انحسار خيارات مصر في مواجهة أزمة النيل

نجحت إثيوبيا في إملاء إرادتها على النظام المصري في النزاع حول مياه النيل، لأنها عرفت كيف تستغل أخطاءه في التفاوض، وأقنعت غالبية دول النيل بمصلحتهم في الوقوف إلى جانبها.
ea17dc23c6b542b788f96f1e0d27beb6_18.jpg
مصر هبة النيل (رويترز)

 

مقدمة 

بدأت أزمة مياه النيل قبل ثلاث سنوات من توقيع اتفاقية عنتيبي، في 14 مايو/أيار 2010(1)؛ حيث خطَّطت إثيوبيا لتجميع دول منابع النهر وحثهم على إلغاء جميع اتفاقيات النهر السابقة، وإعادة توزيع حصص المياه من جديد بغرض نقل الهيمنة على مياه نهر النيل إلى دول المنابع أو بقول أدق: إلى إثيوبيا فقط، واعتبار أن تاريخ النهر بدأ من عام 2010 أي بعد 50 عامًا من استقلال كافة دوله. هذا الأمر أوضح أن الاتفاقية تمثِّل انقلابًا على الاتفاقيات التي وُقِّعت في الحقبة الاستعمارية بالنيابة عن دول المنابع والتي يعتقدون أنها (أي الاتفاقيات) جاملت مصر كثيرًا في مياه النهر من أجل زراعات القطن التي تحتاجها مصانع إنجلترا قبيل فترة الحرب العالمية الثانية وبعدها. علاوة على اتفاق دول المنابع على أن التصويت على إقامة السدود يكون بأغلبية الأصوات بدلًا من الإجماع أو التوافق سابقًا. تتمثل خطورة هذا الأمر في أن دول المنابع تشكِّل أغلبية دائمة بسبع دول ضد دولتي المصب. كذلك ألغت الاتفاقية أيضًا بند الإخطار المسبق لدولة المصب قبل بناء السدود رغم أن هذا البند خصَّصت له اتفاقية الأمم المتحدة للأنهار غير الملاحية العابرة للحدود(2)، ثمانية بنود من إجمالي 37 بندًا، تشرح ما ينبغي أن تقوم به دولة المنبع عند إقامتها سدًّا؛ وذلك بأن تقوم بكافة الدراسات التي تسبق إقامة السدود والتي تتضمن الدراسات الهيدرولوجية والبيئية والاقتصادية الاجتماعية وأن تسلِّمها لدولة/دول المصب للنظر فيها لإقرارها أو رفضها وبعدها يتم رفع الأمر للأمم المتحدة للتحكيم بين الدولتين، لكن إثيوبيا لم تقم بهذه الدراسات وفرضت على مصر مشاركتها في تكاليف عمل المكتب الاستشاري. وإمعانًا في الهيمنة على كامل مياه النهر وضعت الاتفاقية نصًّا يمنح السيادة الكاملة لكل دولة من دول المنابع على مواردها المائية العابرة للحدود، وحقها في الحصول على ما تحتاجه من حصص مائية بصرف النظر عن حاجة دولة المصب، وبصرف النظر عن وجود الموارد البديلة أو ما تمتلكه من بحيرات عذبة تستفيد بها وحدها بعيدًا عن شراكة دولة المصب. كذلك نصَّت اتفاقية عنتيبي على أهمية الحفاظ على المستنقعات حفاظًا على التنوع والتوازن الأحيائي، بالإضافة إلى إعطاء الهيمنة والسيادة المطلقة للدول التي تقع فيها هذه المستنقعات لإقرار ما يخصها وبالتالي عدم اعتبارها ضمن الموارد المشتركة لدول حوض النهر بل موردًا خاصًّا بكل دولة. والهدف من ذلك هو قطع الطريق على مصر لتنمية مواردها المائية من الخارج، باستقطاب مياه المستنقعات الكثيرة المنتشرة في دول المنابع خاصة مستنقع "الصد Sudd" جنوب السودان والذي يُصنَّف بأنه المستنقع الأكبر للمياه العذبة في العالم، ويفقد سنويًّا على الأقل 30 مليار متر مكعب (3) من المياه القادمة من منبع البحيرات الاستوائية الكبرى والتي كانت هدفًا في سبعينات القرن الماضي لإنشاء قناة جونجلي لاستقطاب جزء من مياه هذا المستنقع للاستفادة منها مناصفة بين مصر والسودان الموحدة قبل تقسيمها. 

رفضت مصر والسودان هذه الاتفاقية، واعتبرتاها اتفاقية تشقُّ العلاقة بين دول حوض النهر وتشق وحدة الصف بينها، وقام البلدان بتجميد عضويتهما في مفوضية حوض النيل NBI، بينما وقَّعت ست دول على الاتفاقية، وهي: إثيوبيا ومعها خمس دول من دول منابع البحيرات الاستوائية العظمى، وهي: كينيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا وبوروندي بينما رفضت التوقيع دولة الكونغو الديموقراطية ومعها جنوب السودان بعد الانفصال بالإضافة إلى إريتريا التي اكتفت بصفة المراقب. اعتبرت مصر أن إثيوبيا قامت باستقطاب دول منابع النيل الأبيض فيما لا ناقة لها فيه ولا جمل، وتوريطهم في مشاكلها مع مصر ظنًّا منها أن الأنهار التي تنبع من الأراضي الإثيوبية هي أنهار إثيوبية خاصة، وأن مصر تستولي على هذه المياه وهي سبب تقدم مصر وسبب تخلف وتراجع إثيوبيا. حقيقة الأمر، أن سدود دول منابع النيل الأبيض لن تؤثر سلبًا على حصة مصر من المياه لأن نسبة مياهها تبلغ 15% فقط من إجمالي تدفقات مياه نهر النيل وبما لا يزيد عن 13 مليار متر مكعب، وأن دول منابع النيل الأبيض مهما أقامت من سدود فلن تستقطع أكثر من 50% من هذه المياه (أي نحو 6 مليارات متر مكعب)؛ وهو ما تستطيع مصر والسودان أن تتحمله مناصفة فيما بينها بمعدل 3 مليارات خصمًا من حصة كل دولة، كما تنص اتفاقية 1959 لإقامة السد العالي(4)، بالإضافة إلى الحقيقة العلمية بأن أي سدود تقيمها دول منابع النيل الأبيض سوف تؤثِّر على مصالحها فقط دون التأثير على مصر،  لأن من المعروف أن كل مياه الأنهار القادمة من رواندا وبوروندي والكونغو وكينيا وتنزانيا تصب في بحيرة فيكتوريا بشكل أساسي والتي يعتمدون عليها اعتمادًا كاملًا كمصدر لمياه الشرب والصناعة وصيد الأسماك بل وكمصبٍّ لمخلفاتهم الصحية والصناعية أيضًا، وبالتالي فأي انخفاض في منسوب بحيرة فيكتوريا سوف يؤثر على صالح دول المنابع الثلاث الكبرى المطلة على البحيرة، وهي: كينيا وتنزانيا وأوغندا، مما يجعلها تحرص على إقامة السدود بمواصفات لا تؤثِّر على مستوى المياه في فيكتوريا وأنشطة هذه الدول المتعددة في هذه البحيرة الحيوية. 

تمثِّل الأنهار الثلاثة القادمة من إثيوبيا (النيل الأزرق وعطبرة والسوباط) وروافدها نحو 85% على الأقل من إجمالي مياه نهر النيل، وبالتالي فهذه الكمية والتي تُقدَّر بنحو 72 – 73 مليار متر مكعب هي المستهدفة تمامًا من إثيوبيا والتي من أجلها استقطبت دول منابع النيل الأبيض من أجل الاستقواء بها لعزل مصر وإظهارها كما لو كانت في جانب وحدها ضد أغلبية دول الحوض، وثانيًا: من أجل ضمان حصول إثيوبيا على الأغلبية المطلوبة من الأصوات عند التصويت على الموافقة على إقامتها لسدودها المقترحة على الروافد الثلاث للأنهار التي تخرج من أراضيها (النيل الأزرق وعطبرة والسوباط)، ومع ذلك فلم تطبِّق إثيوبيا هذا الأمر عند إقامة سد النهضة ولم تدعُ جميع دول الحوض بما فيها مصر والسودان للتصويت على إقامتها للسد، كما تنص اتفاقية عنتيبي، والحصول على الأغلبية، بل أقامت السد من طرف واحد في تجاهل تام لباقي شركائها وحلفائها سواء في النهر أو في اتفاقية عنتيبي، وهذا ما قد يوضِّح لدول منابع النيل الأبيض كيف أن إثيوبيا جمعتها للاستقواء بها فقط ضد مصر وليس للعمل لصالحها أو لصالح المياه القليلة التي تخرج من أراضيها، وكان ينبغي لمصر أن تقطع الطريق على هذا المخطط الإثيوبي بالتفاهم والتقارب مع دول منابع النيل الأبيض، بل وإعلانها إلغاء اتفاقية 1929 معهم وحقهم في إقامة السدود بتفاهمات مع مصر ودعمها وليس بموافقة إثيوبيا واشتراطاتها. 

تجدر الإشارة فيما يخص التفاوت في التقديرات أن نسبة المنابع الحبشية التي تضم إثيوبيا وإريتريا 85% من إجمالي مياه نهر النيل البالغة 84 مليارًا أي نحو 72 مليارًا، بينما يأتي من منابع النيل الأبيض نحو 15% من مياه النهر أي ما بين 12–13 مليار. علمًا بأن النسب قد تتفاوت تفاوتًا طفيفًا في المراجع التي درست الموضوع، وذلك لأن إثيوبيا وبعض المراجع تعتقد أن ما يأتي من إثيوبيا نحو 86% وليس 85%، كما أن الرقم الثابت لنهر النيل، وهو 84 مليارًا (72 من إثيوبيا + 12 من منابع النيل الأبيض) هو رقم متوسط وليس ثابتًا، ولذلك نتعامل معه على أنه ما بين 84 إلى 85 مليارًا وأن ما يأتي من إثيوبيا يتراوح بين 85 إلى 86%، أما اختلاف ما ينبع ويأتي من النيل الأبيض فهو بسبب ما يُفقَد في مستنقعات جنوب السودان، وبالتالي يصل منها ما بين 12 إلى 13 مليارًا ويُفقَد في المستنقعات 30 مليارًا أخرى. 

يبقى في النهاية السؤال: أين كانت مصر من هذا المخطط؟ ولماذا صمتت على استقطاب إثيوبيا لدول منابع النيل الأبيض حتى توقيعها على اتفاقية عنتيبي؟   

مخاطر الوضع الجديد 

قلق بالغ عم الشارع المصري فور انتهاء اجتماع الدورة السابعة عشر لوزراء مياه الدول المعنية بسد النهضة مصر والسودان وإثيوبيا لبحث تقليل تداعيات السد على مصر وضمان عدم حدوث ضرر بالغ أو ذي شأن على مصر فيما تعوَّدت على استلامه من مياه النهر عبر مئات السنين وأصبح الشعب المصري يراه حقًّا مكتسبًا لا ينبغي المساس به أو أصبح عرفًا له قوة القانون، خاصة في ظل الزيادة السكانية وتغيرات المناخ والعجز المائي. أعلن وزير الموارد المائية والري المصري، محمد عبد العاطي، فشل المسار الفني للمفاوضات وعدم جدواه لمحاولة الجانبين، الإثيوبي والسوداني، إفراغ عمل المكتب الاستشاري من مهامه الأصيلة التي سبق الاتفاق عليها قبل توقيع عقد تكليف المكتب الاستشاري الفرنسي من قِبل الوزراء الثلاثة في شهر أغسطس/آب عام 2016. 

الموقف السوداني أصبح متوافقًا تمامًا مع الموقف الإثيوبي بل أصبح السودان يدافع عن سد النهضة أكثر من الإثيوبيين أنفسهم وكأنه سدٌّ سوداني. علمًا بأن سد النهضة مقام على النيل الأزرق الذي يعد الشريان الأكبر لنهر النيل ويسهم بنحو 59-64% من مياه النهر بمتوسط تدفق سنوي يُقدَّر بنحو 49 مليار متر مكعب. 

يرى السودان أن الجانب المصري اعترف بشرعية سد النهضة وبالسيادة الإثيوبية الكاملة على مواردها المائية؛ وبالتالي فلا حاجة إلى مكاتب استشارية ولجان فنية وطنية أو دولية لتقييم السد الإثيوبي (عبَّرَ عن هذا الموقف الكاتب السوداني، الميرغني، في مداخلة معنا على قناة بي بي سي لندن بتاريخ 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2017) (5). وتكررت تصريحاته نفسها بعد ذلك على لسان وزيري الخارجية والمياه السودانيين في تصريحات إعلامية، بل وطالب وزير المياه والكهرباء السوداني "معتز موسى" مصر رسميًّا بتغيير مرجعية أعمال المكتب الاستشاري الفرنسي، والقياس على إجمالي ما يصل إلى مصر من المياه من المنبعين، الاستوائي والإثيوبي، طبقًا لاتفاقية 1959 والتي لا تعترف بها إثيوبيا وبالتالي فعلى إثيوبيا الاعتراف بها أولًا قبل أخذها كمرجعية لعمل المكتب الاستشاري، لأن اعتراف إثيوبيا بهذه الاتفاقية قد يعني بالتبعية إلغاء اتفاقية عنتيبي والتي ألغت جميع الاتفاقيات والمعاهدات السابقة للنهر، وليس بالقياس فقط على الانخفاض الذي يحدث في النيل الأزرق المقام عليه سد النهضة. سبب هذا التحول السوداني هو علمهم بأن مياه منبع النيل الأبيض متغيرة وتزيد كثيرًا عن المعدل وكثيرًا ما تصل إلى 30 مليار متر مكعب سنويًّا وليس 12 مليارًا فقط خاصة في فترات إدارة أوغندا لتوربينات سدي "أوين" "وكييرا" والأخير يقع خلف الأول بكيلومتر واحد من أجل رفع الحد الأقصى لزيادة إنتاج الكهرباء ومنع انقطاعها، بما يعني سحب المزيد من المياه من بحيرة فيكتوريا وضخَّها على التوربينات ثم تأخذ المياه طريقها بعد ذلك إلى السودان ومصر، وبالتالي فقد حاول الوزير السوداني واقعيًّا اعتماد هذه الزيادات المتغيرة كبديل لما سينقص من تدفقات النيل الأزرق بسبب سد النهضة وقد تكون بتوجيهات واتفاق مع إثيوبيا. 

يرى السودان أيضًا أنه مستفيد من سد النهضة الإثيوبي حتى ولو كانت هذه الاستفادة من الآثار الجانبية للسد لأن إثيوبيا أقامت سد النهضة من أجل صالحها الوطني فقط وليس من أجل صالح مصر ولا السودان. يرى السودان أن السد سيعمل على توقف الفيضانات المدمرة للنيل الأزرق على منطقة شرق السودان بما لها من تأثيرات على حياة المواطنين والحاصلات والترب الزراعية، ووقف عملية الإطماء الكبيرة وتأثيراتها السلبية على سعات تخزين سدي الروصيرس وسنار المقاميْن على النيل الأزرق، وصولًا إلى سد ميروي المقام على النيل الموحد وإعطاء الفرصة للسودان لتعلية خزان الروصيرس ليتسع لنحو 7 مليارات متر مكعب. 

الجانب الإثيوبي يرى أن الأمر منته ودائمًا ما يتحدث عن "الأنهار الإثيوبية"، وكأنها أنهار خاصة وليست عابرة للحدود، ويؤمن بتطبيق مبدأ لا تؤمن به أية دولة غيره، وهو مبدأ "السيادة المطلقة" على الموارد الطبيعية والذي لم تأخذ به الأمم المتحدة عند إصدارها لقانون الأمم المتحدة للأنهار الدولية لعام 1997 لتنظيم العلاقة بين دول النهر الواحد، ولو كان أمر السيادة المطلقة على الموارد صحيحًا ما أصدرت الأمم المتحدة هذا القانون. 

الجانب المصري يرى حاليًّا أنه أخفق تمامًا في موضوع بناء الثقة مع النظام الإثيوبي لإنهاء 200 عام من الكراهية منذ بداية حكم محمد علي عام 1805، لأن الجانب الإثيوبي لم يبادله الثقة بثقة بل استغل موافقة مصر على سد النهضة في إعلان مبادئ الخرطوم في 2015(6)، دون الحصول على تعهد -كان ممكنًا وقتها- للحفاظ على نصيبها من تدفقات النيل الأزرق، وكان الجانب الإثيوبي على استعداد آنذاك لعمل أي شيء للحصول على موافقة مصر على شرعية السد ولكنه فوجئ بالمنحة المجانية المصرية دون الحصول على توقيع إثيوبيا بالحفاظ على تدفقات النيل الأزرق عند نفس مستوياتها قبل بناء السد اعتمادًا على التصريحات الإثيوبية بأن السد لن يضر بمصر ولا بالسودان، وأن حصة مصر لن تنقص قدر قطرة واحدة، ولكن عندما طالبهم الجانب المصري مؤخرًا بالتوقيع على هذا الأمر أصبحوا يرفضون تمامًا ويرفعون شعار "اللاءات الثلاث"، وهي: لا حديث عن تقسيم حصص المياه ولا حديث عن إيقاف العمل في السد ولا حديث عن ارتفاع لسد ومواصفاته وسعة تخزينه. 

يزيد من الإحساس بالخطر أن المصريين يعلمون تمامًا أن نهر النيل يكاد يكون هو المصدر الوحيد للمياه في مصر وهو نهر وحيد بلا روافد بعكس إثيوبيا التي تمتلك تسعة أحواض للأنهار وعشرات الروافد (7)؛ حيث إن النيل الأزرق ينبع من بحيرة تانا بتدفقات لا تزيد عن 4 مليارات متر مكعب ولكن عند وصوله إلى الحدود السودانية تصل تدفقاته إلى 49 مليارًا بسبب انضمام نحو 20 رافدًا في طريق النهر. 

يضاف إلى ذلك، العجزُ المائي الكبير الذي تعاني منه مصر، فعدد السكان وفقًا لآخر تعداد لعام 2017 وصل إلى 104 ملايين نسمة(8)، ويحتاج الفرد إلى ألف متر مكعب سنويًّا ليعيش فوق حدِّ الندرة المائية، أي من المفترض أن تكون الموارد المائية الكلية لمصر 104 مليارات متر مكعب سنويًّا بينما المتاح منها حتى الآن نحو 62 مليارًا فقط (55.5 مليارًا من مياه نهر النيل+5.5 مليارات مياهًا جوفية+1.3 مليارات أمطارًا تسقط فوق أراضي الدلتا ويُستفاد منها في الزراعة بمجموع 62.3 مليارًا) أي بعجز مائي صاف يبلغ نحو 42 مليار متر مكعب سنويًّا. هذا العجز تسبب في فجوة غذائية عميقة لمصر تتجاوز 60% من احتياجاتها من السلع الأساسية، جعلت مصر على قمة الدول المستوردة للقمح في العالم ورابع أكبر مستورد للذرة الصفراء وسابع أكبر مستورد لزيوت الطعام، وتستورد 32% من احتياجاتها من السكر و70% من الفول و100% من العدس، و60% من اللحوم الحمراء والألبان المجففة، وبالتالي فالأمر لا يحتمل المزيد من نقص المياه.  

الأمر الآخر، أن مصر تعيش على مساحة 7% فقط من أراضيها ويتكدس سكانها بنسبة 97% على ضفاف نهر النيل ودلتاه، ولا تحتمل العيش على مساحة أقل من ذلك. هناك أيضًا تقارير لعدد من الباحثين تبيِّن تداعيات سد النهضة على القطاع الزراعي، وزيادة هشاشة أراضي الدلتا لتغيرات المناخ وزيادة احتمالات غمر مساحات كبيرة منها بمياه البحر المتوسط في حالة تراجع الموارد المائية (9)، مع تملُّح وبوار مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية ربما تصل إلى 2 مليون فدان.

طبقًا للتقديرات الإثيوبية والسودانية وتقديراتي البحثية الناتجة عن خبرة 40 سنة في مجال الموارد المائية، فإن الفاقد الدائم من المياه بسبب سد النهضة سيكون كالتالي:

  1. نحو 2 مليار متر مكعب سنويًّا فاقدًا بسبب تساقط المياه على توربينات توليد كهرباء سد النهضة وتناثر الرذاذ وتبخره.
  2. نحو 5 مليارات متر مكعب سنويًّا بخرًا من مسطح بحيرة سد النهضة لأن منطقة بني شنقول المقام عليها السد من المناطق عالية الحرارة في القارة الإفريقية ولا تنتمي للمرتفعات الإثيوبية الأقل حرارة لوقوعها على حدود السودان.
  3. من 5-10 مليارات متر مكعب سنويًّا فقدًا بالتسرب العميق من قاع بحيرة سد النهضة.
  4. نحو 5 مليارات متر مكعب (على الأقل) تحتاجها أراضي شرق السودان للتحول إلى الزراعة المروية بعد انقطاع مياه الفيضان والتي تعتمد عليها في الزراعة الحيضية، أي الزراعة على مياه الفيضان التي شبَّعت الترب الزراعية بعمق كبير يمكن أن تنمو عليه الزراعات في الموسم الشتوي بعد انقطاع الفيضان. 

حتى إذا استبعدنا المياه اللازمة لري أراضي شرق السودان وتأثيرها على تغير نوعية مياه النيل بصرف مياه الصرف الزراعي عليها وما بها من متبقيات المبيدات والأسمدة، واعتمدنا فقط على حقائق الفاقد من المياه عبر التوربينات والبخر وأخذنا بنصف قيمة الرشح العميق للمياه من قاع البحيرة فإن الحد الأدنى لنقص المياه من حصة مصر سنويًّا سيكون في حدود 12 مليار متر مكعب، أي نحو 22% من حصة مصر من المياه التي تصلها من نهر النيل، وهي كمية كافية لري نحو 2 مليون فدان على الأقل ستكون مهددة بالبوار وتتطلب توفير عمل جديد لمزارعيها، ولا مجال لسداد هذا النقص من احتياجات الاستهلاك المنزلي ولا الصناعي. 

من المؤكد أيضًا أن امتلاء سدِّ النهضة سيكون على حساب تفريغ بحيرة السد العالي في مصر، لأن هذا الكم الكبير من مياه التخزين في إثيوبيا، والبالغ 74.5 مليار متر مكعب، كانت مياها في طريقها إلى مصر وبالتالي فحتى في فترة الملء الأول للسد ستكون هذه الكمية خصمًا من مخزون مياه مفترض لبحيرة السد العالي للتخزين القرني (أي المستمر) تحسبًا للسنوات العجاف الجافة. 

أسئلة مصرية معلقة 

أسئلة كثيرة طرحتها مصر على إثيوبيا ولم تتلقَّ إجابة عنها، وهي:

  1. هل نهر صغير مثل النيل الأزرق متوسط تدفقاته السنوية 49 مليار متر مكعب قادر على ملء بحيرتين كبيرتين في نفس الوقت إحداهما في إثيوبيا بسعة 74.5 مليار متر مكعب والثانية في مصر بسعة 90 مليار متر مكعب، عمقًا حيًّا؟
  2. ماذا ستفعل إثيوبيا في حجم الطمي الكبير الذي تحمله مياه النيل الأزرق والبالغ، طبقًا للتقديرات الإثيوبية 136.5 مليون طن سنويًّا، وهي كميات كفيلة بردم بحيرة السد في 50 عامًا، وبالتالي فلا مفرَّ من إقامة عدد آخر من السدود ليقوم كل سد بحجز كمية من الطمي فيطيل عمر السد إلى 200 عام، بينما النيل الأزرق لا يتحمل إقامة المزيد من السدود والتي اعتمدتها إثيوبيا فعليًّا التي تُقدَّر سعتها التخزينية بنحو 200 مليار متر مكعب سنويًّا، وسيكون التبخير فقط من بحيرات هذه السلسة من السدود نحو نصف حصة مصر من المياه.
  3. ما مصير توليد الكهرباء من توربينات السد العالي في مصر وما مصير بحيرته للتخزين خاصة بعد تسليم حصتي مصر والسودان يومًا بيوم؟ وما تأثير ذلك على صفات مجرى النهر بعد تحوله إلى مجرد قناة ري وليس نهرًا باعتبار أنه ستُصرَف فيه مياه مقنَّنة طبقًا لعدد التوربينات التي ستعمل وفقًا لبيع إثيوبيا للكهرباء من عدمه، وبالتالي فعلى مصر أن تشتري الكهرباء من إثيوبيا إذا أرادت أن يعمل السد بكامل طاقته وأن تدور الستة عشر توربينًا لتخرج من فتحاتها المياه إلى مصر، وإلا فعليها أن تتحمل احتمالات تشغيل ثمانية أو عشرة توربينات فقط في حالة عدم وجود مشترٍ لكهرباء سد النهضة وبالتالي نقص المياه التي تُصرَف إلى مصر.
  4. ما مصير أولويات إدارة السد في سنوات الجفاف والتي ستتكرر كثيرًا مع تغيرات المناخ (سبع عجاف وسبع سمان، وست في المتوسط طبقًا للواقع العملي وما ورد في الكتب السماوية عن قصة النبي يوسف) وهل سيكون حجز المياه أولًا في البحيرة الإثيوبية لتوليد الكهرباء أم سيكون لتلبية حاجات المصريين من مياه الشرب؟
  5. هل ستمتلك إثيوبيا مياه الفيضان وحدها في سنوات وفرة الأمطار وتحرم مصر من تخزين نصيبها منها تحسبًا لاستهلاكها في السنوات العجاف، وفي هذه الحالة تدفع مصر وحدها ثمن السنوات العجاف والجفاف والقحط لكونها دولة معدومة الأمطار؟ 

خاتمة 

بدائل مصر ليست بالكثيرة لأن من الواضح أن إثيوبيا استغلت اعتراف مصر بسد النهضة وبسيادتها المطلقة على الأنهار التي تخرج من أراضيها، فبات الشُّحُّ المائي قادمًا لا محالة والبدائل عالية التكلفة، تقنية تحلية أو إعذاب المياه المالحة مكلِّفة للغاية ولا تعطي إلا كميات محدودة وبأسعار تتراوح بين 48 سنت إلى 68 سنتًا للمتر المكعب من المياه(9)، بالإضافة إلى الكميات المحدودة والتي لا تزيد في أكبر دولة منتجة لها في العالم، وهي المملكة العربية السعودية، عن 6.5 مليارات متر مكعب سنويًّا بكل الإمكانيات من النفط والكهرباء، وتليها الولايات المتحدة بستة مليارات ثم دولة الإمارات بخمسة ونصف مليارات ثم الكويت وإسبانيا واليابان وجميعها دول عالية الدخل، بما يوضح أن تقنيات تحلية مياه البحر ليست للدول الفقيرة والنامية لتكلفتها العالية. 

أما بدائل رفع كفاءة الري وتحويل الترع المكشوفة إلى ترع مبطنة بالإسمنت والترع الصغيرة إلى خطوط مواسير فستكون مكلفة للغاية وربما تتجاوز ثلاثة أضعاف تكاليف سد النهضة. هناك أيضًا تقنيات معالجة مياه المصارف الزراعية ومياه الصرف الصحي والصناعي لتعويض كميات النقص المتوقعة من سد النهضة لكنها أيضًا ستكلف المليارات من الجنيهات، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق على البحث العلمي من أجل إنتاج تقاوي (أي بذور وحبوب الزراعة) ونباتات تتحمل الجفاف والعطش وتستهلك مياهًا أقل مع استبعاد وتقليل مساحات الحاصلات المستنزِفة للمياه مثل الأرز وقصب السكر والموز وربما البرسيم ومحاصيل الأعلاف، وربما تلجأ مصر إلى خيار الزراعة في خارج أراضيها في بلاد الوفرة المائية (10). 

بدائل مياه النيل صعبة للغاية لمصر وتتطلب إنفاقًا وموارد غير متاحة الآن، وإثيوبيا لا تترك لمصر خيارات للتفاوض. وحتى تدويل القضية بعد نحو ست سنوات ونصف من التفاوض منذ وضع حجر أساس سدِّ النهضة في 2 أبريل/نيسان 2011، قد يكون متأخرًا للغاية وغير ذي جدوى بعد إعلان مبادئ الخرطوم، في مارس/آذار عام 2015، والتوافق حول السد، ويتطلب حشدًا دوليًّا مستبعدًا حاليًّا يتعاطف مع مظلومية مصر. علاوة على أن إثيوبيا كسبت السودان بضمانها لحصته من المياه مقابل التخلي عن تأييد مصر. 

الخيار الأرجح لمصر قد يكون في الحصول على موافقة إثيوبيا على خفض الارتفاع الجانبي للسد والوصول به إلى 25–30 مترًا فقط بدلًا من 50 مترًا حتى تنخفض كمية المياه بعد تخزين سد النهضة إلى النصف، ويخفُّ حمل الإطماء على السد ولا تتأثر حصتا مصر والسودان كثيرًا، إلا أن ذلك الأمر قد أصبح من الصعوبة بمكان بعد الانتهاء من 62% من بناء السد وقرب حدوث التشغيل التجريبي له في منتصف 2018. 

إذا لم يتم التوافق على ضمان حدٍّ أدنى لتدفقات مياه النيل الأزرق بعد اكتمال بناء سد النهضة فربما نكون في طريقنا لتحقق نبوءة الرئيس السادات التي قالها منذ أربعين عامًا بأن الأمر الوحيد الذي يمكن أن يجر مصر حاليًّا إلى الحرب هو المياه.

________________________________________

 أ.د نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية وعلوم الأراضي بكلية الزراعة جامعة القاهرة

نبذة عن الكاتب

مراجع

1. NBI (2010) The Nile Basin Cooperative Framework Agreement, (Entebbe agreement), Found At: http://www.nilebasin.org/images/docs/CFA%20-%20English%20%20FrenchVersion.pdf (Accessed at 3 June 2017).

2.  Uunited Nation (2014) Convention on the Law of the Non-navigational Uses of International Watercourses1997. http://legal.un.org/ilc/texts/instruments/english/conventions/8_3_1997.pdf.

3. UNEP (2010) Africa Water Atlas, United Nations Environment Program publications, ISBN:  978-92-807-3110-1.

4. Permanent Join Technical of Nile Waters (PJTC), “Agreement between the republic of the Sudan and the United Arab Republic for the full utilization of the Nile Water’, in first Annual Report 1960-1961.

5. مداخلة تليفزيونية من الإعلامي السوداني، أحمد الميرغني لقناة بي بي سي لندن أثناء استضافتها لشخصنا بعد فشل مفاوضات الجولة 17 لمفاوضات سد النهضة، 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2017.

6. Declaration of Principles' signed by Egypt, Sudan and Ethiopia, March 23ed 2015.

7. نادر نور الدين محمد (2010)، تغيرات المناخ والقطاع الزراعي ومستقبل الأمن الغذائي العربي، الناشر كتاب الخليج، مركز الخليج للدراسات، (الشارقة).

8. الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أكتوبر/تشرين الأول 2017، البيان الرسمي للتعداد السكاني لمصر www.CAPMAS.gov.eg

9. Food and Water Watch (2009). Desalination an Ocean of Problems. www.foodandwaterwatch.org. found at: https://www.foodandwaterwatch.org/sites/default/files/desalination_fs_oct_2009.pdf, reached in December 9, 2016.

10. نادر نور الدين محمد (2014)، مصر ودول منابع النيل: الحياة والمياه والسدود والصراع، الناشر دار نهضة مصر، القاهرة.