دور حقل الغاز المشترك في إنهاء الخلافات بين موريتانيا والسنغال

تتقاطع المصالح بين موريتانيا والسنغال بشأن استغلال حقل الغاز المشترك بحيث يلزمهما تنحية خلافاتهما عن الواجهة والتهيؤ لبناء شراكة استراتيجية لا تتأثر بالحوادث العارضة، فضريبة الاستفادة من احتياطيات الغاز الكبيرة تستوجب عقلية جديدة للتعاطي مع التباينات والخلافات، وهذا ما يناقشه هذا التقرير مع غيره.
87c3910a3f804080ba563d14e5cc694a_18.jpg
حفل توقيع اتفاقية مشتركة موريتانية سنغالية حول إنتاج الغاز (الجزيرة)

وقَّعت الحكومة الموريتانية مع نظيرتها السنغالية، في 21 ديسمبر/كانون الأول 2018، اتفاقًا نهائيًّا يقضي بتقاسم حقل الغاز المشترك بين البلدين، وتمثل هذه الخطوة توجهًا جديدًا في الشراكة الاستراتيجية بين بلدين اتسمت علاقتهما الدبلوماسية بالكثير من الشد والجذب على مدار ثلاثة عقود مضت. وسيشكل هذا الاتفاق فرصة للبلدين لتأمين آليات التنقيب والاستغلال للثروة الغازية المشتركة مما يضمن تحييد الخلافات التي قد تنشأ عن تسيير هذا الملف، كما أنه سيسهم في تعزيز مكانة البلدين كقطب اقتصادي فاعل في المنطقة مع بدء تصدير أولى شحنات الغاز سنة 2022.

ملامح الاتفاق: فوائد مجزية

وقَّعت الحكومتان، الموريتانية والسنغالية، في 21 ديسمبر/كانون الأول 2018، في نواكشوط اتفاقيات جديدة للغاز وهي الاتفاقيات النهائية والضرورية قبل بدء الاستغلال بحلول عام 2022 من حقل "أحميم-السلحفاة الكبير" البحري على الحدود بين البلدين. وتتضمن تفاصيل الاتفاق الموقع بين الطرفين فرض الضرائب على مشغِّلي المشروع وتمويل الشركتين الوطنيتين (الشركة السنغالية للنفط والشركة الموريتانية للمحروقات)، وآليات تسويق الغاز الطبيعي المسال.

ولم يقتصر التوقيع على موريتانيا والسنغال فقط فقد وقَّعت شركتا بريتش بتروليوم (BP) البريطانية، وكوسموس إنرجي الأميركية (KOSMOS ENERGY) على الاتفاق بوصفهما المستثمريْن الرئيسييْن في المشروع، وبهذا التوقيع تكون الشركتان الاستثماريتان وشركاؤهما قد اتخذوا القرار الاستثماري النهائي للمرحلة الأولى من حقل السلحفاة الكبير/أحميم، ويتكون المشروع من منصة عائمة للإنتاج والتخزين والتفريغ تعالج الغاز وتزيل المكونات الهيدروكربونية الثقيلة ووحدة التسييل العائمة للغاز الطبيعي.

ومن المتوقع أن يبدأ بناء منشآت التشغيل في أوائل عام 2019 وسيتم تسليم أول متر مكعب من الغاز في عام 2022. ووفقًا لشركة بريتش بتروليوم فمن المتوقع أن ينتج المشروع ما متوسطه 2.5 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال سنويًّا في مراحله الأولي.

ويأتي اتفاق ديسمبر/كانون الأول 2018 تكملة لاتفاقية التعاون الدولي الموقعة في فبراير/شباط 2018 حول استغلال حقل غاز السلحفاة الكبيرة/أحميم، الذي يبلغ عمقه 2700 متر، في حين يبلغ احتياطيه 450 مليار متر مكعب، أي ما يمثل حوالي 15% من احتياطيات غاز نيجيريا(1).

وتُقدر احتياطات الحقل بـ25 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي عالي الجودة في هذه المنطقة، وتمتاز السوق الجديدة للغاز المسال بميزات(2) عديدة تجعلها مفضَّلة للمنتجين والمسوقين الكبار في السوق الدولية مما يغريهم بشكل أكبر بالاستثمار في منطقة الاكتشافات الجديدة، ومن هذه الميزات :

- الجودة والنقاوة.

 - سهولة الاستخراج، وبالتالي رُخص التكلفة.

- أن منطقة الغاز قريبة جدًّا من أوروبا وأميركا الأكثر استهلاكًا للمادة.

وبتقديرات أولية يُتوقع أن تكون عائدات الغاز على البلدين خلال العقد الأول من الإنتاج حوالي أربعة عشر مليار دولار فضلًا عن الفوائد الأخرى الناتجة عن حجم استثمار الشركات والتي ستمس الجوانب الاقتصادية والاجتماعية؛ فشركة كوزموس إنرجي التزمت بموجب الاتفاق بتدخل اجتماعي بقيمة استثمارية تصل 30 مليار دولار في مجالي التعليم والصحة في الدولتين، ويتوقع أن تحظى موريتانيا منها بألف ومئتي مدرسة وثلاثين مستشفى.

ومن الفوائد الاقتصادية الأخرى توفير آلاف فرص العمل المباشرة، فضلًا عن استفادة البلدين من إنتاج الكهرباء من الغاز لغرض الاستهلاك الداخلي وحتى التصدير الخارجي.

تحول في اتجاهات الاستثمار والمستثمرين

بات قطاع المحروقات والغاز منه على وجه التحديد يستأثر بنصيب الأسد من اهتمام المستثمرين الأجانب في البلدين على مدار السنوات الثلاث الأخيرة، وذلك على حساب الوجهات الاستثمارية التقليدية، فقطاع المناجم والحديد بموريتانيا مثلًا، والذي كان الوجهة الأولى للمستثمرين من قبل، شهد تراجعًا كبيرًا في سجل اهتمامات المستثمرين لصالح قطاع الغاز، وذلك رغم الجهود التي بذلتها السلطات الرسمية على مدار الأعوام الأخيرة لتحسين مدونة القطاع المنجمي لكي تكون أكثر جاذبية للاستثمار في بلد يعتبر قطاع المعادن من أهم ركائزه الاقتصادية(3)؛ حيث يسهم في الناتج المحلي الخام بنسبة 30% بالإضافة لتوفير أكثر من 9 آلاف وظيفة دائمة و8 آلاف وظيفة غير دائمة، كما يمثل أكثر من نصف عائدات صادرات موريتانيا السنوية.

وتشير حركة الأنشطة الاستثمارية في موريتانيا على مدار السنوات الأخيرة، إلى تصاعد كبير في أنشطة الشركات المهتمة بالغاز بموريتانيا، ومن أبرز هذه الشركات:

1 - شركة بريتش بتروليوم البريطانية: تعتبر هذه الشركة البريطانية أهم مستثمر أجنبي بمجال الغاز بموريتانيا، وتمتلك الحصة الرئيسية بحقل الغاز المشترك بين موريتانيا والسنغال. وقد دخلت الشركة في شراكة مع شركة كوزموس إنرجي الأميركية، وذلك بتوقيع اتفاق يسمح باستغلال بعض المقاطع لحقول الغاز في السنغال وموريتانيا في المياه العميقة.

وينص الاتفاق على أن تعمل الشركة البريطانية على استغلال أربعة مقاطع رئيسية بحقل السلحفاة الكبير/أحميم للغاز، وتُقدر احتياطيات الحقل بحوالي 15 تريليون قدم مكعب.

وتصل حصة بريتش بتروليوم نسبة 62% من عقود الشراكة مع موريتانيا، في حين تصل حصتها 60% من عقود الشراكة مع الجانب السنغالي، وتصل حصة موريتانيا والسنغال إلى 10% فقط لكل منها بينما يتوزع الباقي بين شركات أخرى من أهمها كوزموس إنرجي.

2 - كوزموس إنرجى: تعتبر شركة كوزموس إنرجي الأميركية صاحبة السبق في مجال الاكتشافات النفطية، حيث كانت هذه الشركة أولَ جهة تعلن عن وجود كميات كبيرة من الغاز في السواحل الموريتانية-السنغالية سنة 2015. وقد استعانت بها شركة "بريتش بتروليوم" بعد انسحاب شركة شيفرون من أعمال التنقيب عن الغاز بموريتانيا سنة 2015. 

تقوم الشركة بحفر آبار بالسواحل الموريتانية، من بينها المقطع الجنوبي والمقطع "سي 8"(4). كما قامت باكتشافات معتبرة في الناحية الشمالية من نفس المقطع.

3- شركة إكسون موبيل: تعتبر إكسون موبيل إحدى أبرز الشركات الأميركية العاملة في مجال الاقتصاد، وكان يتولى وزير الخارجية الأميركي السابق، ريكس تيلرسون، إدارتها التنفيذية قبل تعيينه وزيرًا للخارجية من طرف الرئيس ترامب وإقالته بعد ذلك. وقد وقَّعت الشركة، في ديسمبر/كانون الأول 2017، مع الحكومة الموريتانية ثلاثة عقود للتنقيب عن المقاطع C14، C17، وC22. وبموجب عقود الإنتاج الموقعة بين الطرفين فإن حصة الشركة ستكون 90% من الإنتاج في حين ستكون 10% للحكومة الموريتانية.

وبهذا الاتفاق، تكون موريتانيا أول محطة للشركة في منطقة غرب إفريقيا، بعد أن كانت أنشطتها مقتصرة على دول وسط وجنوب القارة.

-شركة توتال الفرنسية: دخلت شركة توتال الفرنسية في قائمة الشركات الأجنبية المستفيدة من الغاز في مايو/أيار 2017 بعد توقيع اتفاق مع الحكومة الموريتانية للاستكشاف والإنتاج في مجال المحروقات، ويسمح العقد الجديد للشركة باستغلال المقطع C7، الذي تبلغ مساحته 7300 كلم مربع.

ويُلاحَظ تعاظم الاهتمام الاقتصادي لكل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية بموريتانيا في الآونة الأخيرة، وقد تم تجسيد ذلك في إنشاء مكتب موريتاني وبريطاني للأعمال مهتم بتطوير الاستثمارات بين البلدين، وخاصة في مجال الغاز، وقد تم إنشاء المجلس بلندن وبحضور وزير التجارة الدولية البريطاني، أكريك هاندس، ووزير النفط الموريتاني، محمد ولد عبد الفتاح، قبل سنة. ويهدف المجلس إلى إيجاد ظروف تسمح بشراكة مثمرة بين الشركات التجارية والصناعية في البلدين، كما يسمح للشركات البريطانية بالاستفادة من الفرص الاستثمارية بموريتانيا.

كما تم، في أكتوبر/تشرين الأول سنة 2018، الإعلان في نواكشوط عن ميلاد منتدى الأعمال الأميركي-الموريتاني، وهو الأول من نوعه، وتم تدشينه بحضور عدد من رجال الأعمال الموريتانيين. وأكد القائمون على المنتدى أنه يهدف إلى تعزيز التبادل التجاري والاستثمار بين الولايات المتحدة الأميركية وموريتانيا وتحسين مناخ الأعمال للشركات الأميركية والموريتانية في كلا البلدين.

على أن تنافس الأطراف الدولية، الساعية إلى الحصول على فوائد اقتصادية من هذه الاكتشافات بات ماثلًا للعيان، فشركة "توتال" الفرنسية ضغطت بقوة حتى لا تستبد الشركات الأنكلوفو/سكسونية بفوائد الغاز السنغالي-الموريتاني، وهو ما عبَّر عنه السفير الفرنسي في داكار في مقابلة مع يومية "لو سولي" الرسمية السنغالية بالقول: إن الأميركيين والبريطانيين استحوذوا على عقود الاستكشاف والاستخراج والاستغلال، رغم أن شركة «توتال» الفرنسية أبدت اهتمامًا بالموضوع منذ الوهلة الأولى.

أثناء الإعلان عن اكتشافات الغاز في السنغال وموريتانيا، لم تكن العلاقات الدبلوماسية بين موريتانيا وفرنسا على ما يرام؛ حيث اتسمت علاقات نواكشوط وباريس بجفاء ملحوظ بدأ مع قرار الرئيس الموريتاني، محمد ولد عبد العزيز، الرافض للمشاركة في التحالف الذي تزعَّمته فرنسا سنة 2013 لطرد الجماعات الإسلامية المسلحة من شمال مالي(5)، وما إحجام المسؤولين الفرنسيين عن زيارة موريتانيا على مدار السنوات الأربع الماضية وتكذيب الجيش الموريتاني لرواية للجيش الفرنسي التي يؤكد فيها قيامه بتنفيذ عمليات عسكرية فوق التراب الموريتاني، وحديث الرئيس الموريتاني لبعض المنتخبين عن رفضه لقبول رشوى من رجل الأعمال الفرنسي، فينصان بولوري (Vincent Bolloré)، بقيمة 10 ملايين يورو مقابل منحه صفقة تتعلق بميناء نواكشوط، وظهور الحس الوطني الجديد لدى ولد عبد العزيز المتعلق بتمجيد المقاومة، وهجومه المبطن على الاستعمار الفرنسي، ودعم فرنسا للموقف السنغالي في الأزمة الغامبية إلا مظاهر وأعراض بيِّنة لأزمة صامتة اختار مسؤولو البلدين عدم تصديرها للرأي العام(6).

لقد تسببت الأزمة الدبلوماسية الصامتة بين موريتانيا وفرنسا في حرمان شركة "توتال" الفرنسية من الامتيازات الرئيسية للغاز ومن الاستئثار بالتنقيب في المقاطع الرئيسية والمهمة، وظلت الحال على ما هي عليه إلى أن جاء الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، للحكم، وكان ماكرون قد تبنى سياسة أكثر نعومة وانفتاحًا تجاه موريتانيا، فأبدى تحمسًا تامًّا لدعم وتمويل القوة المشتركة لمجموعة دول الساحل الخمس، التي أُنشئت بمبادرة من الرئيس الموريتاني، محمد ولد عبد العزيز؛ وهو ما حدا بالرئيس الموريتاني من جهته لإلحاق شركة "توتال" الفرنسية للائحة الشركات الكبرى المنقبة عن الغاز.

وتبقى هيمنة الشركات البريطانية والأميركية على حقل الغاز المشترك بين البلدين مؤشرًا ملموسًا يجسد نفوذًا اقتصاديًّا بدأ يلوح في الأفق لصالح كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية على حساب فرنسا التي كانت القوة الخارجية الأولى الأكثر تأثيرًا في البلدين بفعل استثماراتها المتعددة ولكونها القوة الاستعمارية السابقة للسنغال وموريتانيا.

وتجدر الإشارة إلى أن مظاهر انحسار النفوذ الاقتصادي لفرنسا بالبلدين بدأت قبيل اكتشاف حقول الغاز، فالشركات الفرنسية العاملة(7) في قطاعات مختلفة بالسنغال مثلًا تراجعت قبل سنوات حصتها في السوق السنغالية من 25% إلى 15% لصالح المنافسة الصينية، كما أن رُخَص التنقيب عن النفط التي منحت السنغال عقودها الرئيسية لشركة "توتال" الفرنسية لم تثمر نتائج معتبرة لحد الساعة تسمح لفرنسا بالاحتفاظ بنفوذها الاقتصادي الضارب في القدم.

هل سيطفئ الغاز جذوة التوتر بين موريتانيا والسنغال؟

يبدو أن اكتشاف حقل الغاز المشترك بين البلدين بات يفرض عليهما مقاربة جديدة تُغلِّب التهدئة وتحييد التوتر لتسيير الملفات الشائكة بينهما، وقد أكد الرئيسان، الموريتاني والسنغالي، أثناء توقيع الاتفاق النهائي لتقاسم استغلال حقل الغاز على ذلك، فقد عبَّر الرئيس الموريتاني، محمد ولد عبد العزيز، بهذه المناسبة قائلًا: "إن الرئيسين سعيا من أجل جعل الحوار والتشاور قاعدة ذهبية تعكس تصميمهما على تعزيز العلاقات الثنائية وتطويرها على مختلف المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية؛ لتكون هذه المقاربة هي الأساسَ والأرضيةَ للحفاظ بصورة أفضل على تعزيز مصالح البلدين وتقوية أواصر الأخوة لضمان تنمية مستديمة في جو تسوده الأخوة والوفاق"(8).

وقد سبق توقيع اتفاق تقسيم الثروة الغازية بين البلدين بيومين اتفاق لتجديد رخص الصيد للصيادين السنغاليين، والتي رفضت السلطات الموريتانية في السابق تجديدها بسبب خلافات بين نواكشوط وداكار. وقد قرأ مراقبون هذه الخطوة، بالإضافة لمنع السنغال قبل أشهر تنظيم نشاط لجزء من المعارضة الموريتانية في أراضيها، على أنها مؤشرات للتقارب بين البلدين اللذين تصدعت علاقاتهما لأكثر من مرة على مدار العقود الثلاثة الأخيرة، رغم ما يجمعهما من روابط روحية وثقافية واجتماعية. وتخلتف الروابط بين موريتانيا وجارتها الجنوبية السنغال عن روابطها بجارتي الشمال (المغرب والجزائر) مثلًا، بحكم وجود جاليتين كبيرتين لكل بلد من البلدين على أراضي البلد الآخر، ويعتمد السنغال اقتصاديًّا على موريتانيا في العديد من مجالات التعاون كالتحويلات المالية لعشرات الآلاف من اليد العاملة السنغالية التي تزاول أنشطة حرفية مختلفة في موريتانيا كالبناء والعمران والميكانيكا، والصيد البحري والنقل. وفي المقابل، تحتضن السنغال جالية موريتانية كبيرة عاملة أساسًا في مجال التجارة والأعمال، كما تعتبر أيضًا وجهة للمرضى الموريتانيين الذين يعالجون في مؤسساتها الطبية العمومية والخصوصية ويسهمون بذلك في ضخ أموال طائلة في شرايين الاقتصاد السنغالي.

غير أن العلاقات الموريتانية-السنغالية لم تخلُ على مدار الأعوام الأخيرة من مواسم شد وجذب. وقد لعب عامل التحولات السياسية في البلدين دورًا أساسيًّا في حالات الجليد التي تعرضت لها علاقات الجارتين.

ومع أن علاقات البلدين عرفت تحسنًا نوعيًّا بعد وساطة عبد الله واد بين الفرقاء السياسيين بموريتانيا والتي توجت باتفاق داكار لعام 2009 الذي أنهى أشهرًا من الخصومة بين أنصار الانقلاب الذي أطاح بالرئيس الموريتاني السابق، سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، وبين معارضي الانقلاب في الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية، إلا أن التوتر سرعان ما خيَّم من جديد على علاقة النظام الموريتاني بالرئيس السنغالي، واد، في آخر أيامه بالسلطة، وخيمت ذات أعراض التوتر على علاقة النظام بخليفة واد في السلطة، ماكي صال، الذي أنهى عشر سنوات من حكم واد بعد هزيمته في رئاسيات 2012. تعددت ملفات وجبهات التصدع الدبلوماسي الذي شاب علاقة الجارتين في الآونة الأخيرة، ويمكن حصر أبرز النقاط التي ظلت تعوق تقدم علاقات البلدين في القضايا التالية:

إيواء داكار طيفًا من المعارضة الموريتانية: كان سماح السلطات السنغالية لبعض قوى المعارضة الموريتانية بتنظيم أنشطة مزعجة للنظام الموريتاني فوق التراب السنغالي أحد أهم الملفات الخلافية بين موريتانيا والسنغال في السنوات الخمس الماضية؛ فقد أثار رفض السلطات السنغالية، سنة 2013، لطلب من الحكومة الموريتانية بتسليم المعارض الموريتاني، المصطفي ولد الإمام الشافعي، الذي صدرت بحقه مذكرة توقيف دولية من قبل القضاء الموريتاني أزمة في علاقات الجارتين(9). ولم يكن ملف ولد الشافعي النقطة الوحيدة في هذا الموضوع فنواكشوط تأخذ على داكار السماح لبيرام ولد الداه ولد اعبيدي، زعيم حركة المبادرة الانعتاقية "إيرا" المناهضة للعبودية بموريتانيا، بالقيام بأنشطة يعتبر النظام الموريتاني أنها تسيء له، هذا بالإضافة لاحتضان داكار لفرقة "أولاد لبلاد" الموسيقية، التي أصدرت عدة البومات غنائية تناهض الرئيس محمد ولد عبد العزيز.

رخص الصيادين التقليدين السنغاليين: شكَّل ملف الصيد التقليدي أحد الملفات الرئيسية التي كدَّرت صفو علاقات البلدين في الفترة الأخيرة؛ فقد تزايدت شكاوى صيادي مدينة سينلوي السنغالية (أندر) من مضايقة سلطات خفر السواحل الموريتانية لهم ورفض السلطات الموريتانية رفع عدد رخص الصيد وتجديدها. كما رفضت نواكشوط في أكثر من مناسبة طلبات من مسؤولين سنغاليين لتسوية هذه الوضعية، قبل أن توافق في مارس/آذار 2013 على منح ثلاثمئة رخصة للصيادين السنغاليين لاصطياد أربعين ألف طن من الأسماك الموريتانية. وتتهم نواكشوط الصيادين السنغاليين بالقيام بعمليات اصطياد غير مشروع في المياه الإقليمية الموريتانية، وقد أدت هذه الوضعية إلى حدوث مطاردات من خفر السواحل الموريتانية لقوارب الصيادين أفضت في بعض الأحيان إلى قتل بعض الصيادين.

حَراك الزنوج الموريتانيين: توجست موريتانيا من نجاح الرئيس، ماكي صال، الذي ينتمي لقومية الفولان،؛ حيث رأى محلِّلون أن النظام الموريتاني يتخوف من أن يوفر النظام الجديد بالسنغال حاضنة إقليمية وسندًا لحراك الزنوج الموريتانيين. وبنى النظام الموريتاني مخاوفه على زيارة سابقة للرئيس السنغالي الحالي، ماكي صال، لموريتانيا قبل الحملة الانتخابية بالسنغال، التي فاز فيها، حيث التقى أثناء هذه الزيارة بمقربين من نشطاء حركة "لا تلمس جنسيتي"(10) الزنجية التي تعارض النظام الموريتاني.

تباين المواقف في بعض الملفات الإقليمية: عبَّرت السنغال أكثر من مرة عن امتعاضها من استبعادها من عضوية مجموعة الدول الخمس للساحل، التي تأسست سنة 2014، فداكار تعتبر أن مبررات إبعادها من عضوية هذا التجمع غير واقعية، وترى داكار أن منطق الجغرافيا وحجم التحديات الأمنية يفرضان على المجموعة الانفتاح عليها كدولة عضو. وقد دفع هذا التغييب داكار لإنشاء منتدى السلم والأمن بالتزامن مع انطلاقة مجموعة الخمسة للساحل، ويهدف المنتدى لمنافسة مجموعة دول الخمس بالساحل، ويسعى لتشخيص وتقديم مقاربات وسياسات دفاعية وأمنية لمعالجة إشكالات المنطقة في هذا المجال. 

الأزمة الغامبية: شكَّلت الأزمة الغامبية وجهًا آخر من أوجه التباين بين الجارتين؛ ففي الوقت الذي كان الموقف السنغالي حازمًا تجاه الرئيس الخاسر في الانتخابات، يحيى جامي، الذي امتنع في البداية عن تسليم السلطة للرئيس الفائز، آدما بارو، في رئاسيات يناير/كانون الثاني 2017، كانت موريتانيا تميل إلى بقاء الرئيس جامي أو توفير خروج آمن له حين تأكد صعوبة بقائه في السلطة. وفي المقابل، قامت داكار بالتشويش على مضامين الوساطة التي قادتها موريتانيا وغينيا، والتي قام بموجبها الرئيس الغامبي، جامي، بالتنازل عن السلطة، فقد فندت داكار وجود اتفاق مكتوب يمنح جامي ضمانات وهو ما كذبته نواكشوط في بيان اعتبر الموقف السنغالي خرقًا وتنكرًا لشروط التسوية(11).

خاتمة

أيًّا تكن درجة التنافر الدبلوماسي بين الدولتين في السابق، فإن تقاطع المصالح وتشابه التحديات الماثلة في المنطقة ورأسها التحدي الأمني في الآونة الأخيرة يفرضان على الجانبين تنحية خلافاتهما عن الواجهة والتهيؤ لبناء شراكة استراتيجية لا تتأثر بالحوادث العارضة، فضريبة الاستفادة من احتياطيات الغاز الكبيرة المشتركة تستوجب عقلية جديدة للتعاطي مع التباينات والخلافات؛ إذ لا يكفي الاتفاق التفصيلي المكتوب بين الطرفين ما لم تؤطِّره روح إرادة سياسية جادة وصادقة وقائمة على ثوابت جديدة تحكم علاقات البلدين في المرحلة القادمة على أساس التهدئة والحوار.

__________________________________________________

* سيدي ولد عبد المالك: كاتب وباحث موريتاني متخصص في الشأن الإفريقي.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1 - انظر:

Voir: Mauritanie et Sénégal en passe de devenir des puissances régionales, RFI site, publié le 23-12-2018, vu le 29 decembre 2018:

http://www.rfi.fr/afrique/20181223-mauritanie-senegal-gaz-grand-tortue-ahmeyim-gta-british-petroleum 

2 – دراسة حديثة للمركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية حول الغاز بموريتانيا.

3 – المعادن في موريتانيا: الخريطة والمستثمرون، مركز الصحراء للدراسات والاستشارات، يونيو/حزيران 2013.

4 - انظر:

See: Mauritania - Oil and Gas Exploration, Kosmos Energy site, no publishing date, accessed on December, 2018: http://www.kosmosenergy.com/operations-mauritania.php 

5 – كانت فرنسا تُعوِّل على الدور الموريتاني في هذه الحرب، انطلاقًا من سابقة تنفيذ موريتانيا لعمليات عسكرية ضد هذه الجماعات في عمق الشمال من مالي بدعم من فرنسا ودون استئذان للحكومة المركزية بباماكو.

6 - انظر: سيدي ولد عبد المالك، العلاقات الموريتانية-الفرنسية: مسارات التأزيم وآفاق التسوية، موقع الأخبار، 14 أبريل/نيسان 2017، تاريخ الدخول: 28 ديسمبر/كانون الأول 2018:

https://alakhbar.info/?q=node/2613

7 - انظر:

Khadim Mbaye, Sénégal: les entreprises françaises en perte de vitesse, Afrique.latribune.fr, 03/11/2017, vu le 29 decembre 2018:

https://afrique.latribune.fr/finances/investissement/2017-11-03/senegal-les-entreprises-francaises-en-perte-de-vitesse-756703.html 

8 – انظر: باستغلال حقل أحميم الكبير للغاز نقدم للأجيال الحالية والمستقبلية درسًا عميقًا في الحكمة ومثالًا جيدًا في التعاون الأخوي، الوكالة الموريتانية للأنباء، 21 ديسمبر/كانون الأول 2018، تاريخ الدخول: 30 ديسمبر/كانون الأول 2018:

http://www.ami.mr/Depeche-56184.html 

9 – تحدثت وسائل إعلامية موريتانية ساعتها عن رفض الرئيس الموريتاني، محمد ولد عبد العزيز، استقبال وزير الخارجية السنغالي الذي جاء لشرح مبررات رفض بلاده لتسليم ولد الشافعي في حين توقعت بعض الصحف السنغالية أن تعمد نواكشوط إلى قطع علاقتها بداكار.

10 – حركة زنجية موريتانية عارضت الإحصاء البيومتري للمواطنين الذين أطلقته سلطات البلاد سنة 2011، وطالبت بوقفه وكانت تعتبر أن هذا الإحصاء يهدف إلى حرمان الزنوج الموريتانيين من الوثائق الجديدة التي تُثبت المواطنة.

11 – يبدو أن الموقف السنغالي استبطن من خرْق الاتفاق نكاية بنظام نواكشوط الذي تعتبره السنغال "الحليف المثالي" لجارها المشاكس، جامي، طيلة حكمه، والذي كانت تستخدمه نواكشوط كشوكة في حلق داكار في فترات التأزم الدبلوماسي بين موريتانيا والسنغال؛ فسقوط جامي بالنسبة لداكار يمثِّل خسارة نواكشوط لإحدى أوراق الضغط الرئيسية على داكار.