة (2). 

3. إضعاف الدور السعودي: التطورات الإقليمية والدولية التي تترافق مع تصاعد الأزمة الخليجية قد تقود إلى نتائج عكسية لا تصب بالضرورة في مصلحة المملكة. لقد باتت دول خليجية مثل قطر، وسلطنة عُمان، وحتى الكويت، تنظر بشكل معلن أو مستتر إلى توجهات الرياض على أنها محاولات لفرض الوصاية السياسية والهيمنة على مصالح جيرانها. وفي هذا السياق، قد تسعى هذه الدول بشكل متزايد للتحوط ضد النفوذ السعودي من خلال تعزيز الروابط مع القوى الفاعلة الأخرى في المنطقة. 

ولا شك في أن العديد من الدول العربية أو شرق الأوسطية، بعد أن لمست الطريقة التعسفية وربما العدوانية في التعامل مع دولة قطر، باتت لديها مخاوف من احتمال استغلال العلاقات الاقتصادية لتحقيق أهداف سياسية.  كما أن الإجراءات التي تقودها السعودية ضد الجماعات الإسلامية السنية تهدد أيضًا بدفع حركات مؤثِّرة نسبيًّا، مثل حماس وبعض فروع الإخوان المسلمين في المنطقة، نحو الاقتراب أكثر من إيران. ويمكن لطهران استغلال هذه الظروف من أجل توسيع نفوذها في المنطقة والخليج. 

كما أن البيئتين الإقليمية والدولية لم يعد يُعوَّل عليهما، وربما تحملان مفاجآت غير سارة للرياض؛ فعلى سبيل المثال، ليس هناك ما يضمن استمرار دعم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للتوجهات السعودية، وربما يكون رهينة للتطورات السياسية المتسارعة في الداخل الأميركي أو في مناطق أخرى من العالم ككوريا الشمالية على سبيل المثال. وقد يؤدي هذا الدعم، مع استمرار التهديد بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، إلى تعميق الانقسامات السياسية في الشرق الأوسط بين واشنطن من جانب، والدول الأوروبية المؤثِّرة مثل فرنسا وألمانيا، وكذلك روسيا والصين من جانب آخر (3). هذا الوضع، في حال حصوله، من المؤكد أن يمنح طهران فرصة ذهبية لتحقيق اختراقات حقيقية داخل هذه الجبهات المنقسمة. 

بالمحصلة، حتى لو نجحت السعودية في إجبار قطر على الاستجابة لمطالبها بطريقة أو بأخرى، فإن ذلك سيتحوَّل إلى سابقة تثير مخاوف الدول الأخرى بما في ذلك سلطنة عُمان والكويت وحتى إيران. في المقابل، إذا استمر صمود قطر في وجه ضغوط دول الحصار، فإنها قد توجِّه ضربة قاصمة لهيبة السعودية الإقليمية، وهذا يمكن أن يتحوَّل إلى نموذج ضد الرياض. 

4. تراجع مصداقية واشنطن: أظهرت الأزمة الخليجية بشكل جلي أن وجود القواعد الأميركية غير كاف لتأمين الحماية، بل إن تلك القواعد تحوَّلت إلى ما يشبه أداة من أدوات الابتزاز السياسي. هذا الوضع من المرجح أن يدفع العديد من دول المنطقة إلى مراجعة سياساتها الخارجية، والعمل على تنويعها؛ الأمر الذي قد يفتح المجال لدول كبيرة مثل روسيا والصين وحتى تركيا إلى تعزيز وجودها في الشرق الأوسط وربما في منطقة الخليج نفسها. 

هذه العوامل مجتمعة قد تؤدي إلى تراجع نفوذ السعودية الإقليمي وربما الدولي، وإلى إضعاف قدرة الرياض على تشكيل السياسات الإقليمية، وكل ذلك يصب في صالح إيران. 

المخاطر الاقتصادية 

لا تقتصر تداعيات الأزمة الخليجية على السياسة، بل إن شظاياها الكبيرة بدأت تصيب العجلة الاقتصادية. في هذا الإطار، يمكن القول: إن مجلس التعاون الخليجي قد مثَّل فرصة تاريخية للدول الأعضاء لتشكيل تكتل يُحسب له حساب على الصعيد العالمي، نظرًا لما يمثله هذا الكيان الإقليمي من ثقل اقتصادي نتيجة إمكاناته المالية الهائلة، ودوره المحوري في أسواق الطاقة العالمية. كما تحوَّلت منطقة التعاون الخليجي إلى فضاء اقتصادي ينعم بالرخاء والاستقرار، وملاذ آمن في منطقة تعج بالصراعات. لكن الأزمة الخليجية الحالية التي تترافق مع حروب إقليمية دموية، خصوصًا تلك المستعرة في اليمن وسوريا، قد أسهمت في الإضرار بسمعة منطقة الخليج بشكل كبير. وفي حال استمرار الأزمة لمدة طويلة، من المؤكد أن تتزايد المخاطر الاقتصادية على دول المنطقة. 

1. ضرب المناخ الاستثماري: لقد عانت جميع دول مجلس التعاون الخليجي اقتصاديًّا منذ الهبوط الحاد في أسعار النفط في منتصف العام 2014. وقد دفع تراجع الإيرادات المالية بشكل حاد إلى إعادة النظر في العديد من السياسات الاقتصادية للتأقلم مع الأوضاع الجديدة. في ظل هذه الأوضاع، فإن طول أمد الأزمة الخليجية سيؤدي إلى إلحاق الضرر بالثقة في الأعمال التجارية وضرب فرص نمو الائتمان في المنطقة. وإذا ما رغبت دول المنطقة في اجتذاب أعمال جديدة، والمزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإنها ستحتاج بالتأكيد إلى استعادة الاستقرار وتشكيل بيئة ملائمة للأعمال التجارية (4). 

لكن على أرض الواقع، تضررت سمعة اقتصادات دول الخليج كملاذ آمن للمستثمرين، وتوالت عمليات تخفيض التصنيفات الائتمانية من قبل المؤسسات الدولية. ويلاحظ رجال الأعمال، الذين يعانون بالفعل من التباطؤ الإقليمي الناجم عن انخفاض أسعار النفط، أن الأزمة الخليجية تتسبب أيضًا في إشاعة أجواء عدم اليقين والارتباك وارتفاع في التكاليف (5). وكلما تصاعدت احتمالات عدم الاستقرار الذي أحدثته ديناميات الأزمة الخليجية، أصبح المستثمرون الأجانب أكثر حذرًا وترددًا تجاه أسواق المنطقة (6). 

أحد المؤشرات على عدم اليقين في الأسواق هو السعر المخصص لما يسمى مقايضة الائتمان الافتراضي، (The CDS Swaps)، وهي في الأساس علاوة مخاطر على معايير الاقتراض الدولية مثل سعر الفائدة بين المصارف في لندن (ليبور) (7). وفي ظل استمرار تراجع أسعار النفط العالمية، واستمرار تداعيات الأزمة الخليجية فإن علاوات المخاطر من المرجح أن ترتفع بشكل متفاوت حسب الأوضاع الاقتصادية لكل دولة على حدة. وعلى المدى الطويل، يمكن للأزمة الخليجية أن تُغذِّي المشاعر السلبية تجاه المنطقة بأسرها، بشكل يُبعد المستثمرين الأجانب، ويحد من زيادة مشاركة القطاع الخاص (8). كما أن للأزمة الخليجية تأثيرات على تعطيل مفاوضات إقامة مناطق التجارة الحرة (المتعثرة أصلًا) مع شركاء تجاريين رئيسيين مثل الاتحاد الأوروبي والصين وبريطانيا. ومن ناحية أخرى، فقد هزَّت الأزمة الحالية صورة منطقة الخليج كمركز أو حلقة ربط لشبكات الطيران العالمية بين الشرق الأوسط، وأوروبا، وآسيا. 

2. تراجع التجارة البينية: من المتوقع أن تؤثِّر الأزمة الخليجية سلبًا على التجارة البينية بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، خصوصًا مع مساعي قطر (وربما دول خليجية أخرى) إلى تنويع تجارتها بعيدًا عن دول الحصار. وهنا ينبغي الإشارة إلى أن نسبة التجارة البينية بين دول مجلس التعاون الخليجي هي في الأصل متدنية وتبلغ أقل من 10 في المئة (9). في المقابل، تصل هذه النسبة في أوروبا إلى 60 في المئة، وفي منطقة التجارة الحرة لأميركا الشمالية "نافتا" 41 في المئة، وفي شرق آسيا 35 في المئة (10). 

3. تعثر المشاريع المالية: من أهم المشاريع التي ستتأثر سلبًا بالأزمة الخليجية مشروع إصدار عملة خليجية موحدة، وهو مشروع تعثر في بدايته عام 2010 بعد انسحاب الإمارات احتجاجًا على اختيار الرياض مقرًّا للبنك المركزي الخليجي، في حين لم تنضم سلطنة عُمان منذ البداية. وبالرغم من تواتر الدعوات بين الفينة والأخرى إلى إجراء محادثات لإحياء هذا المشروع، إلا أنه لم يحرز أي تقدم حقيقي. ويبدو أن الأزمة الراهنة ستضيف مزيدًا من العراقيل أمام مساعي إطلاق عملة خليجية موحدة. 

ومن المشاريع الأخرى التي ستتأثر سلبًا بالأزمة الخليجية، مشروع ضريبة القيمة المضافة على مستوى منطقة الخليج بداية العام المقبل؛ فمن الصعب التنبؤ في الأجواء السياسية الحالية بكيفية المضي قدمًا في تنفيذ هذه الخطوة. هذا بالإضافة إلى المشاريع المتعثرة أصلًا قبل الأزمة الخليجية مثل الاتحاد الجمركي، والسوق المشتركة التي بات تنفيذها ضربًا من ضروب الخيال. 

4. نهاية شبكة الغاز الموحدة: على الرغم من إنتاج قطر الوفير من الغاز الطبيعي الذي يمكنه تلبية الطلب المتزايد في دول مجلس التعاون الخليجي بكل سهولة، إلا أن صادراتها لدول المجلس تبقى محدودة، رغم أنها تلبي نحو ثلث احتياجات دولة الإمارات العربية عبر خط أنابيب "دولفين". لقد فشلت في السابق خطط مد شبكات غاز موحدة على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي نتيجة الخلافات السياسية وقضايا التسعير (11). ومن المرجح جدًّا أن تقضي الأزمة الخليجية على الآمال المتبقية بإنشاء شبكة الغاز الموحدة، لا بل إن التعاون عبر خط "دولفين" ربما يتعثر في حال تصاعدت الأزمة إلى مستويات خطيرة. 

5. شكوك حول مشروع القطار الخليجي: كما ألقت الأزمة الخليجية بظلالها على مشروع القطار الخليجي الموحد، الذي تُقدَّر تكاليف تشييده بنحو 200 مليار دولار. ورغم أن توفير التمويل يظل القضية الرئيسية، إلا أن المشروع يحتاج إلى التوافق والشفافية فيما يتعلق بإجراءات الجمارك والهجرة والرسوم وقواعد البيانات (12). 

6. حرب الموانئ: هناك خطر اقتصادي آخر يتمثل في احتداد التنافس من أجل التوسع في بناء الموانئ في دول الخليج، بشكل قد يؤثِّر على ربحيتها على المدى الطويل. في هذا السياق، تشير نشرة ميد الاقتصادية إلى أن هناك مشاريع تتعلق بهذا القطاع تقدر بمليارات الدولارات في دول مجلس التعاون الخليجي. وهي تشمل بناء ميناء مبارك الكبير في الكويت، ومحطة رابعة في ميناء جبل علي في دبي. بالإضافة إلى ذلك، تشهد الموانئ في الإمارات الشمالية لدولة الإمارات توسعًا كبيرًا، كما أعطت قطر الضوء الأخضر من أجل تنفيذ المرحلة الثانية من ميناء حمد (13). 

وبصرف النظر عن المنافسة بين دول مجلس التعاون الخليجي، من المتوقع أن تواجه بعض الموانئ الخليجية تحديات جديدة من الموانئ في باكستان وإيران وجيبوتي، بالإضافة إلى المشاريع الصينية الممتدة على طريق الحرير بشقيه البحري، والبري (14). ومن الآثار المحتملة لأزمة الخليج أنها ستزيد من تصميم دول مثل قطر والكويت، وحتى سلطنة عُمان على التسريع في تنفيذ مشاريعها المطروحة، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى إضعاف عملية التكامل الخليجي في هذا المجال. 

آفاق المستقبل 

في سياق التداعيات المذكورة آنفًا، يمكن رسم بعض التصورات أو السيناريوهات المستقبلية لما قد تؤول إليه الأزمة الخليجية:

استمرار الجمود الحالي: في سياق هذا السيناريو، يمكن أن تمتد الأزمة الخليجية لفترة طويلة نتيجة عدم إمكانية التوصل إلى حل توافقي يُرضي جميع الأطراف (15). وهنا، تتوقع وحدة الاستخبارات الاقتصادية (الإيكونوميست) أن تستمر الأزمة على الأقل حتى العام 2019، وأن تبقى قطر خاضعة للمقاطعة أو الحصار الحالي لعدة سنوات، بشكل يؤدي إلى خسائر اقتصادية لجميع الأطراف بما في ذلك الدوحة (16). 

في المقابل، تشير توقعات مؤسسة بي إم آي للأبحاث (BMI Research) إلى أن دولة قطر قادرة على الصمود في وجه الضغوط السياسية والاقتصادية، نظرًا لما تملكه من مصادر للقوة الاقتصادية التي تتمثل في الأصول والاحتياطات المالية الكبيرة، فضلًا عن التحالفات الدولية الوثيقة، والقدرة على إعادة تنظيم طرق النقل والتجارة (17). بالمحصلة، هذا الوضع له تداعيات سلبية، ولكنه سيقوِّي موقف الدوحة التفاوضي في حال مواصلة الجهود الكويتية والدولية للتوصل إلى حل توافقي في المستقبل (18). 

الحل التوافقي: مع استمرار جهود أمير دولة الكويت، الشيخ صباح الأحمد، الوسيط الأساسي في الأزمة، بمساعدة وزير الخارجية الأميركي، وبعض الدول الأوروبية، هناك احتمال التوصل إلى حل توافقي يرضي جميع الأطراف. قد يسمح هذا الحل لأطراف الأزمة بحفظ ماء الوجه، نظرًا لأنه يراعي المخاوف السعودية بشأن الدعم القطري لحركة الإخوان المسلمين وحماس، وعلاقات قطر مع إيران، وفي الوقت ذاته يسمح للدوحة بالحفاظ على استقلالها النسبي في سياستها الخارجية، لكن بشكل لا يضر التوجهات الإقليمية للرياض (19). 

التصعيد السياسي والاقتصادي: وسط حالة الجمود السائدة، والشعور بالإحباط نتيجة عدم تحقيق نتائج سريعة، فإن دول الحصار ربما تلجأ إلى تشديد الإجراءات والعقوبات ضد الدوحة. وبعض هذه التدابير قد تتسم بالعدوانية. في سياق هذا السيناريو، قد تعمد هذه الدول إلى إنهاء عضوية قطر في بعض التجمعات والتحالفات الإقليمية بما في ذلك مجلس التعاون الخليجي، والجامعة العربية، والتحالف العسكري الإسلامي. مع ذلك من الصعب تحقيق هذا الخيار؛ حيث من غير المرجح أن يتم طرد قطر من مجلس التعاون نظرًا لاحتمال استخدام الفيتو من الكويت و/أو سلطنة عُمان، فضلًا عن عدم التمكن من حشد الأغلبية العددية في إطار الجامعة العربية. ولكن في حال حدوث هذا السيناريو، فإنه سيوجه ضربة قاصمة لهذه التجمعات الإقليمية بشكل يقود إلى شل حركتها وبالتالي تفككها بشكل تام (20). 

من ناحية أخرى، مع الصعوبات التي تواجهها دول الحصار في تشديد العقوبات التجارية نظرًا لعدم اعتماد تجارة قطر على مجلس التعاون الخليجي، يمكن أن تطلب دول الحصار من بنوكها سحب أموالها من المؤسسات المالية القطرية. مع أن ذلك قد يثقل كاهل البنك المركزي في قطر، إلا أنه سيحرم أيضًا البنوك الخليجية الأخرى من كسب أسعار فائدة أعلى على الريال -وهو السبب الرئيسي لوجود تلك الأموال في قطر في المقاوم الأول (21). 

الابتزاز الأميركي: يستند هذا السيناريو إلى تقدير، غير مؤكد، بأن الموقف الأميركي منحاز بالكامل إلى دول الحصار عبر ربط الاستثمارات القطرية بقضايا دعم الإرهاب، والتهديد الفعلي بإغلاق قاعدة العديد في قطر (22). ورغم أن هذا السيناريو ممكن نظريًّا، إلا أنه مستبعد على الأقل على المدى القصير؛ فقاعدة العديد تعد أكبر القواعد التي تستخدمها القوات الأميركية خارج الولايات المتحدة، ويمكنها التعامل مع كافة أنواع الطائرات التي يملكها الجيش الأميركي بصلاحيات كاملة وبدون إعاقة منذ إنشائها (23). كما تضم القاعدة المقر المتقدم للقيادة المركزية للعمليات الخاصة الأميركية (SOCCENT) والقيادة المركزية لقوات الطيران الأميركية (AFCENT) (24). 

بالتالي، فإن عملية نقل القوات الأميركية من قاعدة العديد إلى دول أخرى سيكون من الصعوبة بمكان تنفيذها (على الأقل في المدى القصير) لأسباب استراتيجية ولوجستية وفي ظل ما يسمى بالحرب على الإرهاب (25). هذا، بالإضافة إلى أن الإدارة الأميركية منقسمة على نفسها في كيفية التعامل مع الأزمة الخليجية، فضلًا عن تخوفات واشنطن من دخول أطراف أخرى على الخط خصوصًا روسيا وإيران وربما الصين (26). الأهم، أن تطورات أخرى مثل الملف النووي في كوريا الشمالية قد صعدت إلى سلم أولويات إدارة ترامب. 

الحل العسكري: هذا الخيار يتردد في تصريحات بعض الأطراف غير الرسمية في كل من السعودية والإمارات. ومع ذلك لا يوجد حتى الآن أي دلائل تشير إلى احتمال حدوث أية مناوشات عرضية أو مواجهات مباشرة. أما في حال تطور الأزمة إلى الخيار العسكري، فإننا سنكون إزاء كارثة عالمية تتجاوز آثارها منطقة الخليج أو حتى الشرق الأوسط؛ لأن من شأنها تعطيل إمدادات الطاقة العالمية بما لها من تبعات خطيرة على الاقتصاد العالمي. هذا بالإضافة إلى أنه قد يتسبب في توريط تركيا وإيران وربما الولايات المتحدة في الصراع المسلح (27). بالتالي، يمكن القول: إنه ليس من مصلحة جميع الأطراف الدولية والإقليمية بما في ذلك قطر، والولايات المتحدة، والسعودية، وتركيا، وإيران، اللجوء إلى الخيار العسكري؛ لأن تداعياته المدمرة ستقع على الجميع. 

خاتمة 

في النهاية، يبقى التوصل إلى حل توافقي يُرضي جميع الأطراف هو الخيار الأمثل، ويصب في مصلحة جميع الأطراف وربما المنطقة بأسرها. لكن في ظل المعطيات السائدة في الوقت الراهن يبدو أن السيناريو الأكثر احتمالًا هو استمرار الجمود وبقاء المقاطعة أو الحصار لفترة طويلة. 

ومع ذلك، حتى لو نجحت الوساطة الكويتية في التوصل إلى حل توافقي، فإن الشكوك التاريخية وأجواء عدم الثقة لن تتبدد بسهولة، لا بل إن الخلافات السياسية قد تطفو مجددًا على السطح في حال تبدل الظروف الإقليمية والدولية. 

 وفي جميع الأحوال، لن يستطيع أي حل يمكن التوصل إليه محو الأضرار التي ألحقتها الأزمة بالفعل بمنطقة الخليج، والشرق الأوسط عمومًا. وسوف تظل التداعيات التي ذكرناها سابقًا تلقي بظلالها السلبية على مجلس التعاون وعلى المجتمعات الخليجية لسنوات قادمة.

_____________________________________

 ناصر التميمي- باحث وخبير في الشؤون الخليجية

نبذة عن الكاتب

مراجع

1- Estebari, Amir Hossein, “Conflict with Qatar and Unforeseen Consequences for Saudi Arabia”, Iran View, 26 July 2017.

https://goo.gl/VTUk4M

 2- “Tehran seeks to capitalise on Gulf dispute”, MEED, 9 August 2017.  https://goo.gl/HLRJdC

3- “Gulf Spat Risks Weakening Riyadh's Regional Influence”, BMI Research, 15 June 2017.

https://goo.gl/XF5BX1

4- “Doha’s Diplomatic Dispute – The Financial Impact”, MEES, 23 June 2017. 

https://goo.gl/9bjuPs

5- “Gulf business counts cost of Arab states’ Qatar embargo”, Financial Times, 18 July 2017.

https://goo.gl/NauPGa

6- “Gulf Spat Risks Weakening Riyadh's Regional Influence”, op, cit.

7- “Qatar Crisis Bashes Gulf Assets' Status as Middle East Haven”, Bloomberg, 15 June 2017. 

https://goo.gl/so1zd8

8- “Qatar crisis is bad for projects and business”, MEED, 27 June 2017. 

https://goo.gl/AuMBsW

9- “The Gulf Cooperation Council: Finding Safety in Numbers”, Stratfor 14 September 2016.

 https://goo.gl/dWdn2q

10- “The Potential of Intra-Regional Trade for South Asia”, The World Bank, 24 May 2016.

https://goo.gl/rBKaMr

- “Potential Macroeconomic Implications of the Trans-Pacific Partnership”, The World Bank, January 2016.

https://goo.gl/39xzYv

11-  Fattouh, Bassam and Farren-Price, Bill, “Feud between Brothers: the GCC rift and implications for oil and gas markets”, Oxford Institute for Energy Studies, June 2017.

 https://goo.gl/RuXxuo

12- “EXCLUSIVE: Qatar crisis highlights GCC railway challenge”, MEED, 6 June 2017.

 https://goo.gl/u99aD7

13- “EXCLUSIVE: Rapid expansion threatens profitability of GCC ports”, MEED, 9 July 2017.

 https://goo.gl/ZV5Bo5

14- Ibid.

15- “Political Risk Analysis - Gulf Crisis: Has Saudi Arabia Miscalculated? Scenarios and Implications”, BMI Research, 9 June 2017.

 https://goo.gl/8X1J5p

16- “No end in sight: The GCC-Qatar crisis”, The Economist Intelligence Unit, July 2017.

 https://goo.gl/C7rpbU

17- BMI Research, “Prolonged Gulf Crisis Looking Increasingly Likely”, Middle East Monitor 27 (9), 2017, p. 9.

18- Ibid.

19- Ibid.

20-  Ajorlou, Hossein, “Analysis of Saudi Arabia’s Possible Measures against Qatar”, Iran View, 30 July 2017.

 https://goo.gl/djGGF8.

21- “Why Punishing Qatar Could Also Hurt Its Gulf Rivals”, Bloomberg, 12 July 2017.

 https://goo.gl/N4VBVb

22- “Analysis of Saudi Arabia’s Possible Measures against Qatar”, op, cit.

23- Neubauer, Sigurd, “The Rift between Qatar and the GCC Could Threaten Trump's Foreign Policy”, The National Interest, 8 August 2017.

 https://goo.gl/q36zuT

24- Ibid.

25- Karlin, Mara and Dalton, Melissa, “It’s Long Past Time to Rethink US Military Posture in the Gulf”, Defence One, 2 August 2017.

 https://goo.gl/6EKYQh

26- “Analysis of Saudi Arabia’s Possible Measures against Qatar”, op, cit.

27- Economist Intelligence Unit, “Country Report: Saudi Arabia”, EIU, 4 June 2017.