التناوب الديمقراطي في قيادة الأحزاب الإسلامية: السياق والدلالات

يروم هذا التقرير قراءة جانب من التجربة السياسية لحزبين إسلاميين، هما: حزب العدالة والتنمية المغربي وحزب تواصل الموريتاني من زاوية تكريس مبدأ التناوب على القيادة. دون إهمال مقارنة هاتين التجربتين المغاربيتين بما يحصل بالنسبة للأحزاب الإسلامية في المشرق العربي.
adc2502ff9c34280a49206ef9bd64834_18.jpg
صراع ثقافة التوافق والمنافسة الديمقراطية على قيادة الأحزاب الإسلامية (موقع الحزب)

مقدمة 

خلَّفت نتائج مؤتمري، حزبي العدالة والتنمية المغربي والتجمع الوطني للإصلاح والتنمية الموريتاني (تواصل)*، صدمة إيجابية في الأوساط السياسية والإعلامية المحلية والعربية نظرًا لما أسفر عنه المؤتمران من تكريس لمبدأ التناوب في الهيئات القيادية الحزبية وما يعنيه ذلك من تقدم على صعيد الترسيخ الديمقراطي داخل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية. 

لقد أعادت نتائج المؤتمريْن المذكورة تسليط الضوء مجددًا على أهمية الوعي الديمقراطي المتنامي؛ حيث باتت قطاعات نخبوية وشعبية واسعة تؤمن بأن الديمقراطية تمثل طوق نجاة من المآزق الكثيرة التي يعيشها المجال العربي-الإسلامي؛ فـ"الديمقراطية أثبتت اليوم قدرتها النسبية على إدارة أوجه الاختلاف وتعارض المصالح في إطار الجماعة الواحدة على مستوى الدولة وسمحت بالاستقرار السياسي ونمو الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، ومهدت لتحقيق اندماج وطني على قاعدة الديمقراطية في البلدان التي اتخذت منها نظامًا للحكم ومنهجًا رسميًّا وأهليًّا لإدارة الشؤون العامة"(1). 

لقد حملت رسالة المؤتمرين الأخيرين للحزبين الإسلاميين عنوان: "التناوب الديمقراطي"، الذي يمثِّل الفريضة الغائبة في الحياة السياسية العربية على المستويين الرسمي والشعبي، فما تأثيرات ما جرى على مستقبل تقدم الديمقراطية الداخلية في الأحزاب العربية؟ وهل تندرج هذه التطورات الإيجابية ضمن سياقات الربيع العربي وتفاعلاته المستمرة، أم أنها امتداد لتأثيرات المشهد الديمقراطي الآخذ في الترسخ في فضاء القارة الإفريقية؟ وما مستقبل التناوب المؤسسي في الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية؟ وهل كانت تجربتا "العدالة والتنمية" و"تواصل" في التناوب الديمقراطي مكتملة النضج؟ وهل هي الأولى في تجارب الأحزاب الإسلامية؟ 

الديمقراطية في الأحزاب العربية 

تعيش الديمقراطية داخل الأحزاب العربية أوضاعًا لا تقل سوءًا عن محنتها المستمرة مع النظم التسلطية العربية، فالأحزاب العربية التي تنادي بالديمقراطية، لا تزال عملية الدمقرطة داخل مؤسساتها لم تصل بعد إلى المستوى المأمول. مما يجعل التساؤل مشروعًا حول مدى إمكانية مساهمة الأحزاب العربية في تدعيم التحول الديمقراطي، دون أن تحتل الديمقراطية موقعًا متقدمًا في بنيتها الداخلية وآليات اشتغالها. 

ومن المتعارف عليه أنه لكي يوصف تنظيم حزبي ما باعتماد مبادئ الديمقراطية لابد من توفر مجموعة أركان ومقومات، من أهمها:

  • أولًا: وجود دستور أو نظام أساسي للحزب، ينص على مختلف القواعد التي تضمن ممارسة الديمقراطية الداخلية في التنظيم الحزبي.
  • ثانيًا: ممارسة مبادئ حرية الرأي والتعبير الفردي والجماعي، إضافة إلى الإقرار بالتعددية في الرأي والتعاطي مع مختلف وجهات النظر باحترام، بحيث لا تصدر القرارات في الحزب إلا بناء على رأي الأغلبية، وبعد مناقشات صريحة مستفيضة يُسمَح خلالها للأصوات المعارضة بالتعبير عن ذاتها دون مضايقة أو إكراه.
  • ثالثًا: تفعيل مبدأ التناوب، واعتماد نظام تمثيلي حقيقي يكفل لسائر الأعضاء الحق في المشاركة في صنع القرار. واحتكام عملية تشكيل جميع المستويات القيادية في التنظيم إلى قواعد الانتخاب السري، وتأكيد ضرورة إجراء الانتخابات لاختيار الكوادر القيادية على شتى المستويات بصورة دورية منتظمة، ما يضمن إثراء المواقع القيادية بكوادر أكثر قدرة على خدمة التنظيم وأكثر تعبيرًا عن توجهات منتسبيه، ما يمنع الحزب من خطر الوقوع تحت هيمنة قيادات "تاريخيـة أبديـة مُلهِمـة" قد تقـف عقبة كأداء في طريق تقدمه وتفعيل دوره(2). 

لقد أسهم غياب الديمقراطية الداخلية في الأحزاب العربية في هيمنة الزعماء واللوبيات المتحالفة معهم على المؤسسات الحزبية مما فاقم الأزمات الداخلية للعديد من الأحزاب العربية؛ "حيث تسبَّب غياب الديمقراطية الداخلية في الأحزاب إلى سيادة العلاقات المركزية والعدوان على شرعية تعايش وجهات النظر وتعددية الآراء داخل الأحزاب وتحويل الخلاف إلى عملية احترابية"(3). 

جدل التناوب في المجالين العربي والإفريقي 

في العالم العربي نجحت -نسبيًّا- الثورة المضادة في إجهاض الموجة الأولى من الربيع العربي وهي الموجة التي حملت -لأول مرة- بشائر التقدم في مسار تحول ديمقراطي جدي يقوض أركان التسلطية، ويفتح المجال واسعًا أمام الحلم بإقامة انتخابات حرة ومؤسسات ديمقراطية شرعية وتداول سلمي على السلطة، وكان من نتائج الثورة المضادة بقاء وتحصين النظم التسلطية العربية -رغم انكشاف سوءاتها- وجمود الحركية الديمقراطية داخل النظم والأحزاب والمجتمع المدني مما أثَّر سلبًا على الديناميات التي أطلقها الربيع العربي قبل سنوات. 

وفي إفريقيا، ورغم الجدل حول المأمورية الثالثة والتعديلات الدستورية المرتبطة بها، إلا أن الوعي الدستوري قد قطع شوطًا مهمًّا لدى قطاعات واسعة في إفريقيا تتصدى اليوم لطموحات الحكام التسلطيين، حتى تتمكن شعوب القارة من التحرر من إرث الانحرافات السلطوية السائدة على نحو ما يشير إليه أحد الباحثين الأفارقة "السلطة التي لا تتبدل ولا تتغير تتحول مع مرور الوقت إلى سلطة مرتبطة بمن يمارسها؛ لذا، فإنه من الضروري تأطيرها بتقييد دستوري. إن ممارسة السلطة السياسية تُعتبر مصدرًا للمطامع والانحرافات والصراعات؛ الأمر الذي يحتم تقييد هذه الممارسة"(4). 

لقد عرفت إفريقيا على مدار العقد الأخير تداولًا سلسًا على السلطة في العديد من بلدانها، مؤشرة بذلك لميلاد مرحلة جديدة تضع حدًّا للاستفراد بالسلطة وتحكُّم الأشخاص بها حتى آخر رمق، إلا أن هذه الظاهرة لم تصاحبها حركية داخلية في زعامات الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة؛ إذ ظلت هذه الأحزاب تعاني من ضعف شديد في التناوب على رئاستها مما أفقدها ألق الديمقراطية الداخلية(5). 

غير أن "سنة 2017 أسدلت آخر فصولها على صور جديدة وفريدة يُقرأ من خلالها بروز نمط التداول على رئاسة الأحزاب كتوجه مرحلي جديد، فقد أعطت أحزاب العدالة والتنمية المغربي الحاكم وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم بجنوب إفريقيا وحزب التجمع الوطني والإصلاح والتنمية، الذي يتزعم المعارضة الموريتانية، أعطت هذه الأحزاب الثلاثة نموذجًا جديدًا في التعاقب على رئاسة الأحزاب بعد أن تنحى قادة هذه الأحزاب الثلاثة عن رئاسة أحزابهم بموجب نصوص هذه الأحزاب التي تُقيد مأمورية الرئيس بفترة قابلة للتجديد مرة واحدة"(6). 

حزب "تواصل" وتكريس خيار التناوب 

تحت شعار لافت "شركاء في التناوب" عقد مؤخرًا حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية، مؤتمره الثالث. وقد جسد الحزب ذو المرجعية الإسلامية شعار التناوب عمليًّا؛ حيث أسفر المؤتمر الثالث عن انتخاب الوزير السابق النائب البرلماني، محمد محمود ولد سيدي، رئيسًا جديدًا للحزب خلفًا لـمحمد جميل ولد منصور الذي تولى قيادة الحزب منذ ترخيصه في 2007. والذي حرمه دستور الحزب من الظفر بمأمورية ثالثة؛ حيث تنص وثيقة النظام الأساسي للحزب على انتخاب الرئيس لولايتين غير قابلتين للتمديد. 

وقد حظي المؤتمر الثالث لحزب تواصل باهتمام واسع على خلفية التوجه لتكريس التناوب الديمقراطي داخل قيادة الحزب وهو الأمر غير المألوف في الحياة السياسية الموريتانية على المستويين الحزبي والرسمي على حدٍّ سواء، "وبحسب العديد من المراقبين، فإن حزب "تواصل" كسب تحدي التناوب على قيادته بآلية انتخاب حظيت بإشادة السياسيين الموريتانيين بمن فيهم خصوم الإسلاميين... ومثَّلت المناسبة حدثًا سياسيًّا مهمًّا في موريتانيا، لأن العديد من الأحزاب المعارضة تحتفظ بقادتها لسنوات طويلة وبعضها لعقود بلا تغيير، بينما يتغير رؤساء الحزب الحاكم بآلية توصف بأنها غير ديمقراطية"(7). 

في بيانه الختامي، أكد حزب "تواصل" على أن "رسالة المؤتمر الأبرز هي تلك التي كُتبت حروفها الأولى في المؤتمر الأول؛ رسالة التناوب حيث يقدِّم التواصليون بقيادة الرئيس المفكر، محمد جميل ولد منصور، وإخوانه وأخواته أنموذج تناوب ديمقراطي غير مسبوق يسجل شهادة فخر وإكبار واعتراف بالجميل لرجل فذ قاد مسيرة الحزب خلال عشر سنوات فحقق له مكانة رائدة، وهو يسلِّم الراية لرئيس جديد وفريق جديد يكملون بعون الله ثم بدعمنا جميعًا المسير التواصلي الحثيث لغد موريتاني مشرق"(8). 

وفي إشارة ذات دلالة، نبَّه الحزب المعارض إلى "أن التناوب الذي نعيش في حزب "تواصل" الآن عرسه، تستحق موريتانيا كلها أن تعيش عرسه في موعده المحدد دستوريًّا؛ فقد طال انتظار التحول الديمقراطي، وبلغت أوضاع الناس الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية مديات غير مسبوقة من الانحدار"(9)، وهي إشارة إلى الغموض الذي يلف حقيقة موقف رئيس الجمهورية من الوفاء بتعهداته باحترام الدستور -الذي يمنع عبر مواد جامدة (غير قابلة للتعديل) الترشح لمأمورية ثالثة- وهو الجدل الذي تعيشه موريتانيا حاليًّا في أفق الانتخابات الرئاسية 2019 -على غرار العديد من البلدان الإفريقية- مع أن معطيات شبه موثوقة تؤشِّر في اتجاه تراجع النواة الصلبة للنظام عن مخططاتها في البقاء اللادستوري في السلطة بفعل تأثير عوامل داخلية وخارجية متشابكة. 

على المستوى الحزبي الداخلي كان المؤتمر الثالث لحزب "تواصل" محطة مهمة في تاريخ المأسسة الديمقراطية الداخلية على مستوى البنيات والتقاليد، وسجَّل المراقبون كيف قدَّم التواصليون تقليدًا جديدًا في التناوب الديمقراطي؛ حيث لم تظهر أية دعوات أو مبادرات مطالِبة بتغيير النظام الأساسي بما يضمن بقاء الرئيس محمد جميل ولد منصور في قيادة الحزب رغم كفاءته ورمزيته -بخلاف ما جرى في حزب العدالة والتنمية المغربي من مساع لتغيير دستور الحزب-. لقد كانت مواقف مناضلي حزب "تواصل" عامة والمؤتمرين خاصة منسجمة مع روح دستور الحزب المؤكِّدة على تكريس مبدأ التناوب داخل المؤسسات القيادية. وقد أسهم في تثبيت هذه القناعة الإيجابية حرص الرئيس المنصرف، محمد جميل ولد منصور، على تجذير التناوب واحترام قوانين الحزب بالإضافة إلى الوعي الديمقراطي المؤسسي لمناضلي الحزب والحرج السياسي المترتب على مثل هذه الدعوات في توقيت سياسي وطني خاص تحبس فيه البلاد أنفاسها على وقع الهواجس من تعديل الدستور الموريتاني في اتجاه مأمورية ثالثة غير دستورية لرئيس الجمهورية. 

ومن جهة أخرى، سجَّل المتابعون للمؤتمر الثالث لحزب تواصل الضمور -النسبي- لمستوى المنافسة الديمقراطية الداخلية واتجاه الأمور داخل المؤتمر نحو تكريس ثقافة التوافق والنزوع نحو مرشح الإجماع بدل فتح المجال واسعًا أمام المنافسة الجدية بين المرشحين لرئاسة الحزب التي من شأنها أن تعزِّز مناخات الدمقرطة الداخلية وتزيد من صلابة وفاعلية المؤسسات الحزبية، على نحو ما حدث في تجربة المؤتمر الثامن لحزب العدالة والتنمية المغربي، حيث كشفت مؤسسات الحزب الإسلامي المغربي عن قدرة فائقة على صعيد استيعاب التنافس الديمقراطي بكفاءة مثيرة للإعجاب. 

العدالة والتنمية ومناعة المؤسسية 

كان المؤتمر الثامن لحزب العدالة والتنمية المغربي واحدًا من أصعب المحطات السياسية في تاريخ الحزب الإسلامي -الذي يقود الحكومة المغربية منذ العام 2011-، لكن الطابع الديمقراطي المؤسسي للحزب ووعي قياداته ومناضليه بواجباتهم التغييرية أسهم في الحفاظ على مكاسب الحزب وتجنيب هياكله أدواء الشخصنة والشقاق. 

كان فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية المغربية، نوفمبر/تشرين الثاني 2011، إيذانًا بولوج الحزب الإسلامي مربع التحديات السياسية الخطرة، فعقب الانتصار الانتخابي للحزب قام العاهل المغربي، محمد السادس، بتكليف أمين عام العدالة والتنمية، عبد الإله بن كيران، بتشكيل الحكومة المغربية، ومع تولي حزب "المصباح" قيادة الحكومة المغربية -في سياق سياسي ملتهب- أضحت قيادة العدالة والتنمية في مواجهة استحقاقات ورهانات صعبة من قبل تنزيل مقتضيات الدستور الديمقراطي -الذي كُتِب على وقع زلزال الربيع العربي- بالإضافة إلى تحدي تحقيق انتظارات المغاربة في التنمية والرفاه، وهي الملفات التي حقق فيها حزب العدالة والتنمية نجاحات مهمة، رغم المتاريس التي ظلت الدولة العميقة تضعها باستمرار في دواليب قطار الإصلاح. 

وكانت نتائج الانتخابات البرلمانية، أكتوبر/تشرين الأول 2016، محطة حاسمة في مسار العلاقة بين "المخزن" وحزب العدالة والتنمية بقيادة ابن كيران؛ فقد أفشل الحزب انتخابيًّا مخطط إزاحته عن صدارة المشهد السياسي-الحكومي، واستطاع الاحتفاظ بموقعه المتقدم في الساحة السياسية بفعل أصوات قطاعات واسعة من الشعب المغربي عبَّرت عن دعمها لمرشحي العدالة والتنمية تقديرًا لأداء قيادة الحزب خلال السنوات المنصرمة وتأييدًا لصرامتها في مواجهة نهج "التحكم" الذي يستميت المخزن في إبقاء المغرب داخل مربعه، وكان العنوان الأبرز في هذا السياق الرفض المطلق الذي واجه به ابن كيران ورفاقه مبدأ التحالف الحكومي مع حزب الأصالة والمعاصرة الذي أسسه مستشار الملك، فؤاد عالي الهمة، والذي يعتبر المنافس الأشرس للعدالة والتنمية بفعل دعم الدولة العميقة له. 

وعلى ضوء الخلفيات السابقة، تتنزل عملية فشل أو إفشال الحكومة الثانية لعبد الإله بن كيران، وكان من الطبيعي أن يتم إعفاء الرجل من التكليف بتشكيل الحكومة المغربية التي تعطلت أكثر من اللازم. 

من جهة أخرى، يصف العديد من المراقبين قرار الملك محمد السادس بتكليف الشخصية الثانية في العدالة والتنمية، سعد الدين العثماني، بتشكيل الحكومة المغربية بالخطوة الذكية التي شكَّلت حلًّا وسطًا وإنقاذًا -نسبيًّا- لجميع الأطراف (الدولة، العدالة والتنمية، مسار الإصلاحات..). غير أن قرار الملك إعفاء ابن كيران وتكليف رئيس المجلس الوطني لحزبه، سعد الدين العثماني، بتشكيل الحكومة المغربية -والتي تم تشكيلها في أسبوع واحد- مثَّل حَجَرًا كبيرًا تم رميه في بحيرة الحزب، وخلَّف اصطفافًا ونقاشات ساخنة داخل صفوفه القيادية، وهي الحالة التي وصفها نائب الأمين للحزب، سليمان العمراني، بالقول: "منذ إعفاء ابن كيران (من تشكيل الحكومة) عاش الحزب مرحلة هي الأصعب في تاريخه، وما تزال تداعياتها مستمرة إلى اليوم، وإنْ بحدة أخف"(10). 

في السطح، لا تخطئ عين المراقب مستوى من الحضور لطابع الشخصنة في النقاش داخل هيئات حزب العدالة والتنمية خلال الفترة الماضية ويمكن تلمس ذلك في التنابز بتعبيرات من قبيل "تيار الاستوزار" في إشارة إلى أعضاء الأمانة العامة للحزب (معظمهم وزراء) المؤيدين لخط رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، وتيار "البنكيرانية" أي المتشبثين بشخص الأمين العام بغضِّ النظر عن السياقات التي أحاطت بإعفاء الرجل وقرب مغادرته للأمانة العامة بسب دستور الحزب الذي يؤكد على ولايتين غير قابلتين للتمديد. 

وبخلاف الصورة السطحية، كان الحزب في العمق يعيش نقاشًا وانقسامًا جديًّا بين رؤيتين ترتبطان بقضايا ذات علاقة متشعبة بمستقبل الحزب موقعًا وأطروحات، وتحالفات. 

كان أنصار رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بن كيران، يرون في التمسك بشخصه وفاء لخط الحزب المدافع عن مصالح وآمال المواطنين في الديمقراطية والتنمية في مواجهة نهج "التحكم" الذي يرعاه المخزن وأباطرة الفساد المختبئون في أكمامه. 

ورأى هذا الفريق أن المرحلة الحالية من تاريخ الحزب والحكومة ومستقبل الديمقراطية المغربية تتطلب التشبث بعبد الإله بن كيران لعاملين اثنين: أولهما: أنه أثبت بالدليل القاطع قوته وجلده في مقارعة "قوى التحكم"، وثانيهما: الحاجة إلى القدرات القيادية لابن كيران من حيث الدهاء والكاريزما والشعبوية، وهي الصفات المطلوبة في هذه المرحلة. ويبني أصحاب هذا الطرح رؤيتهم على أساس الحفاظ على رسالة الحزب ودوره الريادي في تدعيم التحول الديمقراطي بالمغرب، بغضِّ النظر عن موقف القَصْر من شخص ابن كيران وبغضِّ النظر كذلك عن موقع الحزب في المشهد السياسي مشاركًا في الحكومة أم ثاويًا في صفوف المعارضة. وعلى الرغم من صدقية ومثالية أطروحة أصحاب هذا الخط إلا أن موقفهم أضعفته عوامل، أولها: التفكير في اللجوء إلى تعديل دستور الحزب من أجل الإبقاء على ابن كيران أمينًا عامًّا للحزب، على نحو غير لائق سياسيًّا ولا أخلاقيًّا. ثانيها: تناسي أنصار هذا الخط أن سرَّ تميز نهج ابن كيران هو الاعتدال والانفتاح والتسيير العقلاني للعلاقة بين المؤسسة الملكية والإسلاميين؛ حيث يُعتبر ابن كيران رائد هذا التوجه ومنظِّره الأول؛ وهو توجه أثبت فاعليته ونجاعته، وعندما يتخلى ابن كيران عن هذا الخط يكون كمن نقض غزله بيده. 

وفي المقابل، كان الطرف الثاني المحسوب على خط العثماني وتيار أعضاء الأمانة العامة للحزب يرون أن الحزب يمر بمرحلة حساسة من مسار الإصلاحات الديمقراطية التي دخلها المغرب مع دستور 2011، وأن ثمة جملة مصالح تتعلق بمستقبل الديمقراطية والورش التنموية الكبرى المفتوحة، والحاجة إلى تعزيز مناخ الثقة بين الملكية والإسلاميين، كلها سياقات تتطلب المرونة والتعامل العقلاني مع المشكلات والتلاقي على كلمة سواء بما يضمن استقرار المغرب وترسخ الديمقراطية فيه. 

الحسم المؤسسي 

وفي دورة استثنائية للمجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، بتاريخ الأحد 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، طُرح مقترح تعديل المادة 16 من القانون الأساسي للحزب التي تحصر عدد ولايات الأمين العام في ولاية واحدة من أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. وقد صوَّت 126 عضوًا ضد تعديل المادة من بين 290 إجمالي عدد أعضاء المجلس، فيما صوَّت لصالح التعديل 101 صوت، واعتُبرت أربعة أصوات ملغاة. 

كان تصويت أغلبية أعضاء المجلس الوطني للعدالة والتنمية على عدم التمديد لابن كيران تعبيرًا عن شعور مزدوج يتمثل في الحفاظ على دستور الحزب ومضمونه الديمقراطي المؤسسي، وفي المقابل تصويتًا "سياسيًّا أملاه الخوف من رد فعل السلطة ودولتها العميقة في حال تم التشبث برجل أصبح في مرمى نبالها"(11). 

ثم جاء المؤتمر الثامن للعدالة والتنمية، 9 ديسمبر/كانون الأول 2017، ليحسم الموقف داخل الحزب لصالح خط رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، الذي انتُخب أمينًا عامًّا للحزب وسيطرة فريقه على الأمانة العامة. وبذلك يكون الحزب قد نجح عبر آلياته الديمقراطية في استيعاب الاختلافات في وجهات النظر المختلفة وإعادة اللحمة للهياكل المؤسسية القيادية للحزب، رغم استمرار النقاش الداخلي العلني بعد المؤتمر الأخير، وهو ما يعتبره نائب الأمين العام، سليمان العمراني، "أمرًا طبيعيًّا ومؤشرًا على حالة صحية في الحزب"، مؤكدًا على أن "الحوار الوطني المزمع إطلاقه خلال الأسابيع المقبلة أهم رافعة لتجاوز حدة الخلاف والاستقطاب"(12). 

التناوب بين التجربتين المشرقية والمغربية 

تجربة الأحزاب الإسلامية المغاربية (العدالة والتنمية المغربي وتواصل الموريتاني) في مجال تكريس التناوب الديمقراطي تجربة رائدة في مجال الديمقراطية الداخلية في الأحزاب العربية عمومًا والأحزاب الإسلامية بشكل خاص، لكن المشرق العربي -رغم البوار الديمقراطي الذي يلفه-، عرف تجربة رائدة في مجال الديمقراطية والتناوب هي تجربة حزب جبهة العمل الإسلامي الأردنية التي تعتبر بحق تجربة مرشدة وهادية للأحزاب الإسلامية في العالم العربي. لقد عرف حزب جبهة العمل الإسلامي "تداولًا حقيقيًّا للسلطة من خلال التجديد والتغيير في المواقع القيادية فيه، حيث تقلد منصب الأمين العام منذ تأسيس الحزب سبع شخصيات، في نموذج عملي حقيقي يكرس التناوب" (13)، فجبهة العمل الإسلامي، كما يقول إسحق الفرحان -أول أمين عام لها-، ترى الديمقراطية "فكرة، ومؤسسات، وممارسات، وحتى نكون ديمقراطيين بحق، ينبغي أن لا نكتفي بالتلفظ بالديمقراطية أو ادعاء الإيمان بها، بل ينبغي أن تتبدى في المؤسسات، وتمارَس في الحياة العملية كسلوك"(14).

ويعبر تعامـل حزب جبهة العمل الإسلامي مع قضيـة التناوب مؤشرًا مهمًّا على ترسخ الديمقراطية داخل هيئاته؛ حيث وضـع الحزب "من القواعـد المحْكَـمة في نظامـه الأسـاسـي، التي تمـت بلورتهـا عمليًّـا من خـلال الممارسـة، ما يحول دون تجميد السلطـة وتقييدها بأيدي أيٍّ من هيئاته أكثر من المـدة المحدودة التي أقرها النظام الأساسي.. فولايـة مجـلس الشورى، وهو من أهم الهيئات الفاعلة في الحزب، لا تتجاوز أربع سنوات...والأمين العام للحزب لا يبيـح النظام الأساسي انتخابـه لأكثر من دورتين متتاليتيـن، لا تزيد مدة كل منهما عن العامين"(15). 

خاتمة 

تمثِّل الأحزاب القوية والفاعلة ضمانة مهمة لحماية الديمقراطية وترسيخها، وقد لاحظ الدارسون أن تعثر التحول الديمقراطي في الدول النامية يرجع أساسًا إلى غياب أو توقف نمو المجتمع المدني (بمفهومه الأشمل)؛ "فالدساتير والأحزاب المؤيدة للديمقراطية والصحافة الحرة وإصلاحات الحاكمية الرشيدة في الأعلى جميعها هامة، ولكن التحول السياسي لن يحدث ما لم يكن هناك فيض من الآمال والنوايا والقدرات الديمقراطية من داخل المجتمع"(16)، وهذا هو التحدي المستمر الذي ينبغي كسبه مهما كلف الثمن، ونعتبر تكريس التناوب والترسيخ المؤسسي في الأحزاب خطوة مهمة في هذا الصدد.

_________________________________

سيدي اعمر بن شيخنا- كاتب وباحث موريتاني

مراجع

(*) عقد حزب العدلة والتنمية المغربي مؤتمره الثامن في 9 ديسمبر/كانون الأول 2017، أما حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية الموريتاني المعروف اختصارًا بـ(تواصل) فنظم مؤتمره الثالث في 22 ديسمبر/كانون الأول 2017.

 

– هلال، سمير، التجربة الديمقراطية في المغرب وتايلاند، دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراه، جامعة محمد الخامس، أكدال -الرباط، المغرب، السنة الجامعية 2011-2012م، دراسة غير منشورة، ص 4.

2 – سليمان، خالد، "الممارسة الديمقراطية داخل حزب جبهة العمل الإسلامي"، الجزيرة نت، 3 أكتوبر/تشرين الأول 2004، (تاريخ الدخول: 10 يناير/كانون الثاني 2018):

http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/880c541c-3006-4316-9f98-a090b823f9b5 

– المرجع السابق.

4 – مكيناي، كاموكوني، "مساهمة في دراسة التزوير في مجال القانون الدستوري"، جامعة كينشاسا، الكونغو الديمقراطية، 2011، (تاريخ الدخول: 10 يناير/كانون الثاني 2018):

http://www.memoireonline.com/11/13/7799/m_Revisions-constitutionnelles-et-leur-impact-sur-la-promotion-du-constitutionnalisme-et-de-la-democ18.html

5 - ولد عبد المالك، سيدي، "التداول على رئاسة الأحزاب الإفريقية"، إسلام أونلاين، 3 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 16يناير/كانون الثاني 2018):

https://islamonline.net/23962

6 – المرجع السابق.

– "مؤتمر إسلاميي موريتانيا.. زخم الإنجاز ودلالة المفارقات"، الجزيرة نت، 28 ديسمبر/كانون الأول 2017، (تاريخ الدخول: 12 يناير/كانون الثاني 2018):

http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2017/12/27/مؤتمر-إسلاميي-موريتانيا-زخم-الإنجاز-ودلالة-المفارقات

– "البيان الختامي للمؤتمر الثالث لحزب تواصل"، أقلام حرة، 26 ديسمبر/كانون الأول 2017، (تاريخ الدخول: 27 ديسمبر/كانون الأول 2017):

http://www.aqlame.com/article36345.html

9 – المرجع السابق.

10 – "قيادي بـ"العدالة والتنمية" المغربي: وحدة الحزب خط أحمر"، الجزيرة نت، 20 ديسمبر/كانون الأول 2017، (تاريخ الدخول: 17 يناير/كانون الثاني 2018):

https://goo.gl/kQwKT8

11 – أنزولا، علي، "العدالة والتنمية بدون بنكيران"، 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 18 يناير/كانون الثاني 2018):

https://goo.gl/BK3u7q

12 – "قيادي بـ"العدالة والتنمية" المغربي: وحدة الحزب خط أحمر"، مرجع سابق.

13 – "العمل الإسلامي يحتفي باليوبيل الفضي لتأسيسه"، البوصلة الأردني، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2017، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2018):

goo.gl/zQMGif

14 - سليمان، "الممارسة الديمقراطية داخل حزب جبهة العمل الإسلامي"، مرجع سابق.

15 – المرجع السابق.

16 – إبيرلي، دون، نهوض المجتمع المدني العالمي، بناء المجتمعات والدول من أسفل إلى أعلى، ترجمة لميس فؤاد اليحيى، (الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، 2011)، ط 1، ص 266.